الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فكنا مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه يقول عند دخول الخلاء: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) وتكلمنا حول الحديث، وأهمية هذا الدعاء، والآن لنستكمل ما يتعلق بالاستعاذة ومعناها والأحاديث التي فيها صيغ الاستعاذة عند دخول الخلاء.
يا من ألوذ به فيما أؤمله! ومن أعوذ به مما أحاذره!
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
يهيضون بمعنى يكسرون.
والشاهد هنا: يا من ألوذ به فيما أؤمله! ففي جانب الأمل وطلب المنفعة ذكر الفعل: ألوذ، وبالمقابل: ويا من أعوذ به مما أحاذره!
لفظ رواية الصحيحين بل الكتب الستة: (أعوذ بالله من الخبث والخبائث).
والخبث: جمع خبيث، وهم كما قال أئمتنا: ذكران الشياطين.
والخبائث: جمع خبيثة، وهن إناث الشياطين، والمعنى (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، أي: من ذكران الشياطين وإناثهم، أحصن نفسي بك من كل شيطانٍ وشيطانةٍ يكونان في هذا المكان، وهذا المعنى هو الذي عليه جمهور المحدثين، وبعضهم ذكر معنىً آخر للخبث والخبائث فقال: الخبث هو الشر والكفر والشيطان، والخبائث هي المعاصي بأسرها، ثم نقلوا عن ابن الأعرابي أنه قال: الخبيث في كلام العرب هو المكروه، فإن كان في الكلام فهو الشتم، وإن كان في الملل فهو الكفر، وإن كان في الطعام فهو الحرام، وإن كان في الشراب فهو الضار، نعم الخبيث كما ذكرتم فهذا من معناه، لكن المراد هنا أننا نحصن أنفسنا من أشياء تحضر في هذه المكان كما أشار إليها نبينا عليه الصلاة والسلام، فهذه الحشوش محتضرة، فلا دخل الآن لموضوع المعاصي ولا لشرٍ ولا لكفر، بل نحصن أنفسنا من هؤلاء الجن حتى لا يرون عوراتنا، ولا يصيبونا بعد ذلك بأذى وضرٍ.
نعم -كما قلت- لفظ الخبيث معناه في الأصل وفي اللغة كما قال علماء اللغة في كتبهم: الخبيث هو ما يكره رداءةً وخساسةً، مكروهٌ لرداءته وخسته، قال أئمتنا: وسيشمل الاعتقاد الباطل، ويشمل الكذب في المقال، ويشمل القبيح في الأفعال، لكن المراد هنا خبيثٌ معين، وهو شيطانٌ وشيطانة، (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، من ذكران الشياطين وإناثهم.
لذلك في الروايات الأخرى التي مرت معنا في سنن ابن ماجه وغيره: (اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم)، فإذاً مما يبين على أننا نستعيذ بالله هنا من صنفٍ من أصناف الخبيثين، لا من خبثٍ في المقال، ولا من خبثٍ في الأفعال، إنما من خبثٍ من هذه الذوات الخبيثة وهم الشياطين ذكوراً وإناثاً، أما لفظ الخبيث يطلق على شيءٍ مكروه فيه -كما قلت- في الأقوال والأفعال وفي الاعتقاد وفي كل شيء.
ولذلك ثبت في سنن النسائي والبيهقي وإسناد الحديث صحيحٌ كالشمس موقوف على عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، ورواه ابن حبان في صحيحه مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث)، أي: هي منبع الأشياء المكروهة الخسيسة المؤذية الضارة الشنيعة، والخبائث هنا ليس المراد منها ما ورد من الخبث والخبائث، بل المراد من الخبائث هنا المكروه كمثل المعاصي، ولذلك في تكملة الأثر عندما غَوَيتْ امرأةٌ عابداً من بني إسرائيل فأرسلت إليه غلاماً وقالت: ندعوك للشهادة، فلما دخل رأى امرأةً وضيئة، وعندها خمر وغلام، والغلام من الزنا، وهي بغي، ثم قالت: إما أن تقتل هذا الغلام وإما أن تقع علي وإما أن تشرب الخمر، قال: اسقيني كأساً، فهذا في تقديره أخف البلايا والرزايا، فلما أخذ الكأس قال: زيدوني، فوقع على المرأة بعد ذلك، وقتل الغلام، ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث) والأثر له حكم الرفع على كل حال.
إذاً قوله: (أم الخبائث)، أي: أم الأشياء المكروهة، ومنبع المعاصي والرذائل، فلفظ الخبيث لا يطلق فقط على خصوص العاتي المارد من الجن، وإنما يطلق على كل شيءٍ مكروه، لكن هنا يرد منه مكروهٌ خاص وهو ذكور الشياطين وإناثهم، نستعيذ بالله منهم جميعاً، وأما لفظ الخبيث فيطلق -كما قلت- على ما هو أوسع من ذلك.
وقد ثبت في المسند والكتب الستة إلا سنن الترمذي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدةٍ مكانها: عليك ليلٌ طويلٌ فارقد، فإن استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)، خبيث، فإذاً هنا صار فيه كما قلنا صفة الرداءة وصفة الخسة، وصفة الكسل، وصفة الخمول، وتأمل هذا فيمن لم يستيقظ، لا أقول لصلاة الفجر بل قبل صلاة الفجر، فتأمل حالته، وانظر للكسل الذي يكون في جسمه وفي بدنه نسأل الله العافية، أصبح خبيث النفس كسلان، فالخبث -كما قلنا- يطلق على الشيء المكروه، ولكن هنا المراد منه خصوص خبثٍ معين يكون من الشياطين ذكوراً وإناثاً.
وقد ثبت في المسند والصحيحين وصحيح ابن حبان وسنن النسائي وابن ماجه عن أمنا زينب بنت جحش رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلةً وهو فزع محمرٌ وجهه، وهو يقول: لا إله إلا الله! ويلٌ للعرب من شرٍ قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا، وحلق بين الإبهام والسبابة، فقالت رضي الله عنها: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث)، أي: المكروهات، المنكرات، المعاصي، المهلكات، الموبقات، فهذا لفظ الخبث كما قلت عنه، لكن المراد منه عند الخلاء خصوص خبثٍ يكون في الشياطين ذكورهم وإناثهم.
إذاً (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث). والروايات الأخرى نشرح معناها، وننتقل بعد ذلك إلى تخريج الحديث إن شاء الله.
وهذا فيما يظهر -والعلم عند الله- غلط؛ لأنه يقال: تشيطن فلانٌ إذا فعل فعل الشياطين، ولا يقال: تشيط، والذين قالوا: إنه من شاط يشيط؛ لأنه خلق من النار ومآله إلى النار، وفيه الغضب وهو من طبيعة النار، هذا وإن وافق ما عليه الشيطان لكنه لا يشهد له الاشتقاق اللغوي كما قال أئمة اللغة، فهو من شطن لا من شاط، وشطن بمعنى بعد، فهو شيطان، ولذلك يقال: تشيطن، ولا يقال: تشيط، يقول أمية بن أبي الصلت في بيان ما أعطى الله لنبيه سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام:
أيما شاطنٍ عصاه عكا ه ثم يلقى في السجن والأغلال
ولو كان من شاط لقال: أيما شائطٍ، وعكاه. عكاه، أي: أو ثقة وقيده وربطه ثم يلقى في السجن والأغلال.
إذاً فهو -كما قلت- صيغة فيعال من شطن، قال أئمتنا: وهذا الاسم يطلق لكل متمردٍ من الجن والإنس والحيوان، فالعاتي من الإنس يقال له: شيطان، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112].
والخبيث من الجن يقال له: شيطان، والنافر النازح الشرس من الحيوانات يقال له: شيطان، إذاً: هو اسمٌ لكل عاتٍ متمرد من الإنس والجن والحيوان.
وهو أيضاً بمعنى راجم فاعل يرجم الناس بالوساوس والإغواء، والأمران فيه، فهو مرجوم وهو راجم، نسأل الله أن يكفينا شره.
هذا فيما يتعلق بمعنى هذه الجملة المباركة التي نقولها عندما ندخل هذا المكان، وهذه الصيغة لا ينبغي أن نفرط فيها -التسمية مع الاستعاذة-، (باسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث)، أو (باسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث)، اختر أيتهما شئت، وإن زدت بعد ذلك تزداد فضيلة، (اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم، يا ذا الجلال والإكرام).
قلنا: هذه الروايات لا بد لها من تخريج، أما حديث علي رضي الله عنه وأرضاه فقد تقدم الإشارة إليه، وقلت: رواه الترمذي وابن ماجه ، وأزيد: ورواه البغوي في شرح السنة في الجزء الأول صفحة ثمانٍ وسبعين وثلاثمائة، ولفظه: (ستر ما بين أعين الجن، وعورات بني آدم إذا دخل أحدهم الكنيف أن يقول: باسم الله).
ورقمه عند الترمذي ستمائة وست وقال: إنه حديثٌ غريبٌ لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده ليس بذاك القوي، قال الترمذي : وقد روي عن أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام أشياءٌ في هذا، يعني: تقرب من حديث علي ، وهذا الذي قاله الترمذي سيأتينا إن شاء الله، وحكمه على الحديث بالغرابة غير مسلمٍ كما سيأتينا، فرجال الحديث ثقاتٌ أثبات، والحديث لا ينزل عن درجة الحسن -إن شاء الله- لا سيما مع وجود شواهد للحديث أشار إليها الإمام الترمذي .
ولذلك قال الشيخ أحمد شاكر : نحن نخالف الترمذي في هذا ونذهب إلى أن الحديث حسن على أقل أحواله إن لم يكن صحيحاً، فجميع رواته ثقات، فعلام إذاً يكون غريباً وله شاهد؟ ولو كان فيه ضعف ووجد له شاهد لارتقى.
وشاهده كما في مجمع الزوائد هو في معجم الطبراني الأوسط في الجزء الأول صفحة مائتين وخمسة بلفظ حديث عليٍ المتقدم عن النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذه الرواية عن أنس ليست في خصوص الكنيف وقضاء الحاجة: (ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا وضعوا ثيابهم أن يقولوا: باسم الله)، وحديث أنس يشهد لحديث عليٍ رضي الله عنهما.
وقد تقدم معنا أن الترمذي قال: حديث زيد بن أرقم فيه اضطراب، وبينت أنه لا اضطراب فيه -إن شاء الله- بعد ثبوت رواية قتادة عن النضر بن أنس وعن القاسم بن عوف الشيباني ، ثم رواه قتادة نفسه عن زيد بن أرقم ، وسنُ قتادة يحتمل الرواية عن زيد بن أرقم ، فـزيد بن أرقم توفي سنة ستٍ وستين، وقيل: سنة ثمانٍ وستين، وقتادة تقدم معنا أنه توفي سنة مائة وأربعة عشر، وقد روى قتادة عن عدةٍ من الصحابة الكرام، روى عن أنس ، وعن عبد الله بن سرجس رضي الله عنهما وعن غيرهما، فسنه يحتمل الرواية عن زيد بن أرقم ، فروى الحديث عن زيد بن أرقم بنفسه، ثم رواه عن النضر بن أنس ، عن زيد بن أرقم ، ثم رواه عن القاسم بن عوف الشيباني ، عن زيد بن أرقم ، فهذه طرقٌ ثلاث فلا اضطراب في ذلك، نعم إن رواية قتادة عن النضر بن أنس ، عن أنس وهم كما قال الإمام البيهقي ، لكن الحديث صحيح، وقد ساقه الحاكم في المستدرك من الطريقين بروايتين مختلفتين، مما يقرر ما تقدم معنا أنه لا اضطراب في ذلك، وأن قتادة سمع منهما كما قال الإمام البخاري رحمه الله.
والرواية الأولى التي رواها الإمام الحاكم في المستدرك، عن النضر بن أنس ، عن زيد بن أرقم ، والثانية عن قتادة ، عن القاسم بن عوف ، عن زيد بن أرقم بينهما اختلاف في المتن، ولذلك قتادة روى عن الشيخين: عن زيد بن أرقم الحديث بروايتين مختلفتين، وهذا ما وضحته رواية الحاكم .
أما رواية النضر بن أنس عن زيد فلفظها: (إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخل أحدكم الغائط فليقل: أعوذ بالله من الرجس النجس الشيطان الرجيم)، وهذه الرواية عن زيد والتي هي صحيحة تشهد لرواية أبي أمامة التي تقدم معنا وقلت: إنها ضعيفة، وإنها في سنن ابن ماجه وهذه الزيادة: (اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الشيطان الرجيم)، دون الخبيث المخبث تشهد لتلك الزيادة، وتتقوى بها وتصبح الروايات الضعيفة في هذا الباب صحيحة، ويعمل بها لثبوتها، لا لأنها في فضائل الأعمال وهي ضعيفة، فانتبهوا لذلك، هذه الرواية الأولى في المستدرك.
والرواية الثانية عن قتادة ، عن القاسم بن عوف ، عن زيد رضي الله عنه، ولفظ الرواية: (إن هذه الحشوش محتضرة، فإذا دخل أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بك من الخبث والخبائث)، كرواية أنس المتقدمة معنا، وعليه فيما يظهر لي -والعلم عند الله- أن قتادة روى الحديث عن شيخين: عن القاسم بن عوف الشيباني ، وعن النضر بن أنس بروايتين مختلفتين كما أنه روى الحديث بنفسه، والعلم عند الله جل وعلا.
نكتفي بهذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر