قال المصنف رحمه الله: [ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم) ] هذا كلام عام في صيام الفرض وصيام الواجب وصيام النافلة، ربما دعاك غير مسلم في رمضان لتناول الطعام، فجوابك أن تقول: إني صائم، وربما دعاك مسلم صاحب عذر في ترك الصيام وهو لا يذكر أنه في صيام أو أنه في رمضان، فجوابك أن تقول: إني صائم.
أما في صيام النافلة لو قال لك أحد الناس: تفضل للطعام عندنا، فقل: إني صائم.
يقول الإمام النووي رحمه الله: (قوله: (فليقل: إني صائم) محمول على أنه يقول له اعتذاراً له وإعلاماً بحاله) يعني: يعتذر إليه عن سبب تخلفه عن قبول الدعوة أو الإقبال على الطعام بإظهار حاله، وذلك بأن يقول: أنا صائم، وليس هذا من الرياء، إلا أن ينوي الصائم بصيامه رياءً، وقلَّ أن ينوي صائم بصيامه رياء، فإن سمح له ولم يطالبه بالحضور سقط عنه الحضور، يعني: إذا دعاك إنسان يوم الإثنين أو يوم الخميس على الغداء وأنت تصوم هذين اليومين، فإما أن تقول له: أنا في هذا اليوم صائم، فإن أذن لك في عدم الحضور فقد سقط عنك وجوب الدعوة، وإن لم يسمح لك وجب في حقك الحضور، ولا يجب في حقك الطعام؛ لأنه يكفيك في حضرة الطعام أن تقول: إني صائم.
أما إجابة الدعوة فواجبة، فليس هناك تلازم بين الحضور وأكل الطعام، بل يمكن أن تحضر ولا تطعم، وإنما يكون الواجب في حقك أمرين:
الأمر الأول: أن تظهر حالك وتقول: إني صائم.
الأمر الثاني: أن تدعو لصاحب الطعام، كما قال عليه الصلاة والسلام: (فإن أكلت وإلا فصل) والصلاة هنا بمعنى الدعاء، أي: الدعاء لصاحب الطعام.
والأفضل للصائم إذا دعي إلى طعام إن كان يشق على صاحب الطعام صومه أن يفطر، وإلا فلا.
يقول النووي رحمه الله: (إن كان يشق على صاحب الطعام صومه استحب له الفطر، وإلا فلا). يعني: إذا لم يكن مشقة على صاحب الطعام، ولا أن هذا الأمر يحزنه، لا بأس أن تستمر في صيامك هذا إذا كان صوم تطوع، فإن كان صوماً واجباً يحرم الفطر، كما لو كنت تصوم نذراً أو كفارة أو تقضي قضاءً من رمضان، أما في حال صوم التطوع فيجوز الفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المتنفل في الصيام قال: (المتطوع أمير نفسه) يعني: المتنفل في الصيام لو بدأ ونوى الصيام من أول اليوم فإن له أن يفطر في الضحى، أو في الظهر، أو حتى في العصر، أو قبيل المغرب؛ لأنه أمير نفسه، لكن الأفضل والمستحب -لا الواجب- في حقه أن يكمل صومه ما دام قد شرع فيه، لكن لو أفطر فليس عليه شيء.
وفي هذا الحديث: أنه لا بأس بإظهار نوافل العبادة من الصلاة والصيام.. وغيرهما إذا دعت إليه حاجة، والمستحب إخفاؤها إذا لم تكن هناك حاجة ولا ضرورة تدعو وتلح إلى إظهارها.
كذلك لا تترك الأعمال العبادية خشية الرياء، فلا يقل قائل: أنا لن أصلي في المسجد وإنما سأصلي في البيت، هل يستقيم هذا؟ لا، لا يستقيم؛ لأن الله تعالى أمره بحضور الجماعة، والنبي عليه الصلاة والسلام أمره بحضور الجماعة، فهذا الباب لا يدخله رياء، وإن دخله رياء عند بعض الأشخاص فتجب المجاهدة في حقهم لدفع هذا الرياء، أما أن يتخلف عما أمره الله عز وجل به احتجاجاً بالرياء، فإن هذا أمر لا يستقيم.
وفي هذا الحديث: الإشارة إلى حسن المعاشرة، وإصلاح ذات البين، وتأليف القلوب، وحسن الاعتذار عند سببه، هذا كلام مأخوذ من اعتذار الرجل عند صاحب الطعام بعدم الأكل بسبب الصيام، وهذا عذر في الغالب مقبول عند الناس، بخلاف ما لو قلت: أنا لا أريد الطعام، أو اعتذرت عن تناول الطعام ولم تبد سبباً، ربما يوسوس الشيطان لصاحب الطعام بأن هذا الضيف يأنف أن يأكل من طعامه، خاصة لو كان هذا الضيف غنياً وصاحب الطعام فقيراً، فربما حاك في نفس هذا الفقير صاحب الطعام أن هذا الغني يتعفف ويتأفف أن يأكل من طعام الفقير، فتحدث المفسدة، وتتغير القلوب، ولذلك من حسن العشرة إبداء السبب وإبداء العذر بين يدي صاحب العذر.
ذكر ابن أبي شيبة وكذا عبد الرزاق في مصنفيهما باباً وهو: باب من رأى أن الغيبة تفطر، وباب آخر: باب من سب أو شتم أو رفث أو فسق أو جهل فلا صوم له. أي: فلا صوم له ألبتة، وليس فلا صوم له كامل الثواب.
وهذه المسألة كانت عند السلف محل حساسية شديدة جداً، يعني: أن الصائم لا يرفث ولا يفسق ولا يجهل ولا يصخب ولا يسخر، وفي إحدى الروايات وهي شاذة وتصحيف: ولا يجهل، أي: لا يتكلم بكلام يجهل فيه ويسب الآخرين، فإن فعل فلا صيام له ألبتة، والراجح أن صيامه صحيح وهو مذهب أكثر العلماء مع قلة الثواب؛ لأن هذه المعاصي تؤثر على حصول ثواب هذا الصيام كاملاً.
كما ذهب كثير من أهل العلم -وخاصة في هذا الزمان- إلى أن الذي يفسق ويرفث في الحج لا حج له، وقد حججت مع شيخ من أكابر علماء المغرب، فكان إذا رأى رجلاً يشرب سيجارة يذهب إليه ويقول له: حجك باطل، وكان إذا سمع رجلاً يسب أو يجهل أو يصخب أو يصيح بكلام فاحش بذيء يذهب إليه ويقول له: حجك باطل، فقلت له: ولم تبطل هذا الحج؟ قال: لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (فإن حج فلا يرفث ولا يفسق ولا يصخب)، والله تعالى يقول: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، فحمل النهي في الآية وفي الحديث على الفساد والبطلان.
يعني: لو حصل هذا الفسوق وهذا الرفث والجدال في الحج فإنه يبطل الحج.
هذا مذهب في غاية الشذوذ، والصواب: أن حجه صحيح ما دام قد استكمل الأركان والشروط، ولكن ثوابه محل نزاع، فلا شك أنه لا يستوي الذي التزم الكلام الطيب وابتعد عن الفاحش والبذيء والفسوق والجهالة.. وغيرها، مع الذي أتى بكل هذه المعاصي والمنكرات، لا يستويان عند الله عز وجل، وهذا هو الذي يستقيم مع مذهب السلف رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين.
قال: [ حدثني زهير بن حرب حدثنا سفيان بن عيينة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رواية قال: (إذا أصبح أحدكم يوماً صائماً فلا يرفث، ولا يجهل، فإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم) ].
قوله: (فلا يرفث) الرفث هو أن يتكلم بكلام فاحش بذيء؛ ولذلك نفى النبي عليه الصلاة والسلام عن نفسه الفحش والتفحش؛ لأن هذا خلق ذميم، والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين تحلوا بمكارم الأخلاق، وتخلوا عن مساوئ الأخلاق، والفحش والرفث والفسوق والجهل، كل هذا استعاذ منه النبي عليه الصلاة والسلام، بل استعاذ منه جميع الأنبياء.
وقوله: (ولا يجهل) الجهل قريب من الرفث، وهو خلاف الحكمة، وخلاف الصواب من القول والفعل.
وقوله: (فإن امرؤ شاتمه) (شاتمه) أي: سبه.
وقوله: (أو قاتله) أي: دفعه أو ضربه.
وقوله: (فليقل: إني صائم، إني صائم) يقولها بصوت مسموع أو بصوت خافت، والأفضل أن يجمع بين الاثنين، لأن المرء لو أسمع الشاتم والساب الجاهل ذلك، فكأنه يقول له: ما يمنعني عنك إلا أني صائم، والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أمراني ألا أدفع مقاتلتك بمقاتلة، وألا أدفع شتمك بشتم، وإنما أمراني أن أصبر وأحتسب، وأقول: إني صائم.
وهذا الفعل والكلام الجميل يشهد له القرآن والسنة، بل يشهد له واقع الناس، تصور لو أن امرأً شتمك فصبرت عليه وسكت ودعوت له، فإنه لو كان ناراً مشتعلة لا بد وأنه سينطفئ؛ لأنك قابلت الإساءة بالإحسان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، ولو أنك دفعت شر الشرير بالخير والعفو والصفح لانقلب لك صديقاً حميماً، ولو دفعته بمثل ما بدأك به لاشتعلت الخصومة، حتى كادت أن تهلك الأرواح والأبدان.
قال النووي رحمه الله: (واعلم أن نهي الصائم عن الرفث والجهل والمخاصمة والمشاتمة ليس مختصاً به، بل كل أحد مثله في أصل النهي). يعني: ليس معنى ذلك أنك إذا كنت صائماً فلا يجوز لك أن ترفث ولا تفسق إلا بعد أن تفطر، لا، وهناك ناس في أثناء الصيام يجاهدون أنفسهم في النهار على مضض وأول ما يفطر ينطلق في الخصومة والسباب.. وغير ذلك، هذا غير صحيح، فهذا الرجل هل استفاد فعلاً من الصيام؟ لا؛ لأن الله تعالى حرم الفحش والفسوق والجدال والخصومة والمقاتلة على صائم وغير صائم، ولكن حرمة هذه المساوئ الأخلاقية في حق المسلم حال الصيام آكد، وإن كانت حرام في كل الأحوال.
نقول: هل الصلاة والزكاة والحج كل هذه ليست لله؟ بلى، إذاً: فلم خص الله عز وجل عبادة الصيام بنسبتها إليه دون غيرها من سائر العبادات؟ لأن الصيام يحتاج إلى إخلاص أكثر من أي عبادة أخرى، ولذلك الرياء في الصيام لا يفعله إلا المجان والفساق، أما المسلم المتخلق بأخلاق الإسلام، فإنه لا يمكن أن يصدر منه رياء في الصيام.
فالصيام يقل فيه الرياء ويزداد فيه الإخلاص، ولذلك نسبه الله عز وجل إليه نسبة تشريف. وقيل: نسبة الصيام إلى الله عز وجل نسبة مجاز واستعارة.
فقوله: (هو لي وأنا أجزي به) يعني: لما كان الصيام بهذه المثابة من الإخلاص فإن الله تعالى خزن جزاءه وأخفاه حتى عن الملائكة المقربين، حتى عن الكتبة الذين يكتبون الثواب والعقاب، خزنه وأخفاه عنهم وتولى هو سبحانه بنفسه جزاء الصائمين.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام: [ (فوالذي نفس محمد بيده! لخلفة -وفي رواية: لخلوف- فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) ] والخلوف: هي الرائحة الكريهة التي تخرج من فم الإنسان بسبب الصيام خاصة بعد العصر، والحقيقة أن هذه الرائحة لا تخرج من الفم، وإنما تخرج من المعدة؛ لخلوها من الطعام، فمهما حاولت أن تزيل هذه الرائحة من فمك لا تزول؛ لأن منبعها المعدة والبطن، وليست هي صادرة عن الفم.
فهذه الرائحة عند الله عز وجل يوم القيامة أطيب من ريح المسك، ولما كان المسك هو أفضل الطيب وهو أحب الطيب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ضرب به المثل، وغالب طيب العرب المسك، ومادته هي أحسن المواد، وهي تفوق جميع مواد العطور، فلما كان المسك بهذه المثابة ضرب النبي عليه الصلاة والسلام به المثل الذي يعرفه العرب ويستطيبونه.
إذاً: هذه الرائحة التي تنبعث من فم الصائم وتتأففون منها هي عند الله يوم القيامة أطيب من ريح المسك، جزاءً وفاقاً؛ لما عملوه في الدنيا، لما صبروا وامتنعوا طاعة لله عز وجل عن الطعام والشراب والشهوة أنتج هذا الامتناع وهذا الحبس هذه الرائحة، فلما تأفف منه الناس في الدنيا أقبل أهل المحشر عليه في الآخرة يشمون رائحته الطيبة الزكية التي تخرج منه، جزاء طاعته في الدنيا.
وهذا معلوم حتى عند عامة الناس، لكن أحياناً يكون الفقه نقمة عند إنسان لا دين عنده ولا أخلاق، هو طالب علم وحافظ للعلم، لكن ما عنده دين ولا أخلاق، فتجد مثل هذا يقول: السرقة لا تؤثر على صحة الصيام. يقول: الذي يسرق صومه صحيح مع إثم السرقة، كالذي يصلي في ثوب مسروق صلاته صحيحة، لكنه آثم بلبسه الثوب المسروق، والذي يصلي في أرض مغصوبة وهو يعلم أنها مغصوبة، والنبي صلى الله عليه وسلم حرم الصلاة في الأرض المغصوبة، وحرم بناء المساجد في الأرض المغصوبة؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، لكن لو صلى إنسان فيها هل صلاته صحيحة أم باطلة؟ صحيحة، لكن مع الإثم.
نقول لهذا: لو أتيت إلى واحد من عامة الناس ممن يسرق وقلت له في رمضان: لماذا لا تسرق في رمضان؟ لقال لك: نحن في الصيام، وهذا طالب العلم أجاز السرقة في نهار رمضان.
كذلك تجد العامي يترك الصلاة في غير رمضان، فإذا دخل رمضان يقول لك: أنا أصوم وأصلي، يعني: لو أنت قلت له: الجمهور على أن تارك الصلاة غير كافر، وأن عبادته الأخرى مقبولة لما قبل منك ذلك، هو عنده إما أن يصلي ويصوم أو لا يصلي ولا يصوم، لابد من الأمرين معاً، هذا فقه العوام وهذا علم العوام، فأحياناً يكون عند العوام علم لم يبلغه طلاب العلم.
إذاً: الصيام يكون بمثابة السترة في الدنيا بينك وبين المعاصي والذنوب، وفي الآخرة بينك وبين دخول النار.
فالصيام عبادة واحدة فرضها الله عز وجل فيها إسعاد البشرية في الدنيا والآخرة، فما بالك بجميع الفرائض وجميع الواجبات وجميع النوافل التي إذا فعلها عبد أحبه الله عز وجل، كما في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) كل هذا من أجل النوافل، وفي بداية الحديث: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل)، وقد جمع هذا الحديث بين فائدة الفرائض وفائدة النوافل، فأحب الأعمال التي يتقرب بها العبد إلى مولاه أداء ما افترض الله عز وجل عليه، لكنه إذا زاد في النوافل وحافظ عليها وواظب عليها -وخير العمل أدومه وإن قل- فإن هذا يوصلك إلى حب الله عز وجل، والله تبارك وتعالى يجعلك من المقربين.
كذلك تفرح أيها المسلم إذا تمت طاعتك من غير أي كدر يكدرها، أو عكر يعكر عليها، بخلاف الذي يسب ويشتم ويصخب ويجادل ويفسق.. وغير ذلك، فهو يشعر في داخل نفسه أنه مجرد إنسان قد امتنع عن الطعام والشراب والجماع، والله عز وجل لا حاجة له في صيام هذا الصائم؛ لأنه لم يفد الفائدة المرجوة من صيامه، لأن غاية هذا الصيام أنه يهذب النفوس، ويرقق القلوب، ويقرب الصائم إلى مولاه، باجتناب جميع الذنوب والمعاصي، لا بالامتناع فقط عن الطعام والشراب والجماع: (فرب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)، ورب صائم ليس له حظ في الصيام، إلا أنه عذب نفسه بالامتناع عن الطعام والشراب والجماع.
إذاً: ثمرة الصيام هي أن تبلغ العبد منتهى وكمال تقوى الله عز وجل، ومعلوم أن السباب والشتام واللعان والفاسق والمقاتل لإخوانه لا يحصل التقوى، فهذا يعني أنه قد عذب نفسه، ولا بد أن يعذب نفسه حتى يسقط عنه فرض الصيام، لكن هل له عند الله تعالى ثواب؟ الجواب: ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.
فقوله: (وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)، يعني: له فرحتان: فرحة في الدنيا، وفرحة في الآخرة، أما فرحة الدنيا فهي بإتمام نعمة الله عز وجل عليه، وأنه أتم اليوم والشهر، وختم له بعيد يفطر فيه ويسعد فيه ويهنأ ويلعب ويلهو لهواً مباحاً في ليله ونهاره، جزاء طاعته التي أقام عليها طيلة الشهر، وأما في الآخرة فإن الله تعالى يكافئه المكافأة التي وعد بها، قال: (إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به) فإذا تولى الكريم سبحانه وتعالى الجزاء والهدية والعطية، فاعلم أنها لا منتهى لها.
فتصور لو أن ملكاً من ملوك الدنيا قال لعامله: كافئ فلاناً فإنه قد خدمنا، فإن مكافأة هذا العامل محدودة ولا شك، لكن لو قال العامل لهذا الملك: هل أكافئ فلاناً؟ فقال له الملك: لا، دعه، فأنا سأكافئه، فكيف ستكون الفرحة لدى هذا العامل الذي عمل وخدم هذا الملك قبل أن يقبض الهدية؟ فرحة عظيمة، وقلَّ أن يكون هناك ملك من ملوك الدنيا بخيلاً؛ لأن البخل يتنافى مع الأبهات ومع الملك، وهو في النهاية لا يدفع من جيبه، إنما يدفع من خزينة الدولة، فتصور لو أن ملكاً من ملوك الدنيا كافأ رجلاً من شعبه، فلا بد أن تكون هذه المكافأة عظيمة جداً، وإلا لا يستقيم أبداً أن يقول ملك: أنا أكافئك، ثم يعطيه عشرة جنيهات، فمن حق هذا المهدى إليه أن يردها، ويقول: لا، أنت ملك، ولا تعطيني على قدر عملي، وإنما تعطيني على قدر مكانك ومنزلتك، والعشرة الجنيهات لا تليق بك، فقد يقول له الملك: خذ خزينة البلد كلها.
إذاً: فقوله: (وإذا لقي ربه فرح بصومه) لأن الملك سبحانه وتعالى هو الذي يجازيه ويكافئه، فلا بد أن تكون هذه المكافأة عظيمة جداً؛ لأنها من الكريم سبحانه وتعالى.
ثم قال الله تعالى: [ (يدع شهوته وطعامه من أجلي) ].
أي: مخلصاً لي، أما إن كان لم يتوافر في الصيام الإخلاص فلا شك أن عمله هذا لا ثواب له فيه.
والطعام إذا ذكر بغير شراب يشمل الشراب، كما أن الشراب إذا ذكر بغير طعام يشمل الطعام، كالإسلام والإيمان، وكالمسكين والفقير، إذا ذكر أحدهما شمل معه الآخر، وإذا ذكرا جميعاً كان لكل واحد مدلول، ولذلك تجد في كتب الفقه: باب الأشربة، فتجده يتكلم فيه عن الأطعمة أيضاً، وأحياناً يقول: باب الأطعمة، أو كتاب الأطعمة ويتكلم فيه عن الأشربة؛ لأن إفراد الواحد يشمل معه الثاني، لكن لو قال: كتاب الأطعمة وبعده كتاب الأشربة فإنه يكون قد خص الأطعمة بباب أو بكتاب والأشربة بباب أو كتاب آخر.
فقوله هنا: (يدع شهوته وطعامه من أجلي) الشهوة هي الجماع وما شابهه، والذي يشبه الجماع هو الاستمناء، وهذا بإجماع الأمة، فإذا استمنى الرجل أو استمنت المرأة انطفأت شهوته وانطفأت شهوتها، فالاستمناء شهوة وهو داخل في هذا الحديث.
ومذهب جماهير العلماء سلفاً وخلفاً أن من استمنى في نهار رمضان وجب عليه القضاء، ومنهم من قال: القضاء والكفارة، والكفارة هي إطعام مسكين قدر على الصوم أو لم يقدر.
أما شيخنا الألباني رحمه الله رحمة واسعة فقد خالف الأمة في مثل هذا، فقال: الاستمناء لا يفطر، ولا يفطر إلا الجماع. وهو رحمه الله مأجور في هذا الاجتهاد أجراً واحداً لا اثنين، ولا يجوز متابعة الشيخ على هذه الفتوى.
قال: [ وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل عن أبي سنان ] وهو ضرار بن مرة، والكنية أفضل من الاسم؛ لأن ضراراً ومرة من الأسامي المكروهة، ضرار من الضرر ومرة من المرارة، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يغير الأسماء القبيحة، لكن هذا من أتباع التابعين.
قال: [ عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول: إن الصوم لي وأنا أجزي به، إن للصائم فرحتين: إذا أفطر فرح، وإذا لقي الله فرح، والذي نفس محمد بيده! لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) ].
وكان شيخنا عليه رحمة الله يأكل كثيراً، حتى كانت بنته أم عبد الله تحمل من أمامه الطعام حملاً فكان يغضب، فمرة دعانا زوج ابنته نظام سكجها ، زوج بنت الشيخ أم عبد الله، وهي أحب بناته إليه وأكبرهن، فوضعت لنا الطعام وما أشهاه! ووضعت طعاماً منفرداً على مائدة أخرى لأبيها، فأول ما دخل الشيخ ونظر في الطعام قال: يد الله مع الجماعة، وذكر أحاديث البركة إذا اجتمعوا على الطعام، فـنظام قال له: مهما حاولت ستأكل لوحدك، قال: والله إذا أنفذتم كلامكم فلآكلن هذا الطعام ثم لا أدخل هذا البيت ثانية، فأكل معنا الشيخ وأكل ثم أكل ثم أكل، وابنته تصرخ بالداخل وتطرق الباب، فدخل إليها زوجها نظام فصاحت في وجهه وقالت: أنت تعلم أن الطعام يضره، والشيخ إذا أكل لا يستطيع أن يمنع نفسه، فقال: والله رفض الشيخ أن يقوم عن المائدة، لكن بعد الفراغ من الطعام سيدخل عليك فقولي له ما شئت.
كذلك الإمام النسائي كان أكولاً، ورد في ترجمة الإمام النسائي صاحب السنن أنه كان يأكل كل يوم ديكاً من ديوك زمانه، لكن كان إذا نودي للجهاد رأيت النسائي في الصف الأول.
وكذلك شيخنا الألباني عليه رحمة الله ما كان يسمع بمكان فيه بدعة إلا ويكون أول الحاضرين للدفاع والذب عن سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فكثرة طعامه لا تعيبه، ولكن ذكرنا هذا من باب الطرفة، ومعرفة بعض أحوال الشيخ عليه رحمة الله.
قال: [ (يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل معهم أحد غيرهم) ] يعني: هذا الباب خاص بالصائمين فقط، لا يدخله إلا الصائمون، فمن حافظ على صيام الفرائض والنوافل، وكان من عادته ومن دأبه الصيام، فهذا جزاؤه وثوابه، وهذه كرامة يمنحها الله عز وجل عبده الطائع، في الدنيا بالذكر الجميل والثناء الحسن عند الناس، وفي الآخرة بالثواب العظيم والكرامة منه سبحانه.
كذلك من يحافظ على صلاة الجماعة تبجله وتعظمه الناس؛ لأنه قبل النداء يكون في المسجد.
كذلك من يقوم الليل يظهر أثر ذلك عليه، فالتوفيق للطاعة نعمة ومنحة من الله عز وجل، ولذلك كان هناك رجل من المحدثين في الزمن الأول يقول: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، ثم انتظر حتى يكتب الطلاب السند، فدخل رجل من شأنه ودأبه قيام الليل، فقال المحدث: من صام بالنهار ظهر نوره بالليل. فكتب الطلاب: من صام بالنهار ظهر نوره بالليل. فظنوا أن هذا حديث؛ لأنه أملاهم الإسناد ووقف عند قال النبي عليه الصلاة والسلام، وسكت حتى يكتبوا الإسناد، فلما دخل هذا الرجل قال هذا القول عنه، فظن الطلاب أن هذا هو حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وليس كذلك، فوقعوا في هذه المخالفة.
قال: [ (يقال لهم: أين الصائمون؟) ] أي: في المحشر، والقائل إما أن يكلف الله تعالى ملائكته بالنداء على الصائمين، وإما أن الله تعالى هو الذي يتولى النداء بنفسه.
قال: [ (أين الصائمون؟ فيدخلون من هذا الباب، فإذا دخل آخرهم أغلق فلم يدخل منه أحد) ].
لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن في الجنة باباً يدخل منه المصلون، وإن في الجنة باباً يدخل منه أهل الزكاة، وإن في الجنة باباً يدخل منه الصائمون، وعدد الطاعات، فقال أبو بكر الصديق: (يا رسول الله! هل على رجل من بأس أن يدخل من جميع هذه الأبواب؟) يعني: هل من مانع أن يدخل رجل واحد من جميع هذه الأبواب؟ قال: (لا، ليس هناك بأس، وأنت منهم يا أبا بكر).
فـأبو بكر الصديق رضي الله عنه يدخل من جميع هذه الأبواب، وأبواب الجنة ثمانية، مع أن بين مصراعي باب الجنة الواحد كما بين المشرق والمغرب.
ومن دخل الجنة لا يخرج منها قط، فكيف سيدخل أبو بكر من الأبواب كلها؟
هذا شيء لا ندركه بعقولنا، وإنما نقول فيه: آمنا وسلمنا، والنبي عليه الصلاة والسلام قال ذلك وآمن به، ونحن نؤمن كما آمن النبي عليه الصلاة والسلام وكما آمن أبو بكر وكما آمن عمر ، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام يتكلم بالكلام أحياناً على جبل أحد، أو غيره فيقال له: (يا رسول الله! أوذلك يكون؟ قال: نعم، وأنا أؤمن بذلك و
فالمعلوم أن الذي يدخل الجنة لا يخرج منها، وأبو بكر لن يدخل من الباب هذا ثم يخرج منه من أجل أن يدخل من الباب الآخر ثم يخرج منه، لا، وهذا لا ننفيه ولا نثبته، وإنما نقول: يدخل أبو بكر من جميع الأبواب كما يريد الله عز وجل ويشاء ويختار، ولا نخوض في ذلك بعقولنا.
قال: [ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً) ] يعني: الله تبارك وتعالى يباعد بين العبد وبين النار سبعين عاماً؛ بسبب صيام يوم واحد في سبيل الله عز وجل.
يقول النووي رحمه الله: (فيه فضيلة الصيام في سبيل الله، وهو محمول على من لا يتضرر به، ولا يفوت به حقاً، ولا يختل به قتاله ولا غيره من مهمات غزوه).
وقوله: (وجواز فطر الصائم نفلاً من غير عذر) يعني: يجوز لمن كان يصوم نافلة أن يفطر بلا عذر، والأولى استحباب إتمام هذا الصيام، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يفعل خلاف الأولى لبيان الجواز، وسنرى أدلة ذلك معنا الآن.
قال: [ (قال: فإني صائم -يعني: غير نيته في أثناء النهار- قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهديت لنا هدية، أو جاءنا زور) ] يعني: جاءنا زوار، ومن شأن الزائر أنه يحمل معه هدية؛ لأنهم يعلمون حال بيوت النبي عليه الصلاة والسلام، فكانوا يهدون له الحيس وهو التمر المخلوط بلبن وأقط، أو يهدون إليه ذراعاً من شاة؛ لأنهم يعلمون أنه يحب الذراع، أو يهدون إليه أي طعام، وأحياناً كانوا يهدون إليه الحلوى؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يحب الحلوى ويأكلها بالبطيخ، كما جاء عند البخاري (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل الحلوى بالبطيخ ويقول: حر هذا يطفئه برد ذاك) يعني: حر الحلوى يطفئه برد البطيخ.
قال: [ (قالت: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله! أهديت لنا هدية أو جاءنا زور وقد خبأت لك شيئاً، قال: ما هو؟ قلت: حيس، قال: هاتيه، فجئت به فأكل ثم قال: قد كنت أصبحت صائماً، لكني أفطرت الآن) بعد أن قال: (إني صائم) ليس هناك عذر ومع ذلك أكل، ومع أنه قد عقد نية الصيام وقال: (إني صائم)، وكان الأولى أن يتم صومه، ولكنه خالف الأولى لبيان الجواز، وأن الصائم المتطوع أمير نفسه، لكن هل يلزمه إعادة صيام هذا اليوم؟ على خلاف بين أهل العلم، منهم من قال: يلزمه، ومنهم من قال: لا يلزمه، والذي قال: لا يلزمه. رأيه أرجح من غيره.
قال: [ وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع عن طلحة عن عمته عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا: لا، قال: فإني إذاً صائم، ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس، فقال: أرينيه، فلقد أصبحت صائماً، فأكل) ] هذه الحادثة واحدة، ولا يضرك قولها: (يوماً آخر)؛ لأنه أفطر بعد أن كان صام في ذلك اليوم بالذات.
وفي الرواية الثانية التصريح بالدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في أن صوم النافلة يجوز قطعه، والأكل في أثناء النهار ويبطل الصوم؛ لأنه نفل، فهو إلى خيرة الإنسان في الابتداء) يعني: أنت مخير في الابتداء أن تبدأ الصيام أو لا تبدأ، فإذا كنت مخيراً في الابتداء فكذلك هذا الخيار ثابت في الدوام.
قال: (وممن قال بهذا جماعة من الصحابة وأحمد وإسحاق وآخرون، ولكنهم كلهم والشافعي معهم متفقون على استحباب إتمامه) يعني: ليس واجباً؛ لأن أصل الصوم فيه ليس واجباً، فكيف يأتي إتمام اليوم وجوباً مع أنه لم يبدأ بالوجوب.
قال: (وقال ابن عبد البر : أجمعوا على أن لا قضاء على من أفطره بعذر) يعني: الذي أفطر في صيام النافلة بعذر لا قضاء عليه، وهذا محل إجماع.
قال: (أما إذا كان بغير عذر فقد وقع الخلاف، والراجح أنه لا قضاء عليه كذلك).
وحدثني عمرو بن محمد الناقد حدثنا إسماعيل بن إبراهيم -وهو ابن علية - عن هشام القردوسي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) ] ورد في الحديث الماضي: (يدع طعامه وشرابه وشهوته لأجلي) فالصيام: هو الامتناع عن الطعام والشراب والجماع.
إذا أكل ناسياً صح صومه، وإذا شرب ناسياً صح صومه، وإذا جامع ناسياً صح صومه، وهذا مذهب الجمهور، لكن من جامع ناسياً هذه لا تكون إلا في أوائل رمضان، يحدث فيها ويقع فيها الخطأ كثيراً جداً. تجد شيخاً محترماً يمشي في أول يوم من رمضان في الشارع وهو يأكل ويشرب، كان لي أخ من الإخوة الأفاضل الطيبين يعني شيخ كبير، وكنت في يوم مضطراً لأن أكلفه بأن يأتي بأولادي من المدرسة، فذهب لإحضارهم، وكان أولادي قد اشتروا بمصروفهم بعض المكسرات وركبوا معه في الباص فناولوه الكيس، فقال لهم: لا لا، كلوه أنتم، فقالوا: والله إنك ستأخذ منه، فأخذه وجعل يأكل منه من الجيزة إلى أن قطع مسافة كبيرة، ثم تذكر أن هذا أول يوم في رمضان وكان قد نسي ذلك تماماً، فيقول: أدركت بعد ذلك نظر الناس إلي شزراً في الباص وعلى الطريق، يقول: وقعت في حرج وخجل شديد جداً، وكنت أريد أن أبحث عن الناس الذين رأوني وأقول لهم: عذري كان كيت وكيت، فهذا يقع، فالذي يجعله يقع في الطعام والشراب يقع أحياناً في الجماع، أو نحن سنفترض هذا الفرض إذا جامع ناسياً ما حكم صومه؟ هذا الذي نأخذه.
يقول النووي رحمه الله: (في هذا الحديث دلالة لمذهب الأكثرين أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً لا يفطر) يعني: مذهب الجمهور أن الصائم إذا أكل أو شرب أو جامع ناسياً لا يفطر، وممن قال بهذا الشافعي وأبو حنيفة وداود وآخرون.
وقال ربيعة ومالك : يفسد صومه وعليه القضاء دون الكفارة -يفسد صومه بالطعام والشراب والجماع- مع أن الحديث قاض بأنه إذا أكل أو شرب ناسياً فلا شيء عليه، وصيامه صحيح، وليتم صومه).
أما قوله: (فليتم صومه) فهو: يدل على أن صيامه صحيح.
وقوله: (فإنما أطعمه الله وسقاه) يعني: هذه منحة من الله عز وجل له.
قال: (وقال عطاء والأوزاعي والليث : يجب القضاء في الجماع دون الأكل، وقال أحمد : يجب في الجماع القضاء ولا كفارة، ولا شيء في الأكل والشرب).
والذي نرجحه: أن من أكل أو شرب أو جامع ناسياً لا شيء عليه، وصيامه صحيح ويتمه، فإنما هي منحة من الله عز وجل له، وهذا يكون في صيام الفرض وصيام النافلة على السواء.
أما من نام وحلم أنه جامع امرأته فهذا لا شيء عليه ألبتة، وما عليه إلا أن يغتسل وصيامه صحيح.
في الباب الرابع والثلاثين بيان صيام النبي عليه الصلاة والسلام في غير رمضان، واستحباب ألا يخلي شهراً من صومه. استحباب فينبغي ألا يمر عليك شهر إلا وتجعل فيه لنفسك حظاً من الصيام، كأن تصوم ثلاثة أيام في الشهر، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وكذلك يوم الإثنين والخميس، بحيث أن لا يخرج عنك الشهر بلا إحداث طاعة الصيام فيه، كما أنك لا تخلو في هذا الشهر من طاعة الصلاة وطاعة الزكاة ووجوه البر، فلا بأس أن تجمع مع هذه الطاعات عبادة الصوم.
فالنبي عليه الصلاة والسلام بين استحباب صيام الإثنين والخميس، والثلاثة الأيام من كل شهر، وكان يصوم أكثر شهر شعبان، وقد ثبت أنه ما أتم صيام شهر قط إلا شهر رمضان صلوات ربي وسلامه عليه.
حدثنا يحيى بن أيوب - الغافقي - وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر جميعاً عن إسماعيل - ابن جعفر - قال ابن أيوب : حدثنا إسماعيل بن جعفر أخبرني سعد بن سعيد بن قيس عن عمر بن ثابت بن الحارث الخزرجي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر) ] فسر أهل العلم الدهر في هذا الحديث بأنه العام أو السنة، وأن السنة اثنا عشر شهراً، وأن الحسنة بعشر أمثالها كما هو مستقر معلوم، وإذا كانت الحسنة بعشر أمثالها، فصيام شهر رمضان بثلاثين حسنة في عشرة بثلاثمائة حسنة وبثلاثمائة يوم، يبقى من العام ستون يوماً، وصيام ستة أيام من شوال بست حسنات في عشرة بستين حسنة، فالذي يصوم رمضان ويتبعه بست من شوال كأنه صام ستاً وثلاثين يوماً في عشرة بثلاثمائة وستين حسنة على ثلاثمائة وستين يوماً، وهو عدد أيام السنة بالشهور العربية.
فقوله: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كأنما صام الدهر). أي: فكأنما صام العام كله، وقد أدى زكاة الصيام في كل يوم من أيام السنة.
من العلماء من قال: صيام هذه الستة حرام.
وابن الجوزي عليه رحمة الله في كتابه العظيم (التحقيق لمسائل الخلاف بين أهل العلم) ذكر ثمانية أقوال لأهل العلم في حكم صيام ست من شوال، فذكر منها: أنه جائز، وذكر منها: أنه مستحب، وذكر منها: أنه واجب، وذكر منها: أنه مباح، وذكر منها: أنه مكروه، وذكر منها: أنه حرام.
ومن ذهب إلى كراهته وحرمته إنما قال ذلك مخافة المواظبة عليها؛ لأجل ألا يظن الناس أن صيام هذه الستة واجب، وهذا وإن كان بعيداً لكن على أية حال له وجه، والاجتهاد فيه سائغ، وإن كان العمل على خلافه عند جماهير العلماء، وهذا الحديث قاض بالرد على جميع من خالف ذلك، وأن صيام هذه الستة أمر مستحب، خاصة بعد أن استقرت السنة واستقرت الأحكام الشرعية.
قال: (قال مالك في الموطأ: ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها) يعني: الست من شوال، لكن بعض السنن تركها كثير جداً من الصحابة مثل: سنة الاعتكاف، لما تأتي تبحث عن أسماء الصحابة الذين حققوا هذه السنة تجدهم قلة في جنب أعداد الصحابة الغفيرة، فهم تركوها إما لانشغالهم، أو لمخالفتهم المواظبة على هذه السنة؛ فيظن الناس أو من لا علم له بأن الاعتكاف واجب، فكذلك صيام هذه الستة.
قال: (قال مالك: ما رأيت أحداً من أهل العلم يصومها، فيكره لئلا يظن وجوبه. ودليل الشافعي وموافقيه هذا الحديث الصحيح الصريح، وإذا ثبتت -هذه قاعدة من قواعد أهل السنة والجماعة- السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها) يعني: أن السنة قاضية على الناس، والناس لا يقضون على السنة، حتى لو أن الصحابة كلهم تواطئوا على ترك العمل بحديث فلا يوافقون على ذلك، هذا على فرض أن هذا حدث، ولا يحدث؛ لأن الإجماع الذي لا خلاف عليه هو إجماع الصحابة، والصحابة لا يجمعون على باطل قط، والأمة في مجموعها في كل زمان وفي كل عصر معصومة من الإجماع على الباطل أو من الوقوع في الباطل، لكن قد يقع عالم في الباطل، واثنان، وثلاثة، وعشرة، فإذا زلت قدم عالم في باطل أو تكلم بكلام خالف فيه الدليل، تجد عشرات بل مئات العلماء في أمة لا إله إلا الله في شرق الأرض وغربها يردون عليه باطله وخطأه الذي أخطأ فيه، بهذا يظهر الحق للأمة، والأمة في مجموعها معصومة أن تقع في الباطل، وإذا كانت كذلك فالعصمة أقرب إلى الصحابة من غيرهم؛ لقرب عهدهم بنزول الوحي، وفهمهم لكلام الرب تبارك وتعالى، وأنه نزل بلغتهم، وأنهم أعلم الناس بكلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقوله: (وإذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها) يعني: أن الفيصل هنا والرجوع للدليل لا للناس.
كذلك إذا كان الدليل يحتاج إلى إعمال فكر وبذل جهد لاستنباط الفوائد واستخراج النكت منه، فلا شك أن اجتهاد العلماء أولى من اجتهاد غيرهم، يعني: لما يجيء شيخ الإسلام ابن تيمية فيجتهد في حديث وأنا أجتهد في حديث فلا شك وبلا توقف أن اجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية أولى من اجتهاد غيره؛ لأن عقله أرجح وعلمه أتم، وعنده ملكة في الاستنباط أكثر من غيره، وهو صاحب جد واجتهاد.. وغير ذلك، فإذا ترك بعض الناس العمل بالدليل الصحيح الصريح، وجب على المسلمين ترك كلام من خالف الدليل والعمل بالدليل.
قال: (قال الشافعي : والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر) لكن تفريقها جائز؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من شوال) و(من) هنا تبعيضية تفيد التجزئة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر