قال المؤلف رحمه الله: [والمندوب ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه].
وأما في الاصطلاح فإن المؤلف رحمه الله ذكر تعريفه ببيان ثمرته، والأحسن أن يذكر التعريف ببيان الحقيقة والماهية.
فنقول في تعريف المندوب: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين، بطلب العمل طلباً غير جازم.
فقولنا: (بطلب العمل) هذا يخرج المحرم والمكروه والمباح، فالمباح لا يتعلق فيه أمر ونهي ولا نهي لذاته، وقولنا: (طلباً غير جازم) هذا يخرج الواجب.
أما بالنسبة لثمرته، فقال المؤلف رحمه الله: (ما يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه). فالمندوب يجوز تركه، لذلك قال المؤلف رحمه الله: (لا يعاقب على تركه). إلا إن اعتقد استحباب تركه فهذا لا يجوز.
وفي قول المؤلف: (ولا يعاقب على تركه) لدينا مسألتان:
المسألة الأولى: نقول: إذا اعتقد استحباب الترك فإنه يعاقب عليه.
والمسألة الثانية: يذم إذا داوم على الترك، مثلاً بعض المندوبات المؤكدة إذا داوم على تركها فإنه يذم على ذلك، كما لو داوم على ترك الوتر، أو داوم على ترك السنن الرواتب، وفي هذا قال الإمام أحمد رحمه الله: من لم يوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل له شهادة عندنا. وكذلك أيضاً: فيما يتعلق بالسنن الرواتب، فأصبح أنه إذا اعتقد أسباب الترك فإن هذا لا يجوز، وكذلك أيضاً إذا داوم على ترك السنن المؤكدة.
كذلك أيضاً ما تقدم لنا بالنسبة للواجب، فالواجب يسمى فرضاً أيضاً عند جمهور الأصوليين، وهذا من باب الترادف، فلا فرق عندهم بين الواجب والفرض، وهذا ما عليه جمهور الأصوليين، وأما بالنسبة للحنفية ففرقوا وقالوا: ما ثبت بدليل قطعي فهو فرض، وما ثبت بدليل ظني فهو واجب، والله أعلم.
وأما في الاصطلاح فهو: ما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته.
وهذا مثل الأكل والشرب واللباس... إلخ، هذه الأشياء المباحة.
وقول العلماء رحمهم الله: (ما لا يتعلق به أمر) هذا يخرج حكمين من الأحكام التكليفية: الواجب والمندوب؛ فإن كلاً من الواجب والمندوب قد تعلق به الأمر.
وقولنا: (ولا نهي) هذا أيضاً يخرج حكمين من الأحكام التكليفية: النهي والكراهة.
وقولنا: (لذاته) أي: لذات المباح، فيخرج ما إذا كان المباح وسيلة لمأمور فإنه يكون مأموراً به, وإذا كان وسيلة لمنهي فإنه يكون منهياً عنه، فمثلاً: البيع مباح، لكن شراء الثوب لكي يستر به الإنسان عورته واجب، وشراء عود الأراك لكي يتسوك به الإنسان يكون سنة، وشراء العنب لكي يعصره خمراً يكون محرماً، وإن كان الأصل في شراء العنب أنه مباح، لكن شراؤه لكي يعصره خمراً هذا نقول: بأنه محرم، وأيضاً شراء الثوم لكي يأكله هذا يكون مكروهاً.
فجمهور الأصوليين على أن المباح غير مأمور به، قالوا: لأن الأمر يستلزم إيجاب الفعل أو ترجيحه، أو إيجاب الترك أو ترجيحه, وهذا غير موجود في المباح وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني وذهب إليه الكعبي من الأصوليين فقال: بأن المباح مأمور به، وعلته في كونه مأموراً به: أنه يكون وسيلة إلى مأمور به، ووسيلة للمنع, فإذا كان كذلك فالوسائل لها أحكام المقاصد.
فقال بعض العلماء: بأن هذا من باب المسامحة وإكمال القسمة.
وقال بعض العلماء: بأن هذا من باب التغليب.
والرأي الثالث: أنه أدخل إلى الأحكام التكليفية بالنظر إلى كونه وسيلة.
وأما في الاصطلاح فهو: خطاب الشارع بما يتعلق بأفعال المكلفين بطلب الكف على وجه اللزوم.
فقولنا: (بطلب الكف) هذا يخرج الواجب والمندوب والمباح؛ لأن المباح ليس فيه طلب, وإنما هو تخيير، والواجب والمندوب طلب فعل.
وقولنا: (وعلى وجه اللزوم) هذا يخرج المكروه؛ لأن المكروه هو: طلب الترك لا على وجه اللزوم.
والمؤلف رحمه الله -كما سبق لنا- أنه عرف المحظور ببيان ثمرته والأثر المترتب عليه، والصحيح في تعريف الحدود أن تعرف ببيان الحقيقة والماهية، فالتعريف إما أن يكون ببيان الثمرة والحكم والأثر المترتب، وهذا فيه قصور، وإما أن يكون ببيان الحقيقة والماهية، وهذا هو الصحيح.
فالصحيح أن نقول في تعريفه كما سبق: خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بطلب الكف أو الترك على وجه اللزوم.
أما قول المؤلف رحمه الله: (والمحظور ما يثاب على تركه ويعاقب على فعله) فهذا فيه بيان الثمرة، وفيه بيان الحكم المترتب على ذلك.
وقوله أيضاً: (ما يثاب على تركه) هذا ليس على إطلاقه.
القسم الأول: أن يترك المحرم خوفاً من الله عز وجل، وامتثالاً لنهي الله سبحانه وتعالى، أو لنهي رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا يثاب على ذلك، مثلاً: هم بشرب الخمر أو هم بالنظر المحرم فتذكر أمر الله عز وجل فخاف وتركه؛ فنقول: بأنه يثاب، ولهذا ورد في الحديث الإلهي: (إنما تركها من جرائي)، أي: ترك هذا الشيء من أجلي، فهذا يثاب.
القسم الثاني: ألا يطرأ عليه المحظور مثل: الغيبة أو النميمة أو نحو ذلك، فهي أصلاً لم تطرأ على باله، فهذا لا يتعلق به حكم.
القسم الثالث: أن يترك المحظور عجزاً عنه مع فعل السبب له, مثال ذلك: إنسان أراد أن يسرق فأحضر السلم، ولما هم بالصعود جاء شخص فهرب؛ فالحكم هنا أنه يكتب عليه وزر العمل، وليس وزر النية، وإنما يكتب عليه وزر العمل ما دام أنه عمل السبب، ويدل لذلك: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل )، أي: القاتل أمره واضح في النار، ( فما بال المقتول في النار؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه )، فلما فعل السبب كان بمنزلة الفاعل، فنقول: هذا يكتب عليه وزر العمل.
القسم الرابع: أن يعجز عن المحظور، لكن لا يفعل السبب، أي: يقول: لو أن عندي خمراً شربتها الآن! لكن لم يعمل بالأسباب ولم يشترها، لكنه عاجز عنها، ليست موجودة عنده، أو ليست عنده دراهم، أو لا يباع الآن في بلده، ولكنه لم يعمل الأسباب بأن يذهب ويبحث عنها، فهذا نقول: عليه وزر النية، وهذا يدل له: ما ثبت في سنن الترمذي , وفيه قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إنما الدنيا لأربعة نفر، وذكر منهم: رجلاً قال: لو أن لي مال فلان لعملت به عمل فلان في المعصية، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فهما في الوزر سواء ).
فترك المحظور ينقسم إلى هذه الأقسام الأربعة: إما أن يتركه خوفاً من الله عز وجل، وإما أن يتركه لكونه لم يطرأ على باله، وإما أن يتركه عجزاً مع فعل السبب، وإما أن يتركه عجزاً عنه لكنه لم يفعل السبب، ولكل حكم.
وقول المؤلف رحمه الله: (ويعاقب على فعله) هذا فيه نظر، بل الأولى أن يقول: ويستحق العقاب على فعله، وتقدم أن العلماء رحمهم الله يقولون: لا يقطع لأحد بعينه بجنة أو نار، وإنما نرجو للمحسن, ونخاف على المسيء، هكذا كلام العلماء رحمهم الله، قالوا: المحسن يرجى له، وأما المسيء فإنه يخاف عليه، ولا يقطع له بذلك، وإنما نقول: يستحق العقاب، والخوارج والمعتزلة هم الذين يرون القطع له بالنار.
وإنما نقول: (يستحق العقاب)، والدليل على ذلك: قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فالله عز وجل يغفر ما سوى الشرك لمن يشاء.
وكذلك أيضاً لما ذكر الله عز وجل المحرمات في أول سورة الإسراء قال الله عز وجل: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38].
ويستفاد أيضاً من قول: لا ينبغي، ولا يحل، ولا يصلح، وأيضاً وصف الفعل بالفساد، أو بأنه إفساد، وأيضاً وصف الفعل بأنه من تزيين الشيطان، وأن الله لا يحبه، وأن الله لا يزكي فاعله، وأن الله عز وجل لا ينظر إلى فاعله، ويستفاد أيضاً من ترتب الحد على فاعله، أو القصاص على فاعله.
واعلم أيضاً أن الشارع إذا حرم شيئاً حرم كل جزء منه، أي: أن التحريم يتعلق بكل أفراد المنهي عنه، ولهذا لما قال الله عز وجل: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ [البقرة:196] فالله عز وجل نهى عن حلق الرأس، قال العلماء رحمهم الله: يحرم ولو شعرة؛ لأن النهي إذا ورد فإنه يتعلق بكل أفراد المنهي عنه.
وأما في الاصطلاح فهو: خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين بطلب الكف لا على وجه اللزوم.
فقولنا: (بطلب الكف) هذا يخرج ثلاثة أحكام: الواجب والمندوب والمباح، فالمباح ليس فيه طلب، والواجب طلب عمل، والمندوب أيضاً طلب عمل.
وقوله: (لا على وجه اللزوم) هذا يخرج المحرم؛ فإن المحرم طلب الكف على وجه اللزوم.
وقول المؤلف: (والمكروه ما يثاب على تركه) أي: ما يثاب على تركه امتثالاً، والأقسام السابقة التي ذكرناها في المحظور ترد هنا، فانظر فيها وأوردها فيما يتعلق بالمكروه.
وقولنا: (ولا يعاقب على فعله)، أي: لو أن الإنسان فعل المكروه، فيقول المؤلف رحمه الله: (لا يعاقب على فعله)، كما لو أكل البصل أو الثوم أو التفت في الصلاة، وقد تقدم من قبل فيما يتعلق بمكروهات الصلاة.
والحنفية يصرحون بأن الأصل إذا كان هناك إطلاق فإنه يحمل على الكراهة التنزيهية، لكن أحياناً يصرحون بأن المراد هنا الكراهة التحريمية، هذا هو اصطلاح الفقهاء المتأخرين.
أما اصطلاح الأئمة المتقدمين -كقول الإمام أحمد رحمه الله: أكره كذا، أو يكره كذا- هل يحمل على الكراهة التنزيهية؟ أو يحمل على التحريم؟ أو ينظر إلى القرائن؟ هذا تحته آراء، وأصحها هو القول الأخير، فقول الإمام أحمد رحمه الله: أكره كذا، أو يكره كذا، فيه ثلاثة أوجه لأصحابه، قيل: بأنه يحمل على الكراهة للتحريم، وقيل: بأنه يُحمل على التنزيه، وقيل: بأنه ينظر في ذلك إلى القرائن.
شرع المؤلف رحمه الله في بيان الأحكام الوضعية، وتقدم لنا أن الحكم الوضعي هو: خطاب الشارع المتعلق بأعمال المكلفين بالوضع، يعني: بوضع الشيء علة أو سبباً أو شرطاً أو صحة... إلخ، وتقدم لنا أيضاً أن ذكرنا الفرق بين الأحكام الوضعية والأحكام التكليفية.
اختلف الأصوليون رحمهم الله في تقسيمات الحكم الوضعي، فقسمه بعضهم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: السبب.
والثاني: الشرط.
والثالث: المانع.
وأضاف بعض الأصوليين حكماً آخر, وهو العلة، فصارت أربعة: السبب والشرط والمانع والعلة.
وأضاف بعضهم غير هذه الأشياء، فقال بأن الأحكام الوضعية هي: الشرط والسبب والمانع والعلة، ويضاف إلى ذلك أيضاً: الصحيح والباطل كما ذكر المؤلف، والعزيمة والرخصة، والقضاء والأداء والإعادة، فجعل هذه الأشياء كلها من الأحكام الوضعية، وهذا إن شاء الله سيأتي بيانه، وسنتعرض لهذه الأحكام كلها بإذن الله.
الصحيح في اللغة: السليم من المرض.
وأما في الاصطلاح فكما عرفه المؤلف رحمه الله بأنه: (ما يتعلق به النفوذ ويعتد به)، سواء كان عبادة أو عقداً، فالصحيح من العبادات: ما أجزأ وأسقط الطلب، وذلك إذا كانت العبادة موافقة للأمر، لحديث عائشة رضي الله عنها: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).
وأيضاً الصحيح من المعاملات: ترتب الأثر المقصود من المعاملة.
فالمراد بالصحة في العبادات: سقوط الطلب، والإجزاء وعدم القضاء، وذلك إذا كانت موافقة للأمر، والمراد بالصحة من المعاملة هو: ترتب الأثر المقصود من المعاملة.
فمثلاً في البيع: إذا صحت المعاملة انتقلت الملكية في البيع فيملك المشتري العين، وفي الإجارة إذا صح العقد انتقلت المنفعة, ونقول مثل ذلك: في المساقاة وفي المزارعة.
وعلى هذا يكون الفاسد من العبادات هو: ما لم يجزئ ولا يسقط القضاء والطلب؛ لعدم موافقة الأمر الشرعي، والفاسد من المعاملات: ما لم يترتب أثره المقصود من المعاملة.
ولا يعتد بالعبادة والمعاملة ولا تكون نافذة إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع.
وأما في الاصطلاح فكما عرفه رحمه الله: بأنه ما لا يتعلق به النفوذ ولا يعتد به.
وكما تقدم لنا أن الفاسد والباطل من العبادة هو: ما لم يجزئ ويسقط الطلب، وأما الفاسد والباطل من المعاملة فهو: عدم ترتب الأثر المقصود من المعاملة.
إلا أنهم يفرقون بين الفاسد والباطل في موضعين:
الموضع الأول: في باب الحج، فقالوا: بأن الباطل ما ارتد فيه، وأما الفاسد فهو ما جامع فيه قبل التحلل الأول.
الموضع الثاني: في باب النكاح, فقالوا: الباطل: ما أجمع العلماء على بطلانه، مثل النكاح في أثناء العدة ونكاح الخامسة، والفاسد: ما اختلف العلماء في فساده.
وتقدم لنا أن الباطل في العبادات هو: الذي لا يجزئ ولا يسقط الطلب، والباطل في المعاملة هو: عدم ترتب الأثر المقصود في المعاملة.
نقول: هذا ينقسم إلى أقسام:
القسم الأول: العبادة الصحيحة التي توفرت فيها الشروط وانتفت عنها الموانع، فهذه يثاب عليها الإنسان، ولا إشكال في ذلك.
القسم الثاني: عبادة غير صحيحة، لكن يثاب عليها الإنسان؛ كأن يصلي صلاة ويخل بركن من الأركان أو بشرط من الشروط, ثم يتبين له ذلك، فنقول: هو مثاب على هذه العبادة كحكم تكليفي، لكن كحكم وضعي يجب عليه أن يعيد؛ لاختلال الشرط أو اختلال الركن، أو وجود المانع.
القسم الثالث: عبادة صحيحة لكن لا يثاب عليها، كما لو قارن العبادة معصية تخل بالمقصود، أي أن العبادة توفرت فيها الشروط وانتفت عنها الموانع، لكن قارن هذه العبادة معصية أخلت بالمقصود، فهذه عبادة صحيحة, لكنه غير مثاب عليها، وهذا مثاله الصيام، فإذا صام الإنسان لكن في أثناء صيامه أثم في صيامه، فالأركان موجودة، والشروط وانتفاء الموانع موجودة، لكنه مثلاً: قال الزور، أو عمل بالزور في أثناء الصيام؛ فنقول: هذا الصيام مجزئ ومسقط للطلب، لكنه قد تأتي هذه المعاصي على الثواب.
ونظير ذلك أيضاً: قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( من أتى كاهناً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً )، فهذه الصلاة صحيحة ومسقطة للطلب ومجزئة، لكن لما قارنت هذه المعصية فقد أتت على الأجر.
والله أعلم, وصلى الله وسلم على نبيه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر