سلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
ولما جلسنا مجلساً طله الندى جميلاً وبستاناً من الحب دانيا |
أثار لنا طيب المكان وحسنه منىً فتمنينا فكنت الأمانيا |
وأمانينا معكم هذه الليلة أن يجمعنا الله بكم في دار الكرامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، يوم يتقبل الله منا أحسن ما عملنا، ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
وعنوان هذه المحاضرة: الاعتصام بالكتاب والسنة... وهذا موضوع خطير وكبير، أما خطورته فلأنه يتعرض لضربات من أهل البدع والضلال على مر العصور والدهور والأعوام والأيام، وأما كونه كبيراً فلأنه شغل كثيراً من علماء الإسلام حتى خصصوه بالتأليف، وكتبوا فيه مجلدات، وكانت مجالسهم تدار فيها مواضيع مسألة الاعتصام بالكتاب والسنة.
وفي هذا الموضوع ثلاثة عناصر:
العنصر الأول: الحث على اتباع الكتاب والسنة.
العنصر الثاني: حرص السلف الصالح على الاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم.
العنصر الثالث: النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله، والتكلف والتعمق والتنطع، ووجوب الاكتفاء بالكتاب والسنة.
فإلى هذا الحديث الشائق الذي بكم يشوق، وإلى هذا المجلس الرائد الذي بكم يرود؛ نتكلم عن مسائل هذا الموضوع سائلين المولى أن يثبتنا وإياكم، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إن الله يمدح الذين يتمسكون بالكتاب والسنة، وسر أصالة هذه الأمة وعمقها وتوجهها هو الكتاب والسنة.. ولذلك عندما كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم مكتفين بثقافة محدودة مضبوطة معينة؛ كانوا مرشدين مسددين مهديين، فلما كثرت الثقافات على القرون التي بعدهم، ودخلت البدع، وترجمت كثير من المقالات والكتب؛ دخل الزيف والدخن والدخل، ويظن كثير من الناس أن كثرة الثقافات الغريبة الوافدة بركة ونور، ولم يعلموا أنه تدهور وتورط للأمة إذا صدفت عن كتاب الله عز وجل.
وقد قيل للإمام مالك: ما النجاة؟ قال: السنة، سفينة نوح من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها هلك. وقالوا لـعلي وهو على منبر الكوفة: [[ما النجاة؟ قال: الكتاب]] يعني القرآن.. قال ابن تيمية: لا يعنى بالكتاب إذا عني به أو قصد أو تكلم فيه أن يقتصر عليه، فإنه لو اقتصر عليه كان ضلالاً لمن اقتصر عليه -أعني وترك السنة- أي: تركه للسنة ضلالاً لا تقيده بالقرآن.. ولذلك يأتي من أمثال الخوارج، وصاحب الكتاب الأخضر من يدعون إلى التقيد بالكتاب لا بالسنة.
قال ابن تيمية: الخوارج يأخذون بظواهر القرآن ولا يأخذون بالسنة التي ليست في القرآن.. ودخل رجل من أجدادهم وأسيادهم وعملائهم مع عمران بن حصين -والحديث في السنن فقال: [[يا عمران! من أين هذه الأحاديث التي تتحدثون بها، ونحن لا نجدها في القرآن؟ قال عمران: أتجد في القرآن أن صلاة الظهر أربعاً؟ قال: لا. قال: أتجد أنصبة الزكاة في القرآن؟ قال: لا. قال: أتجد أحكام الصيام في القرآن؟ قال: لا. قال: ما أسمعنا الرسول صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما تركه صلى الله عليه وسلم تركناه، وما كان ربك نسياً]] وهذه المقولة لـابن عباس ولـعمران بألفاظ مختلفة.
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا |
فهو صلى الله عليه وسلم معصوم، حتى يقول الإمام مالك لتلاميذه وهم يعرضون عليه الأقوال: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام.. وقال الإمام أحمد لما سئل: يا أبا عبد الله! أيهما أفضل: التبتل أو الزواج؟ والله عز وجل يقول: وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39]؟ أي: يحيى. فيمدح الله يحيى، ويقول: سيداً، أي: الذي اكتملت فيه المروءة والسؤدد، وحصوراً أي: لا يأتي النساء. قال ابن عباس: لم يكن مع يحيى إلا مثل هذا -يعني: آلة الجماع- ورفع شقصاً من الأرض. فهذه الآية تدل على أن التبتل أفضل، قال الإمام أحمد: لا. يقول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً [الرعد:38] فقال السائل: إن إبراهيم بن أدهم يقول: ترك الزواج أفضل، فقال الإمام أحمد: أوه! وقعنا في بنيات الطريق، عليك بالمشرب الأول.. أي بمحمد عليه الصلاة والسلام، فإذا ما أتى الدرهم على سكته مختوماً بخاتم محمد صلى الله عليه وسلم وإلا فهو درهم زائف لا يباع به ولا يشترى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، فالله جعل القدوة به.
أولاً: اقتداء به في المعتقد.. وقد ضل فيه أهل الأهواء في العقيدة؛ كـالخوارج والرافضة والأشاعرة والمعتزلة.
ثانياً: الاقتداء به في السلوك.. وقد ضل فيه قوم؛ كضلال أهل الرهبنة من غلاة الصوفية وأمثالهم.
ثالثاً: الاقتداء به في الأحكام.. وقد ضل فيه قوم من أهل السياسات الذين خالفوا فيها سياسته الشرعية.
وربما ندخل على ذلك: الاقتداء بالأقوال، وقد ضل فيها بعض المتفقهة الذين جانبوا النصوص عن غير عمدٍ، وإنما تأول يؤجرون عليه أجراً واحداً، لكن لا يسوغ أن نقلدهم في خطئهم، كما بين ذلك شيخ الإسلام في رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام: قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] ومعنى الآية: إن الأمر إذا أتى من الله عز وجل، ومن رسوله عليه الصلاة والسلام ظاهراً لا يقبل التأويل، أو لا يحتمل أوجهاً غير وجه واحد؛ فإنه لا يسع المسلم أن يميل عن الوجه الذي يقصده الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم.
وليته يوم قال الكلام كان صحيحاً؛ غير أنه ظلم وحاد.
فغضب عليه الصلاة والسلام فقال: {يا
وقال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] قال ابن كثير، وابن جرير: نزلت هذه الآية في قوم ادعوا محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]
يا مدَّعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا |
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا |
خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا |
إما شريعة مقدسة، واتباع خالد، وإلا فانتهاء وارتداد ونكوص عن الطريق المستقيم، ولذلك لم يقبل الله دعواهم ولم يرض قولهم، ولم يعجبه حبهم: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ [المائدة:18].
أما التمسك بالكتاب فمفهوم، لكن قوله: (عترتي أهل بيتي) معناه: أن تأخذوا العلم من علمائهم، وإلا فلو ضلوا فإنهم لا ينجيهم عند الله قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الله: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124].
إذا فخرت بأقوام لهم شرف نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا |
فعلم بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بكتاب الله عز وجل وبسنته صلى الله عليه وسلم.
قال العرباض بن سارية -وهذه ساعة الوداع، ولحظة من آخر لحظات الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يريد أن يترك الدنيا بعد حياة السهاد والجهاد والجلاد والسهر، فأراد أن يودع أصحابه بكلمة من فيض القلب، ومن شجا الروح، قال: {جلسنا عند الرسول صلى الله عليه وسلم فوعظنا موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب}.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفَّت مآقينا |
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا |
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا |
أرانا الله وجهه.. وأجلسنا الله معه.. وبلغنا شفاعته.. وثبتنا على سنته.. ثم قال: {فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي} قال ابن تيمية: أمر صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده أمراً عاماً، ثم خصص كما عند الترمذي من حديث حذيفة فقال: {اقتدوا باللَّذَين من بعدي:
قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب الجهاد: لأن أبا بكر وعمر لم يتأولا في الدماء، ولا في الأموال، وأما علي فتأول في الدماء، وعثمان تأول في الأموال، فكان أبو بكر وعمر أقرب إلى هديه صلى الله عليه وسلم وإلى سنته، وكلهم مأجور ومشكور، لكن الأمر المقيد هو بـأبي بكر وعمر، والأمر المطلق بالخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم وأرضاهم.
{فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ} وهي ما يقارب الثنايا من الأنياب، وهي أكثر عضاً على ما تمسك به: {عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة} وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي بسند صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وفي لفظ: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} فالرسول صلى الله عليه وسلم يحرص دائماً على أن يربط بين الكتاب والسنة، فهو كما في حديث المقداد بن معد يكرب: {يوشك أن يأتي رجل شبعان ريان متكئ على أريكته، يقول: هذا كتاب الله، ما أحل فأحلوه، وما حرم فحرموه، وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه} قال الخطابي: معنى (أوتيت مثل الكتاب) أي: بما هدي به صلى الله عليه وسلم في الباطن ظهر به في ظاهر القرآن.
وهذه الكلمة لم تتضح لي، ولكن يقول الشافعي: السنة مثل القرآن أو مثليه، على رواية: {أوتيت القرآن ومثله معه}.
والمعنى الظاهر: أوتيت القرآن ومثل القرآن من السنة.. فإذا عُلم هذا فعلى المسلم أن يعلم أنه لا ينجو إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة، ويوم يترك الكتاب والسنة، أو يتخاذل في الالتزام بهما؛ ينهار قوامه، ويتردى سلوكه، وليس معنا من وصية نوصي بها إخواننا إلا الالتزام بالكتاب والسنة، ولكن على فهم الصحابة؛ لأن الخوارج يقولون هم ألزم الناس بالكتاب والسنة، والمعتزلة وضُلال الأمة والرافضة، بل الباطنية يرون أنهم من ألزم الناس بالمنهج الحق وأنهم أهل الطريقة المرضية، ولكن:
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء |
فالرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين الطريقتين فقال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً} قال القرطبي: إنما شبه صلى الله عليه وسلم -وهذا في فتح الباري - إنما شبه صلى الله عليه وسلم الوحي بالغيث بجامع وجه الشبه وهو الصفاء، والأمر الثاني أن الأرض تحتاج إلى الغيث، فحاجة القلوب إلى الوحي كحاجة الأرض إلى الغيث بل أحوج.. ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:16-17].
ثم عُلم من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قسم الناس ثلاثة أصناف:
قال: {فكان منها أرض طيبة نقية، قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أرض حبست الماء؛ فنفع الله بها الناس؛ فسقوا وزرعوا، وكان منها أرض إنما هي أجادب، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من نفعه الله بما بعثني به، فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به} وقد سبق شرح هذا الحديث، وشاهدنا منه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الناس ثلاثة أقسام: قسم استفاد وأفاد، وقسم استفاد ولم يؤثر، وقسم لا استفاد ولم يؤثر، وإنما هو كالخشب المسندة لا تعي ولا تعقل.
فقل للعيون الرمد للشمس أعين تراها بحق في مغيب ومطلعِ |
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيق ولا تعي |
أما ابن مسعود رضي الله عنه -كما في صحيح البخاري - يفتتح كلامه بقوله: إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. فالهدي عمل، والحديث قولٌ، فجمعت طريقته صلى الله عليه وسلم فصارت قولاً مهدياً مسدداً، وعملاً مرضياً متقرباً به إلى الله تبارك وتعالى.
سامحن بالقليل من غير عدل ربما أقنع القليل وأرضى |
وأبوابه قليلة لكنها درر، والدرر قليلة في العالم، وإنما أشير بذلك إلى العودة إلى الكنوز الأصيلة، والتخفيف من ضياع الوقت، أو التقليل من صرف الجهد في معلومات، أو مصادر للتلقي ليست أصيلة في منهجية المسلم، وفي حياته المرضية التي يريدها الله منه، كـالبخاري ومسلم والترمذي وأبي داود، أهل الأصالة والعمق والريادة، والعلم الباقي الذي خلده الله لهم في الخالدين.
يقول: وقال ابن عون.. وهو عبد الله بن عون، راوي البخاري ومسلم، وهذا الرجل كان يتمنى رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً، فسقط من درجة وقبل وفاته بليلة رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام ثم مات.
يقول: ثلاث أحبهن لإخواني، وأوصي بها إخواني: هذا القرآن أن يقرءوه ويتدبروه، وهذه السنة أن يتعلموها، ويدعوا الناس إلى الخير.
سلَّم الله حالك، ولا فض فوك، ما أحسن الوصايا.
محاسنه هيولى كل حسنٍ ومغناطيس أفئدة القلوب |
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل البيت في الفتح، وقال لـشيبة: سلِّم المفاتيح، قال: المفاتيح عند العجوز -وأمه هذه كانت المسئولة عن المفاتيح، تنام وتقوم وهي معها- قالت: لن أعطيك المفاتيح، قال: يا أماه! والله الذي لا إله إلا هو إما أن تعطيني مفاتيح الكعبة أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، ثم سل سيفه، فقالت: خذ المفاتيح.. فأخذها صلى الله عليه وسلم، فلما هزها بيده وفتح الباب قال العباس: يا رسول الله! أعطنا المفاتيح لنجمع بين السقاية وبين مفاتيح الكعبة. فقال عليه الصلاة والسلام: {لا. خذها يا
الشاهد: أنه فتح الكعبة لـعمر وهو خليفة، فدخل عمر فرأى الذهب والفضة، ففكر، وكان كثير الفكر، متوقد الذهن، ميمون النقيبة، دائم الاستكشافات من ذهنه، يقترح دائماً؛ لأنه حي الإحساس، قوي العاطفة، مقترح.. جنَّد الأجناد، ودون الدواوين، ونظم الجيوش.. قال: لقد هممت أن أوزع هذه الثروة على فقراء المسلمين. قال شيبة: والله لا تفعل، والله لا تفعل، والله لا تفعل، قال: ولمه؟ قال: ما فعلها صاحباك. فنكص عمر وقال: هما المرءان يقتدى بهما. فما دام أنه قد ذكره بمحمد صلى الله عليه وسلم. وأبي بكر؛ فقد أوقفه عند حده، وإلا لو ذكره برجل آخر لبطحه أرضاً؛ لأن عمر يبطح الرجال، ويبطح الزعماء، لكن إذا أوقف عند محمد صلى الله عليه وسلم يقف.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه |
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه |
فلما سال الدم على ثيابه ضرب الميزاب بالدرة فأوقعه على الأرض، ثم عاد إلى بيته فغسل الدم، وأتى العباس، فقال: من قلع الميزاب؟ قالوا: عمر. قال: والله الذي لا إله إلا هو! لقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ثم ذهب إلى عمر فأخبره، فقال عمر: سبحان الله! أسألك بالله أوضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده؟ قال: إي والله. قال: والله الذي لا إله إلا هو لأتكئن لك على الأرض، ولتصعدن على ظهري، ولتردن الميزاب مكانه. فجلس عمر، وقام العباس على ظهره، ورد الميزاب مكانه.. وهذا كله إكرام لصاحب تلك العين؛ ومن أجل عين تكرم ألف عين.
إن كنت كارهة معيشتنا هاتي فحلي في بني بدر |
الضاربون بكل معترك والطاعنون وخيلهم تجري |
فـعيينة هذا كان منهم، لكنه لم يشبه آباءه، بل كان متخلساً متملقاً، دخل فطرق الباب على عمر، فخرج عمر وقال: من؟ قال: أنا الأكرم بن الأكرم بن الأكرم.
قال عمر: كذبت يا عدو الله، بل أنت الأخس بن الأخس بن الأخس والأكرم بن الأكرم بن الأكرم هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق، ففتح له الباب -وليتها كفت- فجلس، وقال: هيه يا بن الخطاب، والله إنك ما تعطينا الجزل، وما تحكم فينا بالعدل. فقام عمر بالدرة يريد أن يؤدبه ويلقنه درساً لا ينساه حتى يموت، فأخذه الحر بن قيس وقال: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] فوقف عمر، وأنزل عصاه، وذهبت حرارته وتوقده.. وقد استدل بها البخاري بهذه القصة تحت هذا الباب، في مسألة التوقف إذا ذكر كتاب الله عز وجل، قال ابن عباس: [[وكان
صغيران نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم |
وهذا بيت لمجنون ليلى، يقول: يا ليته وليلى كانا يرعيان البهم، ولم يكبروا ولم تكبر البهم، ويلعب معها حياة الضياع والهيام والعشق، وجمع الطوابع والمراسلة، وصيد الدجاج والحمام.. فلما سمعها ابن أبي مليكة وكان قد وصل في الأذان إلى قوله: حيَّ على الفلاح، فقال: حيَّ على البهم.. وهو إمام معتبر، وقد ذكر البخاري أنه قال: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً.. لأنه كان يعظ الناس.
قال: كاد الخيران أن يهلكا.. والخيران: أبو بكر وعمر؛ لأنهما رفعا صوتيهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2] فرفعا أصواتهما، فلما أتاهما الخبر؛ قال عمر: والله ما كلمت الرسول صلى الله عليه وسلم إلا كأخ السرار. وهذا هو التوقف عند كتاب الله، وأخو السرار يعني: اللين، وعدم رفع الصوت..
وكان خطيب الأنصار ثابت بن قيس بن شماس يخطب بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت هذه الآية ذهب، فبقي في بيته يبكي صباح مساء، ليلاً ونهاراً، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {يا
فالتقيد بكتاب الله عز وجل، وبسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بالتوقف، ولذلك ذكر بعض أهل العلم في كتبهم، كـابن عبد البر وأهل السنن قالوا: قام صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً فقال للناس: {يا أيها الناس اجلسوا} فسمع ذلك ابن رواحة وهو خارج المسجد فجلس رضي الله عنه في السكة، فقال له الناس: مالك؟ قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: اجلسوا؛ فجلست. وهذا هو الامتثال.
ولذلك يأتي الباب الثالث الذي بوب له البخاري بقوله: النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله -وقد حصل في التبويب تقديم وتأخير- فالواجب الاكتفاء بالكتاب والسنة، وترك التكلف والتنطع، قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:1].. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ [المائدة:101-102] وهذا التقدم بين يدي الله ورسوله هو الاقتراح كما يقول سيد قطب، وهو أن تعرض أموراً من عندك ومن ذهنك تريد أن تسيَّر بها الأمة، وهي ليست في الكتاب ولا في السنة فهذا ملغي، ولا يجوز، وهو أمر محرم، واستحداث في الدين.
وسعيد بن المسيب دخل المسجد -وهذه القصة يصححها الشيخ الألباني وغيره- فدخل رضي الله عنه فوجد بعد أذان الفجر رجلاً من المسلمين يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعتين ويسلم.. والسنة بعد أذان الفجر ألا يصلي إلا ركعتي الفجر، ثم صلاة الفجر، وهناك حديث يستدل به الزيدية، ويجعلون وقت بعد طلوع الفجر وقتاً سادساً من أوقات النهي، فقال سعيد بن المسيب: "يا فلان! لا تصلَّ إلا ركعتين، إني أخشى أن يعذبك الله. فقال الرجل -بسوء فهمه-: والله لا يعذبني الله لأنني أصلي له. قال: والله لا يعذبك الله لأنك تصلي له، ولكنه يعذبك لأنك خالفت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فليس العذاب لأنك تصلي، لكن العذاب لأنك خالفت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والعبادة تكون بلا زيادة ولا نقصان، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه}.
والإمام مالك يرى أن الحديث الصحيح الذي نهى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال، وإضاعة المال، وقيل وقال؛ أن المقصود بالسؤال هو السؤال عن الأغلوطات والتعجيز، أي: أن تعجز العلماء، فتسأل عن سؤال ليس بوارد، وفيه تعجيز للعلماء، وليس فيه نفع ولا فائدة، مثلما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب أدب الدنيا والدين: أن رجلاً من العوام أتى إليه فقال: أخبرنا العلماء أن نجماً إذا ظهر بعد سهيل مات الذين في الأرض جميعاً، فهل هذا صحيح؟ قال ابن أبي الدنيا: فكرهت أن أكرهه بالجواب، أو أن أكفهر في وجهه بالجواب، فقلت: أتأمل المسألة وأجد لك جواباً. وهو يريد أن يتخلص منه.
ولذلك تجد بعض الناس يسأل عن أمور وهو في حاجة ماسة إلى معرفة أمور دينه، مثل أن يسأل بعضهم: هل تدور الشمس حول الأرض أم الأرض حول الشمس؟ أو يسأل عن أطفال أهل الفترة، أو عن أطفال المشركين... وغيرها من المسائل التي لا يعقد عليها كثير فائدة، ولا يستفاد منها لا في الدنيا ولا في الآخرة، والله لن يسألنا عن دوران الأرض حول الشمس، ولكن يسألنا عن دوراننا حول سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فليدر المسلم حول سنته صلى الله عليه وسلم، وليترك الخزعبلات والتراهات التي تضيع عليه وقته، ولا تأتي هذه الأسئلة إلا من قلة العلم، أما العلماء وطلبة العلم والجادون في حياتهم فهم أضبط الناس أسئلةً.
وقيل: كثرة السؤال: هو أن يسأل في عهد الوحي فيُحرَّم شيء، لأن الناس كلما سألوا نزل حكم، والسكوت أحسن.
وقيل: كثرة السؤال: هو سؤال المال، كما ذهب إليه بعض المحدثين، ولكن هذا لا يتسنى؛ لأن سؤال المال مذموم قليله وكثيره إلا للحاجة.
والصحيح: أن السؤال المنهي عنه هو السؤال عن الأغلوطات، أو عما لا ينفع في الدين.
وأهل الحديث والفقه إذا ذكروا باب الاعتصام بالكتاب والسنة أتوا بعده بباب الاقتصاد في العمل، لأن بعض الناس إذا اعتصم بالكتاب والسنة حاول ألا يقصر فزاد؛ فيخرج من السنة، لأن بعض الناس يخرج من السطح، أو يخرج من السقف، فقد تجد بعض الناس يتشدد في تطبيق السنة حتى يخرج من السنة، أو يترك السنة حتى يجفو السنة، والمقصود: هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن المنير الزين شارح البخاري -وهو مغربي-: وقد رأينا ممن تشدد في تطبيق السنة من ترك السنة. ففي الأخير أودى به تشدده إلى ترك السنة، فتجده على قلامة الظفر، وعلى الشعرة، لا يتغاضى، ولا يعفو، ولا يصفح، ولا يتجاوز، ولا يهادن؛ وفي الأخير تجده يخرج عن السنة، وما أخرج الخوارج من السنة إلا تعمقهم وتنطعهم؛ حتى خرجوا من السنة. وبعض الناس لا يكتفي بالنوافل، بل يزيد ويرهق نفسه حتى يترك الفرائض، يقول ابن الجوزي كما في تلبيس إبليس عن الصوفية: يقوم أحدهم يصلي الليل كله فإذا اقترب الفجر نام، فنام عن صلاة الفجر، قال: وقد رأيت أحدهم يصلي الفجر في الضحى، فقلت: يا فلان، مالك؟ قال: قمت البارحة أصلي حتى قرب الفجر؛ فنمت عن صلاة الفجر.. سبحان الله!
ككافلِة الأيتام من كد فرجها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي |
صلاة الفجر في جماعة أفضل من قيام ألف ليلة نافلة. وروى الإمام مالك في الموطأ أن عمر مر بأهل صفوان بن المعطل فقال: [[أين
وذكر الخطابي في كتاب العزلة قال: مررت بصوفي من غلاتهم وقد ألصق شيئاً على عينه فحجبها. -أخذ لصقة فحجب عينه- فقلت: مالك؟ قال: إسراف أن أنظر في الدنيا بعينين! والله يقول: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] وهو يقول: إسراف! فانظر إلى الجهل إلى أين بلغ به، ولذلك يمدحابن الجوزي هؤلاء ويقول: فلان قام أربعين سنة فصلى صلاة الفجر بوضوء العشاء.
أولاً: نسأل ابن الجوزي: من أخبرك أنه قام أربعين سنة؟ هل راقبه أحد ليل نهار أربعين سنة؟ وإن كان هو أخبر الناس فقد راءى بعمله، وإن كانت زوجته أو صديقه فما صدقوا؛ لأنه لا يمكن أن يكون أحد ملصوق به لا يفارقه لا ليلاً ولا نهاراً، ألم يحج؟ ألم يعتمر؟ ألم ينم؟ ألم يسافر؟!
والأمر الثاني: هل هذا موافق للكتاب والسنة أم مخالف؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أما أنا فأقوم وأنام وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني}.
ويأتي ابن الجوزي رحمه الله في صفة الصفوة ويقول: مر فلان بـعسقلان في فلسطين فرأى رطباً على نخلة، فقال: يا رطب ما أشهاك! وما أحسنك! وما أدناك! والله لا أذوقك حتى ألقى الله، سبحان الله! لماذا ما أكلت الرطب، فرج الله عنك وعنا كل كربة؟ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل الرطب والخيار واللحم والعسل وهو أفضل الناس، وهل تركك للرطب يجعلك من العشرة المبشرين بالجنة؟!
ويقول عن رجلٍ آخرَ عابدٍ لكنه جاهل، يقول: "الحمد لله، والله الذي لا إله إلا هو ما أكلت الرطب أربعين سنة.. فهل هذا فتح بدراً؟! أو رفع اللواء في حنين؟! أشرف الخلق عليه الصلاة والسلام أكل من هذا.
وهذه التراجم إيرادها إنما هو من باب التشويه لبعض السير ولا تمر هذه إلا بتعليق: هل هي موافقة للكتاب والسنة أم لا؟ لأن بعض الناس أصابهم الفالج، وأصابهم اليبس، حتى ترك بعضهم الطعام -كما يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر - ثلاثين يوماً، قال: فأجبره العلماء على أن يأكل؛ فشرب شربة فوقعت كرش الماء على الحصى فمات.. سبحان الله! وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195].
فلا بد من الاقتصاد ومعرفة السنة في ذلك؛ لأن بعض الناس يتوهم أن السنة معناها: أن تتبذل، وتضرب عن الطعام، وأن تعمل لنفسك أسابيع من التجويع، وتسهر، وتبتعد عن ملاذ الحياة، وأن تصبح كأنك في رهبنة، والرهبنة ليست بواردة، بل قد ذمها الله عز وجل فقال تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27].
وأورد ابن كثير أثراً في كتاب الشمائل، يقول: {أتى أعرابي يبيع ضباً في السوق -رأس ماله الضب هذا- فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوه -الرسول صلى الله عليه وسلم يستغل المناسبات في سوق عكاظ، وفي المجمع والنادي ومكان التجمع، فهو داعية يجوب كل مكان -قال: يا أعرابي! إني رسول الله إلى الناس، أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. قال: أنت رسول الله؟ قال: أنا رسول الله. قال: من أرسلك؟ قال: الله. قال: والله لا أسلم لك حتى يسلم لك هذا الضب. قال: فإن أسلم الضب أتسلم؟ قال: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: يا ضب! أتشهد أني رسول الله؟ قال الضب: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله} والحديث في سنده نظر، لكن أورده البيهقي في الدلائل، وابن كثير في الشمائل.
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل |
لكن على كل حال؛ إنما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتألف قلب هذا الرجل حين قال: ناقتك مربوطة... وإلا فهو عليه الصلاة والسلام ليس مسئولاً عن هذه الأسئلة.
وفي صحيح البخاري، قال أنس: {سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكثروا عليه؛ فغضب؛ فجلس، فقال
قال الدارمي: ثبت بسند صحيح عن عمر أن عمرو بن العاص أتى إليه، فقال: يا أمير المؤمنين! معي في الجيش رجل يأتي إلينا فيسألنا، قال عمر: عن ماذا يسألكم؟ قال: يقول: يقول الله عز وجل: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً [الذاريات:1] قال عمر: هيه. قال: ويقول: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات:1] قال عمر: هيه. قال: ويقول: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً [النازعات:1] قال عمر: هيه. قال: فيقول الرجل: كيف يقول الله هناك (والذاريات) وهنا (والمرسلات) وهناك (والنازعات)؟ فأنصت عمر، وقال: علي بالرجل، يا عمرو بن العاص! لا يفوت الرجل، والذي نفسي بيده! لئن فات الرجل ليمسنك مني عقوبة.. عمر ما عليه من أحد كبير أو صغير، ما يحميه من العدل حامي.. فذهب عمرو وأتى بالرجل، وقد تهيأ له عمر بضيافة ما بعدها ضيافة، فهيأ له عراجين النخل، ورشها بالماء لتليق بجسمه أحسن، فقال عمر: أنت الرجل الذي يقول كيت وكيت، قال: نعم يا أمير المؤمنين، وما أردت إلا الخير. سبحان الله! ما أحسن هذا الخير! قال: ابطحوه أرضاً، فاعتلاه أمير المؤمنين، ثم ضربه وجهاً لبطن من نية وإخلاص لله عز وجل، يحتسب أجره على الله، فأغمي على الرجل فقال: رشوه بالماء، فرشوه بالماء فأفاق ولسان حاله يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله! قال عمر: ادنوه، فأدنوه فبطحه، قال: رشوه بالماء، فرشوه فأصبح، ومرة ثالثة... فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد دوائي فقد برئت والله.. انتهى المرض، علاج ما بعده علاج في غرفة عمليات عمر! ثم قال: احملوه إلى الجيش ولا يكلمه أحد. فحجزوا عنه الكلام، وأضربوا عن الحديث معه سنة كاملة، وبعد سنة قالوا: يا أمير المؤمنين! صلح حاله، أصبح مستقيماً على أمر الله. قال: اتركوه يحدث الناس.
هذا التقيد بالكتاب والسنة: أما أن يتلاعب الإنسان ويأتي يخرص تخريصات، ويضلل الأمة، ويشوه معالم الكتاب والسنة بحجة الثقافة العامة فلا.. هذه قداسة.. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] هذا دين خالد لا يقبل اللبس، ولذلك جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا يزال الناس يسألون، حتى يقولوا: هذا الله، فمن خلق الله؟!} ومن وجد هذا في نفسه فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا يعبث بالكتاب والسنة، فإن معنى ذلك فتح الباب لكل مهرج وموسوس ومهلوس والعياذ بالله.
وفي السير في ترجمة عمر: أن رجلاً أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله سؤالاً وقال: {يا رسول الله! سعيت قبل أن أطوف. قال صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج} وهذا الحديث متنه في سنن أبي داود عن أسامة بن شريك قال: {يا رسول الله! سعيت قبل أن أطوف. فقال صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج، فأتى الرجل إلى
ومن المسائل التي تهمنا أيضاً: أن عداوة إبليس تصل بالعبد إلى الشرك، فإن لم يستطع فإلى البدعة، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن المعصية في الغالب يتاب منها، والبدعة في الغالب لا يتاب منها، وهذا الكلام ينسب لـسفيان بن عيينة: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية".
لقد أنست محاسن كل حسنٍ محاسن أحمد بن أبي دؤاد ِ |
وما سافرت في الآفاق إلا ومن جدواه راحلتي وزادي |
ولكن أتى أحمد بن أبي دؤاد وابتدع في دين الله القول بخلق القرآن، فكان الوعاظ ينهون عنه ويزجرونه، قال الإمام أحمد وهو يبتسم: "ما أحسن هؤلاء للعامة!
يريد أن يندد بهؤلاء المبتدعة.. فمن مذاهب أهل السنة: التشهير بالمبتدع علناً إذا شهر ببدعته، كأن كتب في صحيفة، أو تكلم في إذاعة، أو كتب كتاباً، فواجب علماء السنة أن يردوا عليه، أما إذا سكت فيوصى في خاصة نفسه إذا لم يكن له تلاميذ وأتباع، ولا يشهر بالرد عليه؛ لأنه قد تأخذه العزة بالإثم وينحرف عن منهج الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
وفي سكرات الموت تراءى له إبليس، فكان الإمام أحمد يقول: لا. بعد، لا. بعد، لا. بعد. أي: ما نجوت منك يا إبليس، فإن إبليس كان يقول: نجوت مني، كلٌ أدركت منه إلا أنت نجوت مني، فيقول الإمام أحمد: أخاف منك، وأتوكل على الله. فلما أصبح يردد (لا إله إلا الله) في سكرات الموت أخذوا يوضئونه، فكان يشير إلى لحيته، ويقول: خللوا لحيتي.. رحمك الله! وسقى الله عظامك شآبيب الرضوان، حتى تخليل اللحية في ساعة يذهل الولد عن والده، والزوجة عن زوجها، والحبيب عن حبيبه، لا تنسى هذه السنة، ويشير بأصابعه، أي: خللوا أصابعي؛ ولذلك رفعه الله مكاناً علياً بصدقه مع الله عز وجل.
هناك ثلاثة طرق:
وهذا من شدة الحرص على اتباع السنة، وإلا فالأمور العامة ليست مطلوبة، لأنها تسمى عند أهل العلم أمور اتفاقية، مثل: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الإثنين، فهذا اتفاق، ومثل: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل أكلة في الضحى، أو خرج من مكة من أعلى مكة، لأن بعض أهل العلم يقول: هذه سنة، وبعضهم يقول: أمور اتفاقية. وقال ابن تيمية في ذلك: "كان عمر أعرف بالسنة من ابنه ابن عمر، فـابن عمر كان يصلي عند شجر كما في صحيح البخاري مثل عقبة هرشا، وشجرة كذا وكذا، وأما عمر فنهى عن الصلاة عند هذه الشجر، وقال: إذا أتت أحدكم الصلاة فليصل وإلا فليذهب. فـعمر كان أبصر وأعلم؛ ولذلك قطع تلك الشجرة لأن هذه أمور اتفاقية، وهناك فرق بين الأمر الاتفاقي العام وبين الأمر المسنون الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم، ومقصود به الاتباع، فليعلم ذلك.
ولكن قد ترد بعض الأسئلة، مثل من يقول فعل بعض الصحابة أفعالاً ما فعلها صلى الله عليه وسلم؟
وهذا سؤال مطروح، وقد ناقشه الشوكاني في إرشاد الفحول، وغيره من العلماء، والفعل إذا فعله الصحابي وقد خالف الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا لا يلتفت إليه أبداً، وإذا فعل الصحابي فعلاً ودل عليه عموم؛ فإن هذا أمر اجتهادي من الصحابي قد يخطئ وقد يصيب، وإذا فعل الصحابي فعلاً وفعل صحابي آخر فعلاً ولم يتضح وجه السنة من فعليهما فهو أمر كذلك اجتهادي، ولكن على كل حال؛ الشوكاني وأبو زهرة لا يأخذون باجتهاد الصحابي إذا كان له اجتهاد خاص، مثل أقوال ابن عباس التي ينفصل بها في الفتيا، وهذا له مبحث، ولكن أريد أن أبين أن بعض الشواذ من أفعال الصحابة لا يقتدى بها، مثل: أن ابن عمر كان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي، ومثل ما جاء أن ابن مسعود كان يصلي وسط الصف، يجعل جماعة عن يمينه وأخرى عن يساره ويكون الإمام في الوسط. ويطبق بين كفيه في الركوع ويجعلهما بين ركبتيه ومثل: أن أبا هريرة كان يتوضأ إلى المنكب أو إلى الإبط، وهذا لم يفعله صلى الله عليه وسلم... إلى غير ذلك من الأفعال التي شذت من بعض الصحابة، فهذه لا يلتفت إليها، وندعو لهم، ونقول: هم مأجورون على كل حال، ولكن الرسول هو القدوة، ولا بد لأفعالهم من أدلة من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أفعاله صلى الله عليه وسلم لا تفتقر إلى أدلة؛ لأنها دليل بذاتها.
وربما نسمع في الأسئلة ما خفي علينا في هذا الدرس، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الجواب: يجوز للطبيب أن يكشف على المرأة بثلاثة شروط:
أولها: ألا توجد طبيبة مسلمة.
ثانيها: أن يكون هذا المرض يدعو ضرورةً إلى كشف الطبيب.. فلا يكون زكاماً ولا من الأمراض المعهودة، فدائماً تكشف وجهها أو قفاها، فهذا ليس بوارد ولا يجوز ذلك، وقد أخلت بالأدب وبدين الله، وانتهكت حدود الله، فلا بد من ضرورة ملحة تدعو لكشف الطبيب.
الثالث: وجود المحرم معها في المكان الذي يكشف عليها الطبيب، فلا ترسلها على بركة الله وتنتظرها بعد ثلاث ساعات، فهذا خطأ، ولا يجوز أن يخلو بها الطبيب إلا ومحرمها معها.. ابنها أو زوجها أو أخوها أو أبوها، أو أي شخص من محارمها.
الجواب: حلق اللحية حرام بالإجماع، ومن ترخص فيه فإنما اتبع هواه، وقدوته في ذلك بيجن وريجن وبوش، أما محمد صلى الله عليه وسلم فربى لحيته، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فليختر هؤلاء أو هؤلاء، وهناك أدلة دلت عليها كقوله صلى الله عليه وسلم: {خالفوا المجوس} {أطلقوا اللحى} {ربوا اللحى} {قصوا الشوارب} {احفوا الشوارب} {جزوا الشوارب} كلها ألفاظ منضبطة تقرب من خمسة ألفاظ.
الجواب: يحرم الاستماع إلى الأغاني، ويحرم كذلك أن يغني الإنسان، أو يكون نجماً فناناً ويترك الدراسة، ويذهب يأخذ عوداً وفرقةً، فهذا يصبح ضائعاً في الدنيا والآخرة، فحرام فعله، وحرام أن يستمع الغناء؛ لأدلة كثيرة، وقد بسطت في أكثر من مناسبة، وإنما أجيب بجمل جامعة.
الجواب: المحارم يختلطون، لكن الأقارب التي يقصدها الأخ: كالحمو -أخي الزوج- أن يختلط بزوجة أخيه، فهذا أمر محرم، وهو منتشر في بعض المناطق، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الحمو؟ فقال: {الحمو الموت}.
الجواب: كشف الخادمة على الرجال الأجانب من أهل البيت وغيرهم لا يجوز، لأنها أجنبية وهم أجانب، ولا يسوغ كونها خادمة في البيت أن يكشف عليها، وهذا أمر منتشر، وقد أورث ذلك فاحشةً كبرى، نسأل الله لنا ولكم الطهر والسلامة.
الجواب: أولاً: الغزالي سبق في الدرس الماضي أن وقفنا معه دقائق، والرجل هذا مفكر مسلم لا ينكر ذلك ولا يدفع، وقد رد عليه كثير من طلبة العلم والمشايخ والعلماء، ومن أحسن الردود: رد الشيخ سلمان العودة عليه في الكتاب والمطبوع الموجود في الأسواق وفي الأشرطة، ورد الطحان بمقالة لكنها سهلة يسيرة، إنما أشار إلى بعض الجمل، ورد بعض الإخوة كالشيخ عبد الوهاب بن ناصر بشريط مجيد في هذا الباب، ورد بعض المحاضرين ممن أعرفهم بردود مكتوبة يريدون طبعها، ولكن على كل حال الرجل سحب على وجهه وقفاه حتى ما يدري أين القبلة، لأنه أراد أن يفتح باباً فما أغلق عليه، والحقيقة أن الأمور والمسائل التي لوحظت عليه -كما مر معنا- وقد ذكرت من بعض المسائل: تقديم العقل على النقل، والتردي في الأسماء والصفات، والحجاب وما قال فيه، ورد الأحاديث الصحيحة بالرأي، والاستهزاء بشباب الصحوة والمستقيمين وما في حكمها، وعباراته النابية التي لا تليق به، وقوله أن المرأة تشارك في الحكم والبرلمان إلى غير ذلك.
أما مسألة أهل الصحوة فإنه بمناسبة أو بغير مناسبة يأتي إلى اللحى والثياب، حتى إن أحد المشايخ أوقفه في مكة وقال: أسألك بالله يا الغزالي هل سألناك وناقشناك في اللحى؟ قال: لا ما ناقشتموني، قال: نسألك بالله هل الرسول صلى الله عليه وسلم كان مربياً للحيته وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ قال: نعم. قال: نسألك بالله هل الأصل التربية أو عدمها؟ قال: الأصل التربية. قال: نسألك بالله الذي يدعو إلى الأصل هو المصيب أو الذي يدعو إلى غير الأصل؟ قال: المصيب هو الذي يدعو إلى الأصل. فلذلك ما أدري هل أتاه موقف اعتراضي مع بعض الشباب، أو ضرب في مكان، أو نزل من سيارة، أو طرد من مطعم، فأخذ يأخذ على الشباب دائماً ويقول: أهل تطرف وأهل تزمت.
والحمد لله انظروا إليهم ما أحسن أخلاقهم! وما أحسن سيماء الإيمان في وجوههم! ملئوا الدنيا بالقرآن والإيمان والفهم، أيريد الغزالي أن يتخلى الشباب عن السنة؟! يريد أن يطبق الشباب مثله في السنة؟ أن يقول: صوت هذا المقرئ كصوت فيروز! أو يريد أن يسهر الشباب على شادية -إن كانت تابت تاب الله عليها- أو يريد أن يكون وردهم ورد أم كلثوم؟! أو أم يحلقوا لحاهم حتى لا يعرف هل أتوا من مكة أو من باريس أو من واشنطن؟! أو يسربلوا ثيابهم حتى نقول: الإسلام يتطور مع الزمن وليس فيه تعقيد ولا تزمت! هذا ليس بصحيح، ونسأل الله أن يهديه سواء السبيل، فإنه لو أبصر ما أبصرنا وما عشنا مع إخواننا وشبابنا شباب الصحوة لرأى ما يثلج الصدر ويرفع الرأس.
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا |
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضبا |
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا |
شاب يقوم الليل، ويصوم النهار، ويبر والديه، وينشر الدعوة، أهذا ينتقد عليه؟! لماذا لا توجه هذه التهم لأهل العربدة، ومروجي المخدرات، وباعة المجلات الخليعات، وأهل الصفير والزفير والشهيق والتشجيع، الذين كسروا على رءوسنا الشجر والزجاج والنوافذ؟! لماذا لا يرد عليهم؟! أما هؤلاء الشباب فلا يعقل.
وقد تكرر هذا السؤال كثيراً، وكلمني بعض الإخوة في مثل هذه القضية لكن ما نريد أن نثير على الناس، وقد أتاه ما يكفيه، والذي نسأل الله أن يغفر لنا وله، وأن يتجاوز عنه، وإنه يدعى وإنا ندعوه أن يكتب كتاباً، أو يقول مقولة يتبرأ فيها مما فعل فقد أخطأ، والله هو المحاسب والموعد، فإنه قد أخطأ كثيراً مع شباب الإسلام، نسأل الله لنا وله المغفرة؛ لأن الرجل له حسنات، ونحن أمرنا أن نكون شهداء على الناس، وأن نكون عادلين في الحكم، ولا يحملنا شنآن الأقوام على التشفي بأعراضهم، فله حسنات، ومن حسناته أنه رد على الشيوعيين في وقت ما كان ينبس أحد من الناس بكلمة، وقام على كثير من الطغاة كـعبد الناصر وعبد الحكيم عامر وأمثالهما فشلحهم على المنابر تشليحاً، ومنها: أنه وجه الفكر وأتى بدرر من بنيات فكره فتح الله فيها عليه، ومنها: أن الرجل لا ينكر أنه مفسر وخطيب ومتكلم، لكن ما كل من قصد شيئاً أصاب فيه، ولا كل من أراد أمراً يترك لهذا الأمر؛ حتى يقوَّم بالكتاب والسنة.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر