قال الإمام النووي: (باب استحباب خفض الصوت بالذكر). أي: باب استحباب إذا ذكر أحد ربه أن يخفض صوته بالذكر؛ لأن الله تبارك وتعالى سميع عليم.
قال: [عن أبي موسى الأشعري -وهو عبد الله بن قيس - قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فجعل الناس يجهرون بالتكبير)]. أي: يرفعون أصواتهم بالتكبير، وأنتم تعلمون أن السنة للراكب أو السنة للمسافر إذا صعد شرفاً -مكاناً عالياً- أن يقول: الله أكبر، وإذا نزل أن يقول: (سبحان ربي الأعلى). وهذه سنة ثابتة. وأدلتها في الصحيحين وغيرهما.
فلو صعدت ثنية أو شرفاً أو مكاناً مرتفعاً أو كبري أو غير ذلك ففي أثناء صعودك سواء كنت راكباً أو ماشياً فقل: الله أكبر، وإذا نزلت فقل: سبحان ربي الأعلى، ولو كنت غير مسافر.
قال: [(فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس! أربعوا على أنفسكم -أي: رفقوا بأنفسكم ولا تكلفوها فوق طاقتها- إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً)]. أي: مهما أسررتم وأخفيتم الذكر والتكبير فإن الله تعالى يسمعه ويعلمه.
قال: [(إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم)]. وفي ذلك إثبات السمع لله عز وجل، كما أن من أسماء الله عز وجل: القريب، فهو أقرب إلى أحدنا من خطام ناقته، ومن حبل الوريد الذي هو داخل في تكوين الإنسان، فالله تعالى أقرب إلى العبد من كل شيء، والله تعالى أقرب من كل قريب من عباده سبحانه وتعالى.
قال أبو موسى الأشعري : [(وأنا خلف النبي عليه الصلاة والسلام أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله)]. أي: لما كان الصحابة رضي الله عنهم مشغولين بالتكبير عند ارتفاعهم أو صعودهم شرفاً أو ثنية أو غير ذلك كان أبو موسى خلف النبي عليه الصلاة والسلام يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(يا
فلا حول ولا قوة إلا بالله إنما هي كنز من كنوز الجنة، بل ثبت أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكثر من هذا القول في ليله ونهاره، وكان دائماً ما يُسمع النبي عليه الصلاة والسلام مستغفراً أو تائباً أو محوقلاً.
وقول النووي: وهو معكم بالعلم والإحاطة، هذا القول منه رحمه الله تعالى عض عليه بالنواجذ؛ لأنه رحمه الله في الغالب يؤول أو ينقل قول المتأولة من الأشاعرة ثم لا ينكره، بينما في هذا القول وافق منهج أهل السنة وبعض أهل العلم ينسب النووي لمذهب الأشاعرة وليس كذلك، بل الإمام النووي لم يتأهل جيداً لمسائل الاعتقاد، ولذلك أحياناً ينقل كلام السلف ويستحسنه، وأحياناً ينقل كلام الخلف ويسكت، وأحياناً ينكر، وقلما ينكر.
فهنا في المعية نقل كلام أهل العلم من السلف والصحابة وغيرهم بأن معية الله عز وجل لعباده إنما هي معية سمع وعلم وإحاطة وغير ذلك، أما معية الذات فلم يقل بها إلا الخلف؛ لأن السلف إنما يثبتون لله عز وجل الفوقية والعلو، فالله تبارك وتعالى استوى على العرش. ومعنى استوى: علا وارتفع. فالله تبارك وتعالى ينزل في ثلث الليل الآخر، أو إذا بقي ثلث الليل الآخر فينادي عباده، ونزوله سبحانه للسماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وكماله، والسلف يعتقدون أن نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا لا يستلزم خلو العرش منه، كما أنه لا يستلزم الانتقال والحركة؛ لأن النزول في حق الرب تبارك وتعالى يختلف عن النزول في حق المخلوقين، فإذا نزل أحدنا من الدور الثاني إلى الدور الأول فإنما هذا نزول يعرفه البشر، كما أنه يستلزم خلو المكان الأول منه، ويستلزم الانتقال والحركة، وكل هذا في قوانين البشر معقول، أما في القانون السماوي الإلهي وفيما يتعلق بالذات العلية فإنه لم يقل بذلك أحد من السلف رضي الله عنهم أجمعين.
حدثنا أبو كامل -وهو فضيل بن حسين الجحدري- حدثنا يزيد بن زريع]. وهو إمام أهل البصرة في زمانه، قال الإمام أحمد : هو ثقة ثقة، شرف أهل البصرة، لم تنجب البصرة في زمانه أفضل منه.
[قال: حدثنا التيمي ]. التيمي يطلق على سليمان بن طرخان التيمي ، ويطلق على ولده المعتمر ، لكن عند إطلاق التيمي فيطلق على الأب سليمان ، وخاصة إذا كان في طبقة التابعين أو تابعي التابعين.
قال: [حدثنا سليمان التيمي عن أبي عثمان -وهو النهدي - عن أبي موسى الأشعري : (أنهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يصعدون في ثنية -أي: في مكان مرتفع في الجبل- فجعل رجل كلما علا ثنية نادى: لا إله إلا الله والله أكبر)]، يقدم كلمة التوحيد ثم يثني بالتكبير، والله تبارك وتعالى واحد أحد، وهو الكبير المتعال سبحانه وتعالى، فهذا الرجل كلما صعد ثنية وحد الله تعالى وناداه باسم من أسمائه سبحانه وتعالى، فقال: الله أكبر، أو والله أكبر.
قال: [(فجعل نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنكم لا تنادون أصم ولا غائباً)]. أي: لا تدعون أصم ولا غائباً، فلا تكلفوا أنفسكم رفع الصوت، وإنما يكفيكم أن تذكروا الله تبارك وتعالى ولو بصوت يسمعه من قرب منكم من صاحبه، فلا داعي أن تشقوا على أنفسكم بالنداء ورفع الصوت.
قال: [فقال: (يا
وكما في الحديث في الصحيحين: (لا تضربوا الوجه ولا تقبحوه، فإن الله خلق آدم على صورته). وفي رواية خارج الصحيحين: (فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن) فيها إشكال. يعني: أن ربنا شابه آدم!
وقوله: (لا تضرب الوجه ولا تقبح، فإن الله خلق آدم) كلام موجه لـمعاوية بن الحكم السلمي لما لطم جاريته، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تضرب الوجه ولا تقبح، فإن الله خلق آدم على صورة الرحمن).
وأضعف الأقوال في معنى هذا الحديث: أن الإضافة هنا إضافة تشريف، لكن في الحقيقة فيها شبهة تشبيه كذلك. أي: تشبيه الله عز وجل بآدم.
وأقوى قول لأهل العلم في هذه المسألة كقول النبي عليه الصلاة والسلام: (هل ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في رابعة النهار، أو كما ترون القمر في ليلة البدر ليس دونها سحاب). فهنا تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي. يعني: مثلما ترون الآن القمر ليس دونه سحاب أو ضباب أو إشكاليات تمنعكم من رؤية القمر فإنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، وسترون ربكم تماماً كما ترون هذه الشمس. يعني: ليس فيه أي غبش يمنعكم من رؤية الله عز وجل، ولا يحصل لكم ضيم ولا وهم ولا شك ولا ريب ولا غير ذلك.
إذاً: هذا تشبيه الرؤية بالرؤية. أما أن تقول: إن الحديث يستلزم أن الله تعالى شبه القمر أو شبه الشمس فلا؛ لأنه سيكون عندئذ تشبيه المرئي بالمرئي، وليس مقصوداً في الروايات، وإنما المقصود أنكم كما ترون القمر صحواً جميلاً مدوراً نيراً لا يمنعكم من رؤيته غيم ولا ضباب ولا شيء من هذا، فكذلك لا يمنعكم من رؤية الله عز وجل شيء.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله خلق آدم على صورته)، فاختلف أهل العلم في عود الضمير، فقالوا: (الهاء) في (صورته) يعود على المضروب، فإن الله خلق آدم على صورة المضروب.
والكلام هذا لا تساعده الأدلة النقلية ولا كلام العرب؛ لأن المشبه إنما يلحق بالمشبه به غالباً، ولا يلحق المشبه به بالمشبه.
يعني: لما أقول: إن الله خلق آدم على صورته. وأقول: إن الضمير يعود على المضروب، فهذا الكلام لغة لا يستقيم، مثل أن أقول: إن هذا الرجل يشبه ابنه، أو هذا الولد يشبه أباه، لكن لا يصح أن أقول للأخ الكبير: أنت تشبه أخاك الصغير الذي هو أصغر منك بعشر سنوات، فضلاً أن يكون ذلك في الأب، وآدم أبو البشر، فلما أشبه آدم بأحد لا يصح، لكن ممكن أشبه الناس بآدم؛ لأنه الناس من آدم، وآدم هو أبو البشر.
وقال بعض أهل العلم من المحققين من السلف: إن لله تبارك وتعالى ذات، وهذه الذات موصوفة بصفات، فإذا كانت ذات لها صفات فلا بد أن تكون لها صورة، والله تبارك وتعالى خلق الخلق على صور كما أنه سبحانه وتعالى ذات له صورة، وصورة المولى تبارك وتعالى لا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه، أما صور المخلوقين فمعلومة، فهذا تشبيه الصورة بالصورة. بمعنى: كما أن لله تعالى ذات فله صورة وكذلك مخلوقاته عبارة عن صور وذوات، فهذا تشبيه لصورة بصورة، لا تشبيه للمصور بالمصور، ولا تشبيه للعبد بالخالق تبارك وتعالى.
إذاً: كما أن لله تعالى ذاتاً موصوفة بصفات ولها صورة، فكذلك آدم أبو البشر له ذات لها صفات ولها صورة، فهنا في هذا الحديث: إثبات الصورة لله عز وجل وإثبات الصورة للمخلوقين، لكن إثبات الصورة لله وللمخلوقين لا يستلزم المشابهة والمماثلة أبداً، بل يستحيل إثبات المماثلة والمشابهة في كل شيء بين الخالق وبين المخلوق.
إذاً: الذين تكلفوا رد حديث: (إن الله خلق آدم على صورة الرحمن) واكتفوا بذكر عود الضمير إلى آدم، إنما تكلفوا ما لا طاقة لهم به؛ لأن الحديث بلفظ: صورة الرحمن، صحيح بغير إشكال.
ثم ما الذي يمنعنا أن نؤمن بأن لله تعالى صورة كما آمنا بكل أسمائه وصفاته، وأن نفوض كيفية الصورة لله عز وجل، أما صورة المخلوقين فنحن نعرفها.
وأرجح الأقوال فيه: إما أنه كان يجالس الحذائين، أو أنه كان مشهوراً بقوله إذا سئل عن مسلك أو مشرب أو خلق أو عقيدة أو غير ذلك، كان ينصح السائل فيقول له: احذ حذو فلان. سواء في الأخلاق، أو السلوك أو العقيدة أو غير ذلك.
قال: [عن أبي عثمان عن أبي موسى قال: (كنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام في غزاة). فذكر الحديث -أي: ذكر الحديث السابق- وقال فيه: (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)]. أي: إذا كان العبد أو الراكب لهذه الدابة يظن أن عنق الراحلة قريباً منه، فالله تبارك وتعالى أقرب إلى أحدنا من عنق راحلته. [قال: وليس في حديثه ذكر: لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أخبرنا النضر بن شميل ، حدثنا عثمان بن غياث ، حدثنا أبو عثمان ، عن أبي موسى الأشعري قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة -أو قال:- على كنز من كنوز الجنة؟ فقلت: بلى. فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله)]. أي: هي كنز من كنوز الجنة.
ففي هذا الحديث الندب إلى خفض الصوت بالذكر، إذا لم تدعو حاجة إلى رفعه، فإنه إذا خفضه كان أبلغ في توقيره وتعظيمه. أي: الذي يخفض صوته بذكر الله عز وجل أبلغ في تعظيم الله عز وجل وتوقيره وإجلاله، إلا إذا دعت الضرورة والحاجة، أو لم يتمكن الإنسان من خفض الصوت، فلا بأس أن يرفع بذلك صوته ولا حرج عليه، فخفض الصوت بالذكر مندوب وليس واجباً، فإذا دعت حاجة إلى الرفع رفع كما جاءت بذلك الروايات.
أما قوله: (والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، فهو بمعنى ما سبق، ومعناه المجاز، كقوله تعالى: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]. أي: نحن أقرب إلى المحتضر من حبل الوريد الذي هو داخل في رقبته. والمراد: تحقيق سماع الدعاء.
فالله تبارك وتعالى يعلم السر وأخفى، بل يعلم السر الذي يسره الإنسان لأخيه، ويعلم كذلك ما تحدث به نفس الإنسان قبل أن يتكلم به مع أي أحد، بل قبل أن يجهر به مع نفسه، فالله تبارك وتعالى يعلمه، بل ويعلم ما هو أخفى من ذلك، يعلم الذي سيفكر فيه العبد، والذي سيعمله العبد، ومصير العبد بين يديه سبحانه وتعالى، فإذا كان الله تعالى يعلم كل ذلك، الحاصل منه وغير الحاصل، الماضي منه والمستقبل، الذي يسره الإنسان والذي يجهر به، الذي لم يفكر فيه الإنسان أصلاً، فهذا يحقق أن الله تعالى أقرب إلى أحدنا من حبل الوريد، وهو تحقيق سماع الدعاء.
قال العلماء: سبب ذلك: أنها كلمة استسلام وتفويض إلى الله تعالى. يعني: تفويض الأمر إلى الله عز وجل، كما في قوله تعالى: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي [غافر:44]، حتى لا تظنوا أن هذا من باب التفويض المذموم الذي هو صرف النص عن ظاهره فيما يتعلق بصفات الله عز وجل.
قال: واعتراف بالإذعان له، وأنه لا صانع غيره، ولا راد لقضائه وأمره، وأن العبد لا يملك شيئاً من الأمر. ومعنى الكنز: أنه ثواب مدخر في الجنة، وهو ثواب نفيس كما أن الكنز هو أنفس أموالكم.
قال أهل اللغة: الحول: الحركة والحيلة. أي: لا حركة لنا ولا استطاعة لنا ولا حيلة لنا إلا بمشيئة الله تعالى. وقيل: معناه: لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله تعالى. وقيل: لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله للعبد، ولا قوة للعبد على طاعة الله إلا بمعونته سبحانه وتعالى. وحكي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه وكله متقارب. يعني: كل هذه المعاني والتفسيرات متقاربة المعنى كما قال أهل اللغة. ويعبر عن هذه الكلمة بالحوقلة والحولقة.
إذا العبد يقول هذا الكلام في صلاته، فياحبذا لو كان ذلك في سجوده؛ (لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. قال: فأكثروا فيه الدعا)؛ لأن السجود هو حالة من العبد يبرهن بها عن مزيد ذله وخضوعه لله عز وجل، إذ إنه يأتي بهامته التي هي أعلى شيء وأشرف شيء في بدن الإنسان فيضعها في الوحل والتراب والرغام لله عز وجل من جهة الحب أو على جهة الحب والعبادة والقرب، فإذا كان العبد يحقق هذا لله عز وجل، فياحبذا لو أنه دعا بدعاء بين يدي الله عز وجل في هذا الموطن وافتقر إلى الله تعالى على نحو قوله: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم).
وفيها: إثبات أن الله تبارك وتعالى غفور رحيم، كما أن فيها صحة مناسبة ذكر هذه الأسماء مع الدعاء، فمثلاً لا يقول العبد: اغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك العزيز القوي المنتقم الجبار. لا يصلح هذا الكلام، وإنما يصلح أن يسم الله تبارك وتعالى بأسماء تتناسب مع أصل الدعاء. فمثلاً: لا يصح أن يقول أحدهم: اللهم انتقم من فلان الذي ظلمني إنك أنت الغفور الرحيم. كيف يتناسب هذا مع هذا؟! إذاً: أنت تذكر من أسماء الله تعالى ما يتناسب مع أصل الدعاء، قال: (إنك أنت الغفور الرحيم)
فمثلاً: عندما أقول لك: أخبرني فلان من الناس، ستقول: لا يصح ذلك؛ لأن فلاناً قد يكون ضعيفاً، وفي هذه الحالة إما أن نسميه وبعد تسميته وتحديد عينه يعرف بالتوثيق، وإلا فإن الإسناد ضعيف للجهالة. أي: جهالة الراوي، وهذا ليس انقطاعاً، إذ الجهالة تختلف عن الانقطاع.
قال: [أخبرنا عبد الله بن وهب ، أخبرني رجل سماه، وعمرو بن الحارث]. إذاً عمرو بن الحارث متابع لرجل مجهول، وبالتالي لابد أن أنظر في ترجمة عمرو بن الحارث، هل هو ثقة أو ليس بثقة؟ فإن كان ثقة فأنا أعتبر هذا الرجل المجهول كأنه لم يكن؛ لأن عمرو بن الحارث يحل محله، فسواء ذكر اسمه أو لم يذكر اسمه.
فجهالة الراوي في كل طبقات الإسناد تضر بثبوت الإسناد، وتضر بثبوت الحديث ويكون ضعيفاً، إلا في طبقة واحدة وهي طبقة الصحابة، كأن يقول التابعي: حدثني رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، فإن ذلك لا يضر؛ لأن الصحابة كلهم عدول رضي الله عنهم.
قال: [أخبرني رجل سماه، وعمرو بن الحارث]. وكلاهما في طبقة واحدة، فيغني عن المجهول المعلوم، وهو عمرو بن الحارث، وهو ثقة.
هذا الدعاء إما أن يحمل على أنه في الصلاة في المسجد -أي: في صلاة الفريضة- وفي بيته في صلاة النافلة، وإما أن يدل هذا الحديث على استحباب هذا الدعاء في الصلاة وفي غيرها، وأشد استحباباً أن يكون في الصلاة وفي البيت.
وانظروا إلى تواضع وأدب أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد بلغ من السن ما بلغ، ومن المنزلة ما بلغ، ومع هذا يأتي بلغة صبي الكتاب بين يدي شيخه ويقول: (يا رسول الله! علمني). ولم يستأنف ولم يستنكف عن طلب العلم، مع علو منزلته وعظيم شرفه، ومع ذلك فقد طلب من النبي عليه الصلاة والسلام في حضرة عبد الله بن عمرو بن العاص ، وأنتم تعلمون أن عبد الله بن عمرو من صغار الصحابة، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه أكبر الصحابة، ولم يستنكف أبو بكر في هذا الموطن أن يقول أمام طفل من أطفال الصحابة: (يا رسول الله! علمني). ما قال له: أنا والله كنت أريدك منفرداً حتى لا يعلم هذا الطفل الصغير، لا؛ لأنه لا يتعلم العلم مستح ولا متكبر، وهذا الأثر ذكره الإمام البخاري في كتاب العلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فالعلم إنما يحول بينك وبينه الكبر والحياء؛ ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها: رحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. والمقصود: حياء المرأة الطبيعي الذي يجعل المرأة تستحي دائماً من كل شيء، وأن تسأل عن أي شيء، لكن نساء الأنصار بالذات علمن النساء المهاجرات أنه لا حياء في طلب العلم. وهذا يرد به على القول المشهور المعروف: لا حياء في الدين. فهذا القول خطأ. والصواب: أن الدين كله حياء وصواب ذلك: أنه لا حياء في الطلب؛ لأن الحياء في الطلب ليس حياءً حقيقياً، وإنما هو عجز وضعف، فالحياء كل الحياء أن تطلب العلم، وتستحي من نفسك وأنت جاهل.
قال: [(إن
وإذا لم يكن العبد من أهل الإيمان والتوحيد ولم يكن عاملاً، بل كان عاصياً مستهتراً، أو كان جاحداً منكراً أو منافقاً أو كافراً قال: (لا أدري، وجدت الناس أو سمعت الناس يقولون: كذا فقلت كذا).
وفي رواية يقول: (ها ها لا أدري). كالمشدوه الذي ظن أنه لا يقف هذا الموقف قط، فالمنكرين الآن لعذاب القبر وفتنة القبر، والمكذبين الآن لسؤال منكر ونكير لا بد أنهم سيفاجئون بذلك؛ لأنه لم يكن هذا في ظنهم في الدنيا، بل جحدوا ذلك وأنكروه، ولذا فإنهم سيفاجئون في قبورهم حين نزولهم وإغلاق القبر عليهم بمنكر ونكير، والذي قلما يثبت بأس المرء وقلب المرء أمام منظريهما، إلا من ثبته الله تعالى؛ ولذلك الصحابة رضي الله عنهم الذي بلغوا في العلم والفضل والتقوى والورع والمنزلة مبلغاً عظيماً جداً كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول إذا دفن أحدهم: (أدعو لأخيكم فإنه الآن يسأل). لأنه أحوج ما يكون إلى الدعاء بالتثبيت، وهو في أمس الحاجة لدعاء إخوانه وهو يسمع قرع نعالهم في الخارج. وهنا: إثبات استحباب الدعاء والقيام على القبر مدة من الزمان تكفي لنحر جزور وسلخه وتوزيع لحمه أو تفريق لحمه، وهذه المدة التي يبقى فيها منكر ونكير مع هذا المقبور حديثاً.
أما عذاب القبر فإنما مثله كما مر النبي عليه الصلاة والسلام بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بين الناس بالنميمة).
فهناك بعض الأعمال يعاقب الله عليها العبد في الدنيا، وبعضها يعاقب عليها في القبر، وهي الدار الثانية، وبعضها يعاقب عليها في الدار الآخرة سبحانه وتعالى.
وقد شرحنا الكلام هذا وقلنا: فيه خمسة عشر قولاً لأهل العلم، وأرجح الأقوال في قوله: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير). أي: هذا العمل الذي يعذب المخلوق بسببه لم يكن شديداً ولا قاسياً عليه في الدنيا، إذ كان بإمكانه أن يحترز منه، لكنه لما فرط وأهمل عذب بسبب التفريط في قبره.
قال: (أما فتنة المسيح الدجال ، فأنتم تعلمون أنه لن تكون فتنة أعظم منذ أن خلق الله تعالى آدم إلى قيام الساعة من فتنة المسيح الدجال ، وقد تكلمنا عن المسيح مراراً وتكراراً بما يغني عن إعادته الآن.
قال: أما غسل الخطايا بالماء والثلج فهذا تشبيه المراد منه: شدة التنقية أو شدة النقاء، فتقول: اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد. وكأن التقدير: اللهم اغسلني. أي: اللهم اغسل لي خطاياي واجعلني نقياً نقاءً تاماً منها كما إذا غسل الثوب الأبيض بالماء أو الثلج أو البرد.
وفي تكملة الحديث: (ونق قلبي من الخطايا)، أي: اجعله طاهراً مطهراً كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، أي: من الوسخ.
وأهل القبور لا يفتنون بـالدجال ؛ لأن الدجال يبعث قبل قيام الساعة، وأن من مات لا يبعث إلا مع البعث العام، ولا يكون البعث إلا بعد موت الدجال ، بل وموت الخلائق جميعاً حتى الملائكة، وأول من تنشق عنه الأرض هو النبي عليه الصلاة والسلام، على خلاف بينه وبين موسى عليه السلام. والراجح: أن الأرض أول ما تنشق عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فيجد موسى عليه السلام عند العرش فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فلا أدري أصعق قبلي، أو أفاق من الصعقة قبلي؟). لكن الراجح من أقوال المحققين: أن الأرض أول ما تنشق عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
قال: [(ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس)]، فانظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو الذي يدعو بهذا الدعاء: [(اللهم اغسلني من ذنوبي بالماء والثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس)]، وقلبه منقى عليه الصلاة والسلام، وقصة شق الصدر التي هي من معجزاته عليه الصلاة والسلام ليست بخافية عنا، فقد انتزع من قلبه حظ الشيطان وملئوه إيماناً، فليس فيه إلا الإيمان بالله تعالى، لكن النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان يدعو بهذا الدعاء، ويستمر على هذا الدعاء إنما يتأدب مع ربه بإظهار الذل والخضوع والانكسار بين يديه سبحانه وتعالى.
كما أن من الفوائد في هذا الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام لما كان هو القدوة والإسوة أراد أن يدعو بهذا الدعاء ليعلم الأمة كيف تدعو الله تعالى، فقال: [(وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب)]. فهنا مجاز أيضاً، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام طلب من ربه أن يباعد بينه وبين وقوعه في المعصية كما باعد بين المشرق والمغرب. هل فممكن أن يجتمع المشرق والمغرب؟ ممكن مشرقي ومغربي يجتمعان، وممكن المغرب تلتقي مع الرباط، والرباط تلتقي مع دمشق، ومغربي يلتقي مع شامي، أما المغرب نفسها تلتقي مع الشام فلا.
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: [(وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق)] وليس المشرقي. (والمغرب). فلو قال: المشرقي والمغربي لم يكن كلاماً محكماً؛ لأنه يمكن اللقاء، وإذا كان يمكن اللقاء والاجتماع فيمكن الوقوع في المعصية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بدعاء محكم فقال: [(كما باعدت بين المشرق والمغرب)] اللذان لا يمكن أن يجتمعا، فكذلك لا تجمع بيني وبين معصيتك قط، كما لا يمكن أن يجتمع المشرق مع المغرب.
قال: (اللهم فإني أعوذ بك من الكسل والهرم)، والهرم: كبر السن. وبعض الناس ينطقها: الهرم -بكسر الراء- وهذا غلط وخطأ من جهة اللغة؛ لأن اسمه الهرم بفتح الراء. أما الهرِم -بكسر الراء- فهو الشخص الكبير العاجز.
قال: [(اللهم فإني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم)].
والمأثم هو: الإثم. أي: اللهم إني أعوذ بك أن أقع في أمر آثم به، أو آثم به، أو يكون سبباً في إثمي أو حزني.
أما المغرم فهو: الدين. والغريم هو: المدين. والنبي عليه الصلاة والسلام كان يستعيذ بالله من هذا وذاك.
قال الخطابي: (إنما استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر الذي هو فقر النفس لا قلة المال. قال القاضي: وقد تكون استعاذته من فقر المال والمراد الفتنة في عدم احتمال هذا المال وقلة الرضا به؛ ولذا قال: فتنة القبر، ولم يقل: الفقر، وقد جاءت أحاديث كثيرة في الصحيح بفضل الفقر).
قال: (وأما العجز فهو: عدم القدرة على إتيان الفعل. وقيل: هو ترك ما يجب فعله والتسويف به، وكلاهما يستحب الاستعاذة منه).
وأما استعاذته عليه الصلاة والسلام من الهرم فالمراد به الاستعاذة من الرد إلى أرذل العمر. أي: لو أن واحداً بلغ من العمر (60) أو (70)سنة، فإنه يستطيع أن يخدم نفسه، لكن في (80) أو (90) أو (100) يعجز حتى عن خدمة نفسه، فيحتاج إلى من يطعمه ويسقيه ويحمله ويقضي له حاجته وغير ذلك، وهذا بلا شك ثقل عظيم جداً، أسأل الله تعالى ألا يردنا وإياكم إلى أرذل العمر، قال: (وسبب ذلك ما فيه من الخرف واختلال العقل والحواس والضبط والفهم وتشويه بعض المناظر والعجز عن كثير من الطاعات والتساهل في بعضها.
قال: (وأما استعاذته من المغرم وهو الدين فقد فسره صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة في كتاب الصلاة أن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف. أي: إذا كان الرجل مديناً فإنه إذا حدث كذب). فيقول للدائن مثلاً: والله العظيم أنا لي فلوس عند فلان، فإذا أعطاني سأعطيك، وهو في الحقيقة ليس له عند فلان شيئاً، وربما إذا أتاه الدائن وطرق بابه قال لولده أخرج فقل له: أبي ليس موجوداً، فيخرج الابن فيقول له: أبي يقول لك: هو ليس في البيت! فالولد صادق لا يعرف الكذب، فهو ينقل الكلام حرفياً؛ لأنه ملتزم بالأمانة. قال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف؛ ولأنه قد يمطل المدين صاحب الدين؛ ولأنه قد يشتغل به قلبه، وربما مات قبل وفائه فبقيت ذمته مرتهنة به) أي: بهذا الدين.
وأما استعاذته عليه الصلاة والسلام من الجبن والبخل فلما فيهما من التقصير عن أداء الواجبات، والقيام بحقوق الله تعالى، وإزالة المنكر، والإغلاظ على العصاة -لا يستطيع أن يفعل ذلك لأنه جبان- ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات، ويقوم بنصر المظلوم والجهاد، وبالسلامة من البخل يقوم بحقوق المال وينبعث للإنفاق والجود ولمكارم الإخلاق، ويمتنع من الطمع فيما ليس له.
قال العلماء: (واستعاذته عليه الصلاة والسلام من هذه الأشياء كلها لتكمل صفاته في كل أحواله وشرعه أيضاً تعليماً). أي: أنه قال ذلك من باب التعليم للأمة كي يدعون الله تعالى.
قال: (وفي هذه الأحاديث دليل لاستحباب الدعاء والاستعاذة من كل الأشياء المذكورة وما في معناها، وهذا هو الصحيح الذي أجمع عليه العلماء وأهل الفتاوى في الأمصار، وذهبت طائفة من الزهاد وأهل المعارف إلى أن ترك الدعاء أفضل؛ استسلاماً للقضاء). وهذا تنطع لا يكون إلا من الزهاد، إذ إنه أحياناً تأخذهم غفلة الزهد أن يتكلموا بالحق، فيتكلمون بغيره ظناً منهم أنه دين، كما يقول الصوفية مثلاً: حمل المتاع في الأسفار قادح في التوحيد.
يعني: أنا ممكن أن أسافر من هنا إلى مكة من أجل أن أحج، وأوقن بأن الله تعالى سيطعمني ويسقيني في الطريق، وأنا راكب على دابتي فلماذا أمشي راجلاً؟ هل هذا دين؟! هم يقولون هذا. كما يقولون: حمل الأزواد في الأسفار مخل بالتوكل! إذاً فأين الأخذ بالأسباب؟!
قال: (وذهبت طائفة من الزهاد وأهل المعارف إلى أن ترك الدعاء أفضل؛ استسلاماً للقضاء). مع أن الدعاء عبادة، وهو من قضاء الله تعالى وقدره، فكيف نتركه؟!
(وقال آخرون منهم: إن دعا للمسلمين فحسن، وإن دعا لنفسه فالأولى تركه). لكن النبي صلى الله عليه وسلم في نفس الأحاديث كان يدعو لنفسه.
قال: (وقال آخرون منهم -أي: من الزهاد-: إن وجد في نفسه باعثاً للدعاء استحب وإلا فلا). أي: عندما ينشط يدعو وإلا فلا.
قال: (ودليل الفقهاء -أي: القائلون باستحباب الدعاء-: هو ظواهر القرآن والسنة في الأمر بالدعاء وفعله، والأخبار عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بفعله).
ونحن قد ذكرنا كل الكلام في شرح الحديث السابق عدا فتنة المحيا والممات، وفتنة المحيا -أي: فتنة الحياة- إما أن تكون في الدين أو في الدنيا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ أن يفتن في حياته فتنة تتعلق بالدين أو تتعلق بالدنيا، فمثلاً: حبك للمال وشغفك وطلبك وانشغالك به فتنة من فتن الدنيا، فإذا حزت المال بين يديك فانشغلت به عن طاعة الله فهو من فتن الدنيا، وهكذا في كل فتنة نقول هذا الكلام.
وأما فتنة الممات فقيل: المقصود بها: فتنة القبر، أو عذاب القبر، أو عذاب ما بعد الممات من فتنة البعث والنشور، والحساب، والجنة والنار، وغير ذلك.
وقيل: -وهو الراجح- أن فتنة الممات هي: رؤية العبد مكانه من الجنة أو النار في لحظة الاحتضار، وهي أعظم فتنة يتعرض لها العبد، وهي آخر فتنة على الإطلاق يتعرض لها العبد قبل وفاته وقبل خروج الروح، فيرى مكانه من النار فيفتن فيه. ثم يقال له: هذا مكانك لولا أن الله أبدلك مكانه في الجنة. ويرى مكانه من الجنة فيسعد بذلك ويفرح فيقال له -أي تقول له الملائكة-: (هذا مكانك لولا أنك عملت كذا وكذا فقد أبدلك الله مكانه من النار). ثم يرى مكانه من النار، فحينئذ يكره لقاء الله تعالى فيكره الله تعالى لقاءه كما مر بنا، فهذه فتنة المحيا وتلك فتنة الممات، عصمنا الله تعالى وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
قال: حدثنا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني ، أخبرنا ابن المبارك -وهو عبد الله بن المبارك المروزي- عن سليمان التيمي، عن أنس بن مالك: (عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه تعوذ من أشياء ذكرها. والبخل)]. أي: استعاذ بالله أن يكون بخيلاً.
قال: [حدثنا أبو بكر بن نافع العبدي ، حدثنا بهز بن أسد العمي ، حدثنا هارون] وهو ابن موسى النحوي الأزدي العتكي ؛ لأن هناك هارون من الطبقة السابعة، وهذا بصري والآخر كوفي، وكلاهما أعور، فالذي معنا هو: هارون بن موسى الأعور أخرج له البخاري ومسلم. وهناك هارون بن سعد الأعور أخرج له مسلم فقط. وكلاهما في طبقة واحدة، وهذا كوفي وذاك بصري.
وهارون بن موسى النحوي الأزدي العتكي مولاهم البصري، ثقة، عالم بالقراءات، لكنه رمي بالقدر. وهارون بن سعد الأعور رمي بالرفض. يعني: كلاهما مرمي بشيء.
وهكذا نفرق بينهم بالرواة وبالشيوخ والتلاميذ، وهذا رمي بالرفض، ولذا ليس من الإنصاف أن ترد أقوال المبتدعة، إنما الإنصاف إذا وافق قولهم الحق قبلناه، ومثله إذا وافق قول الكفار الحق قبلناه، وهذا مذهب السلف.
والمبتدع يقبل قوله بشروط:
الشرط الأول: ألا تكون بدعته مكفرة.
الشرط الثاني: ألا يكون داعية إلى بدعته. أي: لا يكون رائداً في البدعة.
الشرط الثالث: ألا تكون روايته خادمة لبدعته قط.
والكلام فيه تفصيل، لكن على أية حال يكفي هذا.
قال: [حدثنا شعيب بن الحبحاب -وهو أبو صالح البصري - عن أنس قال: (كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو بهؤلاء الدعوات: اللهم إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر)]. أي: أن يرد إلى عمر طويل جداً فيعجز معه عن خدمة نفسه. قال: [(وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات)].
[قال عمرو -أي: عمرو الناقد - في حديثه: قال سفيان بن عيينة : أشك أني زدت واحدة منها]. أي: أن سفيان بن عيينة كان يقول: أنا لست متأكداً، يمكن أني زدت واحدة، لكن لا أعرف ما هي، وربما لم أزد، وإنما هو مجرد شك، وهذا الكلام نستفيد منه دقة المحدثين فيما يروونه. أي: أنه لا يستجيز أحدهم لنفسه أن يتكلم عن النبي عليه الصلاة والسلام بكلمة وهو يشك أنه قال أو لم يقل، إلا أن يبين أنه يشك أو غير ذلك.
والحارث بن يعقوب والد عمرو هو مصري، لكنه نزل المدينة فقيل عنه: مولى الأنصار، وهو ثقة من عباد أهل مكة.
قال: [أن يعقوب بن عبد الله -وهو يعقوب بن عبد الله بن الأشج ، أبو يوسف المدني مولى قريش- حدثه أنه سمع بسر بن سعيد المدني العابد يقول: سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمعت خولة بنت حكيم السلمية]. وهي التي وهبت نفسها للنبي عليه الصلاة والسلام، وكانت تحت عثمان بن مظعون رضي الله عنه قبل وفاته.
قال: [سمعت خولة -وقيل: خويلة بالتصغير- تقول: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من نزل منزلاً -أي: دخل مكاناً آمناً آو غير آمن- ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك)].
هذا الكلام يريد رجالاً يعتقدون أن قوى الدنيا بأسرها لا يمكن أن تفعل شيئاً، إذ إن العقيدة دائماً تحتاج إلى رجل يقرأ ويخزن ما يقرأ في قلبه وليس في لسانه، أو يحفظ في عقله، فيقرأ الأثر من قلبه فيعقد عليه قلبه وعزمه، وإن وقع به مكروه فهو إما لخلل في اعتقاده، وإما ابتلاء من الله تعالى ليكفر عنه ذنباً وقع منه قبل هذا، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف ذلك ويقوله، لكن ما حصل له هو ابتلاء من الله تعالى، ولذا إذا نزل أحدنا منزلاً، أو دخل خربة، أو مكاناً مظلماً، أو أتى إلى أحبابه وأصحابه فقال هذا الدعاء بعقيدة، فإنه لا يمكن أبداً أن يمد أحدهم يده عليه، أو يطول لسانه عليه إلا بقدر، والقدر هذا إذا تم يكون من أجل شيئين: إما مغفرة للذنب ولخلل في علاقته بالله عز وجل، فأراد الله تعالى أن يطهره منه، وهذا منزلة عظيمة كذلك، أو أن الله تعالى ابتلاه حتى يرفع درجاته.
لكن الأصل أنك إذا نزلت منزلاً فقل: (أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق). أي: من شر كل مخلوق، ثم اعقد قلبك على أنه لا يستطيع أحد أن يمسك بشيء إلا بشيء أريد بك في السماء لرفع الدرجات أو لمغفرة الذنوب.
قال يعقوب : وقال القعقاع بن حكيم الكناني المدني ، عن ذكوان السمان أبي صالح ، عن أبي هريرة أنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة). أي: لقد نزلت البارحة منزلاً فلدغتني عقرب، فهو يقول له: أنت لم تعرف الذي حصل البارحة؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: [(أما لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك)]. يعني: لا يمكن أن تلدغك.
وتصور أن واحداً من الصحابة رضي الله عنه يقول هذا وهو معتقد أن العقارب والخفافيش وحشرات الأرض وهوامها ودوابها لا يمكن أن تقربه إلا بإذن الله، لذا فقد كان معظم الصحابة أهل بادية، والبادية معروفة بالحشرات السامة القاتلة، فالواحد منهم كان يقول كلمة ثم ينام على عقيدة أنه لا يمكن لأي شيء يأتيه.
قال: [وحدثني عيسى بن حماد المصري ، أخبرني الليث ، عن يزيد ، عن جعفر] رجال السند كلهم مصريون، فـعيسى مصري، والليث مصري، ويزيد مصري، وجعفر وهو ابن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة مصري.
قال: [عن يعقوب أنه ذكر له أن أبا صالح السمان مولى غطفان أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رجل: (يا رسول الله! لدغتني عقرب). بمثل حديث ابن وهب].
قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من سوء القضاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، وجهد البلاء) أما درك الشقاء فهو إدراك ما يشقى به المرء، والاستعاذة من سوء القضاء يدخل فيها سوء القضاء في الدين والدنيا والبدن والمال والأهل، وقد يكون ذلك في الخاتمة، وأما درك الشقاء فيكون أيضاً في أمور الآخرة والدنيا. ومعناه: أعوذ بك أن يدركني شقاء.
أما شماتة الأعداء فهي: فرح العدو ببلية تنزل بعدوه. يقال: شمت -بكسر الميم وفتحها- فهو شامت واشمته غيره.
وأما جهد البلاء فروي عن ابن عمر أنه فسره بقلة المال وكثرة العيال. وقال غيره: هي الحالة الشاقة.
أما قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) قيل: معناه: الكاملات. أي: أعوذ بكلمات الله الكاملات التامات التي لا يدخلها نقص ولا عيب. وقيل: أعوذ بكلمات الله النافعة الشافية المانعة، والمراد بالكلمات هنا: القرآن الكريم.
وفي هذا جواز الاستعاذة أو التعوذ أو الرقية بكلام الله عز وجل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر