اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، أما بعد:
المقصود بالإحرام: هو نية الدخول في النسك، وهو شيء، ونية الحج والعمرة شيء آخر، يقول ابن تيمية : فهو من حين خروجه من أهله ناو للحج والعمرة، ولكن ليس الإحرام هو نية الحج والعمرة، وإنما هو نية الدخول في النسك، فبعض الإخوة يلبس لباس الإحرام وهو في بيته، ويركب الطائرة، ثم إنه لم يسمع صاحب الملاحة المضيف يعلن عن مرور الميقات حتى وصل إلى جدة، قال: يا شيخ! أنا والله ناو أن أحج وأن أعتمر، نحن نقول لك: أنت ناوٍ الحج والعمرة من حين خرجت من بيتك، لكنك لم تنو الدخول في النسك، إذاً: الواجب في حقك أن ترجع إلى الميقات، فإن أحرمت من جدة فإنك تركت واجباً، والله أعلم، كما سوف يأتي بيانه.
إذاً: الإحرام هو نية الدخول في النسك.
إذاً: وجوب الدم عند الحنابلة من حين الدخول في النسك.
أما الشافعي فإنه قال: لو أحرم بالحج من دون الميقات جاز أن يرجع إلى الميقات ويهل ثانية، وليس عليه شيء، فإن أحرم دون الميقات، ثم طاف أو شرع في الطواف وجب عليه الدم، ولو رجع ما نفعه.
و أبو حنيفة يقول: إن أحرم دون الميقات ثم رجع إلى الميقات أجزأه وسقط عنه الدم، ولو أحرم دون الميقات ثم شرع في الطواف قبل أن يطوف أربعة أشواط ثم رجع أجزأه وسقط عنه الإحرام، فإن طاف أربعة أشواط فأكثر وجب عليه الدم؛ لأنه يرى أنه لا يصدق عليه أنه أكمل الطواف إلا أن يأخذ أكثره، وهذه قاعدة عند أبي حنيفة ، والأقرب والله أعلم هو مذهب الحنابلة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
قال المؤلف: [ وهو واجب من الميقات، ومن منزله دون الميقات فميقاته منزله ].
يعني: أن من كان منزله داخل المواقيت مثل أهل جدة، فأين يحرم بالحج والعمرة؟ المؤلف يقول: فميقاته منزله، هل عبارة المؤلف مقصودة بمعنى: أن أهل جدة لو أحرم الواحد منهم من بيت صاحبه، ولم يحرم من بيته، هل معنى ذلك أنه قد ترك واجباً لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ومن كان دونهن فمن حيث أنشأ )؟ الذي يظهر والله أعلم أن المقصود في الحديث: ( ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ) يعني: أن المنطقة التي هو فيها هي منطقة الإحرام وليس بيته، فلو أحرم في أطراف جدة أجزأ ذلك، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
من شروط الإحرام النية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( وإنما لكل امرئ ما نوى )، ومن المعلوم أن المجنون لا نية له، والمغمى عليه لا نية له، والسكران لا نية له، فدل ذلك على أن السكران والعياذ بالله لو قال: لبيك عمرة، فإنه لا يفهم ما معنى العمرة، فيظن أن العمرة شخص آخر؛ فلهذا لا يصح أن يعقد السكران ولا المغمى عليه ولا المجنون إحراماً بالحج أو العمرة هذا أمر واضح، وهو قول عامة أهل العلم لقوله صلى الله عليه وسلم: ( وإنما لكل امرئ ما نوى )، وهؤلاء لا نية لهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( رفع القلم عن ثلاثة -وذكر- المجنون حتى يفيق ).
يعني: إذا أهل بالعمرة أو بالحج فعقد إحرامه فإنه لا يبطل الإحرام إلا بالردة؛ لقوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، أو أفسد حجه بأن جامع قبل التحلل الأول ابن حزم يقول: لو جامع قبل التحلل الأول بطل إحرامه، والأئمة الأربعة يقولون: لا يبطل إحرامه وإن كان يفسد حجه.
إذاً: الراجح أن الإحرام لا يبطل إلا بالردة، والإحرام شيء وفساد الحج شيء آخر، ويمكن القول بأنه: لا ينفسخ الإحرام إلا بثلاثة أمور وهي: إما الردة، وإما أن يشترط، وإما انتهاء الحج.
قول المؤلف: (وإذا انعقد لم يبطل إلا بالردة) عبارة المؤلف دقيقة؛ البطلان غير الفساد وغير الانقضاء، الانقضاء الذي هو الانتهاء يكون بالاشتراط، أو بالإحصار أو بالانتهاء، والبطلان لا يكون إلا بالردة لأنه باطل، والله أعلم.
إذاً: الإحرام يفسد، لكنه لا يبطل إلا بالردة، وفساده بمعنى أنه لا يجزئه، ويجب عليه أن يأتي بإحرامٍ آخر، وقالوا: فيما لو وطئ قبل التحلل الأول -فالعمرة قبل التحلل الأول هي قبل الطواف، وفي الحج التحلل الأول قبل رمي جمرة العقبة- أو إن شئت فقل: قبل أداء الطواف، أو رمي جمرة العقبة يوم العيد، فإنه لو طاف يكون قد انتهى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33]، هذا هو قول عامة أهل العلم وهو قول الأئمة الأربعة، إلا ابن حزم فإنه قال: إن وطئ قبل التحلل الأول فسد إحرامه وبطل حجه؛ لقوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، فقال: إن هذا النفي نهي يدل على نفي الصحة، ولم يوافقه أحد رحمه الله، فـابن حزم يقول: إذا وطئ قبل التحلل الأول فقد بطل إحرامه وفسد فلا فرق بينها، فإن كل ذلك عنده بطلان.
قول المؤلف: (بل يلزمه إتمامه) لماذا وجب الإتمام؟ لقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، وجب عليه القضاء بإجماع من الصحابة، فقد روى البيهقي عن طاوس أن رجلاً أتى عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: ما تقول في رجل أتى أهله قبل أن يقف بعرفة، أو قبل أن يطوف؟ قال: اذهب إلى هذا فسله، فذهب إلى ابن عباس قال: يمضي ثم عليه الحج من قابل والهدي، ثم رجع فقال: بم أفتاك؟ قال: أفتاني بكذا وكذا، قال: اذهب إلى هذا الذي عند السارية فسله، فذهب فإذا هو ابن عمر ، فأجاب بمثل ما أجاب ابن عباس ، ثم رجع إليه، قال: وأنا أقول بقوليهما، وهذا قول الصحابة، ولا يعرف لهم مخالف، فدل ذلك على فساده ويجب عليه أن يمضي فيه، وأن يحج من قابل، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
أقول: اتفق الأئمة الأربعة على أن للمرء أن يهل بأي الأنساك الثلاثة شاء، بالتمتع إن شاء، وبالقران إن شاء، وبالإفراد إن شاء، هذا قول الأئمة الأربعة، وقد حكى غير واحد من أهل العلم إجماع العلماء على ذلك، ومما يدل على أنه يصح الأنساك الثلاثة كلها ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم بفج الروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما )، ومن المعلوم أن ابن مريم إذا نزل فإنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فلما خير ابن مريم الذي سوف يحكم بشريعة محمد بين الأشياء الثلاثة دل على أن كل هذه الأنساك الثلاثة جائزة، وهذا الدليل قوي، ومعنى حاجاً: مفرداً، ومعنى معتمراً: متمتعاً، ومعنى يثنيهما: قارناً، والله أعلم.
وقد نقل ابن القيم و الألباني عن ابن عباس أنه يرى وجوب التمتع، والذي يظهر لي والله أعلم أن ابن عباس لا يرى وجوب التمتع ويمنع الإفراد والقران، إنما قال ابن عباس : من أحرم بالحج الذي هو بالإفراد أو بالقران، فإنه إذا وصل البيت فقد حل شاء أم أبى، فمن كان مفرداً أو قارناً ولم يأت البيت إلا بعد عرفة، فإن إحرامه صحيح، مثل عروة بن مضرس أفرد وذهب إلى عرفة وابن عباس لا إشكال عنده، الإشكال عند ابن عباس أنه إذا جاء ليطوف طواف القدوم فقد حل، فإنه يقول: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33]، يقول: لا فرق بين أن يكون ذلك قبل عرفة، أو بعد عرفة، كما ثبت في الصحيح من حديث عطاء عن ابن عباس .
إذاً: قول: إن ابن عباس يرى وجوب التمتع محل نظر، والله أعلم، والصحيح أن أنواع الإحرام الثلاثة كلها جائز.
وأما فسخ الإفراد والقران لمن لم يسق الهدي إنما كان ذلك واجباً في حق الصحابة، وأما مشروعيته فإنه إلى يوم القيامة، ( قال: يا رسول الله! أرأيت إحرامنا بالعمرة ألعامنا هذا أم لأبد الأبد فشبك بين أصابعه وقال: لأبد الأبد، لأبد الأبد )، هذا فهم منه بعض أهل العلم وجوب التمتع ووجوب الفسخ، والصحيح أن معنى ذلك أن الفسخ ثابتة مشروعيته إلى يوم القيامة، وليس معنى ذلك إبطال الأنساك الثلاثة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
إذا ثبت هذا فأي الأنساك أفضل؟ كلام طويل في هذا، والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم هو اختيار أبي العباس بن تيمية ورواية عند الإمام أحمد أن الأفضل هو سوق الهدي وأن يكون قارناً؛ لأن الله لم يكن ليختار لرسوله إلا ما هو الأفضل، ومما يدل على ذلك أن الله أمره بذلك كما في الصحيحين عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني الليلة آت من ربي وقال: صل في هذا الواد المبارك وقل: عمرة في حجة )، والله أعلم.
وعلى هذا فالأفضل القران مع سوق الهدي، ومعنى سوق الهدي أن يأخذ الهدي سواء كان من بلده أو من خارج الميقات ويسوقه إلى منى ليذبحه في منى سواء كان هو الذي يصنع أم شخص آخر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ساق الهدي له، وساق علي أيضاً هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم أشركه في هديه كما في صحيح مسلم من حديث جابر .
والأفضلية الثانية: التمتع، وهي: أن يحرم بالعمرة ثم يتحلل منها، ثم يحرم بالحج من عامه دون أن يرجع إلى بلده بينهما، فإن رجع إلى بلده بعد أداء العمرة ثم أهل بالحج فإنه يكون مفرداً، ولو سافر بينهما سفراً ولو مسافة قصر فإن الحنابلة يقولون: ينقطع تمتعه، والراجح هو قول عمر وهو مذهب مالك و أبي حنيفة في بعض أقواله أنه لا ينقطع تمتعه وهو قول ابن حزم ، لكن ابن حزم يقول: لا ينقطع تمتعه مطلقاً، ولو رجع إلى بلده، والصحيح ما رواه عمر رضي الله عنه أنه قال: هو على تمتعه ما لم يرجع إلى بلده، والله أعلم.
الثالث: الإفراد، المفرد ومعناه أن يهل بالحج من عامه فيقول: لبيك حجاً، فيطوف طواف القدوم، ويسعى سعي الحج إن كان قبل عرفة، أو يذهب إلى عرفة فيقف بها ثم بعد ذلك يطوف طواف الحج، ثم يسعى سعي الحج ثم يتحلل، هذا المفرد، والمفرد أفضل من القارن الذي لم يسق الهدي.
ثم بعد ذلك القران لمن لم يسق الهدي.
أما ابن حزم رحمه الله فقد أنكر وجود القران من غير سوق هدي، والصحيح وجوده، وهو فعل عائشة رضي الله عنها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج -ثم قال-: طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمروة يجزئ عن حجك وعمرتك جميعاً )، والله أعلم.
ما هي أشهر الحج؟ أشهر الحج هي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، هذا هو الراجح وهو قول ابن عمر ، وروي عن ابن عباس ، وأما من قال: تسع من ذي الحجة فإنه ظن أن يوم العاشر يجوز له أن يهل فيها والمقصود أن ليلة العاشر يجوز للإنسان أن يهل فيها، فإنه لو أهل الساعة الثانية ليلاً ليلة العاشر، ثم وقف بعرفة، ووقف بمزدلفة أن حجه صحيح، ومن المعلوم أن الليلة تأخذ حكم اليوم الذي قبلها، ومن المعلوم أن الله تعالى يقول: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3]، و(الحج الأكبر) هو يوم النحر، ويبعد أن يكون (يوم الحج الأكبر) الذي هو يوم خارج أشهر الحج، والله أعلم، هذا هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فلو أنه أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم بعد فراغه منها أحرم بالحج، فهذا على مذهب الحنابلة إذا قطع بين عمرته وحجه بسفر يقصر لمثله الصلاة فإنه لا يعد الإنسان متمتعاً، وعلى هذا فالذين يأتون من بلاد بعيدة يأخذون عمرة، ثم يذهبون إلى المدينة، ثم يهلون من ذي الحليفة بالحج، على مذهب الحنابلة أنهم ليسوا بمتمتعين، وهو مذهب الشافعي أيضاً، فإن الشافعي يقول: لا يقطعه، فإذا خرج مسافة من الحرم انقطع.
والراجح هو مذهب مالك وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو أنه إذا رجع إلى بلده انقطع تمتعه، وأما إذا سافر دون ذلك ولم يرجع إلى بلده فإن تمتعه لا ينقطع، والله أعلم.
قوله: (الإفراد هو أن يحرم بالحج) بأن يقول: لبيك حجاً، ثم إن أراد أن يقدم سعي الحج قبل الوقوف بعرفة فيلزمه أن يطوف للقدوم ثم يسعى سعي الحج، ثم يبقى على إحرامه حتى يوم الحج الأكبر، ثم إن قول المؤلف: (ثم بعد فراغه منه يحرم بالعمرة) فإن هذا ليس بسنة، وهذا هو الراجح وهو اختيار ابن تيمية ، وإن كان ذلك يجزئ، فإن ابن تيمية أنكر هذا وبالغ في الإنكار، والذي يظهر والله أعلم أنه جائز، لكن من أحرم بالعمرة ثم عجز عنها فأدخل الحج على العمرة ليكون قارناً أنه يستحب في حقه أن يحرم بالعمرة بعد أداء الحج.
إذاً: هل يستحب للإنسان أن يؤدي العمرة بعد الحج؟ نقول: لا يستحب، وإنما يجوز في صورة واحدة، وهي أن شخصاً أحرم بالعمرة يعني: أحرم بالتمتع، ثم عجز عنها، مثل امرأة حاضت حتى كان يوم عرفة أدخلت الحج على العمرة لتكون قارنة، فإنها إذا أنهت أعمال الحج فيستحب في حقها أن تحرم بالعمرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة قال: ( انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج، فعسى الله أن يرزقكيها )، وهذا يدل على مشروعية ذلك، وهذا اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
المسألة الأخرى: هل يجزئ لمن أراد أن يقدم السعي أن يسعى ابتداءً دون طواف؟
نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على أنه لا يصح سعي إلا أن يسبقه طواف مشروع، ونقل الإجماع الماوردي و الحطاب المالكي و النووي و الخطابي، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما بعث بالحنيفية السمحة وما طاف للقدوم ليشق على أمته إلا لعلمه صلى الله عليه وسلم أن السعي لا يصح إلا أن يسبقه طواف مشروع، وهذا القول أظهر، ولا يجزئ إلا في حق الجاهل والناسي، أما المتعمد فلا، وأما ما جاء في الحديث الذي يرويه جرير بن عبد الحميد الضبي عن الشيباني عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك أن رجلاً قال: ( يا رسول الله! إني سعيت قبل أن أطوف، قال: اسع ولا حرج )، فهذا الحديث منكر أنكره غير واحد من أهل العلم؛ وذلك لأن الرواة رووه عن الشيباني ولم يذكروا هذه اللفظة، وكذلك أيوب السختياني تابع الشيباني عن زياد بن علاقة ولم يذكر هذه اللفظة، فدل ذلك على أن زيادة ( سعيت قبل أن أطوف ) منكرة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
أما إذا كان الإنسان جاهلاً أو ناسياً فيجزئ؛ لأن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول كما عند مسلم : ( فما سئل يومئذٍ من تقديم بعض الأمور على بعض مما يجهل المرء أو ينسى إلا قال: افعل ولا حرج )، ومعنى (افعل ولا حرج)، ليس معناه: اترك ولا حرج، فإذا سعى الإنسان قبل أن يطوف لا يقال: يجزئ، نقول: افعل يعني: طف بعد ذلك، أما إذا كان السعي بلا طواف فإن ذلك لا يجزئ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
هذا القران، القران سمي قراناً؛ لأنه يقرن الحج بالعمرة، فيكون طوافه عن الحج والعمرة جميعاً، وسعيه عن الحج والعمرة جميعاً، وله صورتان عند المؤلف: الأولى: أن يقول: لبيك عمرة وحجاً، والصورة الثانية: أن يقول: لبيك عمرة، ثم يدخل الحج عليها، كما صنعت عائشة .
وهل يجزئ أن يقول: لبيك حجاً ثم يدخل العمرة على الحج؟ المذاهب الثلاثة وهم المالكية والشافعية والحنابلة منعوا ذلك، وقالوا: إن ذلك لا ينفعه ولا يجزئ، والأولى ألا يصنع الإنسان ذلك، فإن فعل جاهلاً فإنه الجهل لا حرج عليه ولو ذبح دماً أبرأ لذمته، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، وإنما قلنا ذلك لأن ابن عمر يقول: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج ) يعني قال: لبيك حجاً، وعند ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لبيك حجة لا رياء فيها ولا سمعة، ثم أدخل العمرة عليها، فقال: لبيك عمرة وحجاً )، فعلى هذا فالذي يظهر أنه لو صنع ذلك فلا حرج عليه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، ولكنه لا ينبغي له أن يفعل.
إذاً: هل إدخال العمرة على الحج يكون من صور القران؟
الجواب: لا، فلا يقلبها عمرة لأنه يفسخ، فلما نوى الحج يفسخ الحج فيكون معتمراً، أما الصورة الأولى فهي أن يدخل العمرة على الحج ليكون قارناً، فالإدخال غير الفسخ، فالعمرة فسخ، والله أعلم؛ لأن طوافه الأول وسعيه بدل أن يكون طواف قدوم صار طواف عمرة، فيكون هذا فسخاً.
قال المؤلف رحمه الله: [فإن أحرم به] يعني بالحج، [ثم بها]، يعني: أدخل العمرة على الحج قال: [لم يصح]، يعني: لم يكن قارناً كما قلت، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة، وذهب أبو حنيفة إلى جوازه بناءً على أنه يرى أن القارن عليه سعيان وعليه طوافان، فيكون قد زاد خيراً، وأما من منع فقالوا: إن إدخال العمرة على الحج لم يزد شيئاً إنما نقص، قالوا: لأنه لو طاف يكون طوافه عن الحج، ولو سعى يكون سعيه عن الحج، فإذا أدخل العمرة على الحج نقص، فيكون طوافاً واحداً بدلاً من أن يكون عن حج صار عن حج وعمرة، وكما قلت: هذا القول قوي، وروي عن علي ، ولكن لو صنع بجهله أن ذلك لا بأس، ولو ذبح دماً خروجاً من الخلاف فإنه جيد، والله أعلم.
قال: [وما عمل قبل فهو له] معنى (له) أي: بعض الناس يحرم وهو لا يدري، فبعض الناس الآن يقول: لبيك حجاً، تقول: ماذا تريد؟ نقول: أنا أريد ألا أذبح، فيذهب فيطوف طواف القدوم، ويسعى سعي الحج ويقصر، فهو جاهل، فلا عليه شيء، والله أعلم.
المسألة الثانية: بعض الناس إذا كان عند الميقات قال: لبيك عمرة، ولا يقولها بعد ذلك، أو لبيك حجاً ولا يقولها بعد ذلك، والسنة أن تقال أحياناً، ودليله ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالقران وهو على راحلته، يقول ابن عمر : ( بيداؤكم هذه التي تكذبون بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أهل رسول الله إلا من عند المسجد )، وأنس كما عند البخاري حفظ عن رسول الله بعد ذلك، قال: (حتى إذا استوت به ناقته على البيداء أهل بهما جميعاً لبيك عمرة وحجاً)، وفي رواية عند البخاري قال: ( حتى إذا استوت به ناقته على البيداء سبح وحمد الله وكبر وقال: لبيك عمرة وحجاً )، فهذه تفيد مسائل:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلط مع التلبية التسبيح.
ثانياً: أنه صلى الله عليه وسلم كان يعيد ما نواه من الأنساك بعد ذلك، فإنه قال: لبيك عمرة وحجاً في المسجد، وقال وهو في الطريق، فدل ذلك على استحباب أن يقول مرتين.
وهل له أن يقول: اللهم إني نويت أن أحج؟ ابن تيمية بالغ في ذلك وقال: إن ذلك بدعة، والمنصوص عن أحمد أنه قال: جائز في الحج، ولم يقل: جائز في الصلاة، مما يدل على أن الحج مستثنى، وهذا هو الصحيح، والقاعدة أنه لا بأس للإنسان أن يقول: اللهم إني نويت أن أحج ولكن السنة ترك ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصنع، ودليل الجواز ما رواه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن هشام عن عروة أن أم المؤمنين قالت له: إذا حججت فاشترط، قال: ماذا أقول يا أم المؤمنين؟ قالت: قل: اللهم الحج أردت، ولك عمدت، فإن كان الحج فاللهم، وإلا فمحلي حيث حبستني، وهذا يفيد أن أم المؤمنين قالت: أردت وهنا تلفظت بالنية، وقاعدة ابن تيمية : كل فعل فعله الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين: فليس ببدعة، إذاً فعل الصحابة يدل على الجواز، ولكن لا يدل على الاستحباب. والله أعلم.
أفادنا المؤلف أن السنة أن يشترط، فيقول: اللهم إني أريد النسك الفلاني فيسره لي وتقبله مني، وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، أقول: في قول المؤلف هذا نظر من وجهين:
الوجه الأول: أنه أطلق السنة على التلفظ بالنية، والصحيح جوازه، وليس بسنة؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تلفظ بالنية.
وأما حديث: ( لبيك حجاً لا رياء فيه ولا سمعة )، فالحديث رواه ابن ماجه وفي سنده ضعف، وإن كان الألباني رحمه الله قد صححه.
الوجه الثاني: قوله باستحباب الاشتراط، هو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما روى ذلك ابن حزم عنه بسند صحيح، وكان ابن عمر يمنعه أشد المنع؛ ولذا اختلف العلماء فيه، فاستحبه الجمهور ومنعه مالك ، وقال ابن تيمية رحمه الله: إن كان يخاف على نفسه العطب والهلكة اشترط، وإلا فلا، وهذا القول حسن لما جاء في الصحيحين من حديث عائشة ، وعند غيرهما من حديث ابن عباس ، ( أن
محظورات الإحرام هي الأشياء التي يمنع في حق المحرم ارتكابها، وهذه ممنوعة هل على سبيل التحريم، أم أنها على سبيل البدل؟ يعني: إما ألا تلبس أو تفتدي، فبعض فقهاء الحنابلة قال: إن محظورات الإحرام إنما هي على سبيل البدل، إما ألا تفعل، وإما أن تفعل وتفتدي، والصحيح هو مذهب جمهور الفقهاء أنه لا يجوز للإنسان أن يهل بالحج وهو على ثيابه، وأنه إن فعل فهو آثم وعليه الفدية، كما سوف يأتي بيانها.
محظورات الإحرام منها ما هو ممنوع في حق الرجل والمرأة، ومنها ما هو ممنوع في حق الرجل دون المرأة، ومنها ما هو ممنوع في حق المرأة دون الرجل.
المخيط أول من تلفظ بها إبراهيم النخعي ، وإلا فإن المقصود: هو أن يلبس ما كان قد لبسه قبل الإحرام، فيمنع الإنسان أن يلبس شيئاً كان يلبسه على العضو قبل الإحرام، والمقصود ألا يلبس على أعضائه شيئاً يحوط العضو، فعلى هذا لو لبس الشد الذي يوضع في اليد والذي فيه فتحة في الوسط، فهذا مخيط؛ لأنه لبسه على قدر العضو، ولو غطى بإحرامه ثوب يده فإنه جائز؛ لأنه لم يحطه على هيئة إحاطة بالعضو، وإنما غطاه، والتغطية شيء والإحاطة شيء آخر، وعلى هذا فيجوز أن تحمله على رأسك؛ لأنك لم تغطه تغطية إحاطة، لكنك لو غطيته تغطية إحاطة منع من ذلك، والله أعلم.
قول المؤلف: (تعمد لبس المخيط على الرجال حتى الخفين) يعني: يحرم على الرجال أن يتعمد لبس المخيط، أفادنا المؤلف أن من لم يتعمد لبس المخيط وفعل ذلك جاهلاً أو ناسياً فليس عليه شيء، وهذا قول عامة أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن عباس : (إن الله تجاوز لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ).
قال المؤلف: (حتى الخفين) يعني: أن الخفين يمنع لبسهما في حق المحرم، قالوا: ولو قطع، هذا الذي يظهر والله أعلم، فلبس الكنادر هذه التي تغطي أول الرجل وآخر العقب ممنوعة في حق المحرم، فماذا عليه؟ نقول: يطأ الجلدة التي تغطي العقب ليكون العقب ليس عليه غطاء، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم، هذا هو مذهب الحنابلة خلافاً للجمهور، فإن الجمهور قالوا: إذا قطع خفيه دون الكعبين فإنها تكون كالنعلين والراجح عدمه والمسألة محتملة، والله أعلم.
قوله: (تعمد تغطية الرأس)، هل تغطية الرأس محظور ثانٍ أم هو من ضمن لبس المخيط؟ وما ثمرة الخلاف؟ ثمرة الخلاف لو أن إنساناً لبس غترته ولبس ثوبه، فإذا قلنا: إن تغطية الرأس من ضمن لبس المخيط كان المحظور واحداً، وعليه فدية واحدة، وإذا قلنا: إن تغطية الرأس شيء، ولبس المخيط شيء آخر فإن عليه فديتين، وإذا قلنا: إن إنساناً غطى رأسه ولبس ثوبه، ولبس شراباً فعدد الفدية اثنتان: الرأس والثياب مع الشراب، والله أعلم؛ ولهذا المؤلف قال: (تعمد لبس المخيط على الرجال حتى الخفين)، فجعل الخفين من ضمن المخيط، وهذا هو الأقرب والله أعلم.
وهناك رواية عند الحنابلة يرون أن تغطية الرأس من ضمن المخيط، والراجح العدم وهو اختيار شيخنا عبد العزيز بن باز ، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
قول المؤلف: (ولو بطين) يعني: لو غطاه بطين فإنه ممنوع، ولو غطاه بحناء فإن بعض أهل العلم منعه؛ لأن الحناء طيب، كما جاء في بعض الروايات، وبعضهم قال: إن كان الحناء طيباً فإنه يمنع؛ لأنه طيب، وهذا الأولى ولأنه إما أن يكون زينة وإما أن يكون طيباً، فإن كان زينة فإنه مكروه، وإن كان طيباً فإن المحرم ممنوع من الطيب، والله أعلم.
قول المؤلف: (أو استظلال بمحمل) يعني: أن يستظل بمحمل، الحنابلة يرون أن الاستظلال بالمحمل ممنوع، والراجح والله أعلم جواز ذلك إذا لم يسنده على رأسه، ودليل الجواز ما رواه مسلم في الصحيح من حديث أم الحصين قالت: ( رأيت
قول المؤلف: (وتغطية الوجه من الأنثى) الأنثى ممنوعة من أن تغطي وجهها على هيئة اللبس، وهذا إنما يكون بالنقاب أو البرقع أو اللثام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري من حديث ابن عمر : ( ولا تنتقب المحرمة )، وقالت أم المؤمنين عائشة كما عند الإمام أحمد : ( ولا تنتقب ولا تتبرقع ولا تتلثم ) كل ذلك ممنوع؛ لأن إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه، كما صح ذلك عن ابن عمر ، وروي مرفوعاً ولا يصح.
أما السدل على وجهها، فإن ذلك تركه أولى إذا لم يكن أمام الرجال، فأما مع الرجال الأجانب فإنه يجب؛ لأن المرأة مأمورة بتغطية وجهها على الخلاف المعروف، والله أعلم.
وعلى هذا فالممنوع هو أن يوضع على الوجه شيء يشد به، الآن النقاب تضعه المرأة وتشده، وبعض النساء تسأل عن حكم النقاب الأفغاني، فإذا كان يشد على الوجه من القفاء فهذا مثل النقاب، وأما إذا كانت المرأة تسدله سدلاً وقد جعلت أعلاه خفيفاً وأسفله ثقيلاً لكنه غطاء لا يشد على الوجه، فهذا جائز والله أعلم، فإذا كانت المرأة تضع الغطاء وقد قسمته نصفين أعلاه خفيف، ولم تشده على وجهها بل سدلته من قفاها إلى أعلى فهذا لا حرج، وأما أن تشده على وجهها فهذا ممنوع.
وأفادنا المؤلف بقوله: (وتغطية الوجه من الأنثى) أن الرجل لا بأس أن يغطي وجهه، هذا هو المذهب، وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي، خلافاً لـمالك ، والرواية الأخرى عند الإمام أحمد ، فإن مالكاً منع المحرم من أن يغطي وجهه، والراجح والله أعلم أن المحرم يجوز أن يغطي وجهه ولو بلا حاجة؛ وذلك لأن عثمان رضي الله عنه و زيد بن ثابت و ابن عباس كلهم يرون أن لا بأس بتغطية المحرم وجهه، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عباس في الرجل الذي وقصته ناقته: ( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تغطوا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ) هذه رواية البخاري و مسلم ، زاد مسلم من طريق جعفر بن أبي شعبة عن جعفر بن أبي وحشية عن سعيد عن ابن عباس : ( ولا تغطوا وجهه ولا رأسه )، وهذه رواية منكرة تكلم فيها الحفاظ وضعفوها، وهذا هو الظاهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن الزيادة منكرة، ومما يدل على نكارتها أن الإمام أحمد صحح عن ابن عباس أنه قال: يغطي المحرم وجهه، فلو كان عند ابن عباس حديث مرفوع على أن المحرم لا يغطي وجهه لما كان يخالف في ذلك، وهذه طريقة المتقدمين من أهل الحديث يرون أن الحديث إذا جاء مرفوعاً وجاء موقوفاً ما يخالفه يضعفون بالموقوف المرفوع، وهذه طريقة البخاري و مسلم و أبي داود والإمام أحمد و النسائي و الدارقطني وغيرهم، أما المتأخرون وكذلك علماء الأصول فيقولون: العبرة بما روى لا بما رأى، وهذا ليس بصحيح، والله أعلم.
قال المؤلف: وعلى هذا فالرجل لا بأس أن يلبس الكمامة، أما المرأة فلا يجوز لها؛ لأنه يشد على الوجه مثل اللثام، فإن احتاجت إلى ذلك فعلت وافتدت.
وهناك مثال آخر يبين طريقة المتقدمين من أهل الحديث إذا جاء حديث مرفوع، وجاء موقوف يخالفه، فإنهم يضعفون بالموقوف الحديث المرفوع، ذكر البخاري تضعيف حديث أبي هريرة : ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء عمداً فليقض )، قال: صح عن أبي هريرة : الوضوء مما خرج لا مما دخل، والفطر مما دخل لا مما خرج، ومن المعلوم أن القيء خروج، فـالبخاري رأى أن الحديث ضعيف؛ لأنه يخالف رواية أبي هريرة ، وكذلك الإمام أحمد ضعف هذا الحديث؛ لأجل رواية ابن عباس وغير ذلك.
إذاً: من محظورات الإحرام الطيب، سواء قصد شمه أو وضعه على بدنه بعد الإحرام أو على ثوب الإحرام بعد الإحرام؛ لأن المقصود هو الترفه في الرائحة، ومما يدل على ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تلبسوا من الثياب شيئاً مسه الزعفران ولا الورس ) والزعفران طيب، والورس كذلك، وقد ثبت في الصحيحين من حديث يعلى بن أمية : ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة، وقد لبس جبة وتضمخ بالطيب، فقال: يا رسول الله! ما تراني أصنع في عمرتي، فسكت صلى الله عليه وسلم حتى أتاه الوحي، فقال: أين السائل عن العمرة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: اخلع عنك جبتك، واغسل عنك أثر الخلوق، واصنع في عمرتك ما أنت صانع في حجك ) والله أعلم، إلا أنه يجوز للإنسان أن يتطيب قبل الإحرام لقول عائشة رضي الله عنها: ( كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت ) هذا هو السنة، ولكن هل هو سنة؟ الأقرب أنه سنة خلافاً لـابن تيمية ، فإنه قال: جائز، والله أعلم.
قول المؤلف: (ومس ما يعلق) يعني: إذا مس الدهن العود فإنه ممنوع، وهل يمنع للإنسان أن يمس الحجر الأسود لأنه سوف يعلق به رائحة؟ الجواب: إن كان الحجر الأسود فيه جرم الطيب يعني: جرم واضح، كما لو أخذت عودة وصببته على هذا الكتاب تجد له جرماً قطرة أو قطرات، هذا يسمى جرماً، أما إذا كان قد تمسح وزال ودخل في هذا فلا حرج، فالجرم ممنوع، وأما الحجر فلا بأس، وما زال المسلمون يمسون الحجر، ومن المعلوم أن الحجر كان يطيب إلى يومنا هذا، والله أعلم.
قول المؤلف: (واستعمال في أكل أو شرب) يعني: يمنع للإنسان أن يمس طيباً في أكل أو شرب مثل الزعفران ومثل ماء الورد، فالآن أصحاب المثلوثة يبيضون الرز بماء الورد، وهذا يكون له نكهة معطرة فيمنع، فلا بد ألا يوضع، فإن كانت مغمورة لا تظهر فهذا جائز، وعلى هذا فالزعفران يمنع منه المحرم إذا ظهر طعمه أو ريحه، يقول القاضي أبو يعلى : لا يظهر طعمه إلا وفيه رائحة، إلا إذا كان لوناً بلا طعم ولا رائحة مثل الصفار الذي يوضع في اللحم وفي الدجاج فهذا جائز، والله أعلم، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية.
وبعض العلماء كـمالك و أبي حنيفة يرون أن الزعفران إذا طبخ خرج من سمى الطيب، وهذا القول قوي، ولكن الأولى تركه، والله أعلم، فعلى هذا فالقهوة التي تكون فيها زعفران إذا كان زعفران شيرازي فهذا لك عليه، وإذا كان زعفران له رائحة فهذا يمنع منه المحرم، والله أعلم.
قول المؤلف: (فمن لبس أو تطيب أو غطى رأسه ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فلا شيء عليه) هذا قول جماهير أهل العلم على أن من فعل محظوراً جاهلاً أو ناسياً فلا شيء عليه، دليله أن الرجل الذي لبس الجبة وتضمخ بالطيب كان جاهلاً فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلع، ولم يأمره بأكثر من ذلك، فدل ذلك على أن الجاهل والناسي معذور والله أعلم، وقد قال الله تعالى في قوله سبحانه: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال الله: ( قد فعلت )، كما روى ذلك مسلم في صحيحه.
قال المؤلف: [ومتى زال عذره أزاله في الحال، وإلا فدى]، يعني: إذا فعل ذلك جاهلاً ثم علم فإنه إن استمر فعليه فدية، وكذلك إن فعله متعمداً عليه الفدية، فمن فعل محظوراً فعليه الفدية هذا هو قول عامة أهل العلم، بل هو قول الأئمة الأربعة وقول الصحابة، ولم يخالف في ذلك أحد إلا بعض طلبة العلم في الواقع المعاصر، فلا أعلم أحداً من سلف هذه الأمة قال بمن فعل محظوراً: ليس عليه شيء، ومن قال ذلك من بعض المعاصرين فقد خالف إجماع الصحابة، فقد صح عن ابن عباس كما روى عمرو بن دينار عن أبي معبد عن ابن عباس أنه قال: ناولني طيالستي وهو محرم، قال: أو ليس ينهى عن ذلك؟ قال: نعم، ولكني سأفتدي، ابن عباس رأى الفدية ثابتة في حق من لبس المخيط؛ وذلك لأنهم يرون أن حلق الرأس محظور، ولبس المخيط محظور، فيمنع بجانب فعل المحظور، وليس بفعل الترفه كما يقول الفقهاء، وأن الفقهاء إنما قالوا بالترفه؛ لأنهم ذكروا بعض العلل وليس كل العلل.
أقول هذا لأنه قد صح عن ابن عباس كما رواه الطحاوي وغيره، وكذلك صح عن ابن عمر كما روى مالك في الموطأ، فقد روى الزهري عن سالم عن ابن عمر في قصة الرجل الذي جرح، فقال ابن عمر : فإن احتاج إلى شيء من الثياب فعل وافتدى، فهذا معذور مصاب، ومع ذلك أمره بأن يفتدي.
وقد روى ابن أبي شيبة عن قتادة عن عبد الرحمن بن أبي بكر أنه أمر من فعل محظوراً أن يفتدي، وإن كان في سنده ضعف.
إذاً هذا قول الصحابة، ولا يعرف لهم مخالف، ودليلهم حديث كعب بن عجرة : ( ما كنت أرى أن بلغ بك من الجهد ما أرى، أتجد شاة؟ قال: لا، فجاءه الوحي، قال: أنسك شاة أو صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع ) وقوله صلى الله عليه وسلم: (أتجد شاة) دليل على أن فعل المحظور لا يجوز، ولا بد فيه من بدل والله أعلم؛ لأن بعض طلاب العلم الآن يقولون للإخوة الذين يخالفون فيلبسون المخيط ويدخلون الحرم ليس عليك شيء، هذا قول محدث ولا يعرف لسلف هذه الأمة، وبعضهم يخلط بين ترك الواجب وفعل المحظور، مع أن ترك الواجب كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله فيه الدم، والله أعلم.
يعني: أن إزالة الشعر ممنوع منه المحرم وقال عنه ابن المنذر : بغير خلاف نعلمه، والصحيح أنه روي عن عطاء خلاف ذلك، والصحيح أنه يمنع تقليم الأظفار، وإزالة الشعر من البدن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـكعب بن مالك حينما حلق رأسه أن يفتدي، والشعر والبدن سواء؛ لقول ابن عباس في قول الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، قال: تقليم الأظفار وقص الشارب وحلق الرأس، وهذا تفسير من ابن عباس رواه ابن جرير الطبري و أبو عمر بن عبد البر وإسناده صحيح، والله أعلم. وقال: وأخذ ما زاد عن القبضة، وقد صحح الحديث أبو عمر بن عبد البر هذا هو الراجح، وكذلك قطع البدن يعني: الذي يقطع شفتيه يمنع منه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أم سلمة عند مسلم : ( إذا أهل هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من بشرته ولا من أظفاره شيئاً ) لأنه سوف يشابه المحرم، فإذا كان المقيس ممنوعاً فالمقيس عليه من باب أولى، والله أعلم.
قول المؤلف: (وتقليم الأظفار) وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو قول ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29].
وعلى هذا فلو أن إنساناً محرماً، ذهب إلى جدة وبدأ يصيد في البحر فهذا جائز، قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96] إذاً: البر ما دمتم حرماً ممنوع، وأما البحر فجائز، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
إذاً فلا يجوز قتل الوحشي المأكول اللحم، فأما الوحشي غير المأكول اللحم مثل الأسد أو النمر أو الفهد أو الذئب أو الثعلب أو الكلب فلا بأس بذلك والله أعلم.
ويحرم الدلالة عليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي قتادة : ( هل منكم أحد أشار عليه أو أعانه بشيء؟ قالوا: لا، قال: فكلوا منه ).
قوله: (والإعانة على قتله)؛ لقوله: ( هل منكم أحد أشار عليه أو أعانه عليه؟ )، وفي رواية أبي قتادة قال: ( فركبت خيلي ثم نسيت الرمح، ثم أتيت أصحابي فقلت: ناولوني الحربة، قالوا: فأبوا عليه ) وهذا يدل على أنهم أبوا حتى أن يعينوه، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
قول المؤلف: (وإفساد بيضه) يعني: الحمام إذا كان عنده بيض فيحرم؛ لأن هذا مآله إلى الصيد، فإذا قتل الصيد أو أتلف البيض فهما سواء، والله أعلم.
قول المؤلف: (وقتل الجراد والقمل لا البراغيث) الجراد ما حكم قتله؟ الجواب لا يجوز؛ لأنه صيد، لكنه إذا انتشر في الأرض بحيث يصعب على الإنسان أن يتقيه فإنه يكون في حكم الصائل، وأذكر قبل عام ألف وأربعمائة وأحد عشر انتشر الجراد في مكة بحيث يصعب على الإنسان أن يمشي إلا ويطأ واحداً أو اثنتين فهذا في حكم الصائل، والله أعلم.
قول المؤلف: (وقتل الجراد والقمل لا البراغيث) يعني: أن قتل القمل ممنوع منه المحرم، وهذا ليس بصحيح، فإنه لو قيل بذلك، فإن القمل الذي تساقط من رأس كعب بن عجرة كثير، هل طلب من كعب أن يعدها؟ الجواب: لا، وبالمناسبة جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال: يا ابن عباس ! عبثت برأسي فسقطت منه قملة، ثم بحثت عنها فلم أجدها، فهل عليّ من شيء؟ فقال رضي الله عنه: تلك ضالة لا تبتغى، يعني: ليس يطلب مثلها، فالراجح أن القمل لا بأس بقتله، ولو كان على الرأس، وكذلك البراغيث كالبق والذباب كل ذلك لا بأس؛ لأنها ليست بصيد، ولأنها من ضمن الفواسق، والله أعلم.
قول المؤلف: (بل يسن قتل كل مؤذ مطلقاً) المؤذي يقتل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة : ( خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم ) فدل ذلك على أن ما كان من ضمن الذي يفسق ويؤذي فلا بأس بقتله.
لعلنا نكتفي بهذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر