إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم فقهنا في الدين، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ثم أما بعد:
إخواني وأخواتي في الله! أهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء المبارك إن شاء الله، وأسأل الله عز وجل أن يغشانا برحمته، وأن ينزل علينا سكينته، وأن يحفنا بملائكته، وأن يذكرنا في ملأ عنده خير من هذا الملأ؛ إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
هذا هو الدرس الرابع من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ودروس الصديق لا تنتهي؛ فإن الرجل كان أمة فعلاً، جمع صفات الأمة الإسلامية بكاملها، إن أردت أن تتحدث عن أبي بكر تحدثت عن الإسلام، وإن أردت أن تتحدث عن الإسلام تحدثت عن أبي بكر الصديق ، رجل في أمة، وأمة في رجل، الصديق رجل في أمة إذا ألم بالأمة خطب كان الصديق هو الرجل، والصديق أمة في رجل إذا جمعت خير الأمة وجدته ملخصاً ومركزاً في الصديق رضي الله عنه، ولا عجب في ذلك، فقد شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام كان أمة، يقول الله عز وجل: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120]، ما زلنا نقلب بعض الصفحات المجيدة في تاريخ المسلمين، ما زلنا نقلب صفحات قلائل في مجلد الصديق الضخم الهائل، ما زلنا نتدبر ونتعلم ونعتبر ونستمتع بحياة الصديق رضي الله عنه، نحن تكلمنا في الدروس الثلاثة التي مرت عن ثلاث صفات رئيسية من صفات الصديق رضي الله عنه.
وليس معنى أننا نذكر صفات معينة للصديق أن هذه هي كل صفات الصديق ، بل نحن نذكر صفات تميز بها بوضوح عن غيره، وإن كان لا يمنع هذا أنه يتمتع بكل صفات الخير التي وجدت في رجال الإسلام، كما لا يمنع هذا أيضاً أن غيره من الصحابة الكرام يتمتعون أيضاً بنفس الصفات ولكن فاقهم فيها الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
والصفات التي ذكرناها في الدروس السابقة هي:
حب الرسول صلى الله عليه وسلم، ورقة القلب، والسبق.
هذه صفات رئيسية غلبت على حياة الصديق ومنها خرجت كل الصفات الحميدة الأخرى التي تمتع بها رضي الله عنه من صدق ورحمة وعدل وأدب في الحديث، وأمانة في المعاملة، وشجاعة في القتال .. إلى غيرها من الصفات.
والصحابة جميعاً تمتعوا بهذه الصفات، فالصحابة جميعاً أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس كحب الصديق ، والصحابة جميعاً تمتعوا بالقلوب الرقيقة والطبع الرحيم، كل الصحابة كانوا كذلك حتى الذين يعتقد الناس في شدتهم وبأسهم أمثال: عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهم، كل هؤلاء كانت لهم عاطفة جياشة وقلوب رحيمة لكن ليس كـالصديق .
وكل الصحابة كانوا سباقين إلى الخير، لكن ما سبقوا الصديق رضي الله عنه .. وهكذا فإن الله عز وجل جعل من الصديق رضي الله عنه نموذجاً رائعاً لأتباع الرسل، استوعب رسالة الإسلام بكاملها، وحملها نقية خالصة لمن بعده، فرضي الله عن الصديق ورضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
واليوم نتحدث عن صفة رابعة أصيلة في حياة الصديق رضي الله عنه، وهي صفة صعبة في تطبيقها وتنفيذها تحتاج إلى إيمان عظيم، وإلى همة عالية، وإلى فهم دقيق عميق.
تلك الصفة هي: إنكار الذات.
فماذا يعني إنكار الذات؟
إنكار الذات معناه: أن الإنسان لا يرى لنفسه حظاً في حياته مطلقاً، وإن كان حلالاً وإن كان مباحاً وإن كان مقبولاً في عرف الناس وفي الشرع، لكنه دائماً يؤخر نفسه ويقدم غيره.
إنكار الذات معناه: أن تخلص النفس من حظ النفس فلا تهتم بثناء ولا مدح، ولا تنتظر أن يشار إليها في فعل أو قول.
إنكار الذات معناه: أن تؤخر حاجاتك الضرورية وتقدم حاجات الآخرين، وإن لم ترتبط معهم بعلاقة رحم أو مال أو مصلحة.
إنكار الذات هو أعلى درجات السمو في النفس البشرية، تقترب فيه النفس من أفعال الملائكة، بل لعلها تفوق الملائكة؛ فإن الملائكة جبلت على الطاعة، والإنسان مخير بين خير وشر.
إنكار الذات ليس معناه أبداً: أن الإنسان ليس له قيمة، بل بالعكس المنكرون لذواتهم هم أعلى الناس قيمة، وهم أكثر المجتمع إيجابية، وهم أكثر الناس نفعاً للناس، لكنهم لا يطلبون على ذلك ثمناً في الدنيا.
وأحسن مثال يوضح إنكار الذات هو الأم مع أولادها، فالأم لا ترى نفسها مطلقاً أمام أولادها، فقد تتعب وقد تسهر وقد تفكر وقد تنفق وقد تبذل أي شيء أي شيء، كل ذلك تفعله الأم وهي سعيدة؛ لأنها أسعدت أولادها، ولا ترى ما أصابها من تعب أو سهر أو مرض، هذه هي الأم، وإنكار الذات عند المؤمن أعلى من ذلك، أعلى من ارتباط الأم بوليدها؛ لأن الأم أولاً ترتبط بوليدها بروابط فطرية طبيعية، فأي أم تحب ابنها؛ لأن الله زرع هذا الحب في قلبها. هذا أمر.
الأمر الثاني: أن الأم تنكر ذاتها فقط مع أطفالها، لكن قد لا تفعل هذا مع جيرانها أو معارفها أو غيرهم من الناس، أما المؤمن الذي ينكر ذاته في حياته كلها فهو يفعل ذلك مع القريب والبعيد، ومع الأهل وغيرهم، ومع الأصحاب وغير الأصحاب، بل قد يفعله مع من أخطأ في حقه وآذاه؛ إنها صفة عجيبة صعبة عالية جداً في أعلى درجات سلم الإيمان.
الصديق رضي الله عنه وأرضاه من أروع الأمثلة الإسلامية في صفة إنكار الذات، الصديق أنكر ذاته في حق الله عز وجل، فلا يأمر الله بشيء ولا ينهى عن شيء إلا وامتثل واستجاب ولبى مهما كانت التضحيات.
الصديق أنكر ذاته في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، ومواقفه في إنكار الذات مع الرسول صلى الله عليه وسلم لا تحصى ولا تعد، فلم يكن يرى نفسه مطلقاً بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم.
الصديق أنكر ذاته في حق المؤمنين حتى من أخطأ منهم في حقه، وحتى من تجاوز خطؤه الحدود المألوفة والمعروفة بين الناس، وابحث في حياة الصديق ونقب أين حظ النفس عند الصديق ؟ لا تجد، أين إشباع الرغبات الطبيعية عند البشر: من حب للمال، وحب للجاه، وحب للسلطان، وحب للسيادة، وحب للظهور، وحب للذكر، بل وحب للحياة، أين ذلك في حياة الصديق ؟ والله! لا أجده.
إنه مثال عجيب من البشر وآية من آيات الرحمن في خلقه، وتعالوا نستمتع بإنكار الذات عند الصديق ، ونمر مروراً سريعاً فقط، فدرس أو مائة درس لا تكفي لذلك، لكن نمر مروراً سريعاً على حياة الصديق .
فمثلاً: موضوع المال، يا ترى أين حظ الصديق في ماله؟ وتعالوا كذا نقفز قفزات في تاريخ الصديق ، فسنلاحظ أشياء عجيبة جداً في سيرته.
الصديق جبل على العطاء، يعني: يحب أن يعطي، يعني: هناك ناس جبلوا على العصبية، وناس على الشجاعة، وناس ظرفاء ودمهم خفيف، والصديق جبل على حب العطاء، فطرته تدفعه إلى العطاء، وتشعر وأنت تقرأ سيرته أنه يستمتع بالعطاء، ويبحث عن العطاء، وهذا شيء عجيب.
والإنسان بصفة عامة جبل على حب المال حباً شديداً، قال عز وجل: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وقال: قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100]، أي: شديد البخل، وشديد المنع، والصديق لم يكن كذلك، وسبحان الذي سواه على هذه الصورة، الصديق كان يهوى الإنفاق.
وهنا أمر عجيب جداً: الصديق كان يستمتع بهذا الإنفاق حتى في الجاهلية قبل الإسلام، والزعامة في قريش كانت مقسمة بين عشر قبائل قبل الإسلام، فمثلاً: السقاية والرفادة في بني هاشم، والحجابة والولاء والندوة ومفتاح الكعبة في بني عبد الدار، والسفارة في بني عدي .. وهكذا.
وأبو بكر كان مسئولاً عن ضمان الديات والمغارم في مكة، يعني: واحد عليه دية، واحد يريد قرضاً، واحد يريد أن يشتري جملاً، يذهب إلى الصديق رضي الله عنه وأرضاه ليضمنه عند قريش، وإذا سأل الصديق قريشاً ضماناً قبلوه، وإذا سألهم غيره خذلوه.
وهذا عمل في منتهى الخطورة، وهو أن يتحمل الصديق الديات، فإذا الرجل لم يوف الدية يتحمل الصديق ، وإذا لم يوف الرجل دينه يتحمل الصديق أقساطاً على الرجل إذا لم يوف أقساطه، أي: أنه عمل فيه خسارة، ويحتاج إلى كثير مال، وإلى نفس راغبة في قضاء حوائج الناس وتحمل مغارمهم.
وبهذا نستطيع أن نفهم الوصف الذي وصف به ابن الدغنة الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فإذا كان هذا هو الصديق قبل إسلامه فما بالكم به بعد أن أسلم؟ وما بالكم كيف يكون حاله إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً قدسياً ينقله عن رب العزة عز وجل، يقول فيه الله تعالى: (أنفق يا ابن آدم! أنفق عليك)، كما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
بل كيف يكون حاله وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم أن مال العبد لا ينقص من الصدقة؟ والصديق رضي الله عنه كان واضعاً نصب عينيه حقيقة ما اختفت لحظة عن بصره وعقله وقلبه، تلك الحقيقة هي: إن كان قال فقد صدق صلى الله عليه وسلم، هكذا القول عنده، يعني: كان عند الصديق التصديق الكامل الذي لا شك فيه، فما بالكم إذا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم ويقول: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، - وذكر منها صلى الله عليه وسلم -: ما نقص مال عبد من صدقة)؟
هذه الطبيعة الفطرية، وهذا اليقين في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر لنا كثيراً من مواقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
الصديق رضي الله عنه شاهد مع بدايات الدعوة في أرض مكة التعذيب الشديد والنكال الأليم بكل من آمن من العبيد، والعبيد في ذلك الزمان يباعون ويشترون، وليس لهم أدنى حق من الحقوق، فتألمت نفس الصديق الرقيقة لهذه الوحشية من كفار مكة، وسارع لينقذ هذا ويفدي ذاك، فكان يشتري العبد ثم يعتقه لوجه الله، وحاله: لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً.
فـبلال رضي الله عنه وأرضاه كان يعذب على صخور مكة الملتهبة وعلى صدره الأحجار العظيمة، وكان سيد بلال في ذلك الوقت أمية بن خلف عليه لعنة الله، فمر عليه الصديق رضي الله عنه وأرضاه فساوم عليه سيده أمية بن خلف وعرض عليه أن يشتريه بمال كثير.
وفي رواية: أنه اشتراه بسبع أوقيات من الذهب، وهناك حوار لطيف جداً دار بين الصديق رضي الله عنه وأرضاه وبين أمية بن خلف ، فـأمية بن خلف يريد أن يبث الحسرة في قلب الصديق فقال: لو عرضت علي أوقية واحدة من الذهب لبعته لك، يعني: يحاول أن يحسره على البيعة، والصديق طبعاً كان سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى، فالرجل قال له: سبع أوقيات من الذهب، فوافق، وطبعاً لو كان واحداً آخر كان ساومه على سعر أفضل، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه رد على أمية بن خلف في هدوء وقال: لو طلبت مائة أوقية من الذهب لاشتريته، فارتدت الحسرة في قلب أمية بن خلف .
والمشرك لا يدرك قيمة بلال بعد أن أسلم، لكن الصديق رضي الله عنه وأرضاه يدرك ذلك، فهذا العبد الأسود هين في نظر المشركين وأهل الدنيا، لكن هذا العبد ذاته ثقيل في ميزان الله عز وجل بما يحمل في قلبه من إيمان وتوحيد وإسلام، وهذه المعاني الرقيقة السامية لا يفهمها أهل المادة، لكن فهمها الصديق بعمق وتعامل على أساسها.
اشترى الصديق رضي الله عنه وأرضاه أم عبيس رضي الله عنها وأعتقها لله، واشترى زنيرة رضي الله عنها وأعتقها كذلك، كل هؤلاء في ميزان الصديق ، الصديق رضي الله عنه وأرضاه مات والعبيد ماتوا والمال ذهب والسنوات مرت وبقى الأجر والثواب والعمل الصالح والحسنات التي لا تنقطع.
اشترى النهدية وبنتها رضي الله عنهما وأعتقهما، وفي إعتاق النهدية وبنتها قصة لطيفة: كانت النهدية وابنتها ملك لامرأة من بني عبد الدار، فمر بهما الصديق رضي الله عنه وقد بعثتهما السيدة المالكة لهما بطحين لها، وهي تقول: والله! لا أعتقكما أبداً، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: حل يا أم فلان، يعني: تحللي من يمينك، لأنه يريد أن يعتق المرأتين، فقالت: حل! أنت أفسدتهما فأعتقهما، قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا، قال الصديق : قد أخذتهما، وهما حرتان، أرجعا إليها طحينها، وهنا نجد رداً لطيفاً من الجاريتين المسلمتين اللتين تخلقتا بخلق الإسلام الرفيع، قالتا: أنفرغ منه يا أبا بكر ! ثم نرده إليها، سبحان الله! بعد النجاة من هذا الظلم الشديد والسخرية المهينة ما زالتا تحرصان على مال السيدة المالكة لهما حتى بعد الإعتاق، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه: ذلك إن شئتما.
ومر الصديق رضي الله عنه وأرضاه بجارية بني مؤمل -حي من بني عدي- وكانت مسلمة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه آنذاك مشركاً، وكان شديد الغلظة على المسلمين، وكان يضربها ضرباً مؤلماً لساعات طوال، ثم يترك ويقول: إني لم أتركك إلا عن ملالة، يعني: تعبت من كثر الضرب، فمر بها الصديق رضي الله عنه وأرضاه فابتاعها ثم أعتقها لوجه الله.
وسبحان الله! انظر إلى عظمة الإسلام الذي حول هذا الإنسان الغليظ الظالم إلى عمر بن الخطاب الإنسان الرقيق الخاشع العادل الفاروق، هذه هي فعلاً والله! معجزة الإسلام الكبرى: إخراج أجيال صالحة من مجتمع فاسد.
وهكذا كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه على هذا النهج مع غيرهم من العبيد، دعا الصديق رضي الله عنه وأرضاه غلامه عامر بن فهيرة إلى الإسلام، فلما أسلم أعتقه أيضاً لوجه الله.
بل إن الأمر لم يكن يقف عند مجرد إعتاق العبيد، بل كان يستمر رضي الله عنه وأرضاه في كفالتهم بعد الإسلام، حتى من كان يأتي من خارج مكة لما يسلم كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه يستضيفه في بيته ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن لي يا رسول الله! في إطعامهم، كما فعل مع أبي ذر مثلاً.
والصديق رضي الله عنه وأرضاه الله لم يكن يفرق بين عبد وأمة أو قوي وضعيف، كان يعتق فقط بسبب الإسلام، بصرف النظر عن طبيعة وقوة العبد أو الأمة، وهذا الأمر طبعاً لفت نظر الأب أبي قحافة فقال له: يا بني! إني أراك تعتق رقاباً ضعافاً، فلو أنك إذ فعلت أعتقت رجالاً جلداً يمنعونك ويقومون دونك، والصديق من بطن ضعيف من بطون قريش، بطن بني تيم، فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه في إيمان عميق: يا أبت! إنما أريد ما أريد لله عز وجل، إني إنما أريد ما أريد لله عز وجل.
وأنزل الله في حقه قرآناً كريماً، قال عز وجل: وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل:17-18]، أي: يتطهر، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:19-21].
قال ابن الجوزي : أجمع العلماء أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وتخيل أن الله عز وجل ينزل قرآناً يشهد فيه للصديق بالتقوى، بل بأنه الأتقى، ويشهد له بإخلاص النية، فهو يريد أن يتزكى، ولا يريد جزاءً من أحد، وإنما يريد وجه الله فقط، ثم انظر إلى الوعد الرباني الجليل العظيم: وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21].
ومهما تخيلت يا أخي! من ثواب وجزاء ونعيم لا يمكن أبداً أن تتخيل ما أعده الله عز وجل لمن وعده بإرضائه: وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21].
روى أبو داود في سننه: عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما إنك يا
والصديق رضي الله عنه وأرضاه كان يملك عند إسلامه أربعين ألف درهم، فأنفقها جميعاً في سبيل الله عز وجل أنفق منها خمسة وثلاثين ألف درهم في مكة، ولم يبق إلا خمسة آلاف فقط أخذها معه في الهجرة، وأنفقها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين حتى فني ماله، ولا نقول: فني، بل بقي ماله؛ لأن الذي يبقى هو الذي ينفق في سبيل الله، والذي يفنى هو الذي يمسك في يد العبد.
وأريدكم أن تتخيلوا قدر هذا الإنفاق الذي أنفقه الصديق ، تعالوا انظروا قيمة هذه الأربعين ألف درهم في زماننا، ونحن نتكلم على زمن مر عليه أكثر من ألف وأربعمائة سنة، إذا كانت قيمة الجنية المصري -مثلاً- تغيرت كثيراً في غضون عشرة أو عشرين أو ثلاثين سنة، فما بالك بألف وأربعمائة سنة.
وتعالوا كذا نقوم بحسبة لطيفة، ورد في بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه اشترى شاة بدرهم) ، فإذا الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان يملك ما يوازي أربعين ألف شاة، ونحن اليوم في سنة 1422 هـ نشتري الشاة بمتوسط ( 400 ) جنية مصري مثلاً، وطبعاً فيه بـ ( 300 )، وفيه بـ ( 500 )، لكن المتوسط ( 400 )، والصديق رضي الله عنه وأرضاه كان يملك أربعين ألفاً نضربها في أربعمائة، يكون الناتج ما يعادل ستة عشر مليون جنيه مصري، يعني: ثلاثة مليون دولار أو أكثر، وطبعاً كان الدرهم له قيمته، فلم يكن هناك تضخم ولا أزمة اقتصادية ولا غير ذلك، لم يكن فيه هذا الكلام كله.
وسبحان الله! أنفق كل هذه الثروة الطائلة في سبيل الله، أنفق ملايين في عرف هذه الأيام، وفوق ذلك كان تاجراً لم يتوقف عن تجارته، فهناك إنفاق فوق هذه الأموال المدخرة، وفوق ذلك كان ينفق في المدينة المنورة من تجارته هناك، فقد أنفق جل أمواله في مكة، لكنه عاود الكسب من جديد.
أنفق في تبوك أربعة آلاف درهم، يعني: حوالي مليون ونصف مليون جنيه مصري، وكانت هي كل ما يملك من مال، وتخيل واحداً عنده مليون ونصف يخرجه كله في سبيل الله، إنه شيء عجيب جداً! لكن هذا هو الصديق ، ينفق كل ماله، فإذا سئل: ماذا ترك لأهله؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، وما أعظم ما ترك!
هذا الإنفاق العجيب والنفس المعطائة كل هذا هو الذي دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول -كما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه-: (ما نفعني مال قط ما نفعني مال
وفي رواية أخرى للترمذي : عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه إلا
موقف آخر من مواقف إنكار الذات في قضية المال: روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير من الشام، فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلاً) ، يعني: أن الصحابة جميعاً في هذا العهد العظيم قاموا للقافلة، وهذه كارثة وفتنة، وهذه القافلة جاءت من الشام جاء بها دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه وفيها تجارة ومال، فقام الصحابة كلهم إلا اثني عشر رجلاً فقط، ولكن يخفف من وقع الكارثة أمران:
الأمر الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخطب الجمعة في ذلك الزمن بعد الصلاة مثل صلاة العيد، والصحابة كانوا قد قاموا بالصلاة بالفعل.
الأمر الثاني: أن المدينة كانت في مجاعة وغلاء شديد في الأسعار، وشح في الطعام في أيدي الناس، لكن في النهاية الرسول صلى الله عليه وسلم يخطب والصحابة ينصرفون ولم يبق إلا اثنا عشر رجلاً فقط.
روى ابن حبان بسند صحيح: أنه كان فيهم أبو بكر وعمر ، فلا شيء ممكن أن يصرف مثل أبي بكر الصديق أو مثل عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين حظ النفس؟ وأين حظ العائلة؟ وأين حظ الأولاد؟ لا يوجد حظ للنفس مطلقاً عند الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فأنزل الله عز وجل قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11].
وهذا موقف آخر للصديق رضي الله عنه وفيه دروس عظيمة:
روى البخاري ومسلم عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: (إن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مرة: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، وإن
والعلماء يقولون: الكفارة إما لم يعلمها عبد الرحمن وإما يقصد: أنه لم يكفر قبل الحنث في اليمين، لكنها على كل حال واجبة، ومن المؤكد أن الصديق فعلها، كما ذكر النووي في شرح هذا الحديث، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه)، ويمين الصديق كان مؤكداً ولم يكن لغواً، والقصة كانت بعد تشريع الكفارة، فلابد أن الصديق قد كفر عن ذلك ولم يصل هذا الأمر إلى عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.
نعود إلى مواقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وانظروا إلى هذا الموقف الأغرب:
هذا الصديق أنفق ماله جميعاً في سبيل الله حتى وصل الأمر إلى أن تحدث مثل هذه القصة: روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة فإذا هو بـ
وفي رواية أخرى أن هذا الأنصاري هو أبو الهيثم مالك بن التيهان رضي الله عنه، قال: (فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة زوجة
نسأل الله شكر نعمته، وأن يحاسبنا بفضله.
وتعالوا نرى جانباً آخر من إنكار الذات عند الصديق رضي الله عنه وأرضاه وأين حظ نفسه في أن يرى مكانه؟ أو في أن يشار إليه أنه فلان، حتى وهو خليفة وأعلى رأس في الدولة:
ذكر له ذات مرة امرأة نذرت أن تحج وهي صامتة لا تتكلم، فلم يرسل إليها أحداً، ولم يرسل في طلبها، بل ذهب إليها بنفسه وهو الخليفة، فقال لها: تكلمي؛ فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، وهي لا تعرفه، فتريد أن تعرف من هو فقالت: من أنت؟ قال: أنا امرؤ من المهاجرين، سبحان الله! هكذا بهذا التجهيل الكامل لشخصيته وهو الخليفة، قال: أنا امرؤ من المهاجرين، قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش، قالت: من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسئول، أنا أبو بكر ، فعرفت أنه الخليفة، لكنها لم تفزع، وكيف تفزع وهي ترى هذا التواضع من الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ لكن شجعها تواضعه أن تسأله سؤالاً كان يشغلها، فقالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقام به أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رءوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس، يعني: الصديق جعل بقاء الأمر الصالح بصلاح الأئمة والقواد، مثل الذي قال لـعمر : عففت فعفت الرعية.
الشاهد من القصة: عدم سعي الصديق لإظهار نفسه حتى مع كونه خليفة.
موقف آخر جميل من مواقف الصديق في إنكار الذات:
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه، وأقام الناس معه)، السيدة عائشة فقدت عقداً لها، فأوقف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الجيش بكامله ليبحث عن العقد، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يهتم بمشاعر السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
والمشكلة الأكبر كما تقول السيدة عائشة : إنهم ليسوا على ماء، وليس معهم ماء، يعني: ليس هناك آبار ماء موجودة في المنطقة ولا يوجد معهم ماء، ومع ذلك في هذه الظروف الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف الجيش للبحث عن العقد، وزادت المشكلة أن نام بعض الرجال، فاستيقظوا جنباً، والماء لا يكفي للغسل، إنه موقف عظيم جداً! ولم تكن آية التيمم قد نزلت بعد، كل هذا المفروض أنه يعظم من شأن السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ومن شأن أبيها الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فقد أولى النبي صلى الله عليه وسلم اهتماماً عظيماً بالسيدة عائشة ولا شك أن هذه فضيلة، لكن الصديق رضي الله عنه لم يكن ينظر إلى هذا، كان ينظر إلى المشقة التي وقعت على المسلمين، ونسي فخر نفسه، وتذكر ألم المسلمين.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (فجاء
فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه وأرضاه: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، فلهم بركات كثيرة إسلام ودعوة وإعتاق للعبيد وإنفاق وهجرة وجهاد وأيضاً آية التيمم، إنها فعلاً عائلة مباركة.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.).
جانب آخر من جوانب إنكار الذات عند الصديق رضي الله عنه:
أين حظ نفسه في الراحة؟
أريتم الهجرة وما فعل فيها رضي الله عنه وأرضاه؟ وقد تكلمنا قبل هذا عن الهجرة، أريتم موقف تجهيز الغار وتنظيفه، ثم تجهيز مكان ينام فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بجوار الصخرة، ثم البحث عن الطلب، ثم حلب اللبن وصب الماء عليه حتى يبرد، أليس الصديق أيضاً مسافراً كرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ألا يريد هو الآخر الراحة والنظافة والظل والفراش والشراب؟ لكنه لا يرى نفسه مطلقاً، ظل هكذا في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم مستمتعاً بهذه الخدمة حتى دخلوا المدينة.
وعندما دخلوا المدينة وارتفعت الشمس بعد كل هذا التعب والسفر والطريق الطويل يجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ليستريح، فيقف الصديق رضي الله عنه ليضلل عليه بردائه، ألا يتعب هذا الرجل؟ أليست له احتياجات البشر العادية؟ ألا يجد له حقاً في أي شيء؟ أليست هناك حدود لطاقته؟ سبحان الله! هذا هو الصديق المنكر لذاته.
أين حظ الصديق في الكلام؟
لقد آتاه الله قوة في الحجة، وطلاقة في اللسان، وحكمة في البيان، ومع ذلك كان قليل الكلام جداً، والكلام شهوة، وكثير من الناس -وبالذات الخطباء- يحبون أن يستمع الناس لكلامهم، والصديق مع أنه كان خطيباً مفوهاً، إلا أنه كان يتعمد الصمت قدر ما يستطيع.
الصديق رضي الله عنه وأرضاه يضع في فمه حصاة تمنعه من الكلام، سبحان الله! لماذا هذا؟ إذا أراد أن يتكلم رفعها، وبذلك يأخذ وقتاً بالتفكير فيما يريد أن يقول.
دخل عليه عمر بن الخطاب ذات مرة ورآه ممسكاً بلسانه وعلى وجهه آثار الحزن، فقال: ما لك يا أبا بكر ؟! قال: هذا الذي أوردني الموارد، اللسان، الصديق يقول: هذا الذي أوردني الموارد، الصديق رضي الله عنه وأرضاه يحاسب نفسه على كلماته القلائل، فكيف بمن أضاع عمره في كلام هو من اللغو أو من الباطل، أو من الذي لا ينبني عليه كثير عمل.
نسأل الله أن يهدينا إلى الطريق المستقيم.
أين حظ نفسه في الإمارة والسيادة؟ فمع كونه الوزير الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قلما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أميراً على سرية، كان صلى الله عليه وسلم يبعثه تحت إمرة غيره، فما كان يعترض ولا تتحرك نفسه لقياده أو لسلطة، وأحياناً يكون الأمير عليه حديث الإسلام، والصديق رجل له باع طويل في الإسلام، لم يكن ينظر لذلك، أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعمر ووجوه الصحابة تحت إمرة عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه في سرية ذات السلاسل سنة 8 هـ ، وكان إسلام عمرو بن العاص حديثاً جداً، يعني: أسلم منذ خمسة شهور، والصديق أسلم قبل ذلك بأكثر من عشرين سنة ومع ذلك فإنه تقبل الأمر بصدر رحب تماماً واستمع وأطاع لأميره عمرو بن العاص .
روى الحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن بريدة رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
قيمة الإمارة عند الصديق ظهرت في كلمة من كلماته قالها وهو ينصح رجلاً من المسلمين كان ربيلاً، وهو رافع بن عمرو الطائي ، والنصح هذا كان في نفس الغزوة ذات السلاسل، وكان رافع بن عمرو الطائي حديث الإسلام فقال: لا تؤمرن على اثنين، يعني لا تطلب الإمرة حتى على رجلين.
وظهر ذلك أيضاً في كلمة أخرى للصديق رضي الله عنه قال: إنه من يك أميراً فإنه من أطول الناس حساباً، وأغلظهم عذاباً، ومن لم يكن أميراً فإنه من أيسر الناس حساباً وأهونهم عذاباً.
هو هذا فهم الصديق للإمارة رضي الله عنه وأرضاه.
أين حظ النفس عند الصديق في صورته أمام الناس؟
قد تشوه صورته أمام الناس فلا يعتبر إلا بمصالح الآخرين وإن كان على حساب صورته، وتعالوا بنا نرى الموقف اللطيف هذا:
روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن قال: فلقيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر ، فصمت أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه فلم يرجع إلي شيئاً، فكنت عليه أوجد مني على عثمان ، يعني: غضبت منه أكثر مما غضبت من عثمان رضي الله عنه، قال: فلبثت ليالي، ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت علي حين عرضت علي حفصة فلم أرجع إليك شيئاً؟ فقلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت علي إلا أني كنت علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرها فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها النبي صلى الله عليه وسلم لقبلتها
وروى البخاري عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل
ثم أين حظ النفس عند الصديق في الانتصار لنفسه بعد الظلم؟ فهذا موقف من أروع مواقف الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وكل مواقفه رضي الله عنه رائعة:
لما وقع حادث الإفك وتكلم الناس في حق السيدة عائشة أم المؤمنين وزوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنة الصديق رضي الله عنهما، كان ممن تكلم في حقها مسطح بن أثاث رضي الله عنه، والحقيقة أن الذين تكلموا كلهم في حقها في كفة، ومسطح رضي الله عنه وأرضاه في كفة لوحده؛ لأنه:
أولاً: هو من المهاجرين، ليس منافقاً أو حديث إسلام.
ثانياً: هو ابن خالة الصديق ومن أعلم الناس بـعائشة رضي الله عنها، الطاهرة المطهرة، البريئة العفيفة الشريفة.
ثالثاً: كان الصديق يعوله وينفق عليه، فـمسطح كان فقيراً وجعل الصديق على نفسه أن يعطي له عطاءً ثابتاً يكفله به، وبعد كل هذا طعن في السيدة عائشة ولم يطعن فيها بخطأ بسيط أو هفوة عابرة، لا، بل طعن في شرفها، واتهمها أنها فعلت جريمة الزنا وهي متزوجة، ومتزوجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأي جريمة تلك التي فعلها مسطح رضي الله عنه؟ لكن الصديق فعل أقل رد فعل طبيعي متوقع من رجل طعن في شرف ابنته، ويشعر بالظلم الشديد، فحلف الصديق ألا ينفع مسطحاً بنافعة أبداً، وننتبه أن الصديق لا يمنع حقاً كان يعطيه لـمسطح ، ولكنه يمنع فضلاً كان يتفضل به عليه.
ثم مر شهر كامل عصيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الصديق رضي الله عنه، وعلى عائشة رضي الله عنها، وعلى سائر المؤمنين، ثم نزلت آية البراءة وأقيم على المتكلمين في عرض السيدة عائشة حد القذف ثمانين جلدة، وبعد هذه الآيات نزلت آية خاصة لـأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فيها خطاب رقيق من رب العالمين للصديق .
ونحن مهما عملنا لن نقدر قدر الصديق رضي الله عنه، يقول الله عز وجل: وَلا يَأْتَلِ [النور:22]، يعني: ولا يحلف، وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ [النور:22]، انظر يصف الصديق بأنه أُوْلُوا الْفَضْلِ [النور:22]، والعلماء لهم تعليقات كثيرة على هذه الشهادة من رب العالمين للصديق بأنه من أولي الفضل، والفضل هكذا على إطلاقه يعني كل أنواع الفضل.
حتى إن الرازي رحمه الله استخرج منها أربعة عشر فضلاً للصديق .
قال عز وجل: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22]، وانظر رحمة ربنا حتى بالذين وقعوا في عرض زوجة حبيبة محمد صلى الله عليه وسلم: وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22].
ثم جاء نداء رقيق ودود: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، وانظر إلى ردة فعل الصديق رضي الله عنه وأرضاه قال: بلى والله! إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا! وندم على قطعه للنفقة، وأقلع فوراً عن إمساكها، فأرجعها إلى مسطح وعزم على ألا يعود إلى قطعها أبداً، فقال: والله! لا أنزعها أبداً، كل هذا وليس بذنب بل قطع فضلاً، ولم يقطع حقاً لـمسطح ، ونحن يا ترى كم مرة نسمع نداء المغفرة من الله عز وجل وعندنا ذنوب كبيرة، كم مرة نسمع: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ [النور:22]، فنقول: إن شاء الله ربنا يتوب علينا، وما زلنا مصرين على الذنب.
وكم مرة نسمع: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، فنقول: إن شاء الله، لكن لما أحج، أو لما أتزوج، أو لما أكبر قليلاً، أو لما ربنا يريد.
وكم مرة نسمع: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:54-58].
كم مرة سمعنا هذه الآيات والذنوب كثيرة والران على قلوبنا: فجر يضيع، وعين تنظر إلى حرام، ولسان يغتاب، وقطع رحم، وديون لا ترجع، كل هذا وأكثر وفي الآخر نقول أيضاً: لا يهم، ربنا غفور رحيم، هو هذا الفرق بين الصديق ، السباق إلى التوبة من ترك فضل وبين المسوفين في التوبة، والله! يا إخوة نحن إن لم نتب في هذه اللحظة ليس في اللحظة التي ستأتي فإذاً نحن لم نتعلم شيئاً من الصديق .
أخيراً: أين حظ النفس عند الصديق في الحياة؟
ظل الصديق منذ أسلم وحتى مات زاهداً في حياته، معرضاً نفسه للخطر تلو الخطر لم ينظر لحياته مطلقاً، وانظر إلى موقف رائع تحكيه السيدة عائشة رضي الله عنها:
تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أنه لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة الأربعين رجلاً -يعني: في أوائل فترة مكة- ألح الصديق رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور فقال: (يا
سبحان الله! حتى وهو في هذه الحالة بين الحياة والموت! وبنو تيم لم يفهموا هذه العاطفة الجياشة، بل كل ما فهموه هو الوضع الخطير الذي وضعهم فيه الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وهاهم على وشك أن يفقدوا علماً من أعلامهم وهو الصديق رضي الله عنه.
ثم هاهم على أبواب معركة لا يحمد عقابها مع قبيلة عبد شمس قبيلة عتبة بن ربيعة ، وليست بالقبيلة الهينة في قريش، وهاهم قد توعدوا بقتل زعيم من زعماء قريش عتبة بن ربيعة ، ولا شك أنهم إن قتلوه ستنقسم قريش إلى أحزاب وشيع، وإن لم يقتلوه إذا مات الصديق فإنهم سيخلفون وعدهم، وهذا في عرف العرب إهانة لا تستقيم لهم بعده حياة، كل هذه الأمور المتفاعلة جعلتهم يعنفون الصديق ويلومونه ويكيلون له الكلام بما فيهم أبوه أبو قحافة ، ومع ذلك فـالصديق لا يقول إلا شيئاً واحداً: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
والتفتوا إلى أمه أم الخير -وكانت آنذاك مشركة- وقالوا: انظري أن تطعميه شيئاً أو تسقيه شيئاً، فلما انصرفوا حاولت أمه أن تطعمه وتسقيه، لكنه جعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ لا يستطيع أن يأكل أو يشرب إلا بعد أن يطمئن على حبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأشبهه بالأم التي أصيبت هي وولدها في حادث فأغمي عليها ثم أفاقت، أيكون لها من هم إلا الاطمئنان على ولدها؟ هكذا أحب الصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يزيد والله! قال الصديق لأمه: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه، وأم جميل هي أخت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكانت آنذاك مسلمة، وأخوها عمر كان مشركاً، فخرجت أم الصديق إلى أم جميل فقالت: إن أبا أبا بكر سائلك عن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وهنا نرى موقفاً لطيفاً من أم جميل رضي الله عنها، المرأة المسلمة الواعية الحذرة، خشيت من أم الصديق ؛ لأن أم الصديق لا زالت مشركة أفتكشف نفسها وتعرف بإسلامها أمامها ببساطة أو بسهولة؟ لا، وإن فعلت وكشفت إسلامها أتثبت لها أنها تعرف المكان الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسول عليه الصلاة والسلام يجلس مع الصحابة في دار الأرقم، ودار الأرقم مجهولة لأهل مكة، أفتدل على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هنا فكرت أم جميل بسرعة وقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، سبحان الله! لكنها في نفس الوقت تعرف من هو الصديق وتعرف أنه إذا كان قد أرسل أمه لها فالأمر خطير، وقد يكون هناك احتياج لشيء هام، هنا قالت أم جميل المرأة الحكيمة بلباقة: إن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك فعلت؟ قالت أم الصديق : نعم، فذهبت معها حتى دخلت على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه فوجدته صريعاً ملازماً للفراش في حالة خطيرة بين الحياة والموت، فقالت: والله! إن قوماً نالوا منك لأهل فسق وكفر، إني لأرجو أن ينتقم الله لك منهم، فأعرض الصديق عن كل هذا وكان له هم واحد قال: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم جميل احتارت، أم الصديق واقفة بجانبه وأم الصديق مشركة، هل ستقول له: أنا أعرف أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فهمست إلى الصديق هذه أمك تسمع، قال الصديق مطمئناً: لا شيء عليك منها، ويبدو أن الصديق كان يرى قرباً من أمه للإسلام، فلم ير بأساً من ذلك؛ لأن أمه -كما سيأتي- ما لبثت أن أسلمت، قالت أم جميل رضي الله عنها: سالم صالح، قال الصديق : أين هو؟ قالت: في دار الأرقم، قال الصديق رضي الله عنه وأرضاه في إصرار وعزيمة: فإن لله علي ألا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتظروا حتى جاء المساء، كل هذا وهو لم يأكل حتى جاء المساء، وهدأت الرجل بمكة، وسكن الناس، وخرجت المرأتان بـالصديق رضي الله عنه لا يقوى على السير ولكنه يتكئ عليهما، فسارتا به حتى أدخلتاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تأمل كثيراً لما فيه وأسرع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكب عليه يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكب عليه المسلمون، تقول السيدة عائشة : ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فأسرع الصديق يطمئن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي.
ثم إن الصديق رضي الله عنه وأرضاه وفي هذا الموقف لم ينس دعوته ولم ينس أمه، إنها ما زالت مشركة، وها هي ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنوار النبوة على وجهه، فتاقت نفسه إلى إسلامها، قال: يا رسول الله! هذه أمي برة بولدها وأنت مبارك فادعها إلى الله وادع الله لها عسى الله أن يستنقذها بك من النار، فدعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاها إلى الله فأسلمت، الحمد لله، أسلمت في هذا الموقف رضي الله عنها وعن ابنها وعن زوجها وعن أحفادها وعن أولاد أحفادها.
كان هذا طرفاً من جهاد الصديق بمكة وبذله لروحه فداءً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفداء لدين الله عز وجل، وسنعرض إن شاء الله في الحلقات القادمة لطرف من جهاده بنفسه في المدينة المنورة، فقد كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه منكراً لذاته في كل خطوة من خطوات حياته، لم يكن ينظر لنفسه أبداً، باع الصديق هذه النفس كاملة لله عز وجل فاشتراها الله عز وجل والثمن الجنة: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111].
ربح البيع أبا بكر رضي الله عنك وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر