لا يجب الحد إلا على بالغ، عاقل، ملتزم، عالم بالتحريم، فيقيمه الإمام أو نائبه في غير مسجد، ويضرب الرجل في الحد قائماً بسوط لا جديد، ولا خلق، ولا يمد، ولا يربط، ولا يجرد، بل يكون عليه قميص أو قميصان، لا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد ويفرق الضرب على بدنه، ويتقي الرأس، والوجه، والفرج، والمقاتل، والمرأة كالرجل فيه، إلا أنها تضرب جالسة، وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها لئلا تنكشف، وأشد الجلد جلد الزنا، ثم القذف، ثم الشرب، ثم التعزيز، ومن مات في حد فالحق قتله، ولا يحفر للمرجوم في الزنا.
باب: حد الزنا:
إذا زنى المحصن رجم حتى يموت].
تقدم لنا ما يتعلق بالقسامة، وذكرنا أنها طريق من طرق إثبات القتل، سواء كان قتل عمد، أو شبه عمد، أو خطأ، وأن القسامة كانت موجودة في الجاهلية فأقرها الإسلام على ما كانت موجودة عليه في الجاهلية، وذكرنا الأصل فيها، وأن الأصل فيها السنة، وأن الأئمة يتفقون عليها، وقد خالف فيها بعض السلف، وذكرنا ما يتعلق بمخالفة القسامة للدعاوى من وجوه، أو أنها تخالف الأصول من وجوه، وذكرنا هذه الوجوه، وأجبنا عليها، وتقدم لنا أيضاً ما يتعلق بشروط القسامة وأن القسامة يشترط لها شروط، ومن أهم شروطها اللوث: واختلف العلماء رحمهم الله في تفسير اللوث على قولين:
القول الأول: أن المراد به العداوة الظاهرة.
والقول الثاني: أنه كل ما يغلب على الظن صدق الدعوى به.
وقلنا: إن هذا مذهب الإمام مالك رحمه الله، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وذكرنا صوراً للوث، وتقدم لنا: إذا نكل الورثة عن الأيمان فإن الذي يحلف هو المدعى عليه، وذكرنا بأن حلف المدعى عليه ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يرضى المدعون بيمينه، وهنا يحلف وتبرأ ذمته.
القسم الثاني: ألا يرضى المدعون بيمينه، وهنا الحكم أن الإمام يفديه من بيت المال، فإذا رضي المدعون بأيمان المدعى عليه ولم يحلف فالمالكية قالوا: إنه يحبس حتى يحلف أو يموت في السجن.
والحنابلة يقولون: إنه لا يسجن، لكن يلزم بالدية كما تقدم.
والرأي الثالث رأي الشافعية: أن الأيمان ترد على المدعين.
بقينا في مسألة أخيرة في القسامة، وهي: هل القسامة يثبت بها القود وهو القصاص، أو أن القسامة لا يثبت بها إلا الدية؟
المشهور من مذهب الإمام أحمد ، وكذلك أيضاً مذهب مالك ، وهو قول الظاهرية: أن القسامة يثبت بها القود، يعني على حسب الدعوى، إن كانت الدعوى في القسامة بقتل عمد ثبت بها القصاص إذا توفرت شروطها، وإن كانت بشبه عمد، أو خطأ يثبت بها الدية، إلا أن المالكية كما تقدم لا يرون شبه العمد.
واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فتستحقون دم صاحبكم، وقال: فيدفع إليكم برمته).
والرأي الثاني: رأي الشافعية أن القسامة لا يثبت بها القصاص، وإنما تثبت بها الدية، فإن كانت الدعوى بخطأ أو شبه عمد فالدية على العاقلة، وإن كانت الدعوى بعمد فالدية في مال الجاني، والصحيح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الحنابلة المالكية.
لما تكلم المؤلف رحمه الله تعالى عن القصاص، تقدم لنا أن القصاص المغلب فيه حق الآدمي، فحقوق الآدميين مبنية على المشاحة، بخلاف حقوق الله سبحانه وتعالى فإنها مبنية على العفو والتيسير، فبدأ المؤلف رحمه الله تعالى فيما يتعلق بحقوق الآدميين: القصاص، الجناية على النفس وعلى ما دون النفس، وما يتعلق بالديات .. إلى آخره.
ثم بعد ذلك -الآن- شرع في الحدود؛ لأن الحدود المغلب فيها حق الله سبحانه وتعالى.
الحدود: جمع حد، وهو في اللغة: المنع، ويطلق على الفصل بين الشيئين، ومنه حدود الأرض، وسمي البواب حداداً؛ لأنه يمنع من الدخول والخروج.
وأما في الاصطلاح: فالحد هو عقوبة مقدرة شرعاً في معصية لتمنع من الوقوع في مثلها ولتكفر ذنب صاحبها، فقولنا: مقدرة يخرج التعزير، فالتعزيز عقوبة غير مقدرة.
وقولنا: في معصية، أي: لبيان الواقع، فالحدود لا تكون إلا في معاصٍ، وقولنا: لتكفر ذنب صاحبها وتمنع من الوقوع في مثله، هذا بيان للحكمة، فالحكمة من الحدود أنها تكفر ذنب صاحبها وتمنع من الوقوع في مثلها.
والحدود زواجر، والحكمة منها: رحمة الجاني ورحمة المجني عليه، ورحمة المجتمع، أما رحمة الجاني فهي كفارة له، وأما رحمة المجني عليه: فاستيفاء حقه، وأما رحمة المجتمع: فحصول الردع والزجر، ومنع الفوضى، وأمن الناس على أموالهم، وأعراضهم، وأبدانهم، ولا تستقيم الحياة إلا بهذا.
والأصل في الحدود الكتاب، والسنة، والإجماع، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك، وبيان إقامة الحد.
ما الفرق بين الحد والقصاص؟ وما الفرق بين الحد والتعزير؟
الحد والقصاص بينهما فروق:
الفرق الأول: أن الحد المغلب فيه حق الله، والقصاص المغلب فيه حق الآدمي.
الفرق الثاني: أن القصاص الذي يتولى استيفاء الحق فيه هو ولي الدم كما سيأتينا، وأما الحد فالذي يتولى استيفاءه الإمام أو نائبه، إلا الرقيق فإن السيد يقيمه على رقيقه فيما يتعلق بالجلد.
الفرق الثالث: أن القصاص تجوز فيه الشفاعة حتى بعد وصوله إلى الإمام، والحد لا تجوز فيه الشفاعة بعد وصوله للإمام.
الفرق الرابع: أن الحد لا يجوز إسقاطه بعد وصوله للإمام، والقصاص يجوز إسقاطه حتى بعد وصوله للإمام.
والفرق الخامس: أن القصاص يصح الصلح فيه -كما سلف لنا- مع ولي الدم على ديتين، أو ثلاث، أو أربع.
وأما الحد فإنه لا يجوز الصلح فيه على مال، وإنما الصلح فيه هو إقامته، فلو أنه وجد شخصاً يسرق من بيته أو قذفه وقال القاذف: هذه ألف ريال، أو قال السارق: هذه ألف ريال ولا ترفعني، فإن هذا محرم لا يجوز.
الفرق السادس: أن القصاص يصح التحاكم فيه إلى غير القاضي بخلاف الحد.
الفرق الأول: أن الحد عقوبة مقدرة، وأما التعزير فعقوبة غير مقدرة كما سيأتينا في بابه.
الفرق الثاني: أن الحد لا يقام إلا على مكلف، بخلاف التعزير فإنه يقام على الصبي؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم على ذلك وهم أبناء عشر ).
الفرق الثالث: أن الحد إذا بلغ الإمام يجب إقامته، بخلاف التعزير فإنه حتى بعد بلوغ الإمام فللإمام أن يسقطه أو أن يخفف عنه بالتوبة.
وذكر بعض العلماء من الفروق أن الحد لا يضرب فيه الرأس، بخلاف التعزير فجوز بعض أهل العلم ضرب الرأس فيه، لكن إذا قيل بجواز ضرب الرأس فإن ضرب الرأس كما سيأتينا من المقاتل، فيتحاشا ولو حصل فإنه يكون شديداً.
قوله: (لا يجب الحد) إقامة الحد واجبة، ويدل لذلك قول الله عز وجل: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]، وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم )، هذه أوامر، والأصل في أوامر الشارع الوجوب.
قال رحمه الله: (لا يجب الحد إلا على بالغ).
هنا شرع المؤلف رحمه الله في ذكر الشروط العامة للحد، فهناك شروط عامة للحد، فهناك شروط خاصة لكل حد، فالزنا له شروط خاصة، وكذلك القطع في السرقة، وحد الحرابة، هذه كلها لها شروط خاصة ستأتينا إن شاء الله، .
الشرط الأول من الشروط العامة: أن يكون الجاني مكلفاً، وعلى هذا إذا كان غير مكلف بأن كان صغيراً، أو كان مجنوناً، فإنه لا حد عليه، وإنما يعزر، ويدل لذلك حديث عائشة : ( رفع القلم عن ثلاثة -وذكر النبي صلى الله عليه وسلم- المجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ ) وهذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجه والنسائي والدارمي وغيرهم. وإسناده حسنه الإمام أحمد .
قال رحمه الله: (ملتزم).
هذا الشرط الثاني: أن يكون ملتزماً، أي بأحكام الشريعة، والملتزم بأحكام الشريعة اثنان: المسلم، والذمي.
أما المسلم فهو ملتزم بأحكام الشريعة بمجرد إسلامه، فإذا فعل ما يوجب الحد وجب عليه الحد.
الثاني: الذمي، وهو الذي يبذل الجزية مقابل إقراره على دينه والتزامه بأحكام ملة الإسلام، وعلى هذا فالمستأمن ليس ملتزماً، يعني لو أن عاملاً من العمال دخل بلاد المسلمين للعمل بأمان وسرق لا تقطع يده؛ لأنه ليس ملتزماً بأحكام الإسلام.
إذاً الملتزم لأحكام الإسلام اثنان: المسلم، والذمي، أما المعاهد والمستأمن فهذان ليسا ملتزمين لأحكام الإسلام، لكن للإمام أن يعزرهما بما يراه.
قال رحمه الله: (عالم بالتحريم).
هذا هو الشرط الثالث، وهو أن يكون عالماً بالتحريم، ويدل لذلك قول الله عز وجل: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15].
وأيضاً ورد عن عمر وعثمان وعلي أنه لا حد إلا على من علمه، وهذا أخرجه عبد الرزاق وهو ثابت.
بقي من الشروط شرط لم يذكره المؤلف -وليته ذكره- هنا، وإنما ذكره في باب حد الزنا وهو: انتفاء الشبهة، لما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ادرءوا الحدود عن المسلمين بالشبهات ما استطعتم ) وهذا الحديث ضعيف، وسيأتينا إن شاء الله الكلام على ذلك في باب حد الزنا.
الشرط الخامس: ثبوت الحد.
وهذا سيأتينا أيضاً في كل باب بحسبه، وسيأتينا أيضاً: أن الحد يثبت بواحد من أمور ثلاثة:
إما البينة ، أو الاعتراف، أو القرائن.
الحد لا يقيمه إلا الإمام أو نائب الإمام، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة في الصحيحين: ( واغدُ يا
قال رحمه الله: (فيقيمه الإمام أو نائبه) لأنه أيضاً يفتقر إلى اجتهاد الإمام.
قال رحمه الله: (في غير مسجد).
ويحرم أن يقام الحد في المسجد؛ لما جاء في قصة الأعرابي لما بال في المسجد أن المساجد لا تبنى لمثل هذا؛ ولأن المساجد إنما بنيت للصلاة وقراءة القرآن، ولأن الحد إذا حصل في المسجد فإنه سيترتب على ذلك شيء من اللغط ورفع الصوت، ونحو ذلك مما ينافي حرمة ومكانة المسجد.
وقد جاء في حديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى أن يستقاد في المسجد وأن تنشد فيه الأشعار) هذا أخرجه أبو داود وفي إسناده ضعف، لكن ما ذكرنا يكفي، وهذا باتفاق الأئمة أن الحدود لا تقام في المساجد.
ويستثنى من قوله: (فيقيمه الإمام أو نائبه) السيد مع رقيقه، فإن السيد مع رقيقه له أن يقيم الحد عليه، وهذا خاص بالجلد فقط، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب )، رواه البخاري ومسلم ، وحديث علي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم )، أما القتل وإتلاف النفس فإنه لا يقيمه، وإنما يتولى إقامته الإمام.
يضرب الرجل في الحد قائماً، ويدل لذلك حديث السائب بن يزيد في صحيح البخاري: يقول السائب : ( كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا، وأرديتنا )، قوله: نقوم إليه، هذا يدل على أنه يضرب قائماً؛ لأن الضرب قائماً وسيلة إلى أن يأخذ كل عضو حظه من الضرب.
قال رحمه الله: (في الحد قائماً بسوط وسط).
السوط يكون وسطاً، (لا جديد ولا خلق) يعني الضابط في ذلك: أن يكون الضرب مما يؤلم لا مما يضر؛ لأنه إذا كان لا يؤلم لا يؤدب، فلابد أن يكون مما يؤلمه لكن لا يضره، ولا يشق عليه مشقة شديدة، والمؤلف رحمه الله لكي يصل إلى هذا الضابط قال: (بسوط لا جديد ولا خلق)؛ لأن الجديد يجرحه والخلق لا يؤلمه، قال رحمه الله: (ولا يمد ولا يربط) أي: لا يمد على الأرض، لما تقدم أنه يضرب قائماً: يعني لا يربط على عمود، ولا على السيارة، ولا على غير ذلك، والعلماء رحمهم الله يقولون: إذا كان ممدوداً على الأرض، أو مربوطاً إلى عمود ونحو ذلك تكون الضربة بضربتين؛ لأنه سيتحرك ويضرب العمود فالسوط يضربه والعمود يضربه، وهذا فيه تعدٍّ؛ ولهذا قال العلماء: لا يمد ولا يربط.
(ولا يجرد) أيضاً لما جاء عن ابن عباس : ليس في ديننا مد ولا قيد ولا تجرده، وهذا ضعيف.
قال رحمه الله: (بل يكون عليه قميص أو قميصان).
يعني عليه ثوب أو ثوبان، فإن كان عليه جبة تنزع منه هذه الجبة ونحو ذلك، والحنفية والمالكية يقولون ذلك، يقولون: تنزع الثياب التي عليه إلا الإزار، والصحيح أنه كما ذكر المؤلف يكون عليه قميص أو قميصان وتنزع الجبة، فإذا كان عليه فرو أو جبة محشوة تنزع عنه؛ لأنها تمنع وصول الألم إلى بدنه.
قال رحمه الله: (ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد).
لأن المقصود التأديب لا الإهلاك، وقالوا أيضاً: لا يرفع ضارب يده حتى يرى بياض إبطه، والضابط أن يؤلم ولا يضره أو يشق عليه مشقة شديدة كما تقدم؛ لأنه إذا لم يحصل الألم لم يحصل التهديد، وإذا كان يضره ففيه إتلاف له، وهذا خلاف شرعية الحد!
قال رحمه الله: (ويفرق الضرب على بدنه).
وهذا هو العدل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، فيفرق الضرب على بدنه، لكي يأخذ كل عضو حظه من الضرب، ولأن توالي الضرب على مكان واحد يؤدي إلى إفساد اللحم.
قال رحمه الله: (ويتقي الرأس والوجه، والفرج والمقاتل).
أي: يتقي الرأس فلا يجوز ضربه، قال العلماء: لأن الرأس معظم، أي: لأنه عظم ليس عليه لحم، وإنما عليه جلد فألمه شديد؛ ولأن الرأس أيضاً مكان الحواس والمنافع: حاسة السمع، والبصر، والشم، والعقل، والوجه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه ) رواه الإمام أحمد والنسائي ، والفرج لأنه من المقاتل، والمقاتل كالخصيتين، والقلب؛ لأنه ربما إذا ضربه على مثل هذه الأشياء يؤدي إلى قتله.
المرأة كما تقدم أنها كالرجل فيما يتعلق بالضرب بالسوط ..إلى آخره قال لك: (إلا أنها تضرب جالسة) لقول علي رضي الله تعالى عنه: تضرب المرأة جالسة والرجل قائماً، وهذا فيه ضعف لكن المعنى يشهد لذلك؛ لأن المرأة بحاجة إلى الستر، وكونها تكون جالسة هذا أستر لها، إلا إذا كان ليس هناك حضرة رجال أجانب فممكن هذا.
قال رحمه الله: (وتشد عليها ثيابها وتمسك يداها لئلا تنكشف).
نعم تشد عليها ثيابها، ويدل لذلك قصة الغامدية أنها لما زنت شدت عليها ثيابها.
قال رحمه الله: (وتمسك يداها لئلا تنكشف) لأنها عورة، وفعل ذلك أستر لها.
قال رحمه الله: (وأشد الجلد).
هل يشترط في الجلد الموالاة أو أن الموالاة ليست شرطاً؟ المشهور من المذهب أن الموالاة ليست شرطاً، فيصح أن نضربه اليوم عشر جلدات، وغداً عشر جلدات، وهكذا.
والرأي الثاني: -وهو رأي المالكية- أن الموالاة شرط، وهذا القول هو الصواب، وهكذا ورد؛ لأن هذا هو ظاهر القرآن وظاهر السنة الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ [النور:2].
الظاهر أن المقصود من ذلك الموالاة، وما ورد التفريق عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فالصواب في ذلك أن الموالاة شرط.
جعل المؤلف رحمه الله الكيفية تابعة للكمية، وهذا صحيح فقال لك: أشد الجلد جلد الزنا؛ لأن الزنا الجلد فيه مائة جلدة، ثم القذف ثمانون، ثم الشرب؛ لأن الشرب ما زاد عن أربعين موضع خلاف، ثم التعزير؛ لأنهم يرون أن التعزير كما سيأتينا لا يتجاوز عشر جلدات على المذهب، وعند أبي حنيفة أن أشد الجلد حد الزنا، ثم الشرب، ثم القذف.
والرأي الثالث: أنها على سبيل السواء، وهذا قال به الإمام مالك ، لكن الصواب في هذه المسألة أن يقال: إن الأشدية في الكيفية تابعة للأشدية في الكمية، وهذا القول هو الصواب.
(في) للظرفية، فإذا أردنا أن نجلده حد القذف ثمانين جلدة، وبعد أن جلدناه ستين جلدة هلك، نقول: لا يضمن، الحق هو الذي قتله، لم نقتله نحن، والحق هو ما أمر الله عز وجل به ورسوله صلى الله عليه وسلم من إقامة الحد، هذا هو الذي قتله، والقاعدة أن ما ترتب على المأذون غير مضمون.
قال رحمه الله: (في حد) يخرج ما إذا كان الضرب في غير الحد فهنا يضمن، الجلد في القاذف ثمانون، جلده ثمانين ثم زاد جلدة فمات فهنا الجلد في غير الحد، ولهذا قال المؤلف: في حد، فالجلدة هنا ليست في الحد وإنما من باب التعدي، فنقول: إنه هنا يضمن؛ لأن هذه الضربة لم يأذن بها الشارع.
إذا حصل تعدٍّ سواء في الكمية كأن زاد جلدة أو جلدتين، أو في الكيفية كأن شدد بالضرب فإنه هنا يضمن؛ لأنه خارج عن أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، قال رحمه الله: (ولا يحفر للمرجوم في الزنا).
وظاهر كلام المؤلف أنه سواء كان رجلاً أو امرأة.
والمرجوم في الزنا لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون رجلاً ، فجمهور العلماء أنه لا يحفر له، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لـماعز، ولم يحفر للجهنية، ولا لليهوديين.
والرأي الثاني: قال به بعض المالكية: إن ثبت الزنا بالشهادة يحفر له، وإن ثبت بالإقرار لا يحفر له، هذا إذا كان المرجوم رجلاً.
الحالة الثانية: أن يكون المرجوم أنثى؛ فيرى جمهور العلماء أنه لا يحفر لها، وعند الشافعية يحفر إن ثبت الزنا بالبينة دون الإقرار.
والخلاف هنا كالخلاف في الأقوال لكن نسبة الأقوال تختلف، والسنة حديث بريدة في قصة الغامدية في صحيح مسلم : ( ثم أمر بها فحفر لها حفرة، إلى صدرها )، وفي حديث بريدة أيضاً في قصة رجم ماعز : ( فلما كان في الرابعة حفرنا له حفرة )، وفي حديث أبي سعيد في قصة ماعز : ( فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه ) يعني ما ربطناه، فقوله: (ولا أوثقناه) يستدل به على أنه لا يربط كما تقدم لنا: أنه لا يمد ولا يربط.
وأيضاً لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالحفر لليهوديين، ولا لقصة: ( ... واغدُ يا
الذي يظهر -والله أعلم- أن الخلاصة في هذه المسألة أن يقال: إن هذا يرجع إلى اجتهاد الإمام فإن رأى الإمام أن يحفر حفر، وإن رأى ألا يحفر فإنه لا يحفر، ولا بد عند إقامة الحد من حضور الإمام أو نائب الإمام؛ لما تقدم أن الذي يتولى إقامة الحد هو الإمام، وأيضاً السنة أن يحضر طائفة من المؤمنين لقول الله عز وجل: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].
وهي سيدة نساء أهل الجنة ومع ذلك حلف النبي صلى الله عليه وسلم -وهو البار- أنها لو سرقت لقطع يدها.
فإذا بلغ الإمام تحرم الشفاعة، والمراد بالإمام هنا الذي يظهر والله أعلم أنه الأمير، فإذا بلغت الإمارة حرمت الشفاعة.
مسألة: هل يؤخر الحد لمرض، أو لحر، أو لبرد، ونحو ذلك.
نقول: المرض ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مرض لا يرجى زواله، أي: مزمن، فهذا لا يؤخر الحد؛ لأننا لو قلنا بتأخير الحد فإن ذلك يؤدي إلى تعطيل الحد، إذ لا منتهى لهذا التأخير، لكن نجلده جلداً يليق به، فنأتي بسوط خفيف ونجلده بهذا السوط الخفيف، كل بحسبه، فالصحيح له سوط، والمريض نأتي له بسوط يناسب حاله، وقال بعض العلماء: نأتي بشمراخ لجلده، فحد الزنا مثلاً مائة جلدة نضربه ضربة واحدة، لكن هذا أنكره الإمام مالك ، والصحيح أننا نضربه ضرباً يليق بحاله بحيث لا يهلكه وإنما يؤلمه، فنأتي بسوط خفيف، ونضربه ضرباً خفيفاً بحيث لا يؤدي إلى إهلاكه، بل يؤدي إلى إيلامه، كل بحسبه، هذا القسم الأول إذا كان مريضاً مرضاً لا يرجى زواله.
القسم الثاني: أن يكون مريضاً مرضاً يرجى زواله، فالمشهور من المذهب أنه لا يؤخر؛ لأن إقامة الحد تجب على الفور؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( واغدُ يا
والرأي الثاني: وهو قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي أنه يؤخر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الغامدية إلى أن تلد.
ويظهر -والله أعلم- أنه يؤخر إلى أن يشفى، مادام أنه يرجى زواله؛ لئلا يؤدي ذلك إلى زيادة المرض أو تأخر البرء ونحو ذلك.
المسألة الأخيرة: هل يؤخر لشدة الحر، أو لشدة البرد ونحو ذلك، المذهب -كما تقدم- أنه لا يؤخر والدليل على ذلك أنه يجب على الفورية.
والقول الثاني: أنه يؤخر، ويظهر -والله أعلم- أن يقال في مثل هذا: أن ينظر إذا كان سيؤدي ذلك إلى ضرره، أو يشق عليه مشقة شديدة فحينئذ يؤخر، وإلا فلا يؤخر.
وأما في الاصطلاح: فهو فعل الفاحشة في قُبُل محرم، أي: فعل الفاحشة في فرج آدمية محرم.
والزنا محرم بإجماع الشرائع، وأجمعت الشرائع أيضاً على أن عقوبة الزاني المحصن الرجم، ولهذا فإن آية الرجم في التوراة، ولهذا أتى اليهود باليهوديين اللذين زنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ائتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فوضع أحدهم يده على آية الرجم فأمره
وحديث ابن عباس في الصحيحين: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) وحديث سمرة في الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه رأى رجالاً عراة، ونساء عراة في تنور من نار، ويأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا جاءهم ذاك اللهب ضوضو -حصل لهم ضجيج- فسأل النبي صلى الله عليه وسلم من معه من الملائكة فقال: هؤلاء هم الزناة والزواني ).
قال رحمه الله: (إذا زنى المحصن رجم حتى يموت).
سيأتينا إن شاء الله من هو المحصن وتفسير الإحصان، وكما سبق أن أشرنا أن الإحصان مصطلح يختلف باختلاف أبواب الفقه، وسيأتينا في الحدود اصطلاح الإحصان في باب حد الزنا، وأيضاً في باب حد القذف.
المحصن له عقوبتان:
العقوبة الأولى: الرجم وهذه بالإجماع، لم يخالف في ذلك إلا من شذ كـالنظام من المعتزلة والخوارج، يعني خالف بعض الخوارج في الرجم لكن الإجماع منعقد على ذلك، ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين وماعزاً ، والغامدية في حديث أبي هريرة .
العقوبة الثانية: الجلد وهذه موضع خلاف سيأتينا إن شاء الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر