أما بعد: إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس ترجمة الصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وعن سائر الصحابة الكرام، وقد طالت ترجمته، ونسأل الله جل وعلا أن يتقبل ذلك منا، وأن يكون ذلك دليلاً على حبنا لهذا الصحابي الجليل المبارك، الذي كما قلت لكم، وتقدم معنا في ترجمته يعتبر سدس الإسلام.
إخوتي الكرام! قلت: سنتدارس ترجمته ضمن ثلاثة مباحث:
أولها: مضى الكلام عليه، فيما يتعلق بنسبه وصلته بالنبي عليه الصلاة والسلام، وحياته ونشأته.
وثاني المباحث: تقدم الكلام عليه أيضاً، في منزلته العلمية في الشريعة الإسلامية.
وآخر المباحث: وهو ثالثها وكنا نتدارسه، وكان في أمنيتي أن أنهي الكلام عليه في اللقاء الماضي؛ ولكن قدر الله وما شاء فعل، فلعلنا نتدارس هذا الجانب إن شاء الله، ونكمله في هذا اللقاء، ثم ننتقل إلى الباب الرابع عشر من أبواب الطهارة، من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
والمبحث الثالث من جوانب ترجمة هذا الصحابي الجليل المبارك، عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، قلت: يتعلق بنبذة من أقواله الحكيمة المحكمة، وبطرف من طرف أقواله السديدة القيمة، فذكرت آخر شيء من أقواله، ما يتعلق بهذه الحياة، وأنها كلما امتدت فإلى الوراء، فنسأل الله حسن الخاتمة، فالصفاء والنور كان في العصر الأول الذي بعث فيه نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم بدأ الكدر والشوائب تحصل، وتزداد نسبتها إلى أن يأتي أمر الله، وذكرت كلامه في ذلك فكان يقول رضي الله عنه وأرضاه: لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي كان قبله.
وقلنا: هذه القضية ليست فيما يتعلق بالأمور الدنيوية، إنما فيما يتعلق بالأمور الأخروية المتعلقة بأمر الدين، ولذلك قال عبد الله بن مسعود : أما إني لست أعني عاماً أخصب من عام، ولا أميراً خيراً من أمير؛ ولكن علماؤكم وخياركم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون منهم خلفاً، ويجيء قوم يقيسون الأمر برأيهم.
وهذا الكلام يخرج من مشكاة نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد ذكرت الأحاديث الكثيرة التي تقرر هذا الأمر، وأنه لا يأتي على الناس عام، إلا والذي بعده شر منه حتى يلقوا ربهم.
ثم بدأنا نتدارس التغير الذي حصل ووقت حصوله، فقلت: إن بداية التغير على هذه الأمة من موت النبي عليه الصلاة والسلام، وذكرت أثر أنس وأثر أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين: ( أن نبينا عليه الصلاة والسلام عندما دخل المدينة، وتنورت به، أضاء فيها كل شيء، فلما قبض عليه صلوات الله وسلامه أظلم فيها كل شيء )، يقول أنس وأبو سعيد رضي الله عنهم أجمعين: ( ما نفضنا أيدينا عن تراب النبي عليه الصلاة والسلام حتى أنكرنا قلوبنا )، يعني: حصل فينا شيء من التنافر، وما بقينا نعهد قلوبنا بالقلوب الصافية الرقيقة واللطيفة الخاشعة، التي كانت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام؛ لما كان يمدهم به عليه صلوات الله وسلامه من الخير والبركة والتعليم، كان ينور قلوبهم من النظر إلى نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام.
فالقلوب حصل فيها شيء من التغير بمجرد دفن النبي عليه الصلاة والسلام، ثم بدأ التغير يمتد، فـأنس رضي الله عنه عندما ذهب إلى البصرة، وعاد إلى المدينة المنورة، سألوه: هل أنكرت شيئاً مما كنت تعهد؟ قال: ما أنكر شيئاً، إلا أنكم لا تقيمون الصفوف.
وهذه الآثار تقدم تخريجها، ولا أريد أن أحيلها إلى كتاب معين، فألخص ما سبق على وجه الاختصار؛ لأكمل عليكم ما سنتدارسه في هذا اللقاء، قلت: ثم إن نسبة التغير زادت، فلما ذهب إلى بلاد الشام وسألوه عن التغير الذي حصل، فقال: ما أعلم شيئاً مما كان عليه أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة أيضاً قد ضيعت، ويريد بإضاعتها تأخيرها عن وقتها كما كان يفعل أمراء بني أمية، سواء في بلاد الشام، أو في البصرة والكوفة، وقلت: في ذلك دليل على أفضلية المدينة المنورة في ذلك الحين، فكانت نسبة التغير فيها قليلا، وأما الأمصار النائية فنسبة التغير فيها كثير.
ثم قلت: إن التغير زاد وزاد، فنقلت عن مالك بن أبي عامر الأصبحي ، وعن عطاء بن أبي رباح أنهم لا يعرفون شيئاً مما أدركوا عليه الناس إلا النداء بالصلاة، فيقول عطاء رضي الله عنهم أجمعين: ما أعلم تأذينهم يخالف تأذين من مضى، يعني: الأذان هي الشعيرة الباقية على ما كانت عليه، وما طرأ عليها تغير عن هيئتها وكيفيتها، وأما سائر الأمور فطرأ عليها ما طرأ.
وقد نقلت كلام الحافظ ابن حجر سابقاً من الفتح فيما يتعلق بهذه القضية، وكيف مزجت مسائل الديانة بكلام الفلاسفة واليونان، ثم ختم الحافظ ابن حجر كلامه فقال: السعيد من اقتدى بمن سلف، وترك ما أبدعه الخلف، فهذا كله تكلمنا عليه فيما مضى وتداركناه.
إخوتي الكرام! إن التغير حصل من وفاة نبينا عليه الصلاة والسلام، والتغير يزداد فلا يأتي يوم، ولا عام إلا والذي بعده شراً منه، وكل يوم هو شر من الذي قبله، وهذا الأمر لا يختلف فيه اثنان إذا رجعا إلى نصوص الشرع، وأما إذا أراد الإنسان أن يتكلم بهوسه وعقله ممَّا تسمعونه في هذه الأيام من أن الأمة في صحوة، وأنها خير من حالها السابق، فهذا باطل لا واقع له، إنما هذا بمثابة تخدير المرضى، فنحن مرضى ليخدرنا الشيطان فيقول: أنتم في صحوة، فنسأل الله جل وعلا أن يلهمنا رشدنا، إنه أرحم الرحمين، وأكرم الأكرمين.
وهذا ما يشير إليه عبد الله بن مسعود فيقارن بين حياة الصحابة وحياة التابعين بما ذكرته لكم من أن القلوب تكدرت وتغيرت، فقلوب الصحابة فيها صفاء لم يحصل في خير من جاء بعدهم، مع كثرة عبادتهم الظاهرة، وهذا يقوله من صحب النبي عليه الصلاة والسلام، في خلوته وجلوته، وفي سره وعلنه، وفي سفره وحضره، فيقول كما في المستدرك في الجزء الرابع صفحة خمس عشرة وثلاث مائة، بسند صحيح على شرط الشيخين أقره عليه الذهبي، والأثر رواه أبو نعيم في الحلية في الجزء الأول صفحة ست وثلاثين ومائة، وهو في المعجم الكبير للإمام الطبراني عليهم جميعاً رحمة الله، والأثر من رواية عمارة بن عمير التيمي ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، وقد تصحف الأمر على شيخ المحدثين وإمامهم الإمام الهيثمي في المجمع، فقال عليه رحمة الله ورضي الله عنه في المجمع: عمارة بن يزيد لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات، وهو كما قلت: عمارة بن عمير التيمي ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، فلعله فيما يظهر لي والعلم عند ربي، أن كلمة عبد الرحمن سقطت، فصار عمارة بن يزيد ، لكن كما قلت: هو في طبعة المستدرك عمارة بن عمير التيمي ، وهو ثقة ثبت حديثه مخرج في الكتب الستة، قد توفي بعد المائة، وقيل: قبلها بسنتين.
وعبد الرحمن بن يزيد النخعي تقدمت معنا ترجمته، ثقة وحديثه مخرج في الكتب الستة أيضاً وتوفي سنة ثلاث وثمانين، فـعمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، اللذين هما تلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم، عن عبد الله بن مسعود ومحل الشاهد قول ابن مسعود : أنتم يعني: يا معشر التابعين! أنتم أكثر صلاةً وصياماً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، يقول: عباداتكم الظاهرة كثيرة، فتصومون نافلة كثيرة، وتصلون نافلة كثيرة، فأنتم أكثر صلاة وصياماً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وهم كانوا خيراً منكم، فهذا أمر عجيب، يعني: نصوم ونصلي أكثر منهم، ونلتزم بالشعائر الظاهرة، وهم أفضل منا، وهم خير منا، قالوا: لم أبا عبد الرحمن؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة، قلوبهم متعلقة بما عند الله، وهذه الدنيا ليست على بالهم.
وحقيقة كون الدنيا ليست على بالك، إن جاءت لا تفرح بها، وإن ذهبت لا تحزن عليها، فهم كانوا كذلك، فلو صبت لهم جبال الذهب لما فرحوا، ولو ذهبت عنهم لما حزنوا، فقلوبهم متعلقة بما عند الله؛ لكن نحن لو زاد عندنا ريال واحد لفرحنا، ولو سقط من واحد ريالٌ فلعله في تلك الليلة يتشرد ذهنه، وما يعرف كيف سينام، فانظر لوضعهم رضي الله عنهم وأرضاهم، يقول: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة، قلوب متعلقة بما عند علام الغيوب، ثم بعد ذلك صلاة وصيام على حسب طاقتهم ونشاطهم، فأنتم تكثرون من العبادات الظاهرة؛ لكن في القلوب خلل، والعمل دائماً يضاعف عند الله بما يقوم في القلب من تعظيم لله وإنابة إليه، ولذلك قد يعمل الاثنان العمل الواحد، فهذا عمله يزيد على وزن الجبال، وذاك عمله لا وزن له عند الله ولا اعتبار، فذاك في قلبه تعظيم لله، وهذا ليس فيه ذلك، وبذلك الصحابة الكرام، لو أن من بعدهم أنفق كل يوم مثل أحد ذهباً في سبيل الله، لما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، فلو أنفق الصحابي مداً من شعير أو من تمر، لزاد أجره على أجرك إذا أنفقت كل يوم مثل أحد ذهباً في سبيل الله، لأن الأجر يعظم عند الله، ويزداد ويكثر، ويبارك بمقدار ما في قلبك من تعظيم لربك، وهم كما قال هذا الصحابي الجليل: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة، فالدنيا ليست على بالهم، وتراهم يتحركون، ويسكنون ويقولون: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فهذه الدنيا لا وزن لها ولا اعتبار، فهم كانوا خيراً منكم.
وهذا الكلام الذي كان يقوله هذا الصحابي الهمام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، كان التابعون أيضاً يتذاكرونه فيما بينهم، ويوصي بعضهم بعضاً به، من أنه ينبغي أن ننتبه لإخلاص القلوب لعلام الغيوب، فهذا إبراهيم التيمي الذي توفي سنة اثنتين وتسعين للهجرة، عن عمر يقارب الأربعين، وهو شيخ المسلمين، وشيخ الدنيا في زمانه، ولو مد الله في حياته لملأ الدنيا علماً وصلاحاً بأقواله التي تخرج من مشكاة النبوة كقول شيخه عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، وحديثه مخرج في الكتب الستة، وقد مات في سجن الحجاج، ولما مات أري الحجاج أنه مات في سجنه رجل من أهل الجنة، فلما أصبح قال: من الذي مات؟ قالوا: فقد كان إبراهيم يقول: إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يدك منه، أي: لا تعول عليه فلا قيمة له إذا كان لا يحضر الجماعة، وتفوته التكبيرة الأولى.
ويقول هذا العبد الصالح كما في كتاب الزهد، والرقائق لشيخ الإسلام عبد الله بن المبارك والأثر في الحلية، كان يقول: كم بينكم وبين القوم؟ يعني: من تقدمهم من الصحابة، أقبلت عليهم الدنيا فهربوا منها، وأدبرت عنكم فاتبعتموها، يعني: تأتي إليهم فيهربون منها، ويتصدقون بها ويوزعونها، وتدبر عنكم فتتبعونها وتجرون وراءها، فإن من قبلكم كانوا يفرون من الدنيا وهي مقبلة عليهم، ولهم من القدم، أي: التقدم ومعاصرة النبي عليه الصلاة والسلام ومشاهدته، ولهم من القدم والثبات والرسوخ في التقوى ما لهم، تتبعونها ولكم من الأحداث ما لكم، فقيسوا أمركم إلى أمرهم.
إخوتي الكرام! حقيقة إن القلوب لتزداد ظلمة وكدرة كلما امتد الزمان، ويدل على ذلك حديث أنس المتقدم في صحيح البخاري وسنن الترمذي وغيرهما: ( لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌ منه، حتى تلقوا ربكم )، فحديث أنس لما دخلوا وذكروا له ظلم الحجاج، وما يرون منه من بغي وشطط، قال: ( اصبروا لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم ) على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فيذكر الشيخ علي القاري عند هذا الحديث قصة.
قال: كان بعض المشايخ من أهل شيراز في حجرته ومكتبته في وسط الليل، قائم لله يتعبد الله، ويأتي بأوراده، ويذاكر العلم، يقول: فهجم عليه خاطر، وألقي في روعه بأن يخرج من حجرته إلى الشارع، يقول: فما ملكت نفسي من أنه لا بد من الخروج، فالله يدفعه دفعاً لأجل أن يخرج، وإذا أراد الله شيئاً هيأ له أسبابه سبحانه، أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] فلذلك الفراسة هي هم صادق يقع في القلب، لا يجد الإنسان له دفعاً، وهنا شيء يدفعه للخروج في وسط الليل، وهو الآن في ورده وصفوه وعلمه، قال: فخرجت، وإذا بامرأة في الشارع يريد أن يعتدي عليها رجل، فالله ألهمه أن يخرج من أجل أن ينقذها، فقال: ما لك يا أمة الله؟ في هذا الوقت تخرجين؟ فهذا وقت ريبة، فأخبرته أن لها عذراً في خروجها، فزوجها غير موجود، وطرأ عليها طارئ يحتاج أن تخرج إلى بيت أهلها، فقام لها هذان العاصيان في الطريق، يريدان الاعتداء عليها، فالله ألقى في قلب هذا الشيخ لأجل أن يخلص المرأة، يقول: فخلصتها، ومشيت أمامها كما مشى نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أمام ابنتي شعيب، وهي ترشده إلى الطريق حتى أوصلها إلى بيت أهلها، يقول: ثم عدت إلى خلوتي، فانقطع الخاطر، يقول: فوجدت في قلبي كدراً، فالصفاء الذي كان معي زال، يقول: مع أنني عندما التقيت بها وأوصلتها إلى بيتها وهي تمشي ورائي، ما ألقي في قلبي خاطر سوء، يعني: كأن معي حمارة وليست امرأة، فما خطر بقلبي شيء على الإطلاق؛ لكن بعد أن أوصلتها وعدت إلى الحجرة بدأ في قلبي نوازع البشر، يعني: في الخواطر الرديئة، يقول: ففكرت، قلت: سبحان الله! من أين جاءني هذا؟ هل هو من فساد في المطعم، تأملت مطعمي قلت أنه حلال، هل هو بسبب خلطتي مع ظالم؟ يقول: ما خالطت أحداً، هل بسبب فضول في الكلام أو في النظر؟ يقول: بحثت الجوانب التي تدخل منها خواطر السوء، فما رأيت جانباً يمكن أن تأتي هذه الخواطر منها، فقلت: ربي من أين جاءني هذا؟ يعني: أنت ألزمتني بأن أخرج لما ألقيت في روعي وقلبي، ثم لما رجعت وجدت هذا الغبش في قلبي، والصفاء ذهب عني، يقول: فألقي في روعي أن هذا بسبب بعدنا عن عصر نبينا عليه الصلاة والسلام.
والأمر كما قال أئمتنا:
الروح كالريح إن مرت على عطر طابت وتخبث إن مرت على الجيف
يعني: لو أن ريحاً مرت على جيفة حملت النتن، ولو مرت على عطر وبستان فيه من الورود والرياحين حملت الروائح الشهية الطيبة، وهكذا الروح عندما تعيش في مجتمع كله دنس، فيصبح فيها شيء من التأثر والغيم شاء الإنسان أم أبى.
ولذلك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين بمجرد دفنهم للنبي عليه الصلاة والسلام، وما نفضوا الأيدي، يقولون: أنكرنا قلوبنا.
فالصلاح الذي كان في ذلك الوقت وطهارة القلوب لا مثيل لها، وكلما امتد الزمان حصل التغير في القلب، والأعمال الظاهرة تتبع القلب، وإذا كثرت أعمال الإنسان الصالحة بالظاهر لكن القلب فاسد فلا قيمة لتلك الأعمال.
وهذا وضعنا إخوتي الكرام! فنحن نعيش في زمن ظلمات متراكبة يركب بعضها بعضاً، فنسأل الله أن يجعل لنا في قلوبنا نوراً، وفي أسماعنا نوراً، وفي أبصارنا نوراً، وأن يجعل لنا نوراً نمشي به، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
والحقيقة كما قال العبد الصالح: إن من كان قبلكم، كانوا أقل صلاة وصياماً منكم، وأنتم أكثر صلاة وصياماً منهم، ومع ذلك هم كانوا خيراً منكم؛ لأن القلوب متعلقة بعلام الغيوب، وكانوا أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة.
الخلل الأول: سيأتي أناس يدعونك إلى القرآن وهم يكفرون به، وهذا في الحقيقة من البلايا والرزايا، في هذا العصر الذي نعيش فيه، يدعونك إلى التوحيد، وهم أهل الإلحاد، ويدعونك إلى السنة وهم أهل بدعة، لا يملكون من تلك الألفاظ إلا أسماء، أما مسمياتها وحقائقها فلا، ألا يدل هذا على التغير؟!
وروى الإمام الدارمي في سننه في المقدمة في الجزء الأول صفحة أربع وخمسين، عن أبي قلابة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال عبد الله بن مسعود : عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أصحابه، أي: علماؤكم وفقهاؤكم وخياركم يذهبون، ثم يأتي أقوام يقيسون الأمور برأيهم فلا تجدون خلفاً لأولئك الكرام الصالحين، عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه أن يذهب أصحابه.
يقول أيضاً: عليكم بالعلم فإن أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه، وفي رواية: متى يفتقر إلى ما عنده؟ أما إنكم ستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، والتنطع، والتعمق، وعليكم بالعتيق، هذا كلام عبد الله بن مسعود الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
والتبدع: هو الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة والنقصان، مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن، ولا تشهد نصوص الشرع الحسان لذلك الحدث، فهذا يقال له: بدعة.
والتنطع: التشدد، والتعمق: وهو الغلو.
ثم قال: (عليكم بالعتيق) أي: ما كان عليه سلفكم، يعني بعبارة هذه الأيام: عليكم بالرجعية لما كان عليه السلف الكرام.
فالذين يدعونك إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم هم من قاتلوا علياً بالسيف، وقالوا له: يا كافر! لا حكم إلا الله؛ فهذا الكلام المعسول هو في الحقيقة مردود، فالخوارج يعون كتاب الله؛ لكن نبذوه وراء ظهورهم، وقد تواترت الأحاديث فيهم أن الصحابة ومن سيلتقي بهم ( يحقرون صلاتهم مع صلاتهم، وصيامهم مع صيامهم، لكنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وإرم ) يدعون أنهم يدعون إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم.
وكذلك من البلاء فتنة المعتزلة الذين جاءوا بعد الخوارج، فهم يسمون أنفسهم أهل التوحيد والعدل، وأصحبت الأمة أهل التلحيد والجور، فهم فقط أهل التوحيد والعدل، وفي الواقع أن توحيدهم تلحيد، وعدلهم سقط وظلم وافتراء على الله عز وجل، فهم يريدون بالتوحيد نفي الصفات عن الله المجيد، فلو ثبت لله صفة لكان متعددا، أفنفي الصفات عن الله توحيد أو تلحيد؟ ويريدون بالعدل، أن الله قدر الخير وأراده، والشر يقع بغير تقدير الله وخلق منه، وعليه نفوا عموم مشيئة الله وعموم إرادته، فهذا عدل أو جور؟ وهم يدعون إلى كتاب الله، وأراقوا من دماء الأمة ما أراقوه تحت ستار العدل.
وكذا من الفتن على مر العصور ما كان من محمد بن الراوندي ، الذي كان يسمي نفسه بالموحدين في القرن السادس للهجرة، ووجدوا في المغرب، وأنشئوا دولة الموحدين، وكان يدعي أنه المهدي المنتظر الذي ذكره نبينا عليه الصلاة السلام، وكان يخطب على المنابر بأنه هو المهدي المعلوم المبشر به، ودخل في أمور من الجور لا يعلمها إلا الله، ويسلك مسلك المعتزلة أيضاً فيما يتعلق بالتوحيد، ثم يدعي أنه من الموحدين، فتجدون أقواماً يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، وما أكثر هؤلاء في هذه الأيام، ولذلك فعندما نرى كتباً في هذه الأيام، تتطاير هنا وهناك، كتب لا ترد على دعاة الإباحية والعلمانية، وعلى الفرق الضالة، وإنما كتب ترد على أئمة الشريعة الهداة، تجد كتباً في الرد على شيخ الإسلام الإمام النووي ، كما نشر بعض السفهاء كتاباً تحت ستار السنة والسلفية، وقال: إنه سيتعقب المسائل التي أخطأ فيها الإمام النووي في أمر العقيدة فيما يتعلق بتوحيد العبادة، فلما أتى لموضع التبرك وغيره، قال: التبرك هذا خطأ في توحيد العبادة، والإمام النووي كان مخطئاً في توحيده، فيحتاج الأمر إلى تصحيح ورد عليه، قال: أما الفروع فلا أريد أن أناقشه فيها؛ لأنه يحتاج إلى مجلدات، فمن أنت يا صعلوك! يا ضال! يا مضل؟! من أنت حتى تستدرك على الإمام النووي عليه رحمة الله، فيما يتعلق بأمر الاعتقاد؟ فأهل التحقيق والمنهجية في هذا العصر، يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، وأنا أقول لهذا الصعلوك ولأمثاله من السفهاء الذين يثيرون الشغب في هذه الأيام، على موضوع التبرك الذي ذكره الإمام النووي عليه رحمة الله، وذكره ابن حجر ، والذهبي ، غيرهم: أتحداكم أن تثبتوا تحريم هذا الأمر من كتاب أو سنة، أو فعل الصحابة، أو أقوال الأئمة الأربعة، لكن لا تأتينا باجتهادات من عندك، وتقول: هذا يدل على كذا، وهذا يدل على كذا، فلا يمكن أن نتبعك إلا إذا تركنا عقلنا وديننا فقط، فإذا كان عندك حجة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وأقوال الأئمة الأربعة فعلى العين والرأس، وما سوى ذلك فلا، فإذا لم يكن الإمام النووي سلفياً فلا سلفي على وجه الأرض، وينبغي أن نعرف قدرنا ولا نتطاول على علمائنا.
وأنا أعجب غاية العجب! في هذا الوقت الذي هو ظلمات بعضها فوق بعض، فعندما يتكلم إنسان على معاصر، يحصل ما يحصل! لكن إذا نشرت كتب في تسفيه آراء أئمتنا فلا يتمعر وجه أحدٍ من المعاصرين.
فإذا كنت تغضب لبعض المعاصرين، فمن باب أولى أن تغضب لأئمتنا السابقين. وقال بعض السفهاء ممن يشابهون هذا: إن مذهب الإمام أحمد أقرب إلى السنة من مذاهب الأئمة الأربعة في الأصول وفي الفروع، فانظر كيف أفسدوا في دين الله، ما لم يفسده الشيطان، وباسم الكتاب والسنة، فهذه هي السفاهة التي ليس بعدها سفاهة، وهذا ما تعيشه الأمة الإسلامية في هذه الأيام.
فاستمع لهذا الخلل الذي يشير إليه هذا الصحابي، وكأنه ينظر إلى ما سيقع، ولا غرو في ذلك فهو الذي صحب النبي عليه الصلاة والسلام، ويعلم ما سيقع في هذه الأمة في مستقبل الأيام، أما إنكم ستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع، والتنطع، التعمق، وعليكم بالعتيق وهو ما كان عليه سلفكم.
ومن ذلك صلاة التراويح فـأبو حنيفة ، والشافعي ، والإمام أحمد عليهم رحمة الله ورضوانه، يقررون أن السنة في صلاة التراويح أن يوتروا آخر ركعة بثلاث بناءً على فعل الخليفة الراشد المهدي عمر بن الخطاب ، الذي أمرنا بالاقتداء بسنته واتباع هديه، فيأتي سفهاء في هذه الأيام، يقولون: هذا بدعة، أوليس نحن أمرنا باتباع الأمر العتيق؟ فالأمر العتيق الذي فعله ثاني الخلفاء الراشدين، وهو أول من صليت في عهده صلاة التراويح جماعة في المسجد، وأما في زمن النبي عليه الصلاة والسلام فصليت بعض الليالي ثم تركت، ولم تصل في عهد أبي بكر جماعة حتى قبض، وفي خلافة عمر جمعت على عشرين ركعة؛ وهذا ثابت كما قلت: بالإسناد الصحيح، وأما الإمام مالك فزاد: ست وثلاثين ويشير بخمس من أجل أن يدركوا فضيلة أهل مكة؛ لأنهم كانوا كل بين أربع ركعات يطوفون سبعة أشواط، ولا يوجد طواف في المدينة المنورة، فإذاً نضاعف العدد، فهم يصلون عشرين ويوترون بثلاث، فنحن نجعل الثلاث واحدة وأربعين ركعة، بدل الطواف الذي يحصل منهم، هذا الآن أيضاً منقول عن هذا الإمام الرابع، وكل هذه أقوال عن الأئمة.
وقد ألف الشيخ عطية محمد سالم كتاباً في صلاة التراويح، وأثبت فيه أن صلاة التراويح عشرون ركعة، وصلت في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام منذ أن صلي فيه إلى زماننا، وقال: هذا المسجد منذ أن صليت فيه هذه الصلاة عشرون ركعة، وتتبع حتماً حوادث التاريخ في ذلك، وأثبت هذا، وكنت ذكرت في بعض الدروس السابقة عن شيخ الإسلام الشيخ عبد الرحيم الأثري عندما صلى في المدينة المنورة إماماً للمسلمين صلاة التراويح، قلت: حافظ على الأمرين، كان في أول الليل يصلي عشرين، ويوتر بثلاث، اقتداء بسيدنا عمر رضي الله عنهم أجمعين، وعلى حسب قول الجمهور، ثم يقوم في وسط الليل فيكمل فيصلي ست عشرة ركعة ويوتر بخمس كما يرى أهل المدينة.
إخوتي الكرام! فهذا الأمر لا بد من وعيه، فهذا أكبر خطر على الأمة، ألا وهو من يدعوك إلى كتاب الله وقد نبذ الكتاب وراء ظهره، أو يدعوك إلى السنة وقد نبذ السنة وراء ظهره، أو يدعوك إلى السلفية وقد نبذ السلفية وراء ظهره.
يقول هذا العبد الصالح كما في كتاب العلل للإمام المبجل أحمد بن حنبل عليهم جميعاً رحمة الله، في الجزء الأول صفحة ثمان وستين ومائتين، والأثر ذكره الإمام ابن الجوزي في صفة الصفوة في الجزء الأول صفحة ثماني عشرة وأربعمائة، عن صالح بن شهاب البجلي رضي الله عنه قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين: إن الرجل ليخرج من البيت ومعه دينه، والإيمان في قلبه، فلا يعود إلا وقد ضيع دينه بالمداهنة والنفاق، يقول: فيلقى الرجل له إليه حاجة، فيقول: إن فيك كذا وفيك كذا من الخصال الكريمة فيثني عليه بما ليس فيه، وقد لا يحصل له من حاجته شيئاً فيرجع بسخط الله عليه.
وخلاصة القول: أن أول ما حصل التغير في القلوب، وقد يغير الإنسان ثم يدعي أنه على القرآن، وقد نبذ القرآن وراء ظهره، أو تغير آخر من مداهنة ونفاق، وهذه حقيقة عن تأمل حال الأمة في هذه الأيام.
وهنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو أن المداهنة ليست كالمدارة، فالمدارة أن تتلطف في كلامك كيلا تدخل مع الناس في مشاكل؛ لكن دون أن تثني عليهم، وأن تضع الحكمة في موضعها في المكان الذي يأخذها، وأن ترفق بالإنسان في التعليم والتوجيه، وأن تتحين الفرصة المناسبة لنصحه، دون أن تثني عليه، فهذه المداراة.
ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرس بأنيابٍ ويوطأ بمنسم
لكن المداهنة باطلة، وللأسف أننا نجد هذا في طلبة العلم، فإذا أثنيت عليه أثنى عليك وإذا مدحته مدحك، وإذا كنت من جماعته جعلك من الصديقين، وإذا انحرفت جعلك من الشياطين، فيا عبد الله! رفقاً بنفسك، فأنت من أيام كنت تقول عن فلان أنه ناصر السنة، وأنه الشيخ السلفي والموحد وتقبل رأسه، وبين عشية وضحاها صار ضالاً يشتم في بيوت الله، فاتق الله في نفسك، فأنت ما مدحت لله، ولا قدحت لله، وأنت صاحب وزر في الحالتين، فلا تكن ممن يقبل الحق إذا وافق هواه، ويرده إذا خالف هواه، فإنك تعاقب في الحالتين، فإذا كان على الخير، وعلى الحق، أثنيت عليه؛ لكن إذا قدحت فيه من أجل هواك فلست مثاباً عليه، ولا القدح تثاب عليه، وهذه أحوالنا، فنسأل الله أن يحسن ختامنا.
ووردت نصوص تشير إلى منزلته، وآيات نزلت فيه.
ويقصدون بالجرأة يعني: سيكلموننا ويرون أنفسهم في منزلتنا وأننا لا نفضلهم، فكأنهم يرون أن هؤلاء إذا جلسوا معهم فيشعر أن هؤلاء بمنزلة أولئك، قال سعد : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل، وبلال ، ورجلان لست أسميهما، يعني لا يذكر أسماءهما، يقول: فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله جل وعلا: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الكهف:28] وأنزل جل وعلا هذه الآية والآية الأخرى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52].
إذاً: هنا عبد الله بن مسعود ذكر؛ لكن عندنا رجل من هذيل، ورجلان ما عرفنا أيضاً أسماءهما، ورد التصريح بأسماء الستة في سنن ابن ماجه ، يقول سعد : فيَّ نزلت هذه الآية، وفي عبد الله بن مسعود ، وصهيب ، وعمار ، والمقداد ، وبلال ، هؤلاء الستة رضي الله عنهم وأرضاهم، إذاً: فهذه شهادة من الله؛ بأنه يريد وجه الله، وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52]، وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28].
وتقدم معنا عند أول المبحث أن علام الغيوب شهد بطهارة القلوب في الصحابة: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:18] وليس بعد تعديل الله تعديل، فهو الذي يعلم السر وأخفى سبحانه وتعالى.
والآية نازلة في بيان عذر السابقين، وإقامة الحجة على اللاحقين، وهي تتحدث عن شرب الخمر، وكان شرب الخمر مباحاً في أول الأمر بناءً على الإباحة الأصلية لا بوجود نص يدل على الإباحة، إنما الإباحة الأصلية، فالناس يشربون الخمر؛ لكن عالج الله هذه القضية على مراحل، فعابها من وراء ستار في سورة النحل وهي مكية، وفي العصر المكي يعرض الله بتحريم الخمر: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67]، فالرزق وصف بالحسن، وهو ما يحصل من ثمرات النخيل والأعناب، من التمر، والزبيب، الدهن الذي يعصر من التمر، والزبيب ينتفع به الناس، فهذا رزق حسن، أما الخمر فما أثنى عليه، فأنت إذا ذكرت اثنين وأثنيت على واحد، وسكت عن الآخر، يدل على أن هذا فيه شيء، فبذلك ثبت في تفسير الطبري ، عن مجاهد قال: هذه الآية أول ما عيبت الخمر، يعني: أول ذم للخمر هي هذه الآية: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67]، وقال عمر رضي الله عنه: بين لنا في الخمر بيان الشفاء، نزلت آية البقرة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]، إذاً فيها خير وفيها شر، وفيها نفع وفيها ضر؛ لكن الضر كان أكثر، ولا يخلو شيء دائماً من نفع وضر؛ لكن أنت إذا زاد الغرم على الغنم ينبغي أن تتركه إذا كنت عاقلاً، ثم بعد ذلك آية في النساء، عندما حرم عليهم أن يقربوا الصلاة وهم سكارى، ثم آية التحريم القطعي النهائي في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]... إلى آخر الآيات الكريمات، سيأتي مبحث هذا إن شاء الله ضمن كتاب الأشربة من سنن الترمذي بعون الله، إنما بعد هذه الآية لما نزلت وفيها التحريم القطعي للخمر، قال الصحابة الكرام: كيف بمن مضى وقد كانوا يشربون الخمر وهي محرمة، فما حكمهم عند الله؟ فنزلت هذه الآية فعذرت به الماضين لإقامة الحجة على اللاحقين: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [المائدة:93] وتناولوه من شرب الخمر، إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93]، ولذلك من اتقى وآمن وأصلح، وأحسن العمل ولم يشرب الخمر بعد أن حرمها ربنا عز وجل، فما صدر منه يعفى عنه بفضل الله عز وجل.
فنبينا عليه الصلاة والسلام يقول لـعبد الله بن مسعود : ( قيل لي أنت منهم ) ولك العذر، وأنت صاحب إيمانٍ وإحسانٍ، وتقى للرحمن لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [المائدة:93] إلى آخر الآية، وشهادة عظيمة من ربنا لهذا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام.
إخوتي الكرام! فيما يتعلق بأمر الخلافة يأتينا البحث عليها فيما يتعلق بها هل حصل نص من النبي عليه الصلاة والسلام، على تعيينه خليفة بعده أم لا؟ لأهل السنة في ذلك قولان:
القول الأول: نص نصاً جلياً على تعيين أبي بكر ، وقد رمز لهم باختياره، ولما علم أن الله قد قدر ذلك، وأن الأمة لن تختار غير أبي بكر فترك العهد له عن طريق الكتابة: ( يأبى الله والمؤمنون إلا
وتقدم معنا قوله: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء، ثم قال: وقد رأى المسلمون أن يختاروا أبا بكر خليفة لهم بعد النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا حسن.
وتقدم معنا أن أمر الله القدري إذا وقع على أيدي عباده الصالحين يوافق أمره الشرعي، فكأن الله أمرنا باختيار أبي بكر خليفة لهذه الأمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام.
إذاً: تمسكوا بعهده وصدقوه في قوله فيما يتعلق بأمر الخلافة، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول في هذا الحديث: أنا لن أعين خليفة على سيبل التحديد؛ لكن افهموا من كلامي أنني أرشح خليفة، ورشحت لكم صحابيين، فصدقوهما في قولهما، وخذوا بعهدهما، عبد الله بن مسعود ، وحذيفة ، فـعبد الله بن مسعود هو الذي قال: لا نؤخر من قدمه رسول الله عليه الصلاة والسلام، ألا نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله عليه الصلاة والسلام لديننا، وهذه المقولة قالها بعده علي لما بويع أبو بكر ؛ لكن عبد الله بن مسعود قررها بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، وهم يبحثون عن خليفة، قال: لا نؤخر من قدمه رسول الله عليه الصلاة والسلام وعلي رضي الله عنه بعد أن بويع أبو بكر رضي الله عنهم أجمعين قال: رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا ألا نرضاك لدنيانا.
ولذلك يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في الفوائد في ترجمة أبي بكر وبيان فضله ومناقبه رضي الله عنه، ويختم ترجمته عند فائدة حال أبي بكر ، فيقول: والله ما أحببناه لهوانا، ولا نقول في غيره هوانا، بل أخذنا بقول علي : رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا، فما أحببناه لهوانا، من الهوى ولا نقول في غيره هوانا، أي: نقصاً ومذمة، فالصحابة كلهم على العين والرأس، وهم أولياء الله وأحبابه؛ فـعلي رضي الله عنه الذي أنتم تزعمون أنه أولى بالخلافة من أبي بكر ، فاسمعوا إلى قوله: رضيك رسول الله عليه الصلاة والسلام لديننا، أفلا نرضاك لدنيانا، وكذا قول عبد الله بن مسعود : لا نؤخر من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما حذيفة رضي الله عنه، وأمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نصدقه بما حدثنا به، وإنه قد أسر نبينا عليه الصلاة والسلام إلى حذيفة أحداث الفتن، وما يتعلق بالمنافقين، وكثير من هذا لم يقله النبي عليه الصلاة والسلام لغير حذيفة ، وحذيفة رضي الله عنه يستحيل قطعاً أن يختار خليفة بعد النبي عليه الصلاة والسلام إلا من أشار النبي عليه الصلاة والسلام إلى استخلافه وتعيينه، فهو أعلم الناس -كما قلت- بسره بما يتعلق بالحوادث والفتن، وما سيقع في مستقبل الزمن، فعند حذيفة إشارة من النبي عليه الصلاة والسلام على تقديم أبي بكر ، وعند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إشارة.
وحذيفة وعبد الله بن مسعود كلاهما راو لحديث: ( اقتدوا باللذين من بعدي:
فـأبو بكر ، وعمر رضي الله عنهم أجمعين سيروي أمر الاقتداء بهما صحابيان أمرنا بتصديقهما والتمسك بعهدهما، حذيفة ، وعبد الله بن مسعود ، فإذا كنا نؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام فينبغي أن نصدق عبد الله بن مسعود فيما رواه: ( اقتدوا باللذين من بعدي:
وقد كنت مرة مع بعض الناس، وما نبت في وجهه شعر فجاء إلي وفي وجهه الشر يتطاير، فذكرت هذا الحديث: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) وقلت: هذا نص على الخلفاء الراشدين الأربعة، وأولهم أبو بكر رضي الله عنه، وأمرنا بالاقتداء به واتباعه، قال: ما الدليل على أن أبا بكر خليفة راشد؟ قلت: هذا الحديث، قال: مثل هذا الحديث لا يدل على ذلك، قلت: أنت تريد دليلاً على أن أبا بكر خليفة راشد؟ قال: نعم، قلت: والله لا دليل لك إلا السيف، وقلت له: الخلفاء الذين سيأتون بعد النبي عليه الصلاة والسلام، من أبي بكر إلى آخر مسؤول في هذه الدنيا، أفيهم خليفة راشد أم لا؟ قال: لا أدري.
النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )، ولا يوجد خلفاء راشدون بعده، فلا بد أن هناك خليفة راشد، ونحن أجمعنا على أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها رسول الله عليه الصلاة والسلام أبو بكر رضي الله عنه، فيتعين أن يكون أبو بكر خليفة راشداً، ولو لم يرد هذا الحديث وغيره تعين، ما دام في هذه الأمة يوجد خليفة راشد، وأبو بكر خليفة، وهو أول خليفة بعد نبينا قطعاً وجزماً فيستحيل أن يثبت هذا بغير أبي بكر .
قال: أبداً أريد دليلاً على أنه خليفة؟ يريد دليلاً على أن أبا بكر خليفة راشد رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الحديث؟ يقول: هذا الحديث لا ينطبق على ذلك، وآخر يقول: ضعيف.
( اقتدوا باللذين من بعدي ) ألا يلزم أن يكون أبو بكر وعمر ، راشدين ونكون نحن مأمورون بالاقتداء بهم.
رضي الله عن الإمام الشافعي ، كما في السنن الكبرى للإمام البيهقي وغيره، عندما جلس في فناء زمزم في حجته التي حج فيها، قال: سلوني، لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم عنه من كتاب الله، وسنة رسولنا عليه الصلاة والسلام، هاتوا؟ أي مسألة آتيكم عليها بقرآن وسنة، وقام بعض المتنطعين من طلبة العلم مثل هؤلاء، فأجاب عليه قال: ما تقول في الزنبور يقتله المحرم؟ وهو هذا الذي يطير أكبر من النحلة، هل يجوز المحرم أن يقتله أم لا؟ هات آية وحديثاً عليه، على أنه يجوز أو لا يجوز؟ واستدل على ما تقول من الكتاب والسنة، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( اقتدوا باللذين من بعد
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليلِ
وروي من طريق عاصم بن ضمرة عن علي أيضاً، وقد حكم الحافظ في التقريب على عاصم بأنه صدوق، توفي سنة أربعٍ وسبعين للهجرة، وذاك في سنة خمس وستين، وكلاً منهما حديثه في السنن الأربع.
ولفظ الحديث عند الترمذي : (لو كنت مؤمراً أحداً من غير مشورة منهم لأمرت
نكتفي بما سبق، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر