أحبتي الكرام! بعض الإخوة أشكل عليهم قاعدة، ما لا يتم الواجب إلا به، فما الحكم؟
أقول: المؤلف -رحمه الله- لم يذكر مسألة ما لا يتم الوجوب إلا به، لما هو متقرر عند الفقهاء: أن ما لا يتم الوجوب إلا به فليس بواجب، وقلنا: الوجوب هو الأمر، ولا علاقة للمكلف به، مثل: دخول الوقت، فوجوب الصلاة لا يتم إلا بدخول الوقت؛ فليس بواجب على المكلف أن يدخل الوقت ولا يستطيع، فليس في مقدور العبد هذا الأمر.
إنما ذكر مسألة أخرى، وهي: ما لا يتم الواجب إلا به، لأنها تتعلق بأفعال المكلف.
يقول المؤلف: ما لا يتم الواجب إلا به ينقسم إلى قسمين: ما هو مقدور العبد، والثاني: ما ليس مقدوراً للعبد، مثل الصلاة، الصلاة ذات أركان وواجبات، فالأركان والواجبات يجب أن تفعل، لأن الصلاة لا تتم إلا بوجودها، لكن لو أن شخصاً لا يستطيع أن يقوم، أو لا يستطيع أن يركع؛ لأنه معذور، فإنه يجوز له ألا يركع، ويأخذ بالبدل، وهو الإيماء.
القسم الثاني: ما كان مقدوراً للعبد، أمر العبد أن يغسل وجهه، فغسل الوجه لابد منه، وغسل الوجه لابد فيه من غسل جزء من الرأس؛ لأنه به يكون قد تحقق أنه غسل كامل الوجه، كما قال المؤلف.
المؤلف ما ذكر إلا صورة واحدة، ونحن نفصل فيها هنا بدايةً للدرس، فقاعدة ما لا يتم اجتناب الحرام إلا باجتنابه تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما اختلط فيه الحلال والحرام، فأصبحا شيئاً واحداً، أو ذاتاً مستقلة، فيجب اجتناب هذه الذات قولاً واحداً، كما لو اختلط الخمر بالعصير؛ فأصبحا في كأس واحد، فهنا يجب اجتنابه، أو اختلط الماء النجس بالماء الطاهر أو الطهور في قدح؛ فغير لونه؛ فيجب اجتنابه، وهذا ليس فيه إشكال.
القسم الثاني: ما اختلط فيه الحلال والحرام، وكل منهما ذات مستقلة، ويوجد لهما بدل، مثل: شخص اختلط عليه لحم: هل هو ميتة أو مذكاة وعنده بدل، عنده لحم غير هذا؛ فنقول: يأكل هذا ويدع المشتبه، وهذا قول الجمهور، وقال بعضهم: لا بأس أن يتحرى إذا كان ثمة قرائن وأمارات، وهذا هو رأي ابن تيمية في ظاهر قوله.
القسم الثالث: ما اختلط فيه الحلال والحرام، أو المباح بحرام، ولا يوجد لهما بدل، مثل ما ذكر المؤلف، قال: اختلطت ميتة بمذكاة، اختلطت أجنبية بأخته، فما الحكم؟ اختلط طاهر بمباح، الجمهور في هذه الحالة يقولون: يفعل اليقين، لكن ما هو اليقين؟ قالوا: ينظر فإن اختلط ثلاثة أقداح طاهرة وقدحان نجسة؛ فإنك إذا أردت أن تصلي فلتعمل باليقين ما هو اليقين؟ قالوا: تصلي ثلاث مرات بثلاثة قداح؛ لأن عندك يقيناً أن اثنتين منها نجسة وثلاثة طاهرة، قالوا: اعمل باليقين حتى تتيقن، فتصلي ثلاث مرات، تأخذ هذا القدح وتتوضأ به وتصلي، ثم القدح الثاني وتتوضأ به ثم تصلي، ثم الثالث، فإذا صليت ثلاث مرات فعندئذ تكون إحدى هذه الصلوات قد تيقن فيها طهارة شرعية كاملة، وإن لم يكن هناك إلا ثلاثة نجسة وثلاثة طاهرة أو قدح وقدح، قالوا: فإن اليقين أن تتركها كاملة.
القول الثاني في المسألة، هو قول أبي العباس بن تيمية رحمه الله، ورواية عند الحنابلة: وهو أن المرء يتحرى، قالوا: والتحري هو العمل بغلبة الظن، والعمل بغلبة الظن في الشريعة كثير، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود : ( إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت؛ فذكروني، وإذا صلى أحدكم ولم يدر كم صلى؛ فليتحر الصواب ثم ليبن عليه )، ومعنى (يتحرى الصواب) يبني على غلبة الظن، وهذا القول الذي ذكره ابن تيمية هو الأقرب والله أعلم.
والإمام الشاطبي رحمه الله ذكر في الموافقات: أن المستحب قد يطلق عليه مستحب إذا نظر إليه على أنه فرد، لكن إذا نظر إلى شموليته؛ فيكون واجباً من هذا الباب، ولهذا رأى -رحمه الله- أن ترك المستحبات مطلقاً ترك للواجب، هكذا رأى الشاطبي قال: كما لو ترك الوتر وداوم على الترك، فالوتر سنة، لكن لو داوم على الترك، يكون قد ترك واجباً، يقول: فالمندوب إذا اعتبرته اعتباراً أعم؛ وجدته خادماً للواجب، لأنه إما مقدمةٌ له أو تذكار به، وهذا الذي ذكره الإمام الشاطبي رحمه الله له حظ من النظر، ولكن لا يسعفه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( قال الرجل: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، قال: أفلح إن صدق )، ولكنه رجل سوء.
قال الشاطبي : وكذلك المكروه من داوم عليه؛ فإنه سوف يقع في المحرم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه )، وأما هذا فصدق رحمه الله، لأن الإنسان يدخل أحياناً في المكروهات، حتى إذا بالغ فيها؛ دخل في المحرمات، حتى إذا تقحمها؛ دخل في الكبائر والعياذ بالله.
وهذه القاعدة مأخوذة من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان يحب التيمن في تنعله وترجله وفي طهوره وفي شأنه كله )، وأحياناً نذكر بعض المسائل فنقول: على اليمين، كأن نمشي فأردنا أن ندخل بيتاً، فقلنا: على اليمين، فهذه القضية ما فيها نص من الرسول صلى الله عليه وسلم، بخلاف الشرب، فقد ورد فيه: ( الأيمنون الأيمنون، ألا فيمنوا )، لكن هذه المسألة نستحبها من باب القاعدة العامة: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في شأنه كله، فنقول: يستحب حين الدخول أن نقدم اليمين، أو وقت الغداء والعشاء نقول للضيوف: تفضلوا، فنقدم اليمين، هذا من باب المستحب، إلا إذا كانت الوليمة لشخص معين، أو لكبير؛ فيقدم الكبير ثم بعد ذلك عن يمينه، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فعرضت السواك للأصغر منهما فقيل لي: كبر كبر )، ولا مشاحة في الاصطلاح.
إذن: علمنا أن هذا الفعل مرغوب فيه، وليس بواجب، لكنه يجب أن نعلم: أن هذا المصطلح هو الذي صار إليه عامة الفقهاء رحمهم الله، إلا أن المالكية لهم تقسيم يختلف عن هذا، فأحياناً يطلقون على الواجب سنة، ويجبر بدم، ويقصدون به الواجب الذي له بدل، فلا بأس أن يعمل بالبدل إذا لم يعمل بالأصل، قالوا: وأساء في ذلك، وربما قالوا: أثم، وإن كانوا يطلقون عليه سنة.
وإطلاق السنة عندهم أحياناً يقصدون بها الفرض الكفائي، ويقصدون أحياناً بها الأمر الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وللعلماء تقسيم آخر في ذلك قالوا: إن السنة ما داوم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما المستحب: فهو الذي فعله أحياناً، ويطلقون على ذلك السنة الراتبة، والسنة غير الراتبة، فالراتبة التي داوم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، وغير الراتبة التي لم يداوم عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، فيستحب للإنسان أن يصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين، وبعد العشاء ركعتين، وقبل الفجر ركعتين، لكن أن يصلي بعد الظهر ركعتين ثانية يعني أربع ركعات، أو أن يصلي قبل العصر أربع ركعات؛ فإن هذا ليس بسنة راتبة، فالأولى أن يفعلها أحياناً، والله أعلم.
الثاني: ما يقابل الواجب، فتقول: السواك ليس بواجب ولكنه سنة، وهو الذي يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه.
الثالث: ما يقابل البدعة، تقول: هذا بدعة، وهذا سنة، وإن كانت السنة هنا مباحة، أو تقول: السنة مقابلاً لمذهب من المذاهب الأخرى كالشيعة والسنة، فهذه ثلاثة أقسام.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في القسم الثالث: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين من بعدي )، وسنتي هنا أي: طريقتي.
القسم الأول: الأمر المشروع الذي سمعه أو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، مثل: قول أنس كما في الصحيحين: ( من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعاً، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً )، هذا واجب.
القسم الثاني: إطلاق السنة على ما رآه الصحابي مما فهمه من القرآن أو السنة، أنه أقرب إلى الدليل، فقال: السنة كذا، وإن لم يكن عنده نص في هذا.
هذا أشار إليه الخطابي ، ويحسن مراجعة كلامه، ومثل له بقول عائشة : ( من السنة الاعتكاف في مسجد جماعة، وأن يصوم )، أطلق هذه السنة فقال: السنة يقصد بها الراوي أحياناً ما فهمه من النص، وإن كان الراجح خلافها، ولهذا ينبغي أن نعرف إطلاقات الصحابة رضي الله عنهم؛ و الخطابي في معالم السنن شرح أبي داود ، يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل كثيراً من الأشياء خلاف ما ذكرته عائشة ، وذكر هذا الأمر، ومن ذلك: الإقعاء في الصلاة، فـابن عباس رضي الله عنها: ( سئل عن الإقعاء في الصلاة: وهو أن ينصب رجليه ويجلس على عقبيه؟ قال: سنة، قالوا: إنا لنراه جفاءً بالرجل، قال: سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم )، ويقصد ابن عباس بالسنة هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعله، وإن كان لا يقصد السنة التي هي بمعنى المداومة.
أنا ذكرت هذا دليلاً على أن إطلاقات السلف لها معنى، وإن كانت السنة التي داوم النبي صلى الله عليه وسلم عليها هي أن ينصب اليمنى ويجلس على اليسرى، فلا بأس أن يفعلها أحياناً بين السجدتين.
إذن: السنة لها إطلاقات متعددة عند السلف.
ومما يدل على أن لها إطلاقات: قول أنس: ( من السنة )، وهو واجب، وقول ابن عباس: ( سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم )، وهي جائزة أو مستحبة أحياناً، ولا يداوم عليها، فإن داوم عليها؛ خالف السنة المستمرة المستقرة عند النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أن يجلس على اليسرى وينصب اليمنى؛ فقول ابن عباس : ( سنة أبي القاسم ) يقصد به الأمر الجائز.
القسم الثالث: أن يقول بالشيء ولم يفعله، مثل: صلاة الضحى على قول من قال: إن الرسول لم يفعلها، فقد حث عليها أبا هريرة ، و أبا الدرداء ، و أبا ذر ، وقد كان يحب أن يعمل العمل ثم يتركه مخافة أن يفرض عليهم.
القسم الرابع: أن يفعل الفعل ويداوم عليه ولم يقله، فهذا قسمان: القسم الأول منه: أن يقول قولاً مجملاً، فعله وداوم عليه، مثل قوله: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، فهو قول مجمل، لكنه داوم على فعله عليه الصلاة والسلام في صلواته، فهذا سنة، لكن رفع الأصبع، هل قاله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا، إنما فعله وداوم عليه؛ فهو سنة مؤكدة، وكذلك وضع اليمنى على اليسرى، هل الرسول صلى الله عليه وسلم أمر به؟ ما أمر به عليه الصلاة والسلام، فهو سنة؛ لأنه داوم على ذلك.
وكذلك، جلسة الاستراحة، هل داوم عليها؟ لا، فما يفعله بعض الإخوة من أن تكون صلاته دائماً بجلسة الاستراحة، نقول: ما هو الأفضل فعله؟ هو أن يفعلها أحياناً، لأن من السنة ألا تفعل أيضاً، فهذا هو القسم الأول من القسم الرابع: أن يفعل الشيء ولم يقله إلا إذا كان لفظاً مجملاً.
القسم الثاني من القسم الرابع: ألا يكون قال قولاً مجملاً أصلاً لكنه داوم على الفعل، فهذا سنة مؤكدة، وبعضهم في بعض الأعمال يراها واجباً -قالوا: وهي مرتبة من المراتب- واجبة لماذا؟ وهناك قول وفعل أقوى منها لم يكن واجباً؟ قالوا: لأن القول فسر عدم الوجوب، أما هنا فقد داوم على الفعل ولم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه ترك ذلك؛ فلهذا قالوا: إنها واجب، مثل جلوس الخطيب بين الخطبتين، وقيامه وهو يخطب، وأن يحمد الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ آية، هذه هل ورد في خصوصها أمر واجب؟ لا، لكن عمل النبي صلى الله عليه وسلم المستمر لها جعل الحنابلة والمالكية والشافعية يقولون بوجوبها.
والقول الثاني في المسألة: أن الواجب هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالخطبة، والخطبة إنما تحصل بالحمد والثناء على الله والموعظة، وهذا قول للحنابلة، وقول عند الحنفية وهو اختيار ابن سعدي رحمه الله، وهذا أقرب.
فاضبط هذه القواعد حتى تتميز لك العبادات، خذ مثالاً على ذلك، أنا الآن أذكر لك صورة معينة، وسوف نشرح بقية هذا بعد ذلك: ما حكم قول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي العظيم؟ من انفرادات الحنابلة أنها واجبة، وجمهور الفقهاء يرون أنها سنة، وعلى هذا: فعلى قول الحنابلة: يجب إذا نسيها الإنسان أن يسجد سجود السهو، أما على مذهب الجمهور فلا يجب؛ لأنها سنة.
ودليل الحنابلة أنها واجب قوله عليه الصلاة والسلام: ( اجعلوها في سجودكم، اجعلوها في ركوعكم )، فهذا أمر، والحنابلة أيضاً قالوا: وإذا نسي قول: ( رب اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني ) يسجد للسهو، لكن ما دليل الوجوب هنا؟ قالوا: مداومة النبي صلى الله عليه وسلم، ما فيه قول إنما هو فعل.
وهنا السؤال: الرسول صلى الله عليه وسلم كان يداوم على الافتتاح في الصلاة، فلماذا لا نقول إنه واجب؟
فحديث المسيء في صلاته لم يذكر فيه (سبحان ربي الأعلى)، ولا (سبحان ربي العظيم)، ولا (رب اغفر لي)، وهذا يجعلك تعرف أنه كما قال ابن تيمية : وما من إمام من أئمة الإسلام إلا وقد اضطرب في أصوله، فعليه نقول: إن من نسي (رب اغفر لي) فلا يجب أن يسجد للسهو؛ لأنه ليس بواجب، وعليه فلو دعا في هذا الحال؛ جاز له ذلك، وبعض كبار السن نسمعهم يقول: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، وهذا جائز، ولكن السنة أن يقول: رب اغفر لي، لأن ابن عباس قال: [فإذا جلس بين السجدتين دعا في الصلاة]، وهذا من الدعاء.
أما الدعاء المأثور بعد التشهد فلم يقل بوجوبه إلا طاوس .
ولم يوجبه الحنابلة؛ لأنهم قالوا: إنه لم يذكر في حديث المسيء في صلاته، قال ابن دقيق العيد : وكثيرة هي الأشياء التي لم تذكر في حديث المسيء في صلاته، ثم قال: ولو قيل: بأن كل ما ذكر في حديث المسيء في صلاته واجب وما عداه ليس بواجب؛ لكان حسناً، ولهذا ذهب الجمهور على قول ابن دقيق العيد إلى أن (سبحان ربي الأعلى) و(سبحان ربي العظيم) ليست بواجبة، لكن قال الزهري : أحكام الدين تأتي شيئاً فشيئاً، وهذا الأقرب، والله أعلم.
وقد أشار ابن حبان إلى قاعدة أن جميع ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم واجب، لأنه قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، والفعل إذا خرج بياناً لمجمل؛ دل على وجوبه، لكن ليس على إطلاقه، فرفع الأصبع في الصلاة ليس مطرداً.
القسم الخامس: هو الذي لم يقله ولم يداوم عليه، فهذا سنة وفضيلة.
المؤلف يقول: (والسنة وهي الطريقة والسيرة، لكن تختص بما فعل للمتابعة فقط)، لكن الغالب على ألسنة الفقهاء: أنهم يطلقون السنة على ما ليس بواجب، بخلاف ما ذكره المؤلف.
يقول المؤلف: (والنفل وهو الزيادة على الواجب)، قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ [الإسراء:79]، ( قال تعالى في الحديث القدسي: وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوفل؛ حتى أحبه )، والنوافل هي ما ليس بواجب، فيدخل في ذلك السنن المؤكدة، والسنن غير المؤكدة، وهي التي كان يفعلها أحياناً عليه الصلاة والسلام.
الاختلاط في مثل هذه القواعد جعل طالب العلم أحياناً يجعل ما لم يداوم عليه كأنه داوم عليه، فمثلاً: تخليل اللحية، أكثر من عشرة من الرواة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا التخليل، وذكرها عثمان رضي الله عنه في بعض الروايات، فدل ذلك على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يستمر على تخليل اللحية، فلو استمر الإنسان على تخليل اللحية، فهل نقول: فعل السنة؟ نقول: فعلها من وجه، وتركها من وجه؛ لأن من الترك ما هو سنة، والمداومة على جلسة الاستراحة يخالف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أنه كان لا يداوم، وتخليل الأصابع، والأمثلة في هذا كثيرة جداً، فلو فعلها الإنسان أحياناً وتركها أحياناً لكان أفضل.
وأحياناً يداوم الناس على بعض الأشياء ويتركون بعضاً، والأولى أن تطبق السنة على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، فإن تركها مرة أو مرتين؛ فإن تركه هنا لبيان عدم الوجوب، لا لأنه من ترك السنة، وهذه قاعدة مهمة، ويفعل الفعل عليه الصلاة والسلام مرة ولا يلزم أن يكون سنة، وهذا هو القسم السادس: أن يفعل الفعل مرة، ولا يؤثر عنه أنه فعله مرةً أخرى؛ فيدل فعله على أنه جائز، لأنه لا يفعله مرة، إلا وقد فعل مراراً خلافه، مثاله: أن ( الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ مرة في صلاة الفجر الزلزلة في الركعة الأولى والثانية )، كما رواه أبو داود، وإسناده جيد.
وبعض الإخوة كلما جاء متأخراً قرأ الزلزلة، وإذا سأله الجماعة قال: سنة، فالرسول صلى الله عليه وسلم قرأ الزلزلة في الركعتين مرة واحدة فقط، حتى إن الراوي قال: ما أدري أنسي رسول الله أم لا؟ مما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها لبيان أنه يجوز للإنسان أن يقرأ في الركعة الثانية مثل الركعة الأولى، وليس المقصود أن ذلك سنة، فتفطن لذلك، ومثله فعل النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب مرةً واحدة، فعلها لمصلحة، وهو لبيان أن النجاشي كان مسلماً.
ومن الأفعال وهو القسم السابع والأخير: ما فعله عليه الصلاة والسلام في غير أمر التعبد، كما قال: ( لا آكل متكئاً )، فالأكل من غير اتكاء حسن، وهو أولى إن كان الآكل يقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه لو ترك؛ ما يقال: ترك السنة، وليس فيه نهي بخصوصه، كما أشار إلى ذلك ابن حجر قال: لم يصح حديث في النهي عن الإتكاء، وعلى هذا: فكبار السن إذا أكل بعضهم وهو متكئ؛ فلا بأس بذلك، فما فعل مكروهاً ولا فعل المحرم، وتجد بعض الإخوة أحياناً لا يتحمل إذا رأى رجلاً يتكئ وهو يأكل، حتى إن شيخنا عبد العزيز بن باز في آخر عمره كان يأكل متكئاً، فجاء بعض الإخوة ونحن نأكل عند الشيخ، فقال: يا شيخ! أليس قد جاء النهي عن الأكل متكئاً؟ فقال: لا، ليس فيه حديث ينهى عنه، بل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا فعل الإنسان ما هو بحاجته؛ فحسن.
المؤلف رحمه الله قال: (وقد سمى القاضي -القاضي هو أبو يعلى من شيوخ المذهب- ما لا يتميز من ذلك: كالطمأنينة في الركوع والسجود واجباً، بمعنى: أنه يثاب عليها ثواب الواجب)، يعني أطلق رحمه الله على الطمأنينة في الركوع أنها كلها واجبة، هذا فيما لم يتميز.
والزيادة على الواجب تنقسم إلى أقسام: زيادة متميزة عن الواجب، من غير جنسها، هذا القسم الأول.
والقسم الثاني: زيادة متميزة من جنسها، مثل: التطوع في المكتوبات، ومثل: (سبحان ربي الأعلى) الزائد عن الواحدة الواجب، القسم الثالث: زيادة غير متميزة من جنسها، مثل: الطمأنينة في الصلاة فإذا ركع الإنسان واطمأن فعل الواجب، وإذا زاد على الطمأنينة في الخشوع، فهذه الزيادة سنة غير متميزة من جنسها، وهنا أشار القاضي إلى ما لا يتميز فيه السنة من الواجب، فقال: (وقد سمى القاضي ما لا يتميز كالطمأنينة في الركوع والسجود واجباً) والطمأنينة هي: أن يستمر حتى يسجد على سبعة أعظم ثم يطيل، فسماه واجباً، مع أن الزيادة مستحبة، وقد نقل بعض الفقهاء عن القاضي أنه سماها مستحبة، ونقل بعضهم عن القاضي أنه سماها واجبة، ثم جاء الإمام عبد المؤمن ففهم كلام القاضي فقال: القاضي رحمه الله سماها سنة، بمعنى أنه لا يعاقب عليها، وسماها واجبة، بمعنى أنه يثاب عليها ثواب الواجب، وهذا التفريق من أبي يعلى رحمه الله أتعب به من بعده، ولا داعي له. فالركن من أقسام الواجب، لكنه لا يجبره إلا فعله، وهذا يجبره سجود السهو، ويسمونهما فرضاً كليهما، هذا من أبي يعلى رحمه الله يحتاج إلى دليل؛ لأن الثواب من الله، فلو كان ثمة دليل فحيهلاً، أما كونه غير متميز فإن هذا لا يلزم، والله أعلم، ولهذا قال: (وخالفه أبو الخطاب ).
(والفضيلة والأفضل كالمندوب).
يقول المؤلف: (والحرام بمعناه)، يعني: بمعنى المحظور، قال: (وهو ضد الواجب)، وعرفه بقوله: (ما يعاقب على فعله، ويثاب على تركه)، وهنا التعريف باعتبار حكمه.
الأمر الأول: التناقض، ترى كثيراً من الناس يقولون هذا متناقض، وليس متناقضاً في الحقيقة؛ لأن التناقض: هو أن لا يمكن اجتماعهما في محل، ولا يمكن ارتفاعهما أيضاً، فلا يمكن أن نقول: السكون والحركة اجتمعا في مكان واحد، ولا يمكن أيضاً أن نقول: فلان ليس بساكن وليس بمتحرك؛ لأنه إما أن يكون ساكناً وإما أن يكون متحركاً، فهذا هو التناقض، فلا يمكن أن نجمع بين السكون والحركة، لأن الجمع بين السكون والحركة تناقض، وأما كثير من الإخوان الذين يتكلمون ثم يغيرون في بعضه، فنقول: هذا اضطراب، أو تضاد.
القسم الثاني: التضاد، فالمتضادان: هنا اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان، لا يمكن اجتماعهما، لكن يمكن ارتفاعهما جميعاً، فالتناقض: ما يمكن فيه اجتماعهما ولا يمكن ارتفاعهما، أما هنا فلا يمكن اجتماعهما ويمكن ارتفاعهما، مثل: البياض والسواد، ومثل القيام والقعود، فجائز أن تقول: فلان لا قائم ولا قاعد؛ لأنه قد يكون حينئذ مضجعاً، لكن لا يمكن أن تجمع بينهما وتقول: فلان قائم وقاعد، ولا يمكن أن تقول: فلان أبيض وأسود، لكن يمكن أن تقول: فلان لا أبيض ولا أسود، لأنه يمكن أن يكون أحمر، أو أزرق أو غير ذلك.
الأمر الثالث: التلازم، والتلازم معناه: ألا يتصور وجود أحدهما إلا بوجود الآخر، مثل: الأبوة والبنوة، فلا يمكن وجود ابن من غير وجود أب، ولهذا نقول: إن الصلاة ملازمة للطهارة، فلا يمكن وجود صلاة بلا طهارة، لا العكس، فيمكن وجود طهارة بلا صلاة، وعليه: فالحرام والواجب ليسا متلازمين ولا متناقضين لكنهما متضادان، فلا يمكن أن يجتمعا في مكان، فلا أقول: هذا حرام وهذا واجب، على عين واحدة كما أشار المؤلف، مع أنه مناقش في ذلك.
لكن يمكن أن أقول: هذا ليس بحرام وليس بواجب؛ لأنه مكروه، أو لأنه مستحب، أو لأنه مباح.
يقول المؤلف: (فلذلك يستحيل كون الشيء الواحد بالعين واجباً حراماً)، فيستحيل اجتماع الحل والحرمة في عين واحدة، وإذا استحال اجتماع الحل والحرمة في عين واحدة؛ فلابد أن أقول: هو استحالة من وجه واحد، أما من وجوه أخرى، فيمكن اجتماع الضدين على عين واحدة من وجوه متغايرة.
فالمؤلف لم يفرق بين اجتماع الضدين من وجوه متغايرة، ومن وجه واحد، نعم، لا يجوز اجتماع الضدين إن كان من وجه واحد، لكن يمكن اجتماعهما من أوجه مختلفة، فالمؤلف هنا قال: (فلذلك يستحيل كون الشيء الواحد بالعين واجباً حراماً)، فالواحد له ثلاثة أقسام: واحد بالعين، وواحد بالجنس، وواحد بالنوع، فواحد بالعين هو الواحد بالشخص، تقول: الاسم إبراهيم، فإبراهيم هو واحد بالشخص، فلا يأتي ثانٍ ويقول: أنا إبراهيم، بنفس الاسم ونفس اسم الأب ونفس الأم، ما يمكن.
الثاني: واحد بالجنس، فالحيوان واحد بالجنس، لكن له أفراد، الحيوان: بعير، خيل، دجاجة، فكلها من إطلاق الحيوانات.
القسم الثالث: واحد بالنوع، فالسجود إما أن يكون لله، وإما أن يكون لصنم، وإما أن يكون احتراماً، كما كان في أول بني إسرائيل.
فالمؤلف رحمه الله رأى أن الصلاة في الأرض المغصوبة باطلة؛ لأن الحنابلة في المشهور عندهم: يرون أن النهي يقتضي الفساد، يعني بذلك: فساد العبادة وبطلانها؛ لأنهم يرون: أنه لا يمكن اجتماع التضاد على عين واحدة، هكذا أشار المؤلف رحمه الله.
فهنا إذا كان النهي عائداً إلى ماهية المنهي عنه فإن النهي يقتضي الفساد والبطلان، وهذا لا إشكال فيه عند عامة الفقهاء، ولهذا قال: (إما أن يرجع إلى ذات المنهي عنه فيضاد وجوبه)، يعني أنه لا يمكن أن يجتمع في المنهي عنه أن يكون واجباً ومحرماً، فكأنه يقول: نحن نسلم لكم، لو كان النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة عائداً على ذات المنهي عنه، ولكنه ليس عائداً على ذات المنهي عنه، بل على صفته، وما ذكرتموه من أن الحرام والواجب لا يجتمعان، نسلم له، ولكن في الصلاة في الأرض المغصوبة إنما لا يجتمعان؛ لأن النهي لسي عائداً على ذات المنهي عنه، بل على صفته.
القسم الثاني: النهي إذا كان عائداً على صفة أو وصف لا ينفك عن العبادة، فالعبادة نفسها في وصفها وفي صفتها خلل، فهنا يقول: إنها أيضاً باطلة، مثل: الصلاة والإنسان سكران والأصل في الصلاة الخشوع، فهنا خلل في صفتها، فلو رأيت شخصاً سكران يصلي، ويركع مثلما يركع الإمام، هل نقول: إنه أدى الصلاة؟ نعم، لكن في صفة الصلاة وهو الخشوع خلل، والإدراك والإرادة لم توجد فبطلت.
ولهذا قال: (كالصلاة في السكر والحيض)، فالمرأة إذا صلت وهي حائض؛ فقد أدت أركان الصلاة، ولكن صفةً من صفات الصلاة قد أخلت بها، وهي الطهارة.
وعليه: فالمجزرة إذا كان فيها دم مسفوح؛ فلا يجوز الصلاة عليه، وغير ذلك من الأشياء التي ذكرها المؤلف.
وهناك أوقات وأحوال وأماكن أخرى لا تجوز الصلاة فيها، مثل: الصلاة عند شدة الحر، الثاني: الصلاة بعد دخول وقت الفجر، إلا سنة الفجر، والثالث: الصلاة وهو يدافعه الأخبثان، فهذه تكره الصلاة فيها، والرابع: الصلاة في مكان يلهي ويشغل عن الصلاة، إما لصوته كالصلاة عند الطاحونة، وإما لرائحته: كالصلاة عند المزبلة التي لا يخشع الإنسان فيها، وإما لكثرة النقوش بأن يلتهي الإنسان في صلاته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اذهبوا بهذه الأنبجانية لأبي جهم وائتوني بأنبجانيته، فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي ) والصلاة في الكنائس، إن كان فيها صورة محرمة، لكن الصلاة صحيحة، لكن إن لم يكن فيها لا صورة ولا صوت غناء؛ فهي جائزة، وبعض المسلمين يشترون كنائس ويصلون فيها، لكن إذا كان فيها صورة، أو فيها آلات لهو؛ فإنه يحرم، كما أشار إلى ذلك ابن تيمية رحمه الله.
يقول المؤلف: (فسماه أبو حنيفة فاسداً)، يعني بذلك: القسم الثالث؛ الآن النهي إما أن يكون عائداً على ذات المنهي عنه؛ فهذا نقول عنه: باطل، والثاني: أن يعود على صفته، وهذا أيضاً نقول عنه: باطل، وهذا لا إشكال فيه، والقسم الثالث: أن يعود النهي على أمر خارجي وتكون فيه العبادة صحيحة مع التحريم أو الكراهة، مثل: تلقي الركبان، وبيع المسلم على بيع أخيه، ومثل: طلاق الحائض عند الأئمة الأربعة: الطلاق صحيح مع الإثم؛ لأن الحيض في الطلاق أمر خارجي، خلافاً لـابن تيمية و ابن القيم رحمهما الله.
فـأبو حنيفة رحمه الله قال: إذا كان النهي عائداً على ماهية العبادة؛ فلا إشكال بيني وبينكم يا جمهور! أنه يكون باطلاً، لأن النهي عائد على أصله ومشروعيته، ولا إشكال بيني وبينكم إذا كان النهي عائداً على أمر خارجي، ولكن الإشكال إذا كان النهي عائداً على صفة من صفات المنهي عنه، فأنا لا أقول ببطلانه، ولكني أقول: بأنه فاسد، لأن الفاسد عند أبي حنيفة : ما شرع بأصله ومنع بوصفه، كالصلاة حال السكر، وأما الباطل: فهو ما منع منه بأصله ووصفه، كبيع الميتة، وبيع الدم وغير ذلك.
فالجمهور و أبو حنيفة لا يرون فرقاً بين إطلاق الباطل والفاسد في العبادات، ولا في النكاح، ولا يرون فرقاً في الحج، وأما العبادات فبعضها فيه فرق، وبعضها ليس فيه فرق، وأما المعاملات: فإن أبا حنيفة رحمه الله يفرق فيها في الأثر وفي بعض العبادات كما قلنا، لكن لماذا فرق أبو حنيفة قال: لأن العبادة مأمور بها، فهي مشروعة بأصلها، لكنها ممنوعة بوصفها، لأن أبا حنيفة يرى الماهية، يقول: الصلاة هنا ماهيتها موجودة، لكن وصفها الذي هو خارج عنها أسميه فاسداً، فيجب أن يصحح، فلو صحح أثناء العبادة؛ جاز، ولو كان متعمداً، مثل: لو صلى وعلى ثوبه نجاسة وهو متعمد؛ فالجمهور يقولون: الصلاة باطلة، أما أبو حنيفة فيقول: يجوز أن يزيل هذا النجس وتبقى صلاته صحيحة، أما إذا كان ناسياً فلا إشكال.
ومثل ذلك: إذا نهي عن العينة، في بعض صور العينة وليس في الربا الصريح، مثل: الشرط الربوي في القرض، فـأبو حنيفة لا يرى بطلانه، والجمهور يرون بطلانه، أبو حنيفة يقول: القرض صحيح مع إبطال أو إسقاط الربا، إذا تأخر العميل عن السداد، والصحيح -والله أعلم- هو قول الجمهور، لكن قال المالكية: إن صححت المعاملة؛ جاز، ولا يحتاج معها إلى إعادة مثل: أن يصلي إنسان وعليه نجاسة، فإن أزالها؛ فصلاته صحيحة، وفي المعاملات المالية مثل: النهي عن بعض صور الغرر، مثل: لو باع مغصوباً، فإن المعاملة تصح على بيعه على غاصبه، أو باع جملاً شارداً؛ فيجوز بيعه لمن يحصله، فإن لم يستطع؛ فإن المعاملة تكون باطلة، ولهذا قال المؤلف: (وعندنا وعند الشافعي )، يعني: عند الحنابلة وعند الشافعية في أن النهي إذا كان عائداً على وصفه؛ يكون باطلاً، بخلاف قول أبي حنيفة .
يقول المؤلف: (وعندنا وعند الشافعي أنه من القسم الأول) أي مما النهي فيه عائد على ذات أو على ماهية العبادة؛ لأن الجميع متفقون على أن النهي إذا كان عائداً على ذات أو على ماهية العبادة؛ فإنها باطلة، يقول: وكذلك عندنا وعند الشافعي إذا كان النهي عائداً على وصفه، يقول: (لأن المنهي عنه نفس هذه الصلاة، ولذلك بطلت أولاً إلى واحد منهما)، يعني النهي عائد على ذات المنهي وغير وصفه، فيكون على أمر خارجي وهو القسم الثالث، كلبس الحرير والإسبال في الصلاة، والصلاة في الأرض المغصوبة، فإن هذه منهي عنها، ولكن ليس نهيها لأجل وجود الصلاة، بل نهيها في الصلاة وعدمها.
وهناك قول عند الحنابلة، وأشار إليه ابن تيمية في المجلد التاسع والعشرين: أن الصلاة في الثوب المسبل باطلة، والراجح: هو قول الجمهور: أنها صحيحة مع الإثم، ولهذا قال المؤلف: (فإن المصلي فيه جامع بين القربة والمكروه)، مثل: شخص أمسك المصحف وهو على غير طهارة وقرأ القرآن، فهو يثاب على قراءته، ويحرم عليه مس المصحف من غير طهارة.
قال المؤلف: (بالجهتين فتصح)، يعني: بناءً على الجهتين منهي عنه؛ لأنه صلى في أرض لا تحل له، وأما وجود الصلاة فهي صحيحة من الجهتين، وليست على عين واحدة من جهة واحدة، واعلم أن تقسيم النهي بأن يكون عائداً على ماهية العبادة، أو أن يكون عائداً على وصفها، أو أن يكون عائداً على أمر خارجي، ذكره الإمام الشافعي رحمه الله، وقد قال ابن تيمية رحمه الله: إن هذا التقسيم إنما يعرف عند أهل الاعتزال؛ فلا يؤخذ بقول ابن تيمية هنا؛ لأن الشافعي إمام سلفي قد أخذه بناءً على مفهوم السلف، وعلى هذا فيجوز هذا التقسيم، وهو أقرب للدليل والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر