الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! انتهينا من مدارسة الباب الثالث عشر من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وبقي علينا فقط ترجمة راوي حديث الباب، ألا وهو السيد الجليل الصحابي الفاضل المبارك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا الرجل المبارك له منزلة عظيمة عند الله، ويحبه رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومات نبينا عليه صلوات الله وسلامه وهو عنه راض، فسأقرر هذين الأمرين لبيان منزلته عند الله على وجه الإيجاز، ثم أتبع ذلك ببيان حب نبينا عليه الصلاة والسلام ورضاه عن هذا العبد الصالح عبد الله بن مسعود وعن الصحابة أجمعين، ثم أنتقل إلى تسطير الكلام على ترجمته المباركة ضمن ثلاثة أمور:
أولها: فيما يتعلق بنسبه ونشأته وصلته بنبينا صلى الله عليه وسلم.
وثانيها: في منزلته العلمية ومكانته.
وثالث الأمور: في بيان شيء من أقواله وحكمته لنسترشد بأقواله المباركة الطيبة النافعة.
إخوتي الكرام! أما منزلته عند الله فهي عظيمة، وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا بعبارة موجزة بليغة، فأخبرنا أن رجل عبد الله بن مسعود عند ربنا المعبود أثقل في الميزان من جبل أحد، فكم لهذا الصحابي من وزن كبير عظيم، مع أنه سيأتينا في ترجمته رضي الله عنه وأرضاه أنه كان قصيراً ونحيفاً بحيث لو مشى والصحابة جلوس ربما زاد بعضهم طولاً على طوله! ومع ذلك فهذه الرجل النحيفة الصغيرة لها هذا المقدار عند العزيز القهار سبحانه وتعالى.
ثبت في مسند أبي يعلى ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه أبو نعيم في حلية الأولياء، وابن سعد في الطبقات، ورواه الإمام الفسوي في المعرفة والتاريخ، وإسناد الحديث حسن نص على ذلك الهيثمي في المجمع، والحافظ ابن حجر في الإصابة من رواية سيدنا علي أمير المؤمنين رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود فصعد شجرة، وسيأتينا في بيان ماهية هذه الشجرة ونوعها، وأنها شجر الأراك ليجني هذا الصحابي من ثمرها لنبينا صلى الله عليه وسلم، فلما صعد الشجرة بدت ساقاه، وظهرت نحافة جسمه، فضحك الصحابة الكرام رضوان الله عنهم أجمعين من حموشة ساقيه، أي: من دقتهما ونحافتهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تضحكون؟! لرجل
وهذا الحديث صحيح، وقد روي من غير طريق أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، فرواه معاوية بن قرة عن أبيه، وهو قرة بن إياس ، وهو من الصحابة الكرام الأسياد رضوان الله عنهم أجمعين، وقد توفي قرة بن إياس سنة أربع وستين من هجرة نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، وهو جد إياس بن معاوية القاضي المشهور الذي يضرب بذكائه المثل.
إذاً: عن معاوية بن قرة ، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة الكرام عندما ضحكوا من حموشة ساقي عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، قال في هذه الرواية: (لهما)، وهناك: (لرجل)، (لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد).
والحديث من رواية معاوية بن قرة عن أبيه رواه الحاكم في المستدرك في الجزء الثاني في صفحة سبع عشرة وثلاثمائة، وقد صحح الإمام الحاكم الحديث وأقره عليه الإمام الذهبي ، ورواه أيضاً البزار والطبراني في معجمه الكبير كما في المجمع في الجزء التاسع صفحة تسع وثمانين ومائتين، ورواه أيضاً الإمام يعقوب الفسوي في كتابه المعرفة والتاريخ.
وروي الحديث أيضاً من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، هو ينقل هذا الكلام عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وأنه قيل فيه: قال: (كنت أجتني للنبي صلى الله عليه وسلم من ثمر الأراك، فضحك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين من حموشة ساقيه)، من نحافتهما وضعفهما كما تقدم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لساقا
هذه منزلة هذا العبد الصالح عند الله جل وعلا، رجله أثقل من جبل أحد، ويستحق هذه المنزلة كما سيأتينا في ترجمته ومكانته، وسيرته العطرة المباركة رضي الله عنه وأرضاه.
إخوتي الكرام! تقدم معنا سابقاً ضمن مباحث الحديث أن الذي يوزن عند الله جل وعلا ثلاثة أمور: الأعمال، وصحف الأعمال، والعمال، الأعمال وإن كانت أعراضاً يزنها الله ويجسدها بكيفية يعلمها ولا نعلمها، وتقدم معنا مراراً أن أمور الغيب لا ندخل عقولنا فيها، نقرها ونمرها ونفوض العلم بكيفيتها إلى الله جل وعلا، كما هو الحال في إيماننا بصفات ربنا وبسائر المغيبات التي لا يقف عليها حسنا، وهنا الأعمال توزن، يعني: الصلاة توزن والصوم يوزن والتسبيح يوزن، وقلنا: هذا ثابت عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه في أحاديث كثيرة، منها: ما في المسند والصحيحين وسنن الترمذي وابن ماجه ، وقلت: إن هذا الحديث هو آخر حديث في صحيح البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).
الشاهد: (ثقيلتان في الميزان)، أي: لهما وزن كبير، وتقدم معنا عند مبحث الطهارة ومنزلتها ومكانتها حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، وقلت: إنه في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والسنن الأربع إلا سنن أبي داود ، ورواه الإمام الدارمي أيضاً، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض)، إلى آخر الحديث.
إذاً: الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ثقيلتان في الميزان، فالأعمال توزن بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، كما توزن صحف الأعمال، وتقدم معنا حديث البطاقة من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقلت: إن الحديث صحيح ثابت كالشمس وضوحاً في المسند وسنن الترمذي وابن ماجه ومستدرك الحاكم ، والحديث رواه عبد بن حميد في مسنده، ولفظه كما تقدم معنا عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: (يصاح برجل من أمتي يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً من الخطايا كل سجل كمد البصر، فيقال له: أتنكر هذا؟ فيقول: لا رب! فيقول الله له: أظلمتك الملائكة وكتبت عليك ما لم تعمل؟ فيقول: لا رب! هذا عملته وأنا معترف به، فيقول الله له: أعندك حسنة؟ فيحتقر الإنسان نفسه وعمله فيقول: لا رب! ويرى نفسه أنه قد هلك، فيقول الله له: بلى إن لك عندنا حسنة ولن تظلم، فيخرج الله له بطاقة)، والبطاقة أصغر من حجم الكف، كبطاقة التعريف التي تكتب على الثوب لبيان سعره ونمرته، كم نمرة؟ وكم سعر؟ بطاقة صغيرة للتعريف، فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، (فيقول: رب! وما تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات تسعاً وتسعين، وكل واحد كمد البصر؟ فيقول الله له: احضر وزنك ولن تظلم)، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، ثم قال وهنا الشاهد: (فتوضع البطاقة في الكفة، والسجلات في الكفة الأخرى، فتطيش السجلات وتتلاشى ولا يثقل شيء مع اسم الله جل وعلا).
فالذي وزن هنا صحف الأعمال، ويوزن العمال ومنه هذا الحديث الذي معنا: (رجل
إخوتي الكرام! المرء بأصغريه: بقلبه، ولسانه، وهذا العبد الصالح عنده جنان طاهر، ولسان ذكي فاضل، فينبغي أن يثقل وزنه عند الله القاهر سبحانه وتعالى، وأما ما عدا هذا فما بقي إلا لحم ودم، وتستوي فيهما مع الحيوانات البهيمية، لكن أنت فضلك الله بلسانك الذي يعبر عما في جنانك وبالجنان الطاهر، ولا يوجد شيء أطيب منهما إذا طابا، كما أنه لا يوجد شيء أخبث منهما إذا خبثا، أخبث ما في الإنسان إذا خبث قلبه ولسانه، واللسان ترجمان القلب، وأطيب ما في الإنسان إذا طاب قلبه ولسانه، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله، (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، فلا عبرة بعد ذلك بالصورة الظاهرة، ولا وزن لها ولا اعتبار عند العزيز القهار سبحانه وتعالى.
فهذه هي منزلة هذا الصحابي، وهذا هو ابن مسعود عند الله يوم القيامة، رجله أثقل من جبل أحد ليست كجبل أحد، بل أثقل، وهذا كما قال الله: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:20-21]، فهذا الذي ستثقل موازينه نسأل الله أن يثقل موازيننا بفضله ورحمته، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إذاً: هذا هو العبد الصالح الذي سنتدارس ترجمته المباركة، وسيرته العطرة الفاضلة، هذا له وزن كبير عند الله، فينبغي أن نتعرف على خبره.
أما محبة نبينا عليه الصلاة والسلام رضي الله عنه له، فقد ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد بسند رجاله رجال الصحيح من طرق متعددة كما في المجمع في الجزء التاسع صفحة تسعين ومائتين صفحة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، فأورد الإمام الهيثمي هذا الحديث من طرق في ترجمة عبد الله بن مسعود ، كما أورده في ترجمة عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين.
قال الحسن البصري عليهم جميعاً رحمة الله: قال رجل أي من التابعين لـعمرو بن العاص : أرأيت رجلاً مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبه، أليس رجلاً صالحاً؟ قال: بلى. وهذا السائل يريد بالمحبوب والرجل الصالح عمرو بن العاص رضي الله عنهما. قال: بلى. فقال هذا السائل لـعمرو بن العاص : قد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحبك. فأبشر إذاً فأنت من الصالحين، دلل على محبته كما سيأتينا بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يستعمل عمرو بن العاص أميراً على الغزوات والسرايا التي يذهب فيها، ولا يستعمل إلا من كان محبوباً مقرباً، فانظر لـعمرو بن العاص ، ولاحتقاره لنفسه، ولوضع الأمر في موضعه رضي الله عنه وأرضاه.
قال عمرو بن العاص : أجل قد استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن والله ما أدري استعملني حباً لي، أي: أنه يحبني فاستعملني، أو استعانة بي؛ لأن عندي حنكة وذكاء ودهاء رضي الله عنه وأرضاه.
وفي بعض الروايات في المسند: أو تألفاً يتألفني. يقول: أنا ما عندي بينة، ولا أعرف هل استعملني النبي عليه الصلاة والسلام لأنه يحبني؟ أو استعملني من أجل أن يستعين بما عندي من ذكاء؟ أو يتألفني عليه صلوات الله وسلامه؟ وعليه لا تستدل باستعمال النبي عليه الصلاة والسلام لي على ما استنبطت منه، ولكن أشهد على رجلين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبهما وماتا وهو عنهما راض، أما أنا فليس فيّ تصريح بذلك، فقيل له: منهما؟ قال: عبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين.
وفي بعض روايات المسند: ابن أم عبد وابن سمية رضي الله عنهم أجمعين.أي: عمار بن ياسر الذي أمه سمية ، وعبد الله بن مسعود الذي ينسب كما سيأتينا، فيقال: ابن أم عبد رضي الله عنهم أجمعين.
فهذه مقدمة لترجمة هذا العبد الصالح في بيان منزلته عند الله، وفي بيان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم له ورضاه عنه.
وأما الترجمة التفصيلية فتدور على ثلاثة أمور:
نسبه، ونشأته، وعلمه ومنزلته، ونذكر بعد ذلك طرفاً ونبذة من أقواله وحكمته نستضيء بها ونسترشد بها في حياتنا رضي الله عنه وأرضاه.
قال الإمام الذهبي في ترجمته في السير في الجزء الأول صفحة واحد وستين وأربعمائة: هو الإمام الحبر فقيه الأمة من السابقين ومن النجباء العاملين، كان معدوداً في أذكياء العلماء، ونبلاء الفقهاء، وسادة القراء، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
أسلم قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإسلام عمر كان بعد أن سبقه تسعة وثلاثون، وهو المسلم الأربعون، رضي الله عنهم أجمعين.
أسلم قبل عمر ، وقبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم ، كما ثبت ذلك في مستدرك الحاكم في الجزء الثالث صفحة اثنتي عشرة وثلاثمائة، وقد شهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه جميع المشاهد مع نبينا صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً والخندق وما بعدها، ولم يتخلف عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم أكمل بالهجرة الثالثة إلى المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه.
وكان صاحب سر رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا يزاحمه في ذلك أحد، وأما حذيفة فكان صاحب سر رسول الله عليه الصلاة والسلام في أمر خاص وهو في المنافقين فقط، أما هذا فهو أمين السر في كل شيء، وكان صاحب سواكه، سواك النبي عليه صلوات الله وسلامه يحمله عبد الله بن مسعود ويتبرك به، وكان صاحب سِواده، وسُوادُه بضم السين المهملة وكسرها وهو السرار، أي: النجوى والحديث السري الذي لا يطلع عليه أحد، وكان صاحب نعله وطهوره، يحمل نعل النبي عليه الصلاة والسلام كما يأتينا، وكان يتزين بهما إذا جلس نبينا عليه الصلاة والسلام فيجعل نعليه في ذراعيه، فإذا قام النبي عليه الصلاة والسلام قدم له النعلين، ونزعهما من ذراعيه رضي الله عنه وأرضاه.
ويحمل العصا للنبي عليه الصلاة والسلام كما سيأتينا، فإذا جلس النبي عليه الصلاة والسلام أعطاه العصا ليتوكأ عليها، فإذا قام النبي عليه الصلاة والسلام وضع له النعلين وأخذ منه العصا حتى إذا لبس النعلين قدم له العصا، وكان يمشي بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام من أجل أن يهيئ له المكان، فإذا أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يدخل الحجرة يسبقه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.
هذه مكانته وهذه حالته مع نبينا عليه الصلاة والسلام، ولذلك سيأتينا أنه كان أشبه الصحابة سمتاً ودلاً وهدياً بنبينا عليه صلوات الله وسلامه، فانطبقت صورة النبي عليه الصلاة والسلام في هذا العبد الصالح عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وهذه الأخبار التي ذكرتها ستأتينا الأدلة عليها مخرجة منسوبة إلى أصحابها من أهل الكتب المصنفة بإذن الله وعونه وتوفيقه.
زففي كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري وبوب عليه باب التكنية قبل أن يولد الولد، قال علقمة وهو أوثق الناس بـعبد الله بن مسعود كما سيأتينا، وتقدم معنا أنه أشبه الناس أيضاً بـعبد الله بن مسعود ، كما أن عبد الله بن مسعود هو أشبه الناس بنبينا عليه الصلاة والسلام، قال علقمة رضي الله عنه: كناني عبد الله ، يعني: عبد الله بن مسعود قبل أن يولد لي، كناني أبا شبل ، والشبل هو ولد الأسد.
روى ابن سعد في الطبقات الكبرى في الجزء الثالث صفحة واحد وخمسين ومائة عن يزيد بن رومان ، وهو من التابعين الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ثقة، حديثه مخرج في الكتب الستة، توفي سنة ثلاثين ومائة للهجرة، قال يزيد بن رومان : أسلم عبد الله بن مسعود قبل أن يدخل النبي عليه الصلاة والسلام دار الأرقم، ودار الأرقم لها شأن في الإسلام، ولذلك يقال لها: دار الإسلام؛ لأنه أسس الإسلام فيها، وكان نبينا عليه صلوات الله وسلامه يجتمع بأصحابه في بدء دعوته بعد أن أسلم الأرقم في دار الأرقم؛ لأنها دار واسعة يجلسون فيها ويتدارسون الإسلام، والأرقم بن أبي الأرقم كان سابع سبعة، يعني: أسلم بعد عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، فنال عبد الله بن مسعود هذا الشرف؛ لأن من أسلم قبل دخول النبي عليه الصلاة والسلام دار الأرقم لهم منزلة على من أسلموا بعد دخول الدار، ومن أسلموا وهم في دار الأرقم لهم منزلة على الذين أسلموا بعد ذلك؛ لأن هذا يحتاج إلى تضحيات وتحمل بليات، ومخالفة أهل الأرض قاطبة، وهؤلاء الذين كانوا دون الأربعين لهم شأن عظيم في الإسلام، ولذلك كان عثمان بن الأرقم يفتخر ويقول: أنا ابن سبع الإسلام، فإذا قيل له: أنت ابن من؟ فيقول: عثمان بن الأرقم ، فيقول: أنا عثمان ابن سبع الإسلام ، والدي سابع من أسلم، فلنا شأن في دين الله جل وعلا وعند المسلمين، ودارنا هي دار الإسلام.
وقيل: إن الأرقم أسلم بعد عشرة، وقيل: إنه ثاني عشر من أسلم، لكن الذي ورد في المستدرك في الجزء الأول صفحة ثلاث وخمسمائة من الجزء الأول في المستدرك أن الأرقم بن أبي الأرقم سابع من أسلم، قال الحافظ في الإصابة: وقيل: بعد عشرة، قال الإمام ابن الجزري في أسد الغابة: وقيل: هو ثاني عشر من أسلم، والمعتمد الأول، أي: أسلم بعد عبد الله بن مسعود ، ثم دخل الصحابة بعد ذلك دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنهم أجمعين، فلما اكتملوا أربعين خرجوا يجهرون بدين رب العالمين.
فـعبد الله بن مسعود إذاً من السابقين إلى الإسلام، وهو سادس من أسلم.
وقد ثبت في المستدرك في الجزء الثالث صفحة ثلاثة عشرة وثلاثمائة، والحديث صححه الحاكم وأقره عليه الذهبي ، ورواه أبو نعيم في الحلية في الجزء الأول صفحة ست وعشرين ومائة ورواه الطبراني في معجمه الأوسط والبزار ، وإسناده صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لقد رأيتني سادس ستة ما على وجه الأرض مسلم غيرنا، لقد رأيتني سادس ستة، أي: رأيت نفسي وأنا متأكد من هذا، أنني سادس من أسلم ولا يوجد على ظهر الأرض مسلم غيرنا، وهذه مفخرة ما بعدها مفخرة، فدين الله جل وعلا كان في ستة أشخاص، والبشرية من أولها إلى آخرها على ضلال وردى.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لـ
قال: (اقلص)، أمر أن يعود الضرع إلى ما كان، فقلص، فـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما رأى هذه المعجزة العظيمة التي تأخذ بعقل الرجال، جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (علمني مما علمك الله)، يعني: علمني حتى إذا أردت أن أحلب الجذعة قلت ما علمتني؟ فمسح النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (إنك غلام معلم)، وفي رواية: (إنك غُليم معلم)، وكلام نبينا عليه الصلاة والسلام لا يتخلف، والمعنى أنت ستكون صاحب علم، والله جل وعلا سيفتح عليك، وفيك إن شاء الله خير، أنت غلام معلم، سيأتيك العلم والحكمة إن شاء الله.
قال عبد الله بن مسعود : فأخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة ما ينازعني فيها أحد. وأخذ عبد الله بن مسعود هذه السور من في النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة دون أن يتلقى هذا عن الصحابة؛ لأن أكثر الصحابة كانوا يتلقون قسماً من النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يتلقون بعد ذلك عمن تلقى عن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذه الرواية ثابتة في الصحيحين وسنن النسائي كما سيأتينا إن شاء الله في مكانته العلمية ومنزلته في الشريعة الإسلامية.
واستمع لتقرير ذلك وهنيئاً له، يعني: وهو غلام يافع غُليم يصاحب نبينا عليه الصلاة والسلام في الحضر والسفر، ويكرمه الله بسواكه وبعصاه وبنعليه، وهذه كرامة لها شأن، ولذلك إذا كانت رجله عند الله أثقل من جبل أحد فالأمر في موضعه رضي الله عنه وأرضاه.
واستمع لهذه الصلة الوثيقة القوية المحكمة: ثبت في الصحيحين وسنن الترمذي ، والحديث أورده الحاكم في المستدرك وهو في الصحيحين كما سمعتم من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: (قدمت أنا وأخي على النبي صلى الله عليه وسلم فمكثنا حيناً -وكان قدومنا من بلاد اليمن - فمكثنا حيناً ما نرى
قال أبو موسى : (من كثرة دخولهم وخروجهم على النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم ليسوا كذلك).
ولذلك كان أبو موسى الأشعري عندما يقال له: إن عبد الله بن مسعود لا يوجد من يعدله في العلم، وما خلف بعده مثله، يقول: لا تعجبوا، كان يشهد ما نغيب عنه، ويحضر ما لا يؤذن لنا في حضوره، وعليه إذا حصل تلك المنزلة وتلك العلوم، فلأنه كان يستأثره النبي عليه الصلاة والسلام، وله معه صحبة خاصة وصلة وثيقة.
ثبت في صحيح مسلم ، والحديث رواه يعقوب الفسوي في المعرفة والتاريخ، ورواه الحاكم في المستدرك، وأبو نعيم في الحلية من رواية أبي الأحوص ، وهو صحابي اسمه عوف بن مالك الأشجعي ، من مسلمة الفتح رضي الله عنهم وأرضاهم، توفي سنة ثلاث وسبعين من هجرة نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، قال: (كنا في دار
والأمر الثاني: أن النساء في الأصل في العصر الأول ما كان عندهن من التعري في البيوت كما عند بعض النساء في هذا الأيام، والأصل أن المرأة تلبس اللباس السابغ الطويل، إلا إذا كانت مع زوجها في فراشها، فكان عبد الله بن مسعود إذا أراد أن يدخل يرفع الستار ويدخل، فإذا قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ارجع يرجع)، كما سيأتينا، ولذلك يقول أبو موسى الأشعري : كان يشهد إذا غبنا، ويؤذن له إذا حجبنا.
وفي رواية: يقول أبو الأحوص : (شهدت
(فقال
وفي رواية في المستدرك: (كان يسمع حين لا نسمع، وكان يدخل حين لا ندخل).
إذاً: هذه منزلته مع نبينا عليه الصلاة والسلام وصلته به، ولذلك ورد في بعض الروايات عند يعقوب الفسوي في المعرفة والتاريخ في الجزء الثاني صفحة اثنتين وأربعين وخمسمائة، قال أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه: لقد رأيته وما أراه إلا عبداً لآل محمد عليه الصلاة والسلام، كنت أظنه من عبيد النبي عليه الصلاة والسلام، ومن الموالي والأرقاء عنده صلى الله عليه وسلم.
بلغ من مكانته عند نبينا عليه الصلاة والسلام أنه يدخل عليه من غير استئذان.
ثبت بذلك الحديث الصحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام.
ففي المسند وصحيح مسلم وسنن ابن ماجه وحلية الأولياء، والحديث رواه ابن سعد في الطبقات، والطحاوي في شرح مشكل الآثار في الجزء الأول صفحة أربع وخمسمائة، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال لـعبد الله بن مسعود : (يا
قال الحافظ في الفتح في الجزء السابع صفحة اثنتين وتسعين: هذه خصوصية لـعبد الله بن مسعود .
وقال الإمام النووي في شرح الحديث كما في صحيح مسلم ، قال: في هذا دليل لجواز اعتماد العلامة في الإذن بالدخول، يعني: أقول: علامتك أن ترفع الحجاب، وإذا ما أردت أن تدخل فسأقول لك: ابتعد فلا تدخل، فهذه علامة دون أن يستأذن ودون أن يسلم، يرفع ويدخل، ثم إذا قابل النبي عليه الصلاة والسلام سلم عليه وقبله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
وقال الإمام الطحاوي في شرح مشكل الآثار في المكان المشار إليه، قال: كان ذلك يغنيه عن الاستئذان، وفي ذلك دليل على جواز الاعتماد على العلامة والقرائن.
ولذلك كان عبد الله بن مسعود يتحدث بهذه النعمة التي من الله بها عليه:
ففي مسند الإمام أحمد في الجزء الأول صفحة خمس وثمانين وثلاثمائة، والأثر رواه يعقوب الفسوي في المعرفة والتاريخ في صفحة ست وثلاثين وخمسمائة في الجزء الثاني عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كنت لا أحجب عن النجوى ولا عن كذا وكذا، يدخل عليه ويصاحبه في جميع الأحوال، رضي الله عنه وأرضاه.
روى الإمام ابن سعد في الطبقات في الجزء الثالث صفحة ثلاث وخمسين ومائة عن القاسم بن عبد الرحمن ، قال: (كان
وهذه الحالة كانت تلازمه في الحضر وفي السفر، ففي طبقات ابن سعد من رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، قال: (كان
وفي رواية ابن سعد وحلية الأولياء لـأبي نعيم عن عبد الله بن شداد رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، قال: (كان
وهذه الآثار أصلها ثابت أيضاً في أصح الكتب بعد كتاب الله مع صحتها هي في نفسها، فاستمع لأصل هذه الروايات، ففي صحيح البخاري ، وانظروا الحديث في الجزء السابع صفحة اثنتين وتسعين بشرح الحافظ ابن حجر .
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وأبو نعيم في الحلية، ويعقوب الفسوي في المعرفة والتاريخ عن علقمة رضي الله عنه وأرضاه، وهو ألصق الناس بـعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، قال: قدمت الشام في رحلة علمية، شد رحله من الكوفة إلى الشام ليلقى أبا الدرداء وغيره من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، والسفر في تلك الأيام فيه من العناء والتعب ما لا يعلمه إلا الرحمن، قال: فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً لأستفيد منه، يقول علقمة رضي الله عنه: فأتيت قوماً فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء عليه الهيبة والوقار وهو أبو الدرداء كما سيأتينا حتى جلس إلى جنبه، وما خيب الله دعاءه، وأوصله إلى بغيته، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو الدرداء صاحب خاتم الأنبياء على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، فقلت: يا أبا الدرداء ! إني دعوت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً، فيسرك الله لي، فحدثني عما سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو الدرداء : من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: أو ليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلين والوسادة والمطهرة؟
وفي بعض الروايات أيضاً: (وهو صاحب السواك والوساد والسرار- أي: السر والنجوى- قلت: بلى)، يعني: عندنا ابن أم عبد ، وإنما قال له أبو الدرداء هذا كأنه يوبخه على ما جرى منه، يقول: تركت هذا الصحابي الذي كانت له تلك المنزلة عند النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ثم جئت إلي، فامتاز ابن مسعود بهذه الخصوصيات وصاحب النبي عليه الصلاة والسلام في خلوته وفي جلوته، في حضره وفي سفره، فاطلع من أحواله على مالم يطلع عليه غيره.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: أشار أبو الدرداء بهذا الكلام في حق عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين إلى أنه عنده من العلم ما يستغني طالبه عن غيره، فكأنه يقول: أنت قصرت وفرطت، إن من قصد البحر استقل السواقي، أنت تركت البحر وجئت إلى السواقي تستقي منها، سبحان ربي العظيم.
ثم قال الحافظ ابن حجر : وفي الحديث فائدة وهي: أن طالب العلم لا يرحل من مصره ومن بلده حتى يستوعب ما عند مشايخها، وإلا فيحتاج إلى هذا التوبيخ من قبل أبي الدرداء رضي الله وأرضاه، (أو ليس فيكم
وأخلص النية في طلبكا وجد وابدأ بعوالي مصركا
وما يهم ثم شد الرحلا لغيره ولا تساهل حملا
ثبت الحديث بذلك في طبقات ابن سعد والمعرفة والتاريخ للإمام الفسوي من رواية أبي المليح الهذلي ، وتقدم معنا في أول حديث من أحاديث سنن الترمذي ، وقلت: قيل: اسمه عامر . وقيل: زيد ، وقيل: زياد وهو ثقة من الثالثة، توفي سنة ثمان وتسعين، وقيل: سنة ثمان ومائة للهجرة وحديثه في الكتب الستة، ووالده صحابي، واسمه أسامة بن عمير الهذلي .
وقد تفرد أبو المليح في الرواية عن أسامة بن عمير الهذلي فلم يرو عن هذا الصحابي إلا ولده أبو المليح رضي الله عنهم أجمعين.
والرواية هنا من رواية أبي المليح الهذلي رضي الله عنه وأرضاه، قال: (كان
وعندنا الحديث الذي في باب الطهارة يشهد لذلك باب ما جاء في الاختصار في الاستنجاء بحجرين، وتقدم معنا الحديث، وقلت: إنه في صحيح البخاري ، وهو في المسند، وفي السنن الأربع إلا سنن أبي داود ، ورواه ابن خزيمة كما تقدم معنا، والبيهقي ، وابن حبان ، وابن أبي شيبة ، والدارقطني ، لما قال نبينا عليه الصلاة والسلام لـعبد الله بن مسعود : (التمس لي ثلاثة أحجار)، هذا صاحب الطهور، (فأتيته بحجرين وروثة، فردها وقال: إنها رجس).
إذاً: يوقظه إذا نام، ويستره إذا اغتسل، ويمشي معه في الأرض وحشاً منفرداً، أي صلة بعد هذه الصلة؟ هنيئاً له، والله إن الملائكة في السماء تتمنى لو كانت مكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه لهذه المكانة التي حصلها بصحبة نبينا عليه صلوات الله وسلامه، يمشي معه في الأرض وحشاً، منفردين خاليين، والواحد منا يتمنى أن يرى النبي عليه الصلاة والسلام في نومه لا في يقظته، فهذا الآن ليس في إمكاننا، فإذا حصل للإنسان رؤية للنبي عليه الصلاة والسلام في النوم يبقى سنة على أقل تقدير في لذة لا يعلمها إلا الله، فكيف بمن يمشي مع النبي عليه الصلاة والسلام وحشاً ليس معه أحد؟ هنيئاً له ورضي الله عنه وأرضاه.
فهو في الصورة والمعاملة والخلق كالنبي عليه صلوات الله وسلامه.
ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري ، والحديث رواه الإمام الترمذي والحاكم في المستدرك، وأبو نعيم في الحلية، وابن سعد في الطبقات، والفسوي أيضاً في المعرفة والتاريخ، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي ، وتقدم معنا ترجمته في حديث الباب الذي كنا نتدارسه قال: سألنا حذيفة عن رجل قريب من النبي صلى الله عليه وسلم في السمت والهدي والدل حتى نأخذ عنه، وهي ألفاظ ثلاثة متقاربة، يعني: في الهيئة في المعاملة في الخلق في العشرة، في سمته في هديه في دله، يعني: وقاره سكينته حلمه سؤددته، فقال حذيفة : (ما نعلم أحداً أقرب سمتاً وهدياً ودلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم من
وانظر إلى التزكية فهي على حسب ما يعلمون، فكأنه يقول: في الظاهر هذا أشبه الناس بالنبي عليه الصلاة والسلام، حتى يتوارى بجدار بيته، أما إذا دخلنا البيت فلا نعلم، ذاك يعلمه الذي لا تخفى عليه خافية، نحن نتكلم عما علمنا، أما ما يعمله مع أهله فلا نعلمه.
وقد كان أئمتنا يقولون: أدب الظاهر عنوان على أدب الباطن، والإنسان إذا تصنع يكشف ولو بعد حين، والإنسان مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم الإنسان ظهر العطار من البيطار؛ لأنهم كانوا يقولون: الأفواه حوانيت، والمرء مخبوء تحت لسانه، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
فإذا كان في الإنسان خبث فمهما كتم سيظهر منه ما يدل على خبثه وفساده، وإذا كان فيه طيب فمهما كتم وأراد أن يتظاهر بأنه عادي فسيظهر هذا من هديه ومن كلامه ومن معاملته، ولذلك قد يرى الإنسان في الظاهر في صلاح، لكن إذا عاملته صار حاله كما قال القائل:
سبكناه ونحسبه لجيناً فأبدى الكير عن خبث الحديد
فإذا كان أشبه الناس بنبينا عليه الصلاة والسلام في الحياة العملية الظاهرة المكشوفة، فلا يمكن بعد ذلك إذا دخل بيته أن يحارب الله، ولا يصدر منه في السر إلا طيب أكثر من الطيب الذي في العلن.
لكن من احتراس حذيفة قال: (ما نعلم أحداً أقرب سمتاً وهدياً ودلاً بالنبي صلى الله عليه وسلم من
قوله: (علم المحفوظون)، أي: المهتدون الصادقون، المحفوظون من الخرافة، ومن البدع، ومن الهذيان، وهؤلاء هم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، ومن هنا لبيان الجنس، أي: علم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام وليست تبعيضية، فأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كلهم محفوظون من التخريف والبدعة والضلال والهوى، ولو قدر أن واحداً منهم وقع في زلل فلا يخلو عن هذا بشر، لكن شتان بين من يزل من باب الخطأ ثم يرجع، وبين من يزل من باب الخبث الذي في نفسه، فليس فيهم إن شاء الله خبيث، وهم معدن نفيس، أما من كان من المنافقين، فهذا ليس عداده في الأصل من الصحابة الكرام الطيبين رضوان الله عليهم أجمعين.
ومن أمثلة من التي لبيان الجنس: قول الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، فمن هنا لبيان الجنس وليست تبعيضية، ومنه قول الله جل وعلا في آخر سورة الفتح: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29].
ومنه قول الله في سورة الحج: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30]، من ليست تبعيضية قطعاً وجزماً، وليس المعنى أن الأوثان النجسة اجتنبوها، والطاهرة اقتربوا منها، لا يوجد وثن وصنم طاهر مبارك، كلها قذرة نجسة لا خير فيها ولا بركة، والقرآن كله يستشفى به، سورة المسد وسورة قل هو الله أحد، لكن كون الناس يقرءون سورة الإخلاص؛ لأنها أفضل ولها فريد أثر، هذا موضوع آخر، لكن لو قرأت سورة المسد: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، تستشفي بها، فهذا كلام الله، والقرآن من أوله إلى آخره شفاء للقلوب، وشفاء للأبدان، ونستشفي بكلام الرحمن للداءين: داء القلب من شبهة وشهوة، وداء البدن من مرض وعلة.
والقرآن أعظم الرقى وأنفع الأدوية، ولذلك يقول هنا: ولقد علم المحفوظون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أي: الصحابة الصادقون الذين ليس فيهم مخرف، أن ابن أم عبد أقربهم إلى الله وسيلة، أقربهم إلى الله زلفى، ونحن نعلم هذا ما عندنا شك، وهذه ليست شهادتي فقط، لكن مع ذلك نحن معشر الصحابة نتحرز في كلامنا، نقول: هذا أشبه الناس بالنبي عليه الصلاة والسلام حتى يتوارى بجدار بيته، الله هو الرقيب عليه بعد ذلك، وإنما نخبر عما شاهدناه.
ليس في الصحابة مبتدع ولا صاحب هوى، لاشك في ذلك، ولذلك إذا فعل الواحد منهم فعلاً، ولم ينكر عليه، ويقال له: هذا خلاف السنة، ففعله هذا يقتدى به، ويخرج عن رسم البدعة قطعاً وجزماً، وأما إذا فعل فعلاً وأنكر عليه، وقيل له: نهى النبي عليه الصلاة والسلام عنه، وما بلغه النهي، كاستحلال -مثلاً- بعضهم رضي الله عنهم في أول الأمر نكاح المتعة حتى بلغه دليل التحريم، فهذا موضوع آخر.
وكما تأول بعضهم شرب الخمر، وأنه لا حرج عليه إذا اتقى الله وآمن وعمل صالحاً، فبين له أنك لو اتقيت الله لما شربت، وهذه نزلت عذراً للماضين، وإقامة للحجة على اللاحقين الآتين، فهذا الآن أمر آخر، أما أن يفعل فعلاً، ولا ينكر عليه، فهذا محفوظ من البدعة والخرافة.
ولذلك فعل الصحابة يقتدى به، والإمام أبو حنيفة بلغ الأمر به من ورعه وديانته رضي الله عنه وأرضاه أن الصحابة إذا اختلفوا في أمر لا يخرج عنهم، فيختار قول واحد منهم، يقول: لا يجوز إحداث قول آخر إذا بحثت المسألة في زمن الصحابة فلهم قولان أو ثلاثة، نحن لا نخرج عن هذا، لكن لك أن تتخير، وهذا الذي يقال عنه من قبل الضالين المبتدعين في هذه الأيام: إنه صاحب رأي، سبحان ربي العظيم! هو يقول: الصحابة إذا اختلفوا في المسألة لا يجوز أن أخرج عن أقوالهم، وأنا ملزم بأحكام الشرع بقول واحد منهم، أما كوني أنظر وأختار قول عبد الله بن مسعود على قول عبد الله بن عباس فهذا موضوع آخر، لكن لا يجوز الخروج، فنلتزم بأقوالهم، ولا يجوز إحداث قول آخر، هذا ورع أبي حنيفة رضي الله عنه وأرضاه.
وانظر لسفاهة الناس في هذه الأيام تقول له: هذا منقول عن عبد الله بن عمر ، فيقول: كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: ( متكئ على أريكته يأتيه الأمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول: دعونا من هذا بيننا وبينكم كتاب الله )، وهذا يقول: مذهب الصحابي ليس بحجة، طيب من الحجة إذاً أنت؟ يعني: قول عبد الله بن عمر ليس بحجة وأنت حجة! نسأل الله أن يرزقنا الأدب مع صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
فالتحقيق أنه جائز، وهو يدخل في دائرة الاستحباب كما بينت اليوم، ويأتيك من لا يتورع في هذه الأيام ويقول: التلقين بدعة.
أول ما جئت إلى هذه البلدة المباركة نسأل الله أن يبارك في بلاد المسلمين أجمعين، ودعيت إلى جنازة لبعض الإخوة الكرام الطيبين، نسأل الله أن يرحمه وأن يرحم موتى المسلمين أجمعين.
فبعد الدفن قلت دعاء التلقين ودعوت له، والإخوة الحاضرون أمنوا، فسمعت تذمراً من قبل بعض الحاضرين، لكن ما أحد واجهني، ثم انقسم الناس بعد ذلك إلى قسمين، هذه الحالة التي نعيشها، قسم أهل تشويش، ولعلني لا أبالغ إذا قلت: لو نزل عليهم جبريل عليه صلوات الله وسلامه وقال: إن هذا الأمر مشروع لقالوا: لا نقبل منك، عندنا نحن فهم خاص في دين الله، فهؤلاء دعنا منهم، لكن جاء بعض الإخوة وقال: هذا التلقين ينكره بعض الإخوة، قلت: يا أخي الكريم! لا يوجد في هذا العصر من يعول عليه، لا أنا ولا أنت ولا غيرنا، ونحن إذا أردنا أن نحدث أحكاماً جديدة فمرجعنا سلفنا أو ليس كذلك؟ قال: نعم. قلت: هذا الأمر قرره الإمام ابن تيمية ، وقرره الإمام ابن قيم الجوزية ، وقرره الإمام النووي ، وقبل هؤلاء قرره الإمام أحمد واحتج عليهم بالعمل، قال: عمل المسلمين عليه شرقاً وغرباً.
والقلوب إذا كانت تريد البحث عن الهدى سرعان ما تستجيب، ونحن بين حالتين: إما أن نتفق على هذا القول، وإما أن نقول هذا قول ولا نلزم به، نحن لا نعمله، فهنا نقول: أنت على هدى، لكن لا تنكر علينا، ولذلك قلت: إن التلقين، وإن قراءة القرآن على القبور ليست بفرض، وما أوجب ذلك أحد، فمن قرأ فقل: أنت على هدى، ومن لقن فقل: أنت على هدى، وأنت لا تريد أن تقرأ ولا تلقن، لا مانع لا تقرأ ولا تلقن، لكن لم تبدعني وأبدعك؟ يعني: إما أن نفعل هذا جميعاً، وإما أن نصل إلى أن هذا مشروع ومنقول عن أئمتنا، ولا داعي بعد ذلك للدخول في المصارعة وتبديع الأمة، والصولة عليها صباح مساء، لا داعي لهذا.
الأمر الأول: أن الميت يسمع، وأنه ينتفع بما يسمعه من الخير، يقول: وكل من الأمرين ثابت في الجملة، وعليه فالتلقين مشروع.
أما سماع الميت فوالله لا ينكره إلا من كان ضالاً، والأحاديث به صريحة صحيحة كثيرة، منها ما في المسند والصحيحين، وسنن أبي داود ، والنسائي من حديث أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم)، يقول الشيخ المبارك عليه رحمة الله: فإذا سمع الميت قرع النعل ألا يسمع صوت الفم؟! هذا صوت وهذا صوت، يقولون: لا، التلقين لا يسمعه ولكن يسمع قرع النعال، فأنت تكابر الآن حسياً، كما يسمع قرع النعال يسمع صوت الملقن، وهذا الحديث ثابت عن غير أنس ، ثابت عن البراء رضي الله عنه في المسند وسنن أبي داود ، وثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه في المسند ومعجم الطبراني الأوسط، والبزار وصحيح ابن حبان ، وثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما، وفي معجم الطبراني الأوسط، انتهى، هذه أحاديث كثيرة تدل على أنه يسمع.
والأمر الثاني: ينتفع بما يسمع، قال: حديث: ( سلوا الله له التثبيت )، وهذا دليل صحيح صريح على أنه ينتفع عندما نسأل له التثبيت، نحن قررنا أنه يسمع صوتنا، ثم في حديث سؤال التثبيت قررنا أنه ينتفع بكلامنا ودعائنا، وعليه عندما نلقنه يسمع الصوت كما يسمع خفق النعل، قرع النعل، وكما ينتفع بدعائنا ينتفع بتلقيننا، هذا موجود في أضواء البيان.
ثم قابل بعد ذلك هذا بالإعراض بحيث لا يريد أن يسلم عليه ولا يرد عليه سلام، وليس هذا خلق المؤمنين.
جاء مرة بعض الشيعة ليناقشوا بعض مشايخ المسلمين، قال: نناقشكم، لكن إذا ما كانت هناك أصول نحتكم إليها فما الفائدة من المناقشة؟ هذا القرآن الكريم تؤمنون به؟ قالوا: نؤمن به، ما في الصحيحين البخاري ومسلم تصدقون به؟ قالوا: لا، قال: لا مناقشة بيننا، كيف سنتناقش؟ أنا إذا استدللت بحديث مما هو في الصحيحين تسلمون به؟ قالوا: لا. نحن نستدل بما في الكافي وغيره، قال: ليس بيننا مناقشة، قال: كيف سنتناقش الآن إذا لم يكن بيننا شيء نحتكم إليه؟ وأنت تقول يا عبد الله! أنت ما تقوله من تبرك أو غيره هذا تخريف، قلت: أنت على العين والرأس، لو حكمنا أئمتنا في هذه القضية ما رأيك؟ تقبل بكلام الإمام النووي ؟ قال: نعم. قلت: يا أخ فلان! هات الكتاب أحضر الكتاب، وقرأت النص وأعطيته الكتاب بيدي قلت: اقرأه، قال: لا، هذه تحتاج إلى سؤال.
وهنا كذلك، قلت له: يا عبد الله! هذه محررة عند أئمتنا المشهود لهم بالخير، وهذا مقرر في كتب المذهب فاتق الله في نفسك يا عبد الله! أنت قاعد تصول وتجول وتقول: بدعة بدعة بدعة، من الذي قال: إنه بدعة أريد أن أعلم؟ أما تتقي الله في نفسك، إذا واحد من المعاصرين أطلق هذه الأحكام بدون تأمل فإما أن تنصحه، وإما أن تترك قوله على أقل تقدير، ولا تجعل كلامك هو الحكم على سلفنا الكرام، والله هذا هو الضياع الذي ليس بعده ضياع.
فلابد من الإنصاف، وإذا أردنا أن ننصف في هذه الأيام نعيد المسائل إلى ما هو مقرر عند أئمتنا، إذا تكلم الإنسان فقل: يا أخي! عندنا مذاهب أربعة متبعة، الأمة تتابعت عليها أكثر من عشرة قرون، وما في الكتاب والسنة ومذاهب الصحابة وأقوالهم استقر فيها، اعز ما تقول إلى إمام من هؤلاء الأئمة، وينتهي بيننا وبينك القيل والقال، لا تأتي تقول: هذا قولي.
وصل الشطط ببعضهم أنه لما جاء إلى موضوع إهداء الطاعات إلى الأموات والقربات من بدنية أو مالية أو ما رتب منهما، قال: فإن قيل لنا: إنكم خالفتم رأي الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية في هذه القضية، فهما يقولان بجواز الإهداء للأموات في سائر القربات والطاعات، قال: فليعلم الناس أننا نحن ننظر إلى القول لا إلى القائل، يعني: عندنا استعداد أن نخطئ ابن تيمية وابن قيم الجوزية وابن عمر والصحابة من أولهم إلى آخرهم، قال: ننظر إلى القول لا إلى القائل، يعني: لا تظنوا أننا ننتسب إلى ابن تيمية وانتهى، فانظر إلى هذا الغرور الذي ليس بعده غرور، ينظر إلى القول لا إلى القائل، أي قائل؟ ليس عبد الرحيم حتى يقال: لا في العير ولا في النفير، قائلها أئمة الإسلام، إذا كان ديننا الذي نقل عن طريق الصحابة والتابعين وأئمة المذاهب هؤلاء الذين نقلوه لم يفقهوه وخرفوا فيه، فيحتاج أن نلتمس ديناً آخر إذاً، ونأتي بمفاهيم جديدة باسم الكتاب والسنة.
نكتفي بهذا، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر