الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدنا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة هو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد.
إخوتي الكرام! تدارسنا في الموعظة السابقة شروط قبول العمل عند ربنا الرحمن، وقلت: إن العمل لا يقبل ولا يثاب عليه إنسان إلا إذا وجد فيه ثلاثة شروط، إيمان من فاعله بربه جل وعلا، إيمان بالله جل وعلا، وإخلاص لله جل وعلا، واتباع للنبي عليه الصلاة والسلام، إيمان وإخلاص ومتابعة، إذا وجدت هذه الشروط الثلاثة في العمل فهو مقبول عند الله جل وعلا.
وفي هذه الليلة المباركة سنتدارس أمراً يتعلق بما مضى ويرتبط به ارتباطاً وثيقاً ألا وهو ما هي الثمرة التي يجنيها الإنسان إذا حقق تلك الشروط في عمله في هذه الحياة؟
آمن بالله، وأخلص له، واتبع النبي عليه الصلاة والسلام فما هي الثمرة التي يحصلها من ذلك؟ وماذا يستفيد من هذا؟
وسنتدارس بعد هذا أمراً يرتبط أيضاً بهذين الأمرين ألا هو ما هي علامة حصول تلك الثمرة في الإنسان؟
وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذه الثمرة التي يحصلها من آمن بالله، وأخلص له واتبع النبي عليه الصلاة والسلام، ففي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من حديث العباس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبحمد صلى الله عليه وسلم نبياً).
إخوتي الكرام! رضي بالشيء إذا قنع به ولم يطلب سواه، وعليه من قنع بأن معبوده هو الله فلم يعبد غيراً معه، وقنع ورضي أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم إماماً له في هذه الحياة فلم يتبع غيره، وقنع ورضي بأن يكون الإسلام شريعة له في هذه الحياة فلا يحكم شريعة ولا نظاماً في حياته غير نظام الإسلام.
حقيقة إذا وجدت هذه الأمور الثلاثة في الإنسان: عبد الله وحده لا شريك له فلم يعبد غيره، واتبع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجعل له إماماً غيره في هذه الحياة، واحتكم إلى شريعة الإسلام في جميع شئونه في حركاته وسكناته، حقيقة سيترتب على هذا ثمرة ولابد، ألا وهي أن يذوق طعم الإيمان، وهذا الطعم هي الحلاوة التي تخالط قلب الإنسان، والبشاشة التي تباشر نفسه، بحيث إذا وجدت تلك البشاشة والحلاوة في قلب الإنسان وفي نفسه ينقاد بعد ذلك طواعية لربه، ولا يمكن أن يرجع عن نور الله وعن هداه، وإنما رجع من رجع وارتد من ارتد لأنه لم يذق هذه الحلاوة: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً)، ومن كانت هذه حاله سيذوق للإيمان طعماً وحلاوة تتضاءل بجانبها جميع الملذات الحسية التي يلتذ بها بنو آدم.
إخوتي الكرام! هذا الطعم للإيمان لا يذوقه إلا من وجدت فيه هذه الأمور، معبوده وربه هو الله وحده لا شريك له، أما إذا عبد مع الله شيئاً آخر، من درهم أو غيره، فتعس عبد الدرهم، وهو في شقاء ونكد وبلاء، ومن عبد زوجة فتعس عبد الزوجة، ومن عبد ثوباً وخميصة، فتعس عبد الخميصة.
إذاً: لابد أن يفرد الله في العبادة، ثم يفرد النبي صلى الله عليه وسلم بالمتابعة، ويحتكم إلى الشريعة التي أنزلها الله على نبيه عليه الصلاة والسلام.
وبعدها سيذوق للإيمان حلاوة ولابد، هذه الثمرة سيحصلها الإنسان عندما يلتزم في عمله بتلك الشروط الحسان الثلاثة: إيمان بالله، وإخلاص له، واتباع لنبيه عليه الصلاة والسلام.
أما نبينا عليه الصلاة والسلام فالله يقول له: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، وأما أبو بكر رضي الله عنه فيقول الله جل وعلا في سورة الليل في آخرها: مَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21].
وأنت إذا قلت هذا الدعاء في الصباح وفي المساء يرضيك الله جل وعلا في هذه الحياة وبعد الممات، وتنال هذه الصفة.
ولفظ الحديث في سنن الترمذي وفي كتب أخرى: (من قال حين يصبح وحين يمسي: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، كان حقاً على الله أن يرضيه)، وفي الرواية الأولى نعت بوصف النبوة: (وبحمد صلى الله عليه وسلم نبياً)، وفي الرواية الثانية بوصف الرسالة: (وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً).
وقد ذهب الإمام النووي عليه رحمة الله في كتابه الأذكار إلى الجمع بين هذين النعتين والوصفين فيقول القائل: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً في الصباح وفي المساء، كان حقاً على الله أن يرضيه)، قال الإمام النووي: وإذا قال بإحدى الصيغتين أجزأته لأنه قد أتى بأصل الحديث. أي: هذا وارد وهذا وارد، فلو قال: (رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً)، نال تلك الفضيلة، ولو قال: (رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) نال تلك الفضيلة، ولو جمع بينهما لكان أحسن، فهو النبي الذي أرسله الله إلى جميع العالمين عليه صلوات الله وسلامه، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين.
ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)، هذه الأمور الثلاثة تحقيق لتلك الأمور التي تقدمت معنا، وينبغي أن توجد في العمل ليقبل عند الله عز وجل.
أنت لا تذوق حلاوة الإيمان حتى يكون الله ورسوله عليه الصلاة والسلام أحب إليك مما سواهما، فالله هو المعبود بالحق، ولا معبود بحق في الوجود سواه، ونبينا عليه الصلاة والسلام هو الإمام وآخر الأنبياء والمرسلين ولا إمام للبشرية سواه، ينبغي أن توحد الله بالعبادة، وأن توحد النبي صلى الله عليه وسلم بالمتابعة، وينبغي أن تهاجر إلى الله جل وعلا عن طريق خلع ما يعبد من دونه، وأن تهاجر إلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم عن طريق نبذ ما يطاع من دونه، فلا معبود إلا الله، ولا مطاع إلا المصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حققت هذا في نفسك تذوق حلاوة الإيمان: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه من سواهما)، وإذا كان الله معبودك والنبي متبوعك فينبغي أن تخلص لربك.
(وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، ليس بيننا وبين أحد صلة إلا على حسب شرع الله، نريد بذلك وجه الله (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، وإذا تحقق هذا فيه فسيكره ما يسخط الله، وسيبتعد عما يغضب الله، وبالتالي يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما أن النفس البشرية تكره أن تقذف في النار، إذا وجدت هذه المعاني في نفس الإنسان سيذوق حلاوة الإيمان ولا شك.
وقال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ [الأنعام:82]، أي: في الآخرة، وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] في هذه الحياة الدنيا، فحصلوا في هذه الحياة راحة وهداية، وحصلوا بعد الممات فوزاً وسعادة، وثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( لما نزلت هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وجثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! أينا لا يظلم نفسه؟! ) وفهموا رضي الله عنهم من الظلم مطلق المعاصي، فكل إنسان يقع في شيء من الهفوات والزلات، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، فقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ أي: أينا لا يقع في شيء من الخطأ والتقصير؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ليس الذي تعنون)، أي: ليس المراد من الظلم ما تفهمون مطلق المعصية والمخالفة، لا، (إنما الظلم الشرك)، نعم هو أشنع أنوع الظلم، يقول تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]، ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة: (ألم تسمعوا لقول العبد الصالح
فإذا حقق الإنسان ذلك المعنى في حياته، إيمان بالله وإخلاص له واتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم فله الأمن في الآخرة، وله الاهتداء في الحياة الدنيا، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ [الأنعام:82]، في الحياة الآخرة، وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، في الحياة الدنيا، فهم في هذه الحياة على هداية تامة، وهم بعد الممات في أمنٍ وسعادة، وهذا كما قال ربنا جل وعلا في سورة طه فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ [طه:123] في الدنيا وَلا يَشْقَى [طه:123] في الآخرة وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
ثبت في مستدرك الحاكم وتفسير ابن أبي حاتم ، والأثر رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان وإسناده صحيح كالشمس عن حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
وكيف يضل من كان على هدى؟! قال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]، كيف يضل من كان على هداية تامة؟! كيف يضل من هداه الله إلى أقوم الأمور، وأرشدها وإلى أحسن السبل؟!
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
قال ابن عباس : تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123].
والله إن ذلك يتضاءل بجانبه كل لذة، وكل حلاوة حسية، وقد أشار الله جل وعلا إلى هذا المعنى فقال في سورة التوبة: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72]، وعدهم جنات، وفيها ما تشتهه الأنفس وتلذ الأعين، لكن أكبر من ذلك النعيم الحسي واللذة محسوسة، وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72]، ولذلك عندما يكشف الله الحجاب بينه وبين أهل الجنة ويرى أهل الجنة نور وجه الله الكريم، لم يعطوا شيئاً من النعيم ألذ عندهم من النظر إلى وجه ربنا العظيم، قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، والحسنى: هي الجنة، والزيادة عليها: النظر إلى نور وجه ربنا جل وعلا، والله إن هذه الحياة ما طابت إلا بمعرفة الله ومحبته، وإن الجنة ما طابت إلا بالنظر إلى نور وجه ربنا جل وعلا ومشاهدته.
إذاً: إخوتي الكرام من حقق هذا المعنى لا يضل في هذه الحياة، ولا يشقى بعد الممات.
ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم من رواية صهيب رضي الله عنه، والحديث رواه أيضاً أحمد عن سعد بن أبي وقاص ، وأبو يعلى عن أنس رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، فعل المأمور، ترك المحظور، ثم هو بعد ذلك نحو المقدور إن جاءه ما يسره شكر الله، إن جاءه ما يسوئه ويضره صبر وحمد الله، أي سعادة بعد هذه السعادة، يختلف هذا عن حال الجزوع المنوع: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22].
إخوتي الكرام! إذا حقق الإنسان هذا المعنى ارتاح واهتدى في هذه الحياة، وفاز وسعد بعد الممات، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يوجه أنظار الأمة إلى هذا المعنى في كثير من الأحاديث وفي عدد من المناسبات، ثبت في سنن الترمذي وابن ماجه ، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند والحاكم في المستدرك وابن حبان في صحيحه، وإسناد الحديث صحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ قول الله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20]، ثم قال صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى -يعني في الحديث القدسي- ابن آدم تفرغ لعبادتي )، أي: ارض بي رباً، واتبع نبيي عليه الصلاة والسلام، وأخلص بعملك وجهي ( ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غناً وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك ).
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، وهذه الحياة الطيبة تصاحبك أخي المؤمن في دورك الثلاث التي تسكنها ولا تخرج عنها: في الحياة الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
ثبت هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حياة طيبة في هذه الحياة، يطمئن قلبك بذكر الله، وأمرك كله خير، وتنشرح نفسك، وتقر عينك، وتذوق طعم الإيمان، وتخالط حلاوة الإيمان وبشاشته قلبك، فأي إذاً حياةٌ أفضل من هذه الحياة؟! مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، نعم في هذه الحياة يحصل المؤمن حياة طيبة، ولا يحصلها غير المؤمن، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن)، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97].
ثم قرر هذا بعدة أمور فقال:
أولاً: المؤمن يعلم أن رزقه بتقدير الله وتدبيره سبحانه وتعالى، فلا يزيد ولا ينقص، ويعلم أن الله محسن في ذلك التقدير وذلك التدبير، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الروم:40]، وإذا علم الإنسان هذا يرضى عن الله ويرضى بما قسم له.
الأمر الثاني: المؤمن في هذه الحياة يعلم طبيعة الدنيا، وتقلباتها، ونتنها، ومرارتها، فلا يجزع على ما يصيبه فيها، والأمر كما قال أئمتنا:
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
فإذا أصبت بضر، بأذى، بموت حبيب، لا يضيق لك صدر، فهذه طبيعة الدنيا، ولذلك يلهج المؤمن بالحمد لله، وترى قلبه راضياً عن الله، وهو مسروراً في جميع أحواله.
الأمر الثالث: يقول الإمام الرازي : غاية المؤمن في هذه الحياة أن ينال رضوان رب الأرض والسماوات، ولذلك يكرر هذه المقولة المباركة: (إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي)، أصيب بضر، بنكبة، بأذى، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، يعذب ويقول: أحد أحد، لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
الأمر الرابع: المؤمن يعلم أن لذات الدنيا لذات خسيسة زائلة منقضية، الطعام الذي نأكله يقول أئمتنا: ما جاوز اللسان فهو نتان. هذه اللذة التي نتلذذ بها ما دامت في الفم تمضغ، إذا ذهبت بعد اللسان إلى المعدة، تتحول إلى شيء كريهٍ المنظر قبيح الرائحة، ولو أخرج الإنسان الطعام الذي من جوفه وطرحه على المائدة لعاف الناس الطعام وقاموا عنه، فما جاوز اللسان نتان، وإذا كانت لذات الدنيا لذات خسيسة زائلة فلا ينهمك المؤمن فيها، ولا يفرح بها إن أقبلت ولا يحزن عليها إن أدبرت: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23].
المؤمن بعد ذلك وهذا خامس التعليلات لبيان طيب الحياة في المؤمنين والمؤمنات في الحياة الدنيا: يعلم أن الدنيا زائلة منقضية، فلا يميل إليها ولا يعانقها معانقة العشاق، إنما يأخذ منها ما يحتاجه إليه، وإذا جاءه شيء منها جعله مطية له إلى آخرته، فحقيقة هو في سعادة وفي حياة طيبة، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، فعل المأمور وترك المحذور وصبر ورضي بالمقدور، هذه حقيقة هي الحياة الطيبة، أما إذا خرج عن صراط الله المستقيم تنكد في هذه الحياة، وأبى الله إلا أن يذل من عصاه، عاجلاً وآجلاً.
ثبت في سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم بسند صحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر المهاجرين! خصال خمس أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم)، سبحان الله! أرادوا أن يتلذذوا بالمعاصي فنكد الله عليهم حياتهم، وأشقاهم قبل مماتهم.
وسلوا الأطباء عن الأمراض التي تنتج من المعاصي في هذه الأيام.
مرض الإيدز الذي يحارب الآن ما سببه؟ معصية الرحمن، تشمع الكبد والسرطان، شرب الخمر والعكوف عليه، وذاك سببه الزنا والعهر ( لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ). حقيقة إن الإيمان حصن للإنسان، وإن المؤمن في حياة طيبة في هذه الحياة: (ولم ينقص المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله ) أي: فلم يعبدوا الله ولم يتبعوا رسول الله عليه الصلاة والسلام ( ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم )، أي: ينتزع أملاكهم وبلادهم (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)، عندما انحرفوا عن شريعته تخبطوا في هذه الحياة مع الشقاء الذي سيحصلونه بعد الممات.
والمعنى الآخر روي عن مجاهد وقتادة والحسن البصري ، وعن جمع غفير من التابعين قال الحسن البصري : والله لا تطيب الحياة إلا في الجنة. وهذه أكمل الدور التي تحصل فيها أطيب حياة، لكن الحياة الطيبة في الجنة من يحصلها؟ الطيبون الذين طابت حياتهم في الدنيا، ونعموا في البرزخ، فيسعدون بعد ذلك عند لقاء ربهم، كما ثبت في المسند والصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، إن هذه الدار هي أكمل الدور وأطيب الدور، إنما من لم تطب حياته في هذه الحياة لن تطيب حياته بعد الممات، حياة طيبة في الدنيا، حياة طيبة في دار البرزخ، حياة طيبة في دار الآخرة.
إخوتي الكرام! هذه الثمرة التي يحصلها من آمن بالله وأخلص له واتبع رسوله عليه الصلاة والسلام، هل لها علامة؟ حتماً لها علامة سأذكرها بإيجاز، ثم أفصل الكلام على هذه العلامة في الموعظة الآتية إن شاء الله، هذه العلامة وهي الراحة في هذه الحياة، والهداية، والفوز والسعادة بعد الممات، هذه اللذة، هذه الطمأنينة، إذا ادعاها الإنسان وقال: أنا في راحة وهداية، وسأنال فوزاً وسعادة في الآخرة، هل هذا يصدق؟ وهل إذا وسوس له الشيطان بذلك ليزين له عمله حال يصدقه، أم هناك علامة؟ حتماً هناك علامة، وكل شيء له علامة، فإذا تحققت هذه العلامة فيك فاعلم أنك آمنت بالله حقاً وصدقاً، واتبعت نبيه عليه الصلاة والسلام حقاً وصدقاً، وأخلصت لله في أمورك.
يذكر عبد الله بن مسعود في أثره ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله جل وعلا: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22]، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر)، إن النور إذا دخل القلب سكنه، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22]، هذا النور إذا دخل قلب الإنسان ينشرح له صدره ( فقال الصحابة الكرام: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! هل لذلك الشرح من علامة ) إذا انشرح صدر الإنسان ذاق طعم الإيمان، ذاق حلاوته، اطمئن قلبه، هل لذلك من علامة يختبر بها تلك الدعوة؟ قال عليه الصلاة والسلام: (نعم)، لذلك علامة، لذلك الشرح عند حصول النور في القلب، (التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله)، أي: عزوف النفس عن الدنيا، والدنيا هي باختصار كل ما شغلك عن الله، وليس معنى الدنيا أنك لا تملك مالاً، أو لا تسكن في بيت، لا ثم لا، فكل ما شغلك عن الله فهو دنيا مذموم، من مالٍ من لباسٍ من زوجةٍ من ولدٍ من عقارٍ من غير ذلك، وإذا كان هذا في يدك لا في قلبك فلا حرج عليك ولا لوم، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، واعلم أن كل ما شغلك عن الله فهو مذموم وهو شؤمٌ عليك.
(التجافي عن دار الغرور)، لكن شتان بين من سكنت الدنيا قلبه وجعلته مطية لها، وبين من كانت في يده وهي مطية له، شتان شتان بين من يعبد الدنيا، وبين من تكون الدنيا عبداً عنده وخادماً له، يبتعد عنها ولا يركن إليها، ولا تشغله عما أمر الله به.
(والإنابة إلى دار الخلود) يشتاق إلى مسكنه الحقيقي، فنحن خلقنا إخوتي الكرام لا لنستقر في هذه الحياة، فالدنيا دار ممر وليست دار مقر، فدارنا التي سنستقر فيها هي الآخرة، والدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له.
(والاستعداد للموت قبل نزوله) وعليه إذا أردت أن تعلم هل سكن النور قلبك؟ وهل حصل الشرح في صدرك فاعرض نفسك على الموت، هل تحب الموت؟ وإذا قيل لك: ستموت هذه الليلة تقول: مرحباً بلقاء الله، إذا كان هذا فيك حقيقةً هنئ نفسك وبشرها وقل: آمنت بالله حقاً، ورضيت بنبيه عليه الصلاة والسلام إماماً صدقاً، وأنا أعبد الله ولا أشرك في عبادته شيئاً.
وإذا قيل لك: ستموت هذه الليلة فتقول: يا عباد الله! هاتوا الأطباء، وابحثوا عن طريقة لعل الحياة تمتد فاعلم أن حالتك ليست مرضية وعندما تموت ستقول: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا [المؤمنون:99-100]، فيقال لك: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [المؤمنون:100]، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37].
وكان بعض الصالحين يقول: والله ما من مؤمن إلا الموت خير له، اقرؤوا إن شئتم: وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ [آل عمران:198].
أخي الكريم! إذا كنت ستوقع جائزة من مسئول، أو شهادة ستأخذها بعد نجاحك، هل تكره يوماً اليوم الذي تتسلم فيه الشهادة؟ هل تكره اليوم الذي ستقابل فيه المسئول لتنال الجائزة؟ والله لا تكره هذا، وإذا كنت عبدت الله على بصيرة، وأردت بالعبادة وجهه، واتبعت نبيه عليه الصلاة والسلام، فعلام تفر من لقائه؟
ليعرض كل واحد منا نفسه على هذه هل تجافى عن دار الغرور وأناب إلى دار الخلود واشتاق إليها، ويردد في مجلسه: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة؟
هل إذا نزل به الموت يرفع صوته ويهلل ويقول: حبيبٌ جاء على فاقة؟
هل يقول: إذا قال أهله: واحزناه عند نزول الموت به يقول: واطرباه! واشوقاه! غداً نلقي الأحبة محمداً وصحبه عليه صلوات الله وسلامه؟
لنعرض أنفسنا إخوتي الكرام على هذه القضية، وهذا ما سأفصَّلُ الكلام فيه إن شاء الله في موضوع الموت، وأن العلامة تدل على صدق الإيمان في قلبه أنه لا يجزع من الموت إذا حل به، بل يفرح بقدومه ويستبشر.
قد قلت إذ مدحوا الحياة وأكثروا في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها آمان عذابه بلقائه وفراق كل معاشرٍ لا ينصف
هذه العلامة كما قلت نتدارس الكلام عليها وتفصيلها في الموعظة القادمة إن شاء الله.
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا إن أحيانا أن يحيينا على الإسلام، وإن أماتنا أن يتوفانا على الإيمان، ونسأله أن يجعل خير أيامنا يوم لقائه، ونسأل أن يغفر لنا ولوالدينا، ولمن له حقٌ علينا، ولمن علمنا وتعلمنا منا، ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر