أما بعد:
فكنا نتدارس الباب السادس والسابع من أبواب الطهارة في جامع الإمام أبي عيسى الترمذي ، وهذان البابان يتعلقان بأدب رفيع ينبغي أن يحافظ الإنسان عليه عند قضاء حاجته، والباب السادس عنوانه: بابٌ في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول، والباب السابع باب ما جاء من الرخصة في ذلك، وقد أورد الإمام الترمذي في هذين البابين أربعة أحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أول هذه الأحاديث حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا، قال
إن الجهة المكرمة ينبغي أن نكرمها عن كل ما يمتهن ويستقذر، وقد كان أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين يحافظون على هذا الخلق الكريم، فقد نقل الإمام أبو نعيم عن أشد هذه الأمة حياءً بعد نبينا عليه الصلاة والسلام ألا وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام، ينقل عنه في ترجمته في الحلية أنه قال: ما مسست عضوي بيدي منذ أن بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، أي: ما مس ذكره بيده بعد أن صافح النبي عليه الصلاة والسلام، وبايعه ودخل في الإسلام، يد تصافح يد النبي عليه الصلاة والسلام ينبغي أن تصان عن ذلك العضو الذي له حالة تستر ويستحيا من ذكرها، هذا هو الحياء، هذا هو الأدب الجم الذي كان عليه سلفنا الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
وعلى عادتنا سنتدارس مباحث الحديث ضمن مراحل، أولها: في ترجمة رجال الإسناد، وقد بدأنا في مدارسة رجال إسناد الحديث الأول، أعني حديث أبي أيوب رضي الله عنه وأرضاه، ووصلنا إلى ترجمته، بل قد انتهينا منها أيضاً ووصلنا إلى شيء نختم به ترجمته الطيبة العطرة، ألا وهي دفن هذا العبد الصالح، وأين دفن؟ تقدم معنا أنه أنصاري، وقد نزل عليه سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر إلى المدينة المنورة، وتشرف أبو أيوب ، وتبرك بحلول نبينا عليه الصلاة والسلام مع أمنا سودة رضي الله عنها وأرضاها عليه حتى بنيت للنبي عليه الصلاة والسلام حجرة انتقل إليها.
وتقدم معنا حال أبي أيوب في مجاورته لنبينا عليه الصلاة والسلام عندما كان ضيفاً عنده وحالاً عليه، وأن هذا الصحابي الجليل كان سلفنا يعرفون له هذه المنقبة، وتقدم معنا كيف أكرمه عبد الله بن عباس رضوان الله عليهم أجمعين، لأنه أكرم نبينا عليه الصلاة والسلام.
يعد أبو أيوب من أهل المدينة المنورة، ولكنه دفن في بلاد تركيا، عند سور القسطنطينية، فقد ذهب إلى الغزو والفتوح في سبيل الله جل وعلا, وجاءته منيته في ذلك المكان.
لما مرض أبو أيوب وهو في الغزو، وكان الأمير على تلك الغزوة يزيد بن معاوية جاءه يزيد يعوده فقال: ما حاجتك أبا أيوب ؟ أي: ماذا تريد؟ وبأي شيء توصينا إذا جاءتك المنية وحضر الأجل؟
قال: إذا أنا مت فاركب بي، أي: ضعني على دابة على خيل، ثم تبيض، أي: تمدد وتوسع، ثم تبيض في أرض العدو، أي: ادخل فيها ما استطعت بعيداً عنكم وليكتب لي أجر الغزو في تلك البقاع، ثم تبيض في أرض العدو ما وجدت مساراً، فإذا لم تجد مساراً فادفني ثم ارجع، فقد سمعت الله جل وعلا يقول: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:41]، وأنا نفرت، ولا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً، فأنا بين حالتين، إما أنني أستطيع الجهاد والقتال بيسر وسهولة، وهذا هو خفافاً، أو ثقالاً: أي: بكلفة وشدة، والله ما عذر أحداً فقال: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا [التوبة:41]، ولا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً، وعليه ينبغي إذاً: أن أنال هذا الأمر.
وهذه الآية معناها أن الإنسان ينبغي أن يخرج إلى الغزو إذا تعين عليه، سواء كان خفيفاً أو ثقيلاً، وما قاله أئمتنا الكرام في تفسير هذه الآية هو يدخل تحت هذا الضابط الذي ذكرته، قال أئمتنا: (خفافاً وثقالاً) أي: شيوخاً وشباناً، فالشاب ينفر بخفة ويسر، والشيخ ثقيلاً، شباناً وشيوخاً، رجالاً وركباناً، الراكب ينفر خفيفاً، والذي يمشي على رجليه يمشي ثقيلاً بمشقة، أغنياء وفقراء، فالغني ينفر بيسر وسهولة؛ لأنه عنده ما يتزود به، والفقير بمشقة وكلفة، فنفره ثقيل، انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:41]، سواء كان عندكم كثرة عيال أو قلة عيال، فالذي عنده قلة عيال نفره أيضاً خفيف، وكثرة العيال يكون فيها مشقة عندما يخرج الإنسان، انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:41]، أصحاء أو مرضى، فكما قلت: (خفافاً وثقالاً) تدخل في الضابط الذي تقدم معنا، انفروا خفافاً وثقالاً، سواء كان عندكم أشغال تقومون بها أو فارغين، انفروا خفافاً وثقالاً، عزاباً ومتأهبين، وهذه كلها كما قلت: الخفاف بما فيه يسر، وثقالاً بما فيه شدة على هؤلاء.
وقيل بتفسير آخر، وهو عكس ما تقدم، (انفروا خفافاً وثقالاً) أي: مثقلين بالسلاح أو خفيفين منه، وعليه ثقالاً إذا كان عندكم سلاح تحملونه، فهنا ثقالاً، أي: فيه يسير عليكم مع أنه يحمل السلاح، وهنا عكس المعاني المتقدمة، فالثقال فيه خفة، والخفاف فيه مشقة؛ لأن من يخرج إلى الغزو بغير سلاح يشق عليه، ومن يخرج إليه بسلاح مع أنه ثقيل، لكن يخف عليه، فهذا المعنى يختلف عن تلك المعاني المتقدمة، وكما قلت: هو يدخل ضمن الضابط الذي ذكرته بيسر وسهولة، أو مشقة أو شدة، انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا [التوبة:41].
هذا آخر ما يتعلق بترجمة أبي أيوب وقد كانت وفاته سنة اثنتين وخمسين من هجرة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، ودفن -كما قلت- عند سور القسطنطينية، وقد أكرمه الله جل وعلا، فكان الروم يحترمون قبره، ويعظمونه ولا يمتهنونه، ويقولون: هذا قبر العبد الصالح صاحب النبي عليه الصلاة والسلام، والمفروض أنه جاء يقاتلهم، ثم دفن في بلادهم، أنهم ينبشونه ويمثلون به.
هذا ما يتعلق برجال إسناد الحديث الأول، وأما ما يتعلق بفقهه فيأتي الكلام عليه بعد الانتهاء من المبحث الأول من تراجم أسانيد الأحاديث الأربعة، وما ذكر من رجال ضمن الحديث الأول كـأبي الوليد المكي وقول الإمام الشافعي وإسحاق بن راهويه، فهذا ليس في رجال الإسناد، ويأتينا -أيضاً- ذكره بعد أن ننتقل من رجال الإسناد وفقه الحديث، عند القراءة الأخيرة على عادتنا، ونعلق على كل جملة منها حسب ما تقدم معنا، وأي شيء لم نذكره سوف نتدارسه إن شاء الله في حينه.
والاختلاط تغير العقل، وهو على حالتين: حالة لا تعتبر منقصة في الراوي، وهي التي تطرأ عليه قبيل وفاته وعند موته، وفي الغالب لا يخلو إنسان من هذا، حيث يعتريه ذهول وغفلة، وقد لا يعي ما يجري حوله، لكنه لا يحدث في هذه الحالة؛ لأن يتأهب للقاء الله جل وعلا، فهذا ليس بمنقصة.
والحالة الثانية: هي ما يطرأ على الإنسان من الخرف، حيث تمتد به الحياة سنين، فإذا حدث بعد اختلاطه لا يقبل، وما حدث به قبل الاختلاط يقبل، وإذا لم يتميز لنا ما حدث به قبل اختلاطه مما حدث به بعد اختلاطه نتوقف في جميع رواياته حتى يثبت عندنا أنه روى هذا الحديث قبل الاختلاط.
والحافظ الذهبي في الكاشف قال: روى له مسلم مقروناً، أي: روى له مقروناً بغيره، ولم يرو له استقلالاً؛ لأنه ينزل عن شرط الصحيح، وحديث محمد بن إسحاق لا يصحح على انفراده عند جماهير المحدثين كما سيأتينا، ولكن حديثه في درجة الحسن، لا ينحط عنه بحال، فـمسلم لم يخرج له أصالة لنفسه في الشواهد والأصول اعتماداً عليه، إنما قرنه بغيره، فتعتمد روايته برواية من قرنه به، ثم قال الإمام الذهبي : حديثه حسن، وقد صححه جماعة.
والحافظ ابن حجر أشار إلى هذا الحكم بقوله: صدوق؛ لأن من نعته بأنه صدوق فحديثه حسن، لكن في هذه الآثار يدلس، وعليه نتوقف في رواياته التي يعنعن فيها حتى يصرح بالسماع، وقلت: ليس التدليس في نفسه جرحاً في الراوي، إنما هو عيب فيه نعامله على حسب هذا العيب، فإذا عنعن، نقول: إن روايتك ليست متصلة، فإن صرح بالسماع، وهو في الأصل عندنا ثقة صدوق نقبل تصريحه، ونعتمد روايته.
أما أنه رمي بالتشيع والقدر، فالتشيع الذي رمي به تقدم معنا مراراً، أن غاية ما يرمى به بعض الرواة المتقدمين من السلف في القرن الأول والثاني من التشيع هو: تفضيل علي على عثمان رضي الله عنها، وهذا أمره يسير، وأما القول بالقدر فالمعتمد أنه رجع عنه، وتقدم معنا أن عدداً من الأئمة قالوا بذلك، وقلت: إن قولهم بالقدر ليس ببدعة القدرية الغلاة كما تقدم معنا في ترجمة هشام الدستوائي، وغاية قولهم أنهم يقولون: الله يعلم الأشياء قبل وقوعها، وقدر الخير وأراده، لكن ما قدر الشر، وإنما يفعله العبد باختياره دون تقدير من الله عليه، والله يعلم كل شيء، وهذا قول باطل، لكن هذه البدعة التي وصف بها ابن إسحاق رجع عنها، والعلم عند الله جل وعلا.
وقد جرى بينه وبين إمام الأئمة النجم الثاقب الإمام مالك شيء من النفرة والخصومة، على أنه قيل أن الإمام مالك بعد ذلك صفا قلبه وأهدى هدية لـمحمد بن إسحاق، وزال ما كان يقوله عنه، ولا أريد أن أفصل الكلام حول هذه النفرة؛ لأني توسعت في ترجمة الإمام الزهري وابن عيينة فيما تقدم، وذكرنا من كلام الأقران بعضهم في بعض، وأن هذا لا يعول عليه، ولعله يأتينا مزيد تفصيل في مستقبل الأيام، وكما قال الإمام الذهبي: ما أعلم أحداً سلم من الحسد إلا الأنبياء على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وغيرهم بشر يخطئون ويصيبون.
فـمحمد بن إسحاق عندما قيل له: يحدثنا الإمام مالك بالمغازي والسير، قال: اعرضوا عليّ ما يقول فأنا بيطاره، فلما قيل هذا للإمام مالك قال: إن محمد بن إسحاق دجال من الدجاجلة، ولما بلغ الخبر ابن إسحاق بكى، نسأل الله أن يغفر لهم جميعاً، والإمام مالك أعلى منزلة من محمد بن إسحاق، ولو قدر أن الإمام مالكاً جار عليه في الكلام فقد يتحمل؛ لما له من مكانة عظيمة، وكما قلت هذا حال البشر، فهم محل القصور والتقصير.
وليس من علامة الصلاح أن لا يخطئ الإنسان، فكل بني آدم خطاء، ولكن إذا أخطأ فإنه يتدارك ويتوب ورحمة الله واسعة.
إذاً: أبان بن صالح وثقه الأئمة كما قال في التلخيص: ثقة بالاتفاق.
عن مجاهد ، وقد تقدمت معنا ترجمته عند الحديث الرابع، فلا داعي للإعادة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وقد تقدمت ترجمته أيضاً بعد ترجمة مجاهد عند الحديث الرابع فيما مضى.
خلق الله للحديث رجالاً ورجالاً لآفة التصحيف
وابن لهيعة هو عبد الله بن لهيعة بن عقبة الحضرمي أبو عبد الرحمن المصري ، كان قاضياً في بلاد مصر، وهو من الشيوخ الصالحين في زمن سيد المسلمين في بلاد مصر الإمام الليث بن سعد ، وكانا أبرزا العلماء في ذلك الوقت.
وهو صدوق، أي: حديثه في درجة الحسن من السابعة، خلط بعد احتراق كتبه، فقد احترقت كتبه فحزن عليها، فتغير عقله، يعني: لو احترقت الدنيا بما فيها لما تأثر أحد كما يتأثر طالب العلم باحتراق كتبه، فهي أعظم ما يملكه، وهي عدته، فهذا الإمام سراج الدين البلقيني عليه رحمة الله عندما لعبت النار في مكتبته اختلط أيضاً وتغير عقله، فأئمتنا قالوا له يعزونه ويسلونه ويصبرونه:
لا يزعجنك يا سراج الدين إن لعبت بكتبك ألسن النيران
لله قد قربتها فتقبلت والنار مسرعة إلى القربان
كما كان من ابني آدم إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، فكان علامة قبول القربان أن تنزل نار من السماء فتأخذ هذا القربان وتلتهمه، فقالوا لـسراج الدين : لا يزعجنك يا سراج الدين إن لعبت بكتبك ألسن النيران، فإن شاء الله هذه علامة القبول، والقربان المقبول، تأتي النار وتأخذه، وأنت قربتها إلى الله فتقبلت، فلا تنزعج، ولكن العقل يتأثر، فهذا جهد البشر، وهذا قصورهم، وهذا ضعفهم، وهذا حالهم.
والإمام الغزالي عندما كان في السفر، وعلى دابته كتبه، وخرج من أجل أن يتلقى العلم فاعترضه العيارون أي: قطاع الطريق، وأخذوا منه جميع ما معه، وتركوه يمشي بمفرده، فالتفت إليهم وقال: أسألكم بالذي ترجون منه السلامة أعيدوا إليّ ما في هذا الصندوق فقط، فإن كان فيه شيء تنتفعون به فخذوه، ملابس أو أثاث أو دراهم، وإلا فأعيدوه، يعني أحسن من أن تتلفوه، فما تأخذوه فهو حلال لكم، دون أن يكون سرقة، وأنا سامحتكم، فقال له رئيس العيارين: وماذا فيه؟ قال: ما فيه إلا كتب لي سافرت من أجل أن أدرسها وأتدارسها مع العلماء، فقال له الحرامي قاطع الطريق: تزعم أنك ذو علم وقد أخذنا كتبك منك فبقيت بلا علم، فماذا تفعل؟ يعني أن العلم كله قد ذهب مع هذه الكتب التي كتبتها، ولكن ما حفظتها في ذهنك وصدرك، قال: أسألكم بالذي ترجون منه السلامة أعيدوا إليّ كتبي، فنظروا في الصندوق فما رأوا إلا الكتب، قالوا: فاذهب ماذا نفعل بها؟! يقول: فعلمت أن الله أنطقهم بهذه الحكمة، وأن هذه إشارة من الله لي بأن أحفظ ما في هذه الكتب فرجعت إلى بلدتي وتركت الرحلة، وعكفت على كتبي فحفظت ما فيها، ثم شددت الرحل بعد ذلك للقاء العلماء، وقلت: الآن إن ضاعت مني لا يضرني.
حقيقة إن العلم هو ما حواه الصدر، لا ما حواه القمطر -بكسر القاف وفتح الميم وسكون الطاء- أي الوعاء الذي توضع فيه الأوراق والكتب بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ [العنكبوت:49]. فـابن لهيعة كتب هذه الرواية وتلقاها عن شيوخه، وكتابه في ذاك الوقت ليس كالكتاب في هذه الأيام، فالمكتبة الآن تعوض خلال ساعات، ولكن في ذاك الوقت كيف ستعوضها، وكيف ستتداركها؟ فاختلط بعد احتراق كتبه.
قال ابن حجر : ورواية ابن المبارك وابن وهب عنه أعدل من غيرهما، وأضيف إليهما رجلاً ثالثاً هو عبد الله بن يزيد المقرئ، فهؤلاء الثلاثة رووا عنه قبل اختلاطه، فرواية العبادلة الثلاثة عن عبد الله بن لهيعة سليمة صحيحة.
وقد روى له الإمام مسلم في صحيحه بعض شيء، لكن مقروناً دون أن يروي له استقلالاً وانفراداً، توفي سنة أربع وسبعين ومائة، وهو من السابعة، وروى له أهل السنن الثلاثة، أولهم الترمذي ، وأبو داود وابن ماجه القزويني ، ولم يرو له الإمام النسائي وقد ناف على الثمانين، أي: زاد عمره على الثمانين سنة رحمة الله عليه.
ولما احترقت كتب هذا الإمام أرسل إليه الإمام الليث بن سعد بألف دينار، من أجل أن يواسيه، وأن يسليه.
وجود وكرم الإمام الليث بن سعد ينبغي أن نجعل له وقفة، وما وجبت عليه زكاة قط، وكان أغنى أهل مصر في زمانه، وكلما يأتيه مال ينفقه أولاً بأول عليه رحمة الله.
وكان احتراق كتب الإمام عبد الله بن لهيعة سنة سبعين ومائة، يعني: قبل وفاته بأربع سنين، ولما مات قال الإمام الليث بن سعد: ما خلف مثله، فهذه شهادة له من هذا الإمام.
قال الإمام الذهبي في السير: لا ريب أنه كان عالم الديار المصرية هو والليث معاً، وبعض الحفاظ يروي حديثه ويذكره في الشواهد والاعتبارات والزهد والملاحم، لا في الأصول، وبعضهم يبالغ فيوهمه، أي: يحكم عليه بالوهم والضعف، ولا ينبغي إهداره، مع تجنب تلك المناكير، أي: التي انفرد بها ورواها بعد اختلاطه، وإلا فهو عدلٌ في نفسه، وقال الذهبي في تذكرة الحفاظ في الجزء الأول صفحة تسع وثلاثين ومائتين، قلت: يروى حديثه في المتابعات ولا يحتج به، وهذا دون حكم الحافظ ابن حجر ، فحكم عليه بأنه صدوق يروى في المتابعات ولا يحتج به، وقال الإمام ابن عدي : أحاديثه حسان مع ما قد ضعفوه، وقد لقي عبد الله بن لهيعة اثنين وسبعين تابعياً.
فالمعتمد في حديثه كما قلت أنه حسن, وإطلاق عدد من أئمتنا أن حديثه ضعيف، أو فيه ضعف، أي: هذا باعتبار ما طرأ عليه بعد اختلاطه بعد سنة سبعين ومائة، وأنا أعجب من صنيع الإمام الهيثمي لكثرة تردده نحو ابن لهيعة في مجمع الزوائد، فتارة يقول: رواه عبد الله بن لهيعة وحديثه حسن، وتارة يقول: رواه عبد الله بن لهيعة وفيه ضعف، وتارة يقول: حديثه رواه عبد الله بن لهيعة ، أو فيه عبد الله بن لهيعة ، وحديثه يحسن في الشواهد، فهذا الكلام ما استقر على حال فيه، والسبب كما قلت: إنه صدوق في نفسه وحجة وإمام، لكن لما طرأ عليه الاختلاط، فأحياناً الإمام يحكم عليه بما طرأ عليه فيضعفه، وأحياناً يحكم عليه بما كان عليه قبل الاختلاط فيحسن حديثه ويصححه، وحديثه حسن إن شاء الله.
والشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند إذا جاء الحديث من طريق عبد الله بن لهيعة ، وكان بقية الرواة أئمة ثقات فإنه يحكم على الحديث بالصحة، فلا ينزل الحديث الذي فيه ابن لهيعة عن درجة الصحة، إذا كان من معه فيهم شروط الصحة، والعلم عند الله جل وعلا.
أبو قتادة الأنصاري الخزرجي ، ينظر في الكنى، اسمه: الحارث ، ويقال: عمر ، ويقال: النعمان أبوه ربعي بن بلدمة بضم الباء الموحدة وإسكان اللام، إذاً اسمه الحارث بن ربعي بن بلدمة السلمي بفتح السين، المدني، شهد أحداً وما بعدها، ولم يصح شهوده بدراً، توفي سنة أربع وخمسين على المشهور، وهذا أصح ما قيل، وقيل: سنة ثمان وثلاثين، حديثه مخرج في الكتب الستة، أخرج حديثه الجماعة، وإنما قيل: سنة ثمان وثلاثين؛ لأنه ورد في بعض الروايات، وهذه وهم قطعاً: أن علياً رضي الله عنه صلى عليه صلاة الجنازة، وعلي رضي الله عنه توفي سنة أربعين للهجرة، ولذلك قيل: سنة ثمان وثلاثين، لكن هذا وهم، والصحيح أنه توفي سنة أربع وخمسين في المدينة المنورة، ودفن في البقيع.
يعد أبو قتادة من فرسان الصحابة، ومن شجعانهم، وقد ثبت في المسند وصحيح مسلم ومعجم الطبراني الكبير، والحديث في أصح درجات الحديث، ولفظه في صحيح مسلم طويل، ومحل الشاهد فيه قول نبينا عليه الصلاة والسلام: ( خير فرساننا
وقد دعا له النبي عليه الصلاة والسلام بأن يبارك الله له في شعره وبشره، روى ذلك الإمام الحاكم في المستدرك بسند صحيح في الجزء الثالث صفحة ثمانين وأربعمائة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( اللهم بارك في شعره وبشره، ثم قال له: أفلح وجهك )، وسبب دعاء النبي عليه الصلاة والسلام له أنه قتل مسعدة الفزاري ، وهو من المشركين العتاة، ( فقال
قوله: (فما ضرب) يعني: ما آلمني، وكان الجرح كما يقال حاراً وبارزاً وظاهراً، فبصق النبي عليه الصلاة والسلام عليه، فما ضرب عليه ولا آذاه، ولا شعر به بعد ذهاب حرارة الجرح.
قوله: (ولا قاح)، أي: ما صار له بعد ذلك قيح وصديد كحال الجروح الأخرى، وهذا ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام العجلي وأبو زرعة : مدني ثقة كما في تهذيب التهذيب، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وكل هذا للإشارة إلى أنه ليس بصحابي، نعم أورد أبو القاسم البغوي ترجمته في الصحابة، وقال: يقال: صحابي، وفي صحبته مقال ذكر ذلك الحافظ في التهذيب، وفي الإصابة في تراجم الصحابة.
عن ابن عمر ، تقدمت معنا ترجمته، قال: ( رقيت على بيت
فقه الحديث وما يدل عليه من معان: أولاً: فيما يتعلق بلفظ الغائط.
( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول )، تقدم معنا معنى الغائط عند آداب دخول الخلاء، ( قدمنا الشام فوجدنا مراحيض )، وتقدم معنا أيضاً المراحيض ومعناها، وقلت: مأخوذة من الرحض وهو الغسل؛ لأنه يصب فيها الماء ويغسل، وتقدم معنا هذا، معنى الكنف التي وردت أيضاً في هذه الأحاديث.
إذاً: ( إذا أتيتم الغائط ) المراد هنا مكان قضاء الحاجة، ( فلا تستقبلوا القبلة بغائط ) والمراد بالغائط في الموضع الثاني: الخارج من مقعدة الإنسان عند قضاء الحاجة، قال أئمتنا: عبر عن الحال وهو الخارج من مقعدة الإنسان من الفضلات، عبر عن الحال باسم المحل لحلوله فيه، وإنما لم يذكره باسمه لاستهجانه وقباحة ذكره، يعني: لا داعي إلى أن يقول: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بكذا، بالخاء والراء، أي: باللفظ الصريح، فهذا في الحقيقة شيء تمجه الأسماع، وكما قلنا: نحن في مبحث الأدب، والله كريم يكني، والقرآن من أوله لآخره ما ذكر كلمة مستهجنة بصريح العبارة، إنما يكني عنها، كحديث الجماع لفظ مستهجن، وقد يذكر أحياناً لبيان حكم ما يعمل الإنسان، (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)، ما أظرف هذه العبارة وما أدلها على هذا الأمر دون أن يقول يعني يحل في ليل رمضان كذا، ثم قال: (الرفث إلى نسائكم)، وهكذا المسيس، وتمسوهن، وما شاكل هذا، لكن لفظ الجماع لا يستعمله، من باب أولى اللفظ الصريح الذي يكون بالنون والياء والكاف، لا نستعملها أبداً.
وقد ورد أحياناً في السنة لاضطرار النبي عليه الصلاة والسلام إليه عندما جاء ماعز يقر على نفسه بالزنا، فيقول له: لعلك لعلك لعلك، ولعله كان يظن أن المباشرة دون الإيلاج تعتبر زنا، فيقول: يا رسول الله! فعلت كل شيء، قال: أكذا بالنون والياء والكاف، أنكتها؟ كلام النبي عليه الصلاة والسلام، قال: نعم، قال: أبك جنون؟ قال: لا، قال للصحابة: استنكهوه، أي: شموه، هل فيه خمر أهو سكران، فلا يعتبر إقراره؟ قالوا: لا، يعني: صرح باللفظ الصريح، فما بقي إلا أن أقام عليه الصلاة والسلام الحد عليه، والحديث ثابت في الصحيح، وعندما رجم وآلمته الحجارة فر، فلحقه خالد فضربه بلحي بعير فشجه فقتله عند البقيع، ومع ذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: هلا تركتموه، أي: وتعتبرون فراره رجوعاً عن إقراره؛ لأن الزنا إذا ثبت بالإقرار يجوز للإنسان أن يرجع، وأن ينكل عن إقراره ويكذب نفسه، وإذا رجع فإننا نقول: في أمان الله، سترنا الله وإياكم في الدنيا والآخرة.
إذاً: الأمور المستهجنة لا يجوز للإنسان أن يذكرها إلا عند الضرورة بحيث لا يمكن أن يوضح المقصود إلا بها، وهنا لفظ الغائط المقصود منه واضح ( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط )، ولا يقولن أحد: غائط غائط، فكوننا نأتي الغائط وما نستقبل القبلة بغائط، كيف هذا الكلام؟
كما فعل الأتراك عندما ترجموا القرآن، فوصلوا لقول الله جل وعلا: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187]، قالوا: هن بنطلونات لكم وأنت بنطلونات لهن! نعوذ بالله من هذه السفاهة، هذه الكناية والإشارة إلى شيء معلوم، جاء هذا ووصل عند الظاهر، فأراد أن يفسر اللباس بالبنطلون؛ لأنهم يلبسون البنطلون، هن لباس أي: هن بنطلونات، هذا كلام باطل، وهنا كذلك، فلا يقولن قائل: كيف يلتزم المعنى إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط، الغائط الأول المراد منه المحل، والغائط الثاني: الحال، الذي ينزل في ذلك المحل مما يخرج من الإنسان.
وعليه بين اللفظين كما قال أئمتنا: جناس تام، إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط، والجناس ضمن علم البديع في علم البلاغة من المحسنات اللفظية، وتعريف الجناس هو: تشابه اللفظين في النطق، واختلافهما في المعنى.
وإن اتفق اللفظان في أربعة أمور فيقال لذلك: جناس تام، وإن اختلفا في واحد من هذه الأمور الأربعة يقال له: جناس ناقص.
أما الأمور الأربعة فهي نوع الحروف وشكلها وعددها وترتيبها، أن تكون الحروف واحدة، هذا نوعها، وأما شكلها فالمقصود حركاتها، أي: الحركة هنا كالحركة هناك، ضمة ضمة، فتحة فتحة، كسرة كسرة، وأما عددها فلا تزيد ولا تنقص في اللفظين، وترتيبها لم يحصل فيه تقديم ولا تأخير فكلها بشاكلة واحدة، ولكن هنا تدل على معنى، وهناك تدل على آخر، هذا الذي يقال له: جناس تام كالذي معنا الآن، ومنه قول ربنا الرحمن: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55]، جناس تام، ساعة ساعة، لكن شتان بين الأمرين فالموضع الأول تقوم الساعة أي: يوم القيامة، والموضع الثاني: ما لبثوا غير ساعة، يعني: غير وقت قصير في الدنيا، قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا [المؤمنون:112-113]، ثم تراجعوا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113]، كل ما مضى من أيام طويلة يعني يستحقرها الإنسان ويستقلها في ذلك الزمان وفي ذلك اليوم.
والنوع الثاني من الجناس إذا اختلفت الحروف في بعض هذه الأمور، إما في نوع الحروف أو في شكلها أو في عددها أو في ترتيبها فإنه يقال لذلك: جناس ناقص، ومنه قول الله جل وعلا: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:9-10]، تقهر تنهر، اختلفا في حرفي القاف والنون، وما عدا هذا فاللفظان على صورة واحدة، والمعنى مختلف، وهذا لا بد منه.
الأمر الثاني: أحاديث ترخص في هذا الأمر، فتدل على إباحة استقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو بول، إذاً معنا أمران: نهي وترخيص، ما هو الحكم في ذلك؟ وأيهما سبق؟ وأيهما لحق؟ وهل هناك ناسخ ومنسوخ، أو راجح ومرجوح في هذه المسألة؟ وما هو الموقف السديد الرشيد نحو هذه الأحاديث التي تنهى وتبيح، تحذر وترخص؟ فلا تستقبلوا القبلة كما تقدم معنا بغائط ولا بول، ثم بعد ذلك: ولا تستدبروها، ثم بعد ذلك أحاديث ترخص وتحكي أن النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عمر استدبر القبلة، وفي حديث جابر استقبلها، فكيف الجمع بين ذلك؟
ذكر أئمتنا عدة أقوال أبرزها أربعة وأكملها بثلاثة فيصبح المجموع سبعة أقوال، أبدأ بثاني الأقوال اعتباراً، وأختمها بأولها اعتباراً، وأذكر ما بين ذلك أقوالاً نبين ما فيها إن شاء الله، فأذكر القول الأول، وأتبعه بالثاني والثالث، ثم أختمه بالرابع، وهذه الأقوال هي عيون الأقوال، ثم أختمها كما قلت من باب ما قيل في المسألة بثلاثة أقوال حتى يصبح مجموع الأقوال سبعة.
أما القول الأول: وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة ، ومذهب الإمام أحمد ، وقال به أبو ثور صاحب الإمام الشافعي ، وهو الذي رجحه الإمام أبو بكر بن العربي من أئمة المالكية في عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي ، وجنح إليه الإمام ابن حزم ، وخالف داود بن علي الظاهرية في هذه المسألة.
ذهب هؤلاء إلى أنه يحرم على الإنسان أن يستقبل القبلة أو أن يستدبرها بغائط أو بول مطلقاً، في الصحراء والعراء وفي البنيان والعمران، أينما كان، لا يجوز أن يقضي حاجته إلى جهة القبلة، استقبالاً أو استدباراً، لا يجوز أن يستقبلها ببول ولا أن يستدبرها بغائط، وهو الذي قال به راوي الحديث الأول أبو أيوب الأنصاري، ولذلك أخبر أنه عندما ابتلي ببلاد الشام بمراحيض بنيت مستقبل القبلة، كان ينحرف عنها ويستغفر الله عز وجل، وسيأتينا ما المراد بالاستغفار الذي يجري منه ضمن مباحث الحديث بعون الله جل وعلا.
وهذا الذي قال به مجاهد والنخعي والثوري ، ونقل هذه الأقوال عنهم النووي في شرح صحيح مسلم في الجزء الثالث صفحة خمس وخمسين ومائة، ونقلها -أيضاً- في المجموع شرح المهذب في الجزء الثالث صفحة ثمانين، ونقلها عنه الحافظ ابن حجر حذام المحدثين في الجزء الأول صفحة خمس وأربعين ومائتين من فتح الباري.
أولها: النص الصريح الصحيح الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في النهي عن ذلك والتحذير منه، فحديث أبي أيوب ، وهو في الصحيحين وغيرهما في أعلى درجة الصحة صريح في النهي ( لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ) ولم يقيد هذا في صحراء أو في عمران بل أطلق، أي: نهينا عن استقبال القبلة وعن استدبارها بحاجتنا مطلقاً، سواء كان في البنيان أو في الصحراء، قال أئمتنا: هو بإطلاقه شامل للبنيان وفي الصحراء.
وحديث أبي هريرة وهو في صحيح مسلم وغيره، وقد أشار إليه الإمام الترمذي عندما قال: وفي الباب عن أبي هريرة كما سيأتينا، ولفظه: ( إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها )، والحديث نصٌ صريح في النهي عن ذلك، وهو مطلق، لم يستثن حالة من الحالات، ولم يخص هذا بالصحراء ليفهم أنه يباح في العمران والبنيان.
وكذلك حديث سلمان في النهي عن استقبال القبلة بغائط أو بول، ولم يشر إليه الإمام الترمذي في الباب، مع أنه مروي في هذا الباب وما أشار إليه، أي لم يقل: وفي الباب عن سلمان، وسيأتينا من باب الاستدراك على ما يوجد في قول الترمذي : وفي الباب.
وحديث سلمان رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن الأربعة ولفظه: ( نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائط أو بول ).
وعليه فهذه نصوص صريحة صحيحة في النهي عن التوجه إلى القبلة حال قضاء الحاجة استقبالاً أو استدباراً، وهي مطلقة، فينبغي أن نقول بعمومها وإطلاقها، ولا ينبغي أن نخص شيئاً منها.
الدليل الثاني: قالوا: إن العلة في منع استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول هي حرمة القبلة، يعني: جهة الكعبة المشرفة، ومكانتها وقداستها وشرفها ورفعة قدرها، وهذا موجود في البناء كما هو موجود في الصحراء، وقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بلفظها فقال: لا تستقبلوا القبلة، فأضاف الاقتران إليها مما يدل على أن المنع يكون احتراماً لهذه الجهة المكرمة المشرفة، وهذه الجهة ثابتة، سواء كان بينك وبينها حاجز أو لا، فلا نقول: يجوز في البناء، ولا يجوز في الصحراء.
الدليل الثالث: قالوا: لو كان الحائل، أي الحاجز الذي يكون في البنيان كافياً في الترخيص في استقبال القبلة أو استدبارها بغائط أو ببول، لجاز ذلك في الصحراء أيضاً، وعليه لا يكون هناك حديث ينهانا عن استقبال القبلة لا في صحراء ولا في بناء لقضاء حاجتنا، لا يوجد حديث ينهى، قالوا: إذا كان هذا الحائل في البنيان سيحول بينك وبين الكعبة فإننا نعلم يقيناً أننا إذا كنا في الصحراء، فبيننا وبين الكعبة المشرفة أودية وجبال وشجر وأبنية متعددة، فستحول بيننا وبين الكعبة.
وعليه لا ينهى الإنسان من ذلك، لا في بناء ولا في صحراء، يعني: لا يتصور النهي إلا إذا كنت في مقابل بناء الكعبة مباشرة، وجلست مستقبلاً لها أو مستدبراً، وأما في أي مكان فبينك وبينها حاجز، وعليه قالوا: لو كان الحاجز الذي في العمران وفي البنيان يرخص لنا في الاستقبال أو الاستدبار، لأدى هذا إلى عدم وجود حالة منهي عنها باستقبال القبلة أو استدبارها عند قضاء حاجتنا، وهذا باطل، مما يدل على أنه يحرم علينا أن نستقبل القبلة وأن نستدبرها بغائط أو بول مطلقاً، في البنيان وفي الصحراء.
قالوا: هذه الأحاديث التي وردت في ذلك، لنا نحوها موقفان يتفرعان إلى ثلاثة مواقف تفصيلية:
الأول: منها ما هو ضعيف كحديث أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وسيأتينا إن شاء الله في الباب عن أبي قتادة وعائشة وعمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين.
وحديثها رواه الإمام ابن ماجه في السنن، والإمام أحمد في المسند، ولم يروه أبو داود ، وسيأتينا ذكره وبيان حاله إن شاء الله.
قالوا: كل الأحاديث التي فيها الترخيص فهي قبل النهي، وعليه هي باعتبارنا منسوخة، لكن في الحقيقة يرد علينا: أنه ورد نهي ثم يقول: ( رأيته بعد ذلك مستدبر الكعبة ) كما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وفي حديث جابر : ( نهى النبي عليه الصلاة والسلام أن نستقبل القبلة ببول، فرأيت قبل أن يقبض بعام يستقبلها ).
قال هؤلاء: إن هذه الأحاديث ليست كلها قبل النهي، بل منها ما هو بعد النهي، وهو صحيح فماذا تفعلون؟
قالوا: هي حكاية حال كان عليه نبينا صلى الله عليه وسلم، وأحاديث النهي قول منه، والقول شرع وجه إلى الأمة لتعمل به.
قال أئمتنا: وبالاتفاق القول يقدم على الفعل، وحكاية الأحوال معرضة للأعذار والأسباب والأقوال، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، والروايات التي هي صحيحة، وثبت أنها بعد النهي، فتحمل على عذر كان عند النبي عليه الصلاة والسلام، فالنهي العام شرع مبتدأ، والأمة ملزمة به، وحكاية الفعل حال للنبي عليه الصلاة والسلام، وهي تحتمل كما قلنا أعذاراً يتطرق إليها الاحتمال والمقال، فهي إذاً تعارض عموم النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بغائط أو بول فلا يلتفت إليها.
فإن قيل: ما هو العذر الذي من أجله فعله النبي عليه الصلاة والسلام؟
الجواب: نحن ما وقفنا على ذلك العذر، وهذا الفعل يحتمل النسخ، ويحتمل أن هذه الحالة خاصة لعذر عند النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا احتمل الأمرين فلا يوجد عندنا دليل يعين أن هذا ينسخ النهي المتقدم الذي هو عام مطلق في البنيان وفي الصحراء، ولا يجوز أن نخصص إطلاق النهي بهذه الأحاديث، فنقول: هذه في البنيان فقط فنقتصر على الصحراء في النهي، ونخرج العمران من النهي لفعل هذا من قبل النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن هذه كما قلنا حكاية حال تحتمل المقال، تحمل الخصوصية لعذر من الأعذار، فلا يجوز أن تستدل بها، وأن تبطل دليل القول الذي هو حكم عام، وشرع مبتدأ وجه إلى الأمة لتلتزم به.
هذه أدلة القول الأول مع أجوبتهم عن الأحاديث التي تحتمل خلاف قولهم، وأما بقية الأقوال مع أدلتها فسنتدارسها فيما يأتي إن أحيانا الله.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن عملنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر