إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [34]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن منزلة الأئمة سامقة، خاصة من كتب لهم القبول، وصارت كلماتهم نوراً يستضيء بها خلق من هذه الأمة، ويقال في حقهم جاوزوا القنطرة؛ فلا يحتاجون إلى جرح وتعديل ممن هو دونهم؛ لأن الأمة أجمعت على عدالتهم، مع عدم الحكم لأحدهم بالعصمة فهم بشر يخطئون ويصيبون، وإن الإمام أبا حنيفة أثر عن بعض علماء الحديث إغماض فيه وهضم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى الطعن في دينه وعدالته، وهذا غير مرضي وغير سديد، ومن أتى ينشر مثل هذا الثلب، ويغض الطرف عن المحاسن فليس من عباد الله المتقين، بل قد قيل فيه من الثناء والذكر الحسن الكثير الكثير، علماً أن أقوال العلماء بعضهم في بعض تطوى ولا تروى، ومن ناطح الجبل كسر قرنه.

    1.   

    دفاع عن أبي حنيفة

    موقف الألباني من أبي حنيفة

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، على أمور الدنيا والدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، نسألك اللهم علماً نافعاً، ونعوذ بك من علم لا ينفع، وبعد:

    فكنا مع كلام الشيخ الألباني في الإمام أبي حنيفة عندما روى حديث رفع العاهة عند طلوع النجم، وكيف ضعفه، وذكر كلاماً في السلسلة الضعيفة حول هذا الحديث، والناظر في كلامه يعجب، ثم انظر للأمانة العلمية التي ينادي بها الناس في هذه الأيام!

    يقول الألباني: أبو حنيفة ضعفه أربعة.

    وهل من الأمانة أن نذكر ما قيل من قدح في الإنسان ولا نذكر ما قيل من توثيقٍ فيه، هل هذه أمانة أو هو اتباع للهوى؟!

    إن أردت أن تبسط المسألة فابسطها وقل: قيل كذا وكذا، وبين لنا ماذا تختار؛ ليختار القارئ بعد ذلك ما يريد، أما أن تأتي بكلام الجارح وتسكت عن كلام الموثق المعدل فهذا ليس من الإنصاف والعدل، ذكر أربعة ممن ضعفوا أبا حنيفة ثم سكت عن كلام البقية من أئمة الجرح والتعديل.

    وقد كان الألباني يصدر -فيما يظهر- هذه الأجزاء تباعاً في نفس السلسلة التي كان ينشرها في مائة حديث في أول الأمر كلما جمعها، فحصل ضجيج في العالم الإسلام نحو هذا الكلام، وأن أبا حنيفة ضعيف، فبدلاً من أن ينقل التضعيف عن أربعة من أئمة الجرح نقله عن أكثر من عشرة، وما قيد كلمة واحدة في توثيقه عن أحدٍ من أئمتنا الكرام.

    وذكر هذا أيضاً في نفس الجزء من السلسلة الضعيفة في حديث رقم (458) صفحة (463) حيث يقول: ورواه الإمام محمد في كتاب الآثار صفحة (104) قال: أخبرنا أبو حنيفة عن الهيثم مرفوعاً، قلت: وهذا معضل، فإن الهيثم هذا هو ابن حبيب الصيرفي الكوفي وهو من أتباع التابعين، روى عن عكرمة وعاصم بن ضمرة ، ثم قيل: وتوضيحاً لذلك أقول: وأبو حنيفة ضعفوا حديثه كما سبق بيانه عند الحديث رقم (397).

    يقول: ذكرت هناك أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله قد ضعفه من جهة حفظه البخاري ومسلم والنسائي وابن عدي أربعة، ثم قال: وغيرهم من أئمة الحديث.

    قال الألباني: وسأذكر هنا نصوص الأئمة المشار إليهم وغيرهم ممن صح ذلك عنهم ليكون القارئ على بينة من الأمر، ولا يظن أحد أن فيما ذكرنا هناك ما يمكن أن يدعي مدعٍ أنه اجتهاد منا وإنما هو الاتباع لأهل العلم والمعرفة والاستقامة, والله عز وجل يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

    انظر للألباني الآن كأنه يقول: أنا الآن مقلد ومتبع لمن قبلي، وهم ضعفوا أبا حنيفة فلا تقل: هذا اجتهاد مني، أنا الآن آخذ بأقوال العلماء، ويقول: تعال فاسأل به خبيراً، ثم أورد كلام مسلم كما تقدم هناك، وكلام النسائي وبدأ يسرد ويسرد حتى وصل العدد إلى أحد عشر عالماً ضعفوا أبا حنيفة .

    الرد على الألباني

    إن الألباني ما نقل كلام من وثقوا الإمام أبا حنيفة ، ثم قال: ومما لا شك فيه عندنا أن أبا حنيفة من أهل الصدق، ولكن ذلك لا يكفي ليحتج بحديثه حتى ينضم إليه الضبط والحفظ، وذلك مما لم يثبت في حقه رحمه الله، بل ثبت فيه العكس بشهادة من ذكرنا من الأئمة، وهم القوم لا يضل من أخذ بشهادتهم أو اتبع أقوالهم.

    ليتك تهتدي لآثارهم!

    تقدم معنا حديث في صحيح البخاري من رواية: يحيى بن سليم الطائفي ، ويصحح البخاري حديثه، وأنت رددت كلامه، ورددت كلام الحافظ ابن حجر ، ورددت كلام أئمة الإسلام من أجل فردٍ واحد لحاجة في نفسك، ثم تقول الآن: هم القوم لا يضل من أخذ بشهادتهم، لم لم تأخذ بشهادة البخاري هناك؟!

    يعني: شهادة البخاري في أبي حنيفة جعلتها نصاً منزلاً كالقرآن، وشهادة البخاري في يحيى بن سليم الطائفي رددتها، وقد أورد حديثه في كتابه وصححه، فجئت وضعفته وما باليت، فإما أن تأخذ بأقوالهم كلها، وإما أن تردها، وأما هذا التذبذب بأن يأخذ الإنسان ما يريد ويترك ما يريد، فلا!

    يأتي لإمام من أئمة الإسلام يطعنه كما يقال بخنجر مسموم، ثم يقول: أنا لن أضل؛ لأنني اتبعت أئمة الإسلام قبلي.

    حسناً: فلم لم تتبعهم في يحيى بن سليم الطائفي ؟!

    نعم؛ هم القوم لا يضل من أخذ بشهادتهم واتبع أقوالهم، فلا يمس ذلك من قريب ولا من بعيد مقام أبي حنيفة رحمه الله في دينه وورعه وفقهه، والله لو كنت تدري ما تقول وعرفت ما تكتب لما نقلت هذا الكلام بدون أن ترد عليه؛ لأن هؤلاء الذين جرحوا أبا حنيفة قد جرحوه في دينه وورعه وأمانته وديانته، وأنت لو كان عندك عقل عندما نقلت هذا الكلام لارعويت، وكما رددت كلامهم في الطعن في دين أبي حنيفة وأمانته، كان عليك أن ترد كلامهم في الطعن في حفظه وضبطه وتلتمس لهم المعاذير، وتسأل لهم المغفرة من الله تعالى.

    وفي الكتب التي نقل منها الألباني ما فيها من بلاء نحو هذا الإمام المبارك عليه رحمة ربنا، يقول: فكم من فقيه وقاض وصالح تكلم فيه أئمة الحديث من قبل حفظهم وسوء ضبطهم، ومع ذلك لم يعتبر ذلك طعناً في دينهم وعدالتهم كما لا يخفى ذلك على المشتغلين بتراجم الرواة.

    ثم بعد ذلك يقول: فهذا هو الحق والعدل وبه قامت السماوات والأرض، فالصلاح والفقه شيء، وحمل الحديث وحفظه وضبطه شيء آخر، ولكل رجاله وأهله، فلا ضير على أبي حنيفة رحمه الله ألا يكون حافظاً ضابطاً ما دام أنه صدوق في نفسه، أضف إلى ذلك جلالة قدره في الفقه والفهم، فليتق الله بعض المتعصبين له، ممن يطعن في الدارقطني لقوله في أبي حنيفة : ضعيف الحديث.

    أقول: لا يقر الطعن في الدارقطني ولا في البخاري ولا في إمامٍ من أئمة الإسلام، ومن طعن في إمامٍ من أئمتنا فعليه غضب ربنا، وقد جرى بين أئمتنا ما هو أكبر منه؛ كما وقع بين الصحابة، فنضبط هذه الألسن، ونستغفر لهم جميعاً، ونتقي ربنا في أئمتنا.

    وليس معنى هذا أننا إذا برأنا أبا حنيفة وقلنا: لا يضره طعن الدارقطني أننا نطعن في الدارقطني لا ثم لا، ولما انتقد الدارقطني أحاديث على البخاري -وليس منها ما انتقدته أنت، فهو إمام جهبذ- التمسنا له العذر، ورددنا قوله وانتهى الأمر.

    وقلنا: إن تصحيح البخاري لا يقدم عليه كلام الدارقطني ولا غيره، لكن ليس معنى هذا أننا خاصمنا الدارقطني أو ضللناه، فله اجتهاده وعذره، وله تأويله، والكل سيئول إلى الله عز وجل.

    وأئمة الإسلام ينبغي أن نغار عليهم أكثر من غيرتنا على أنفسنا وأعراضنا، وأن نتقي الله في أئمتنا، فـالدارقطني على عيننا ورأسنا، ونحن نتبرك بذكره ونرجو شفاعته عند ربنا، وهكذا سائر أئمتنا أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين، وليس عند دفاعنا عن أبي حنيفة أننا سنقع في البخاري أو في مسلم أو في غيرهم من أئمة الإسلام.

    يقول: ويزعم أنه ما قال ذلك إلا تعصباً على أبي حنيفة ، ولم يدر البعض المشار إليه أن مع الدارقطني أئمة الحديث الكبار مثل الشيخين وأحمد وغيرهم ممن سبق ذكرهم، أفكل هؤلاء متعصبون ضد أبي حنيفة ؟!

    والله إن شخصاً يقبل مثل هذه التهمة أن توجه إلى مثل هؤلاء الأئمة لأيسر عليه وأقرب إلى الحق أن يعكس ذلك فيقول: صدق هؤلاء فيما قالوه في الإمام أبي حنيفة , ولا ضير عليه في ذلك فغايته ألا يكون محدثاً ضابطاً، وحسبه ما أعطاه الله من العلم والفهم الدقيق، حتى قال الإمام الشافعي : الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة , ولذلك ختم الحافظ الذهبي ترجمة الإمام أبي حنيفة في سير أعلام النبلاء بقوله: قلت: الإمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام, وهذا أمر لا شك فيه:

    وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل

    هذه الطعون في أبي حنيفة التي وجهت من قبل هؤلاء الأئمة منهم من استدل به بدءاً بـالبخاري فمن بعده -أقرأ عليكم من كتبه- أنهم طعنوا في أبي حنيفة من جهتين: طعنوا في عدالته وديانته كما طعنوا في حفظه وضبطه، فأنت إذا رددت أحد الأمرين فاردد الآخر.

    1.   

    ذكر من تكلم في أبي حنيفة

    سآخذ ثلاثةً ممن رجعت إلى كتبهم -ويعلم الله ما رجعت إلى كتبي في شيء- رجعت إلى كتب البخاري الذي نقل عنه الألباني ولم يتم كلامه وإلى الحاكم وهذا لا طعن في حفظه ولا في عدالته، ولكن الألباني ما فهم كلامهم كما سأذكر، وإلى كتاب الضعفاء للعقيلي فقد نقل عنه أيضاً كما سيأتي، وسأبين موقف هؤلاء الأئمة نحو أبي حنيفة .

    كلام البخاري في أبي حنيفة

    أولهم: قال البخاري في التاريخ الكبير في الجزء (8/81): النعمان بن ثابت أبو حنيفة الكوفي كان مرجئاً، سكتوا عنه.

    وصفه ببدعة الإرجاء، وذكر أنهم سكتوا عنه، فالكلام في أمرين، وما تعرض للحفظ ولا للضبط، إنما الكلام هنا كله في عدالته.

    أما الإرجاء فقلت: إنه إرجاء سني كما تقدم معنا في بدعة المرجئة، وتطلق بإطلاقٍ مذموم، وبإطلاقٍ لا حرج فيه، بل إن أهل السنة قاطبة يسمون مرجئة عند الخوارج والمعتزلة؛ لأننا نرجئ الحكم في صاحب الكبيرة إلى الله جل وعلا، كما تقدم معنا في إطلاقات الإرجاء الأربعة، فإرجاء أبي حنيفة إرجاء سني.

    ومن تأثر بهذا المسلك من أبي حنيفة فنلتمس له عذر، ونقول: أنت مصيب ومهتدي لا تريد إلا الحق، لكن لا يؤثر كلامك في إمام الأئمة.

    إذاً: الطعن هنا لا في الحفظ، وأما في التاريخ الصغير فليس هذا الكلام للبخاري فانظر للكلام في صفحة (2/93): لأن يبتلى العبد بكل ذنب خلا الشرك أيسر من أن يكون مرجئاً.

    ولا أقول طعناً فيمن قاله، ولو قدر أنه جرى منه فهو بشر يخطئ ويصيب, ورحمة الله واسعة، وإذا تخيل شيئاً، وقال ما قال بناءً على تخيله فهو معذور ومأجور, ولا نترك إماماً من أجل كلام من هنا أو هناك.

    وساق قبيل هذا الكلام الإسناد فقال: حدثنا نعيم بن حماد قال: حدثنا الفزاري -هنا يترجم لمن ماتوا في حدود سنة (40 إلى 50)- يقول: ومات النعمان بن ثابت سنة (150) وله سبعون سنة، ثم أورد في ترجمته كلمة للثوري دون أن يورد شيئاً آخر.

    يقول: حدثنا الفزاري قال: كنت عند سفيان فنعي النعمان ، فقال: الحمد لله! كان ينقض الإسلام عروة عروة، ما ولد في الإسلام أشأم منه.

    إذاً: الطعن في حفظه وفي ديانته، وما بينه وبين الزنادقة فارق، والله الذي لا إله إلا هو لأن يزني الإنسان، ويلوط، ويشرب الخمر، ويقتل النفس التي حرم الله أيسر من أن يقول هذا في إمام من أئمة الإسلام.

    فإما أنه ثابت عن سفيان أو لا؟

    قلت: يقيناً لم يثبت مثل هذا الكلام لا عنه ولا عن غيره من أئمة الإسلام، ولو قدر أنه ثبت كقول ابن أبي ذئب في مالك فهو مما يطرح ونستغفر الله للقائل ونترضى عنه, ولا يضر من قيل هذا الكلام في حقه شيئاً، هذا ما ورد في ترجمته عند البخاري، مات سنة (150)، وما زاد عليه حرفاً واحداً.

    إن البخاري نتبرك بذكره، ونرجو شفاعته عند الله، لكن كل شيءٍ يوضع في موضعه، وسفيان هذا ليس ابن عيينة ؛ لأنه كان يثني على أبي حنيفة كثيراً، ويقول: هو الذي أقعدني في الحديث، ولولاه لما حدثت، وقال عنه: هو من الأئمة الأعلام.

    يقال: كان بين سفيان وأبي حنيفة شيء، رضي الله عنهم أجمعين.

    على كل حال -والله الذي لا إله إلا هو- لولا أن هذا ذكر لكان من الكبائر أن يتحدث الإنسان في مثل هذه الأمور، لكن نحن أمام بلية واقعة، وسمعت مراراً لما كنت في بلاد أبها من يقول: لو تعلمون حقيقته -يعني: أبا حنيفة- للعنتموه، وأقمت في ذاك الوقت محاضرة في موقف طالب العلم نحو أئمة الإسلام، فإننا لم نسمع مثل هذا الكلام من قبل، وما عنده بينة ولا بصيرة، ولا أخذ عن شيخ، والأدب قبل العلم، وهذا يقول: أبو حنيفة ما ولد في الإسلام أشأم منه فهو زنديق من الزنادقة، والحمد لله الذي قضى عليه فقد كان يهدم الإسلام عروة عروة، أهذا يقال في أئمتنا؟!

    والله لو كان هذا في أبي حنيفة فينبغي أن نجدد ديننا، وأن نبحث عن دين آخر؛ لأن هذا الدين جاء عن طريق هؤلاء، فإذا كانوا بهذه الصفة فكيف إذاً حال هذا الدين؟!

    ووالله إن الطعن في أبي حنيفة طعن في الإسلام، وهكذا الطعن في سائر أئمتنا الكرام، ولو قدر أنه جرى بينهم أحياناً غضب، وقال الواحد منهم ما قال، فهو بشر، استغفر له وادع، ولا تتأثر نحوه.

    إن البخاري الذي لا تخفى مكانته وشهرته تكلم فيه وطعن في عدالته وديانته أربعة من الجهابذة الكبار: شيخه الذي روى عنه في صحيحه محمد بن يحيى الذهلي ، وأبو زرعة -وهو إن لم يكن أعلم من البخاري فلا يقل عنه- وأبو حاتم وابن أبي حاتم .

    وترجم الذهبي في المغني في الضعفاء للبخاري ولم يترجم لـأبي حنيفة ، ترجم للبخاري ليرد عنه الضعف، وقال: جبل الحفظ إمام الدنيا، ولا عبرة بترك الرازيين - أبو زرعة وأبو حاتم - له؛ لأنه مجتهد في مسألةٍ اللفظ التي نسبت إليه، أي: عبارة: لفظي بالقرآن مخلوق، وهل صدرت منه؟ أو أن أهل اللغط أثاروها؟ العلم عند الله، ولا أريد أن أحقق الكلام في هذه القضية، سيأتينا كلام عليها ضمن مباحث التوحيد بإذن الله.

    وقد قال رضي الله عنه: كلامنا مخلوق، وكلامنا من أفعالنا، وكلام الله غير مخلوق، فالناس أكثروا الضجيج, وقالوا: البخاري يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، والإمام أحمد عليه رحمة الله كان يحذر من هذا غاية التحذير، وحصل ما حصل، وهجر من أجل ذلك وترك، وأعرض عنه من روى عنه، وهل معنى هذا أننا نترك البخاري ؟!

    وانظر للإمام الذهبي حيث يورد للبخاري ترجمة ويدافع عنه، ولم يورد ترجمة أبي حنيفة ويدافع عنه؛ لأن منزلة أبي حنيفة في الأمة أعلى من منزلة البخاري ، أما عند الله فهذا لا يعلمه إلا الله؛ لأن الناس يتعبدون الله بفقهه وباجتهاده، وعلى مذهبه سارت الأمة الإسلامية قروناً، فالخلافة العثمانية حكمت بمذهبه ما يزيد على سبعة قرون، فالطعن في أبي حنيفة من جنس الطعن في البخاري ، وأنا لا أقول: إن الطعن في البخاري أمر سهل، والبخاري أعلى من أن يورد في كتاب للضعفاء، لكن لما جرى حوله ما جرى أراد الذهبي أن ينبه إلى هذا، فقال: لا عبرة بترك الرازيين له.

    والبخاري ما طعن في حفظ أبي حنيفة، وإنما قال: كان مرجئاً سكتوا عنه.

    كلام العقيلي في أبي حنيفة

    ننتقل إلى العقيلي في الضعفاء: حيث قال في الضعفاء في الجزء (4/268) في الطبعة المحققة لدي، ونقل الألباني عنه قولاً عن الإمام أحمد وصححه.

    يقول: قال العقيلي: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: سمعت أبي -وهو إمام أهل السنة أحمد بن حنبل- يقول: حديث أبي حنيفة ضعيف.

    يعلق الألباني على هذا ويقول في التعليق، رقم واحد والذي بعده: هذان الإسنادان صحيحان، وقد آثرت نقلهما حتى لا يخطر في بال أحدٍ أنه لعلهما من قبيل بعض الأسانيد التي جاءت في ترجمة الإمام في تاريخ بغداد، فهناك أسانيد مزورة في تاريخ بغداد في ذم أبي حنيفة ، فأنا نقلت الإسناد من كتاب العقيلي وهو إسناد صحيح.

    أقول: أنت نقلت الإسناد وهذا الكلام، وعلق المعلق على الكتاب عند هذا الموضع بكلام كثير يزيد على عشر صفحات في الدفاع عن أبي حنيفة ورد ما قيل فيه من طعن، وإنما الذي أريد نقله ما أورده العقيلي في صفحة (284) وكيف حذف الألباني بعضه وترك بعضه، ثم أذكر لك بقية النقول التي وردت في هذا الكتاب، وهي أشنع من المقالة التي مرت عن سفيان.

    يقول صفحة (285): حدثنا عبد الله بن أحمد ، قال: سمعت أبي يقول: حديث أبي حنيفة ضعيف، في التكملة التي حذفها الألباني : ورأيه ضعيف، يعني: فقهه ضعيف وحديثه ضعيف، وأنت تقول: إن فقهه واجتهاده محل تقدير، وهنا طعن في الأمرين: في روايته، وفي فقهه واجتهاده، هذا نقلاً عن الإمام أحمد ، ويقول: الإسناد صحيح.

    أما النقول الأخرى فحدث ولا حرج، منها: سمعت أحمد بن حنبل يقول: أبو حنيفة يكذب.

    في صفحة (281) كلام عن شعبة يقول: كان شعبة يلعن أبا حنيفة .

    وفي صفحة (282) يقول شعبة : كف من تراب خير من أبي حنيفة ، وسمعت شعبة يلعن أبا حنيفة .

    ثم روايات لا تحصى: أنه كان ينقض الإسلام عروةً عروة، وأن أبا حنيفة كان يرى السيف، وولد على غير الفطرة، يعني: منذ أن ولد على غير ملة الإسلام، هذا كله في الكامل في الضعفاء كتاب العقيلي وعن يوسف بن أسباط قال: كان أبو حنيفة مرجئاً، وكان يرى السيف، وولد على غير الفطرة.

    فأنا أريد أن أقول: هؤلاء الذين طعنوا في ديانته قبل حفظه وضبطه، فأنت أنصفت في هذه القضية، وقلت: إنه عدل إمام صالح تقي ورع، فجزاك الله خيراً على هذا، وهذا واجب عليك، لكن كما أنك وقفت على هذا الكلام ورددته، ألا أتبعته برد هذا الكلام، وسيأتينا ثناء من شعبة على أبي حنيفة .

    و الألباني بعد أن ينقل عن شعبة تضعيفه لـأبي حنيفة يقول: هذا فيه نظر، فإن له آراء متعددة، وليس قولاً واحداً.

    وابن معين أثنى على أبي حنيفة يقول الألباني: ليس هذا رأياً واحداً وإنما له -أيضاً- آراء متعددة؛ فأحياناً أثنى وأحياناً ذم.

    هذا كلام كثير ولا ينتهي، وكله ينبغي أن يبقى وراء الظهر، وإذا صدر من قائلٍ فنسأل الله لهم المغفرة والرحمة، وأبو حنيفة أعلى من أن تنزل درجته بكلام فلان أو فلان، ومن تكلم فيه لو قدر أنه ثبت عنه لا ننتقصه، والبشر يخطئ ويصيب.

    كلام الحاكم في أبي حنيفة

    أما الكتاب الثالث: نقل منه كلام الإمام الحاكم فهو معرفة علوم الحديث، حيث أورده في جماعة من الرواة من أتباع التابعين فمن بعدهم لم يحتج بحديثهم في الصحيح، وختم ذلك بقوله: فجميع من ذكرناهم قوم قد اشتهروا بالرواية ولم يعدوا في طبقة الأثبات المتقنين الحفاظ، سوف أذكر كلام الحاكم ، ثم أذكر شيئاً ذكره الحاكم قبل ذلك، وما ذكره الألباني ولا غيره في ترجمة أبي حنيفة ، والظن أن الناس لن تعود إلى هذه الكتب، وأنا ما آخذ نقلاً إلا وأرجع إلى الكتاب أتحقق منه، سواء من معاصرٍ أو من غيره، وتقدم لبعض شيوخنا الأجلاء محمد الأمين الشنقيطي عليه رحمة الله، لما نقل في قصة بلقيس كلاماً نقله عن غيره، والموجود خلاف ذلك، فلا بد من التحقق، فهذا دين الله.

    ذكر الحاكم النوع الحادي والخمسين من علوم الحديث: معرفة جماعة من الرواة التابعين فمن بعدهم لم يحتج بحديثهم في الصحيح، ولم يسقطوا.

    يقول الألباني: وقد ذكرت فيما تقدم من ذكر مصنفات علي بن المديني رحمه الله كتاباً بهذه الصفة، غير أني لم أر الكتاب قط ولم أقف عليه، وهذا علم حسن، فإن في رواة الأخبار جماعة بهذه الصفة.

    مثال ذلك في الصحابة: أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجراح أمين هذه الأمة، لم يصح الطريق إليه من جهة الناقلين فلم يخرج حديثه في الصحيحين, وكذلك عتبة بن غزوان وغيرهما.

    ومثال ذلك في التابعين: محمد بن طلحة بن عبيد الله ، ومحمد بن أبي بن كعب.

    أقول: محمد بن أبي بن كعب عدّ في صغار الصحابة وليس من التابعين؛ لأن له رؤية كما قال الحافظ ابن حجر .

    ومثال ذلك السائب بن خلاد ، ولما نظرت في كتب التراجم وجدت أيضاً أن له صحبة، وعمل لـعمر على اليمن رضي الله عنهم أجمعين.

    يقول: ومنهم محمد بن أسامة بن زيد وعمارة بن حذية هؤلاء لم يحتج بهم في الصحيح ولم يسقطوا، ومن جملة من أورد سعيد بن سعد بن عبادة يقول الحافظ ابن حجر صحابي صغير، ولا يصح أن يورد ضمن التابعين.

    يقول: ومنهم يوسف بن عبد الله بن سلام صحابي صغير أيضاً، قال الحافظ : وذكره العجلي في ثقات التابعين، ومنهم عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله وهذا احتج به الشيخان، فكيف أورده؟! إنه وهم من الحاكم ، ولم يصب ابن سعد في تضعيفه حديثه فهو في الكتب الستة.

    يقول: هؤلاء التابعون على علو محالهم في التابعين ومحال آبائهم في الصحابة ليس لهم في الصحيح ذكر لفساد الطريق إليهم لا للجرح فيهم، وقد نزههم الله عن ذلك، وفي التابعين جماعة من هذه الطبقة.

    ومثال ذلك في أتباع التابعين: موسى بن محمد وأورد عدة إلى آخره.

    الذي أريده من الملاحظات: أنه ذكر منهم عبد الرحمن بن أبي الزناد مع أن حديثه في صحيح مسلم والسنن الأربعة، وهو صدوق، فقوله: لم يحتج به في الصحيح غير مسلم.

    كذلك ذكر عطاء بن السائب الثقفي مع أن حديثه في صحيح البخاري والسنن الأربعة.

    وكذا عبد الله بن شبرمة الضبي وحديثه في البخاري -تعليقاً- وصحيح مسلم ، والسنن الأربعة إلا سنن الترمذي ، ومنهم محمد بن سالم أبو سهل وقد روى له مسلم والبخاري في الأدب المفرد، وأهل السنن الأربعة إلا سنن أبي داود .

    فيحتاج كلام الحاكم إلى شيءٍ من الضبط.

    ثم يقول: ومنهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، هذا في أتباع التابعين، ثم يقول: ومثال ذلك في أتباع الأتباع ومثال ذلك في الطبقة الخامسة، ومثال ذلك في الطبقة السادسة.

    قال أبو عبد الله -وهذا الذي أريده، وهو الذي استدل به الألباني-: فجميع من ذكرناهم في هذا النوع بعد الصحابة -هذه الجملة حذفها الألباني- والتابعين فمن بعدهم -فطبقة أبي حنيفة خرجت أم لا؟! أخرجوا الصحابة والتابعين ومن بعدهم، هنا الطبقات الثلاث، ثم اذهب للرابعة والخامسة والسادسة ومن ذكرهم- قوم قد اشتهروا بالرواية، ولم يعدوا في طبقة الأثبات المكثرين الحفاظ والله أعلم.

    انظر ماذا حذف الألباني يقول: فجميع من ذكرناهم قوم قد اشتهروا بالرواية، ولم يعدوا في طبقة الأثبات المكثرين الحفاظ، أين هذا القيد والاحتراز؟

    فجميع من ذكرناهم في هذا النوع بعد الصحابة والتابعين فمن بعدهم -طبقة أتباع التابعين- قوم قد اشتهروا بالرواية ولم يعدوا في طبقة الأثبات المكثرين الحفاظ، كأنه يقول: أخرج طبقة الصحابة والتابعين وأتباعهم وهي طبقة أبي حنيفة ، ثم اذهب إلى الطبقات الأخرى فلم يعدوا في طبقات الحفاظ المكثرين الأثبات، فطبقة أبي حنيفة لا تكون معهم، أوليس كذلك؟ هذا كلام الحاكم فلم يحذف من كلام الحاكم ، ولا يورد كلامه كله ليتأمله القارئ كما تأملت، لنفرض أنك أخطأت في الفهم فسق الكلام كما هو، وقد أكون أنا مخطئاً في الفهم فأترك الكلام كما هو ليتأمل القارئ كلامك، وليكون على بينة من الكلام الأصلي، فـالحاكم في هذا الكتاب في صفحة (240) تعرض لذكر أبي حنيفة ، وجزاه الله خيراً على ما قال وأحسن إليه.

    قال: ذكر النوع التاسع والأربعين من معرفة علوم الحديث: معرفة الأئمة الثقات المشهورين من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة والتبرك بهم وبذكرهم من الشرق إلى الغرب، ثم عد من أهل مكة، ومن أهل البصرة، ومن أهل اليمامة, ومن أهل الكوفة أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، في أي شيء يعده الحاكم ؟ انتبه للعنوان: الأئمة الثقات المشهورون من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة والتبرك بهم وبذكرهم من الشرق إلى الغرب.

    ثم ذكر من أهل المدينة محمد بن مسلم الزهري ، ومن أهل مكة إبراهيم بن ميسرة ، ومن أهل مصر -حتى لا يغضب علينا أهل مصر- عمرو بن الحارث ، ومن أهل الشام إبراهيم بن أبي عبلة ، ومن أهل اليمن شيخ اليمن حجر بن قيس ، ومن أهل اليمامة ضمضم ، ومن أهل الكوفة الربيع بن خثيم العابد، ثم أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، ومالك بن مغول ، وبدأ يسرد، فـالحاكم يرى أنه ثقة ثبت حافظ إمام، يتبرك به وبذكره من الشرق إلى الغرب.

    أنا أريد أن أعرف لم تنقل يا ألباني! ما قيل من ظن في أبي حنيفة ، ثم زعمت أنك وسط تريد أن تضعفه من جهة الضبط والحفظ لا من جهة الأمانة والديانة، ومن تكلم فيه إنما تكلم في الديانة أكثر، ومن تكلم بالثناء عليه إذا بك تغير كلامه، فإذا لم تقف على هذا النص فيا أسفاه على الحفاظ في هذه الأيام الذين يدعون الحفظ والتحديث.

    قل: إن الحاكم يقول تارةً: أبو حنيفة من الثقات الحفاظ المكثرين الأثبات، وتارةً يقول: هؤلاء حديثهم ينزل عن درجة الحفظ والإثبات، حتى لو تناقض الحاكم ، لو أن الكلام الثاني للحاكم يريد منه طبقة أبي حنيفة لكان هذا تناقضاً منه، فليصحح كلامه.

    1.   

    الموقف الشرعي مما يحصل بين الأئمة وكلام بعضهم في بعض

    ينبغي أن نعي كلام الأئمة بعضهم في بعضهم إذا ثبت، وكان أئمتنا يسمونه: داء الدين، هذا داء وهلاك الدين، هذا في الأصل لا يجوز أن ينفى.

    وقلت لكم: والله لولا أننا أمام بلية لما تحدثت بشيءٍ من ذلك, وطالب العلم يطلع على هذا ويستغفر الله للجميع، وأحياناً يبكي في خلوته ويدعو لهم، أما أن يقبل كلام هذا في هذا فليس البخاري عندنا أعلم من أبي حنيفة ولا أبو حنيفة بأعلم من البخاري فيما يتعلق بدين الله، فكلهم على العين والرأس، نتقرب إلى الله بحبهم, ونرجو شفاعتهم يوم القيامة، وهكذا سائر أئمة الإسلام.

    وإذا قدر وجرى من أحدهم غلط وخطأ فهم بشر، والكلام في الغضب على غير الكلام في الرضى، وإذا لم تكن رحمة الله لأئمتنا فلمن ستكون؟ فنحن نستقبل هذا بصدر رحب.

    نقول: هذا قصور البشر ولكن عندنا إمام علم، عدالته وضبطه وإمامته متواترة، فلا يزحزحنا عن هذا كلام متكلم؛ لأننا إذا أردنا أن نترك كل إمام من أجل كلام قيل فيه ما بقي لنا إمام من أئمة الإسلام، هذا إخوتي الكرام! لا بد من معرفته.

    كلام نفيس لابن عبد البر في كلام العلماء بعضهم في بعض

    والحافظ ابن عبد البر في كتابه: جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله، في الجزء (2/150) وهو مالكي، قام بالدفاع عن أبي حنيفة وعن غيره من أئمة الإسلام فقال: باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض، وأورد كلاماً في ذلك يزيد على عشر صفحات. خلاصته:

    قال أبو عمر : هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس، وضل فيه نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته, وثبتت في العلم أمانته, وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد، إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة بذلك، لما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر.

    وأما من لم تثبت إمامته، ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه, والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماماً في الدين قول أحد من الطاعنين أن السلف رضي الله عليهم قد سبق من بعضهم في بعض كلاماً كثيراً في حال الغضب، ومنه ما حمل عليه الحسد.

    ثم قال: ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم القول فيه ما قاله القائل من الإرجاء والبدعة، وهو لا بدعة فيه.

    وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلاً واجتهاداً، ولا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان ولا حجة فيه أو توجيه، ونحن نورد في هذا الباب من قول الأئمة الجلة الثقات السادة بعضهم في بعض مما لا يجب أن يلتفت إليه، ولا يعرج عليه، ما يوضح لك صحة ما ذكرنا.

    ثم أورد نصوصاً كثيرة من كلام كثير من أئمة الإسلام بعضهم في بعض.

    قال أبو عمر : معاذ الله أن يكون الشعبي كذاباً، بل هو إمام جليل.

    ومن الذي قال عنه إنه كذاب؟

    قال ذلك عنه سيد المسلمين إبراهيم النخعي ، والنخعي مثله جلالةً وعلماً وديناً، وأظن أن الشعبي عوقب لقوله في الحارث الهمداني : كان أحد الكذابين، يقول: لأن الشعبي عندما قال عن الحارث : أحد الكذابين عوقب عاجلاً، فقال عنه إبراهيم النخعي : إنه كذاب.

    يقول: ذكر إبراهيم النخعي عند الشعبي فقال: ذلك الأعور يستفتي بالليل, ويجلس يفتي بالنهار، قال: فذكرت ذلك لـإبراهيم فقال: ذلك الكذاب لم يسمع من مسروق شيئاً.

    هم بشر، ولا يقع في واحد منهم إلا من غضب الله عليه ولعنه، فلا بد أن نعي هذا.

    وانظر لكلام أبي عمر ابن عبد البر : معاذ الله أن يكون الشعبي كذاباً، وقال عن النخعي: هو إمام جليل والنخعي مثله جلالةً وعلماً وديناً.

    يقول: وقد كان بين أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام وجملة العلماء عند الغضب كلام أكثر من هذا، ولكن أهل العلم والفهم يجتنبون ذلك؛ لأنهم بشر يغضبون ويرضون, والقول في الرضا غير القول في الغضب.

    ولقد أحسن القائل: لا يعرف الكذب إلا ساعة الغضب، يقول: ومن أشنع ما روي في هذا الباب وأشده حماقة ما حدثنا به.. ثم ساق بسنده إلى الضحاك بن مزاحم أنه كان يكره المسك -يكره التطيب به- فقيل له: إن أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام كانوا يتطيبون به، قال: نحن أعلم منهم.

    الضحاك بن مزاحم على العين والرأس، وهو بشر, وهو يكره المسك، قيل له: الصحابة يتطيبون بالمسك، قال: نحن أعلم منهم، من أين جاءك العلم إلا عن طريقهم؟

    وجرى قصص بين الإمام مالك وبين ابن إسحاق رضي الله عنهم أجمعين، وذكر عنده أهل العراق فقال: أنزلوهم منزلة أهل الكتاب، لا تصدقوهم ولا تكذبوهم: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46] .

    إن مثل هذا الكلام خطأ وهفوة واجتهاد، وله تأويل، ولا تنقص درجته بهذا الكلام، ولا يقدح هذا الكلام في أهل الكوفة وعلى رأسهم سيدنا عبد الله بن مسعود الذي علمهم، وعلقمة والنخعي رضي الله عنهم أجمعين.

    قال أبو عمر وذكر سنده: سمعت سلمة بن سليمان يقول: قلت لـابن المبارك : وضعت من رأي أبي حنيفة ولم تضع من رأي مالك ؟ قال: لم أره علماً.

    يعني: رأي أبي حنيفة لم أره علماً, ولذلك وضعته وتركته.

    ولما قيل للإمام أحمد عليه رحمة الله هذا تكلم في أبي حنيفة نحو ما تكلم به الإمام مالك وهذا يورده الإمام ابن حجر الهيتمي في الخيرات الحسان في مناقب أبي حنيفة النعمان:

    قالوا: إنه يقول بالرأي، فقال: الإمام مالك يقول بالرأي، يعني: إذا كان اجتهاداً، والإمام أحمد يقول بالرأي، والإمام الشعبي يقول بالرأي عن طريق الاجتهاد، قال: وأبو حنيفة أكثرهم، قالوا: هلا تكلمت على كلٍ بحسبه، يعني: قل الإمام مالك فيه كذا، وأبو حنيفة كذا.

    قال أبو عمر : وهذا مما ذكرنا مما لا يسمع من قولهم -أي: كأنه لم يقل- ولا يلتفت إليه ولا يعرج عليه، ثم قال: وقد كان ابن معين عفا الله عنه يطلق في أعراض الثقات الأئمة لسانه بأشياء أنكرت عليه، فقد قال في الأوزاعي : إنه من الجند ولا كرامة.

    الأوزاعي عالم السلف حبر الأمة، يستسقى الغيث به، لو كان حياً لقدمناه ليستسقي للمسلمين رضي الله عنه وأرضاه يقال عنه هذا.

    يقول: ومما يحمل على ابن معين وعيب به أيضاً قوله في الشافعي : ليس بثقة، هل يعتمد الألباني هذا؟! وإذا جاء ليقدم الشافعي يقول: قال ابن معين : ليس بثقة.

    أنا أقول: هذا غير صحيح، لو نقل هذا لكان خيانة، أليس كذلك؟ إذا تكلم الإمام في حق الإمام فلا دخل لنا بينهم.

    وهم كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لمن اختلفوا عنده في حق معاوية وعلي في الخلاف الذي جرى بينهم، فقال عمر بن عبد العزيز : رب معاوية رب رحيم، وخصم معاوية خصم كريم، فما دخلك بينهم يا لئيم؟!

    فالإمام أحمد على العين والرأس، لو قدر أنه عرض بـأبي حنيفة وتكلم فيه فلا دخل له في هذه القضية رضي الله عنهم أجمعين وكفى.

    الإمام ابن معين تكلم في الشافعي وقال: ليس بثقة، إذا لم يكن الشافعي ثقة فلا ثقة على وجه الأرض، فيرتفع الوثوق بالكتاب والسنة، والدين يطوى من أوله لآخره، وترفع الشريعة، وينتهي الأمر، فينبغي أن نعرف خطر هذا الكلام.

    ابن معين لعله رأى اجتهاداً للإمام الشافعي فظن أن هذا الاجتهاد لا ينطبق على أصول الشريعة وقواعدها، أو لعل بعض الناس نقل عن الإمام الشافعي كلاماً لـابن معين فقال: ليس بثقة.

    يقول: وقيل لـأحمد بن حنبل : إن يحيى بن معين يتكلم في الشافعي ؟! قال أحمد: ومن أين يعرف يحيى الشافعي وهو لا يقول ما يقول الشافعي أو نحو هذا، ومن جهل شيئاً عاداه.

    قال أبو عمر : صدق أحمد بن حنبل إن ابن معين كان لا يعرف ما يقول الشافعي ، وتقدم معنا أنه سئل عن مسألة في التيمم فلم يعرفها، وقلت: هي في المحدث الفاصل بين الراوي والواعي.

    يقول ابن عبد البر: هذا كله عندي تخرص وتكلم عن هوى، وقد صح عن ابن معين من طرق أنه كان يتكلم في الشافعي على ما قدمت لك، حتى نهاه أحمد بن حنبل وقال له: لم تر عيناي قط مثل الشافعي .

    وقد تكلم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس رضي الله عنهم أجمعين، وابن أبي ذئب فضله الإمام أحمد على مالك بن أنس ، وإن كان الإمام الذهبي له كلام في هذا, ورأى أن كل واحدٍ منهم فاز بشيء.

    وعلى كل حال: عندما يتكلم في الإمام مالك والشافعي ، والإمام أحمد والبخاري فماذا يبقى أريد أن أعلم؟!

    حتى نقول: هذا ما قاله الأئمة، ونحن من نأخذ بقوله لا يضل، والله لن نأخذ بقول من عنده هذه المسألة أبداً, ومن يأخذ بقول الأئمة في حق أبي حنيفة يضل.

    لو أجمع أئمتنا على مسألة لكان لها حل وتعليل، لكن مسألة جرى حولها ما جرى فاعتبر أن هذا من باب المنافسة، أو من باب التأويل، أو من باب الاجتهاد الخاطئ، التمس ما شئت من الأعذار لهم، وقل: رضي الله عنهم, وهذا الكلام لا نأخذ به.

    أما أن تقول: نحن نهتدي بهداهم, ونتبع منهم من كان على هدى.

    يا عبد الله! ما زلت تتبع هديهم إلا في هذه القضية.

    وظاهر حال الألباني وأمثاله في هذه الأيام كحال ولد عاق كان مع أب كبير، يشفق هذا الأب على ولده، والولد العاق لا يطيع والده في قضية من القضايا، وفي يومٍ من الأيام حن الولد على والده، وحمله على كتفه في طريقٍ طويل بعد أن كان الوالد يمشي، فلما وصلا إلى نهر قال الوالد للولد: يا ولدي! ارمني في هذا النهر، قال: يا والدي ما أطعتك في كلمة طول حياتي ولكن الآن سأسمع لك هذه الكلمة! فحمله وطرحه في الماء!

    والألباني عند كلام البخاري في يحيى بن سليم الطائفي طرحه، ثم يأخذ بكلام البخاري في أبي حنيفة! لا بد من أن ننصف، لو طرح هذا الكلام واستغفر للبخاري وأخذ بقوله في يحيى بن سليم وغيره لأنصف.

    فـيحيى بن سليم تقدم قول الإمام الشافعي فيه: كان من الأبدال، ويرد بعد ذلك كلام التوثيق، فأين من وثق أبا حنيفة ؟ ما ذكر شيئاً من ذلك.

    وقد تكلم ابن أبي ذئب في مالك بن أنس بكلامٍ فيه جفاء وخشونة كرهت ذكره, وهو مشهور عنه، قاله إنكاراً لقول مالك في حديث: ( البيعان بالخيار ).

    قال أبو عمر : والله لقد تجاوز الناس الحجة في الغيبة والذم فلم يقنعوا بذم العامة دون ذم الخاصة، ولا بذم الجهال دون العلماء، وهذا كله بحمل الجهل والحسد، قيل لـابن المبارك : فلان يتكلم في أبي حنيفة , فأنشد بيت ابن الرقيات :

    حسدوك أن رأوك فضلك الله بما فضلت به النجباء

    وقيل لـأبي عاصم النبيل : فلان يتكلم في أبي حنيفة ، فقال: هو كما قال القائل:

    سلمت وهل حي على الناس يسلم

    وقال أبو الأسود الدؤلي :

    حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالناس أعداء له وخصوم

    ثم ختم ابن عبد البر كلامه فقال: فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الأثبات بعضهم في بعض، فليقبل قول من ذكرنا قولهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين بعضهم في بعض، فإن فعل ذلك - انتبه هكذا المنصفون - ضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً.

    وكذلك إن قبل في سعيد بن المسيب قول عكرمة وقول الشعبي والنخعي في بعضهما، وأهل الحجار وأهل مكة وأهل الكوفة وأهل الشام على الجملة.

    ثم بعد أن ذكر ذلك يقول في موضعين: والذين أثنوا على سعيد بن المسيب على سائر من ذكرنا من التابعين وأئمة المسلمين أكثر من أن يحصى، وقد جمع الناس فضائلهم وعنوا بسيرهم وأخبارهم، فمن قرأ فضائل مالك ، وفضائل الشافعي ، وفضائل أبي حنيفة - هذا كلام ابن عبد البر - بعد فضائل الصحابة والتابعين وعني بها، ووقف على كريم سيرهم وهديهم كان ذلك له عملاً زاكياً.

    قال الثوري رحمه الله: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة.

    ثم ختم الكلام بقوله بإسناده: سمعت أبا داود سليمان بن الأشعث السجستاني ينقل عن محمد بن بكر بن داسة يقول: رحم الله مالكاً كان إماماً، رحم الله الشافعي كان إماماً..، رحم الله أبا حنيفة كان إماماً.

    قصة ابن أبي ذئب مع الإمام مالك

    قصة ابن أبي ذئب في سير أعلام النبلاء كما قلت في الجزء (7/142) انظر إلى خشونتها، وابن أبي ذئب كان يشبه بـسعيد بن المسيب ، فقيل لـأحمد : خلف مثله -توفي سنة 159- قال: لا، كان أفضل من مالك .

    قلت -القائل الذهبي- : هو أقدم لقيا للكبار من مالك ، ولكن مالكاً أوسع دائرة في العلم والفتيا والحديث والإتقان منه بكثير.

    انتبه للقصة هنا! حديث ( البيعان بالخيار ما لم يفترقا ) حديث صحيح ثابت في المسند وصحيح البخاري والسنن الأربعة إلا سنن ابن ماجه من رواية عبد الله بن عمر .

    وثابت في الكتب الستة إلا سنن ابن ماجه أيضاً، وهو في المسند من رواية حكيم بن حزام ، وثابت في المسند وسنن النسائي من رواية عبد الله بن عمر .

    ورواه أحمد وأبو داود والدارقطني والطيالسي والطحاوي من رواية أبي برزة ، ورواه ابن ماجه والحاكم من رواية سمرة بن جندب وهو حديث صحيح صحيح: ( البيعان بالخيار ما لم يفترقا ) أو قال: ( حتى يتفرقا, فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ) هذا لفظ رواية حكيم بن حزام رضي الله عنه.

    والتفرق المراد منه تفرق الأبدان في مذهب الشافعي وفي المشهور لـأحمد ، أو تفرق بالكلام في مذهب أبي حنيفة النعمان والإمام مالك ، فالمذاهب الأربعة على قولين.

    ابن أبي ذئب يرى القول الأول: وهو التفرق بالأبدان، وهذا يخالف الإمام مالك فما راق له، قال أحمد بن حنبل : بلغ ابن أبي ذئب أن مالكاً لم يأخذ بحديث ( البيعان بالخيار ) فقال: يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم قال أحمد : هو أورع وأقول للحق من مالك ، يعني يقول: كان أشد جرأة من الإمام مالك .

    وعندما دخل المهدي إلى مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فما قام له ابن أبي ذئب ، وقام كل من في المسجد، فقيل له في ذلك فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين.

    دعاه أبو جعفرأبو جعفر سيفه يسبق لسانه- ودعا مالكاً وعالماً آخر فقال لـمالك : ما تقول في؟ قال: أعفى فأعفاه.

    وقال لذاك العالم: ما تقول في؟ قال: أنت من أئمة العدل والخير والصلاح، من مثلك في الرعية؟!

    وقال لـابن أبي ذئب : ما تقول في؟ قال: دجال من الدجاجلة, لا تحكم بالحق, ولا تتقي الله, وتسيء المعاملة في الرعية, وبدأ يتكلم...

    فانتفض أبو جعفر وقام، ووضع عوداً في صدره وضربه، وقال: والله لولا مكاني منك لأخذ الروم تحت قدميك، قال ابن أبي ذئب: وتمن علي بذلك؟! حكم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين فطردوا الروم وما منوا على المسلمين، قال: اخرج ولا أريد أن أرى وجهك، قال: ما أردت لقاءك.

    يقول ابن أبي ذئب : وكان أحضر ثلاثة من السيافين وسيوفهم مشهورة، فـمالك قال: أعفني, أي: لا أريد أن أمدح ولا أقدح، والثاني أطرى بالباطل، ثم أرسل أبو جعفر في إثرهم صرة فيها ألف دينار لكل واحد، وقال لرسوله: إن أخذها مالك أو لم يأخذها فهو بالخيار, وإن أخذها ابن أبي ذئب فاضرب رقبته واقطعها وأرحنا منه، والثالث الذي أثنى علي إن لم يأخذها فاقطع رقبته.

    أما مالك فأخذها، وكذلك من أثنى.

    وأما ابن أبي ذئب فقال: فليردها أبو جعفر على مظالمه.

    كان مقتنعاً بالحق رضي الله عنه، قال الذهبي قلت: ماذا يقول أحمد عن ابن أبي ذئب : هو أورع وأقول للحق من مالك .

    قلت: لو كان ورعاً كما ينبغي لما قال هذا الكلام القبيح في حق إمامٍ عظيم، فـمالك إنما لم يعمل بظاهر الحديث؛ لأنه رأى عمل أهل المدينة على خلافه، فلا يوجد عندهم خيار في البيع إذا حصل إيجاب وقبول، وقيل: عمل به وحمل قوله: ( حتى يتفرقا ) على التلفظ بالإيجاب والقبول.

    و مالك في هذا الحديث يقول: كل حديث له أجر ولا بد، فإن أصاب ازداد أجراً آخر، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده الحرورية الخوارج.

    وعلى كل حال فكلام الأقران بعضهم في بعض لا يعول على كثيرٍ منه، فما نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه، ولا ضعف العلماء ابن أبي ذئب لمقالته هذه، بل هما علما المدينة في زمانهما.

    ونحن نقول: ما نقصت مكانة من تكلم في أبي حنيفة , ولا نقصت مكانة أبي حنيفة عندنا، بل هما عالما زمانهما رضي الله عنهما.

    إخوتي الكرام! هذا الكلام لا بد من وعيه وإدراكه، وإن كان فيما يقول ابن أبي ذئب ، أما من يقول: أنا أهتدي بقول العلماء فهم العمدة، فهذا لا يصح قطعاً وجزماً.

    1.   

    ترجمة أبي حنيفة النعمان من كتاب تهذيب التهذيب

    أختم الكلام بترجمة حذامي المحدثين وإمام المؤمنين في الحديث في زمنه الحافظ ابن حجر لـأبي حنيفة النعمان في تهذيب التهذيب، وسأقرأ عليكم ترجمته كاملة؛ لتكونوا على علم، وانظروا هل أشار إلى ضعفه من قريب أو من بعيد؟ وهو قطعاً أعلم من الألباني ومن غيره بما قيل في أبي حنيفة ، وليعلم أن ذلك الكلام لا يعول عليه، فطرحه وحذفه من كتابه رأساً.

    النعمان بن ثابت (ت س) أي -أخرج حديثه الترمذي والنسائي - التيمي أبو حنيفة الكوفي مولى بني تيم الله بن ثعلبة، وقيل: إنه من أبناء فارس، رأى أنساً وروى عن عطاء بن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود وعلقمة بن مرثد إلى آخره.. يقول: وسعيد بن مسروق وهو الثوري وعدي بن ثابت الأنصاري ، وعنه رواة كثيرون لا يتعلق غرضنا بهم، منهم ابنه حماد وحمزة بن حبيب الزيات وزفر ، هذا كله كما قلت: فيمن روى هو عنهم ورووا عنه.

    وممن روى عنه أبو نعيم وأبو عاصم وآخرون، قال العجلي : أبو حنيفة كوفي تيمي من رهط حمزة الزيات كان خزازاً يبيع الخز، ويروى عن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة - أبو حنيفة يكون جده- قال: ونحن من أبناء فارس الأحرار، ولد جدي النعمان سنة 80, وذهب جدي ثابت -جده الأعلى- إلى علي وهو صغير فدعا له بالبركة فيه وفي ذريته.

    قال محمد بن كعب العوفي : سمعت ابن معين يقول: كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ.

    وهنا سؤال: لم لم ينقل الألباني هذا الكلام، أنا أريد أن أعلم، والله يقول: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:18]، لم نحن نتبع أرذله؟ أنا أريد أن أعلم ماذا أصابنا في هذه الأيام حيث نتبع أرذله؟ لم قيل في أبي حنيفة هو مخطئ؟ كلام حق أخذ إما تأويلاً، وإما اجتهاداً خاطئاً، وقول الحق لا ينقض.

    وقال صالح بن محمد الأسدي عن ابن معين : كان أبو حنيفة ثقة في الحديث.

    وقال أبو وهب محمد بن مزاحم - لم يسقط حرفاً واحداً - : سمعت ابن المبارك يقول: أفقه الناس أبو حنيفة ، ما رأيت في الفقه مثله! وقال أيضاً: لولا أن الله أعانني -وفي رواية أغاثني- بـأبي حنيفة وسفيان لكنت كسائر الناس.

    من يقول هذا؟ إنه شيخ الإسلام ابن المبارك الذي توفي سنة 181 للهجرة.

    وقال ابن أبي خيثمة : حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: كان أبو حنيفة ورعاً سخياً.

    وعن ابن عيسى بن الطباع قال: سمعت روح بن عبادة يقول: كنت عند ابن جريج سنة 150، فأتاه موت أبي حنيفة ، قال: فاسترجع، أي قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمة الله عليه، وتوجع لفقده وقال: أي علم ذهب؟! قال: وفيها مات ابن جريج ، يعني: سنة 150.

    وقال أبو نعيم : كان أبو حنيفة صاحب غوصٍ في المسائل.

    وقال أحمد بن علي بن سعيد القاضي : سمعت يحيى بن معين يقول: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: لا يكذب الله، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة ، وقد أخذنا بأكثر أقواله، وهاهنا يقال عنه: ضعيف في الحديث ورأيه ضعيف.

    وقال الربيع وحرملة : سمعنا الشافعي يقول: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة .

    ويروى عن أبي يوسف قال: بينا أنا أمشي مع أبي حنيفة إذ سمعت رجلاً يقول لرجل: هذا أبو حنيفة لا ينام الليل، فقال أبو حنيفة : لا يتحدث عني بما لم أفعل، فكان يحيي الليل بعد ذلك.

    وقال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن أبيه: لما مات أبي سألنا الحسن بن عمارة أن يتولى غسله، ففعل فلما غسله قال: رحمك الله وغفر لك، لم تفطر منذ ثلاثين سنة، ولم تتوسد يمينك بالليل منذ أربعين سنة، فقد أتعبت من بعدك وفضحت القراء، أي: لا يستطيعون أن يسيروا على مسلكك.

    وقال علي بن معبد : حدثنا عبيد الله بن عمرو قال: كلم ابن هبيرة أبا حنيفة أن يلي قضاء الكوفة فأبى عليه فضربه مائة سوط في عشرة أيام - وقيل: مات أبو حنيفة وهو في سجن أبي جعفر المنصور ؛ لئلا يلي القضاء.

    وقال ابن أبي داود عن نصر بن علي : سمعت ابن داود يعني: الخريبي، يقول: الناس في أبي حنيفة حاسد وجاهل.

    وقال أحمد بن عبدة قاضي الري عن أبيه: كنا عند ابن عائشة فذكر حديثاً لـأبي حنيفة ثم قال: أما إنكم لو رأيتموه لأردتموه، فما مثلكم ومثله إلا كما قيل:

    أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا

    وعن ابن معين يقول: سمعت عبيد بن أبي قرة يقول: سمعت يحيى بن الضريس يقول: شهدت سفيان وأتاه رجل فقال: ما تنقم على أبي حنيفة ؟ قال: وما له؟ - يعني: ما عند أبي حنيفة، والقائل: هذا الذي جاء إلى سفيان الثوري - سمعته يقول: آخذ بكتاب الله، فإن لم أجد فبسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن لم أجد فبقول الصحابة، آخذ بقول من شئت منهم ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي وابن سيرين وعطاء فقوم اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا.

    يعني: لم تتكلم وتنقم على أبي حنيفة ؟

    أبو حنيفة يقول: أستدل بكتاب الله ثم بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم بأقوال الصحابة، وهذه ميزة عند أبي حنيفة إذا اختلف الصحابة لا يخرج عن أقوالهم.

    و الشافعي إذا اختلف الصحابة له حق أن يخرج عن أقوالهم جميعاً على اجتهاده، يقول: هم رجال وأنا رجل، وأبو حنيفة يقول: إذا وجد للصحابة قول في المسألة أو أقوال لا أخرج عن قولٍ من أقوالهم، وإذا آل الأمر إلى الشعبي وابن سيرين فأجتهد كما اجتهدوا، يعني: فلم تتكلم عليه؟

    قال أبو نعيم وجماعة: مات سنة 150.

    وقال أبو بكر بن أبي خيثمة وابن معين : مات سنة إحدى وخمسين، له في كتاب الترمذي من رواية عبد الحميد الحماني قال: ما رأيت أكذب من جابر الجعفي ولا أفضل من عطاء بن أبي رباح .

    وفي كتاب النسائي حديث عاصم بن أبي ذر عن ابن عباس : ( ليس على من أتى بهيمة حد ) .

    قلت: الأحاديث كلها في موضوع روايات أبي حنيفة .

    يقول بعد أن سرد روايته التي في سنن الترمذي: ومناقب الإمام أبي حنيفة كثيرة جداً رضي الله عنه, وأسكنه الفردوس، آمين.

    والسؤال: هل حكى الحافظ جرحاً في أبي حنيفة على الذي رأيتموه؟ فماذا ينقم على أبي حنيفة ؟

    فكأن الحافظ ابن حجر يقول: كل من تكلم في أبي حنيفة فليس عنده برهان فيه, بل هو ظلم وافتراء؟

    وكما قلت: أبو حنيفة لا يتأثر بكلام من تكلم فيه، والكلام الذي قيل فيه يرد برفق ويستغفر لقائله، وإمام الملة وفقيهها لا يؤثر فيه كلام أحد، ومن جاء ليتكلم فيه في زماننا والله إن هذه علامة سوء وقد توجب له سوء الخاتمة.

    اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن له حق علينا، اللهم اغفر لمن علمنا وتعلم منا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لجيرانه من المؤمنين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً، والحمد الله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767958707