وقد ذكر الله صفات المنافقين في كتابه الكريم، وذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علامات، فإذا وجدت في أحد من المسلمين صفة من صفاتهم كان نفاقه نفاقاً عملياً لا يخرجه من الملة غير أنه مع ذلك على خطر عظيم.
أمَّا بَعْد:
سبق فيما مضى أن أخذنا صفات المفلحين في كتاب الله تبارك وتعالى وقد وصفهم الله تبارك وتعالى بصفات ثم قال: وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] ثم في هذا الدرس يصف سُبحَانَهُ وَتَعَالى أهل الكفر وأهل النفاق، وفي أول سورة البقرة لف ونشر، واللف هو: أن يجمع القضايا ويجملها سُبحَانَهُ وَتَعَالى ثم ينشر القضايا ويتكلم عنها بالتفصيل، وانظر كيف جعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى للمؤمنين خمس آيات، وللكفار آيتين، وللمنافقين ثلاثة عشر آية، وكأن النفاق -نعوذ بالله- أعظم من الكفر.
ويقول بعض المفكرين: إن في أول سورة البقرة نسف وإبادة، ولذلك يتعرض سُبحَانَهُ وَتَعَالى للكفر وللنفاق ثم يفصل سُبحَانَهُ وَتَعَالى في بقية السورة أحوال المؤمنين، وأحوال الكفار، وأحوال المنافقين.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7] انتهى من وصف الكفار وبعدها سوف يأتي بوصف المنافقين، يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] في الآية قضايا:
القضية الأولى: كيف يخبر سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن الكفار لا ينتفعون من الموعظة، وإذا كان الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يعلم أن الكفار لا ينتفعون من الموعظة فلماذا يأمر رسوله أن يعظهم ويذكرهم؟ ولماذا يأمر رسوله أن يبلغهم وما الفائدة؟ والله يعلم أنهم لن يتعظوا ويؤمنوا ويستفيدوا من الموعظة والبلاغ، فلماذا يأمره أن يعظهم؟ ما هو السر؟
القضية الثانية: ما معنى أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ [يس:10].
القضية الثالثة: وجد من الكفار من لعنهم الرسول عليه الصلاة والسلام وآمنوا وأسلموا ودخلوا في دين الله، فكيف نجمع بينها، هذه ثلاث قضايا كبرى في الآية.
إذاً فليس لكل داعية يعلم أن المدعو لا يستجيب له أن يتوقف عن دعوته، يقول تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آل عمران:20] ويقول: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرعد:7] ويقول: وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة:213] فواجب الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغ، ولا يقول: أنا أرتاح ولا أتكلم لا أدعو، قال الله تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:6-7] هذا صنف من كفار مكة منهم: أمية بن خلف وأبو جهل وأبو لهب، هؤلاء كتب الله عليهم أنهم لن يؤمنوا أبداً، والسبب يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5] ولماذا زاغوا؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23].
إذاً يقول الله للرسول عليه الصلاة والسلام: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9] ولا يعني ذلك أن فيها مفهوم مخالفة: أي إذا لم تنفع الذكرى فلا تذكر فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9] بل قال أهل العلم: حتى وإن لم تنفع فلابد من الذكرى؛ لأن في الكلام شيئاً مقدراً معناه: وإن لم تنفع: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9] أي: وإن لم تنفع الذكرى فذكر سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى [الأعلى:10-11] إذاً فواجب الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ.
قال: الإنذار في القرآن هو: الذي يكون فيه وقت يمكن النجاة فيه؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في وصف نفسه: {أنا النذير العريان} والحديث في صحيح البخاري عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أنا النذير العريان} والنذير العريان عند العرب هو: رجل يأتي قومه فيخلع ثيابه فيبقى كيوم ولدته أمه ويأتي بثوبه يطير به في الجو يعني الهلكة الهلكة، محذراً لهم بأمر عظيم.
ولذلك لما أرسل أبو سفيان أبا ضمضم الغفاري ماذا فعل؟ مزق ثيابه أمام أهل مكة وقال: اللطيمة اللطيمة! يعني أدركوا عيركم، لما قطع صلى الله عليه وسلم طريق العودة، فالنذير العريان: هو الذي يخلع ملا بسه ويبقى عرياناً، ويصيح من على جبل، يقول صلى الله عليه وسلم: أنا مثلي ومثل الناس، كالنذير العريان أتيتكم بالويل والدمار أو بالفلاح في الدنيا والآخرة.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] هل الرسول منذر فحسب أم مبشر؟ يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب:45] ويقول هناك: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرعد:7] فكيف نجمع بينهما، يقول: إنما أنت منذر و(إنما) معناها الحصر أي حصرنا رسالتك في الإنذار.
والجمع أن يقال: إذا تكلم الله عن إنذار الكفار حصر مهمته في الإنذار، وإذا تكلم عن البشارة سمى البشارة، وهنا لما أنكر الكفار ألوهية الله؛ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ [النساء:171] وهذا مثل إنسان يقول لك: محمد ليس بكريم! ما هو الجواب؟ إن قلت محمد كريم كان الجواب ضعيفاً لكنك تقول إنما الكريم محمد.
إنما مصعب شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء |
وقوله: (ءأنذرتهم) لماذا لم يقل أبشرتهم أم لم تبشرهم؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث بالنذارة قبل البشارة، فهم أناس سكارى يعبدون الوثن والصنم فكيف يبشرهم؟ إنما ينذرهم ثم يبشرهم عليه الصلاة والسلام، وفي حديث تعرض له ابن تيمية لكن يقول: كما في الحديث وهو حديث ضعيف: يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أنا الضحوك القتال} وقال لكفار مكة لما دعاهم فكذبوا به وقام عقبة بن أبي معيط لعنه الله فبصق في وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال: {يا معشر قريش! والله الذي لا إله إلا هو والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح} ابن أبي معيط هذا حضر بدراً فلما رآه صلى الله عليه وسلم في الأسارى مسلسلاً في الحديد، أصبح مأسوراً مع السبعين لم يقتل في المعركة، مر به صلى الله عليه وسلم فالتفت فرآه فقال: {قم يا
أمحمداً يا خدن كل كريمة من قومه والفحل فحل معرق |
ما كان ضرك لو مننت وربمـا مَنَّ الفتى وهو المغيظ المحنق |
والنضر أكرم من أسرت إسارة وأحقهم إن كان عتق يعتق |
فقال عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته لكن إلى النار}.
فمعنى الآية أي: هؤلاء الذين ختم الله عليهم لا يؤمنون أبداً فلا تتعب نفسك، مع العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم بقي يدعوهم ليقيم عليهم الحجة، قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] لماذا لم يقل يتقون؟ لأن التقوى متدرجة عن إيمان، وإذا ذكر الله الكفر أتى بالإيمان، وإذا ذكر الإيمان ذكر الكفر، وإذا ذكر الآيات الكونية جاء بالعقل، وإذا أتى بالأدلة النقلية، جاء بالفقه، وإذا أتى بالليل؛ أتى بالسمع قال: لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [يونس:67] وإذا أتى بالنهار، أتى بالبصر قال: أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ [القصص:71] الليل لماذا؟ قالوا: لأن الأذن هي الحاسة القوية في الليل، هل رأيتم أحداً ينظر في الظلام، إنما يسمع ولذلك السماع في الليل بسهولة ويكون اختراقاً لحجب الظلمات، حتى في العلم الحديث أن حجب الظلمات يقوي ذبذبات الصوت، ولذلك إذا أتى الإنسان في الليل يسمع من مسافات وآلته المتحركة هي الأذن قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ [القصص:71] ثم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ [القصص:72] فلما ذكر النهار ذكر البصر، ولما ذكر الليل ذكر السمع؛ لأن البصر أقوى آلة وأقوى حاسة في النهار، وأما الأذن والسمع فهو في الليل وسوف يأتي ضرب من هذا.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6] ولم يقل: لا يتقون؛ لأنها مركبة على الإيمان، ولم يقل: لا يفقهون؛ لأنه ليست هنا أدلة نقلية، ولم يقل: يعقلون؛ لأنه ليس هنا أدلة عقلية، ولم يقل: لعلهم يتفكرون؛ لأنه لا يوجد هنا تفكر.
فأما الختم: فقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7].
وأما الأكنة: فقال: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت:5] يعني: في أغطية.
وأما القسوة: فقال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ [البقرة:74] وقال أيضاً سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13] وقال أيضاً: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16].
وأما الطبع: فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155] على ماذا؟ على قلوبهم بكفرهم.
وأما المرض: فقال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة:10].
وأما الإقفال: فقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
وأما الران: فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
هذه أمراض القلوب التي ذكرها الله في القرآن وهي درجات.
أولها: الغين: والغين شيء شفاف يأتي من كثرة المباحات، وكثرة الضحك وكثرة الكلام، وكثرة الخلطة في الناس، فيه غين على القلب، يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: {إنه ليغان على قلبي} هو أشرف البشر وأكملهم وأطهر الناس قلباً وأنقاهم سريرة، وأقربهم من المولى ومع ذلك من كثرة خلطته بالناس يقول: يغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم أكثر من مائة مرة، هذا يسمى الغين، قالت الصوفية: هذا غين أنوار لا غين أغيار. قلنا: من أين أتيتم بهذا الكلام؟ وفسر الماء بعد الجهد بالماء، هذه الطلاسم لا نتعرض لها.
وأما الران: فإنه يحجب القلب غشاوة من الذنوب وفي سنن النسائي وابن ماجة والترمذي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث ما معناه: {إذا أذنب العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا زاد نكتت حتى يصبح قلبه أسود فهذ هو الران} قال مجاهد: [[القلب هكذا يذنب العبد فضم إصبعه، ثم يذنب ذنباً آخر فيضم الثانية، ثم يذنب ثالثاً حتى ضم أصابعه قال: فيصبح القلب هكذا]] من كثرة الذنوب وهذا هو الران.
أما الطبع فإذا أذنب وأكثر من الذنوب والخطايا والإغفال طبع الله عليه، والختم آخر شيء، والقفل أشدها وأصعبها، نعوذ بالله من هذه الأمراض.
1/ مرض الجسم:
أولاً: مرض الجسم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61] وهذا هو مرض الجسم وليس مرض القلب: أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى [النساء:102] أي مرض الجسم.
2/ مرض الشهوة:
ثانياً: مرض الشهوة، إنسان قلبه مريض بالشهوة، إذا سمع صوت امرأة تحرك قلبه، بعضهم فيه شهوة ولو كان عنده أربع زوجات لكن مرض الشهوة في قلبه، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] وليس هذا مرض النفاق بل هذا مرض الشهوة.
3/ مرض النفاق:
ثالثاً: مرض النفاق قال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة:10] وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة:125].
4/ علاج هذه الأمراض:
إذاً فالأمراض ثلاثة في القرآن: مرض الجسم وهو أقلها وأيسرها وأخفها ولا عبرة به، بل لو تقطع الإنسان على السرير من المرض لكان خفيفاً يسيراً، وأما مرض الشهوة فهو أثقل، ودواؤه الصبر، وأما مرض النفاق فهو أخطر ودواؤه اليقين، ولذلك ذكر الله اليقين والصبر في موضع واحد فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] لماذا ذكر الصبر؟ قالوا: عن الشهوات، ولماذا ذكر اليقين؟ قالوا: عن الشبهات، يقول ابن تيمية: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
ثم يقول سبحانه: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] هنا تساؤلات:
أولها: لماذا ختم الله على قلوبهم؟ لأنهم لم يهتدوا فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5].
ثانيها: لماذا قدم القلوب وجمعها؟ لأن لكل واحد منهم قلباً، ولا يصح أن يقال في اللغة على قلبهم، أما السمع فإنه يؤخذ منه المصدر فيقال: على سمعهم؛ لأنه قال هنا: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ [البقرة:7] ولم يقل: وعلى أسماعهم؛ بل أتى بها مفرداً أما القلب فلا يفرد.
ثالثها: ولماذا أتى بالسمع قبل البصر؟ لأن آلة السمع في العلم أقوى من آلة البصر، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78] فبدأ بالسمع؛ ولذلك من يستخدم آلة السمع في طلب العلم يكون أقوى ممن يستخدم آلة البصر، ووجد أن العمي أذكى الناس؛ إذا استخدموا أسماعهم بعد تقوى الله في السماع، والسماع الذي تسمعه أنت أقوى من القراءة التي تقرأها، وحضورك للدرس وسماعك له أقوى من نظرك في الكتاب حين تقرؤه، لأنها تشترك الآلات جميعاً في استقبال الصوت وهذا مجرب وملحوظ، فالله بدأ بالسمع قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [البقرة:7] ولم يقل: أسماعهم؛ لأنه يجوز أن يجعلها مفرداً هنا، وليس فيه ثقل في العربية، أي: في البلاغة، وأما لو قال: على قلبهم، فإنه لا يستقيم.
وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:7] هنا الأبصار الذي يظهر -والله أعلم- أنها هذه الأبصار التي يرون بها، ليست البصائر ولو أنه قد يقال: إنها البصائر.
فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: (وَمِنَ النَّاسِ) وقيل: السر فيها لحقارتهم فإنهم لا يذكرون، ولذلك إذا أردت أن تتكلم عن بعض الناس لتهون من شأنهم، تقول: بعض الناس يقولون كذا وكذا لكنك إن قلت آل فلان بن آل فلان يقولون: كذا وكذا أو فلان ابن فلان يقول كذا وكذا، كأنك رفعت قدره.
والبخاري في كتاب الحيل في الصحيح أتى بهجوم أدبي، على بعض الأحناف، يقول كثيراً: قال بعض الناس: يعني: خطَّأ آراءهم، ولذلك أتى حنفي في القرن الخامس كتب كتاباً اسمه المقياس في الرد على من قال بعض الناس يقصد البخاري، فـالبخاري يهون من شأن آرائهم، يقول: من هم هؤلاء حتى يردون على السنن، فيقول: قال بعض الناس غفر الله للجميع.
المتنبي له طرفة يقولون: هجاه ثمانون شاعراً فقالوا: لماذا لا ترد عليهم؟ قال: ما سمعتهم حتى أرد عليهم، يعني: من هم؟ لأنه لو رد عليهم لضخمهم، ولذلك إذا أردت أن تميت الإنسان فاتركه.
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت |
فإن جاوبته فرجت عنه وإن أغفلته كمداً يموت |
لم يقل الشاعر: (أغفلته) لكن هذه الأقرب، وبعض القراء: يقرءون في سورة الدخان (مَنْ فرعون) والقراءة الصحيحة مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ [الدخان:31] فبعضهم يقرأ (مَن فرعون) استخفافاً واحتقاراً، فلذلك يقول الله عز وجل: (وَمِنَ النَّاسِ) استخفافاً بهم واحتقاراً لهم وسوف يأتي الاحتقار بهم.
فالمنافقون، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:8] لماذا لم يقولوا: آمنا بالرسول؟ لأن السورة تتكلم عن الله واليوم الآخر، والإيمان به صلى الله عليه وسلم يدخل في الإيمان باليوم الآخر.
يأتي عبد الله بن أبي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول للصحابة: اسمعوا للنبي، وهو كاذب، ويأتي أحدهم فيقول: إني أحبك، فيكشفه الله عز وجل.
الجد بن قيس يأتون له فيقولون: تعال يستغفر لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يبايعك وقد ضاع جمله، فقال: والله لأن ألقى جملي أحب إلي من بيعتي لمحمد، وهو منافق، وقالوا له: تعال يستغفر لك ما دام صدرت منك الكلمة هذه، فأعرض برأسه خاف أن يقول: لا. بالحروف، لكن نقلت الصورة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:5] ماذا قالوا؟ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ [المنافقون:5] خاف أن يقول: لا. لن آتي، فيأتي الوحي من جبريل فيخبر الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: الجد بن قيس يقول: لا. لن يأتي، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى:وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ [المنافقون:5].
أولاً: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
ثانياً: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54].
ثالثاً: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142].
رابعاً: يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً [النساء:142].
خامساً: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143] مرة مع الفسقة ومرة مع الأخيار، إن جلسوا مع المتقين قالوا: ما أحسن الإسلام! وما أحسن القرآن! وما أحسن هذه المجالس! لقد استفدنا فائدة ما كنا ندري بهذا! فإذا رجع إلى أصحابه -وسوف يأتي ذلك في آخر السورة- قال: جلسنا مع أناس متخلفين حدثونا بأساطير عن آبائهم وأجدادهم، هذه الرجعية التي يتكلمون بها إلى غير ذلك من التهم.
سادساً: أنهم يعتنون بالأجسام وبالظواهر أكثر من المخابر يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] إنهم يشغلون أوقاتهم في الشارات والصور فقط أما الباطن فلا.
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر أجسام البغال وأحلام العصافير |
أتى وفد من فارس على ابن مسعود -وفد من كسرى- فدخلوا هذا الوفد يتلامعون من البياض والنظرة واللبس، فقال بعض الصحابة: انظر لهؤلاء! قال ابن مسعود:[[ترى الكافر بطيناً سميناً غشوماً ظلوماً، وترى المؤمن هزيلاً ضعيفاً مؤمناً تقياً]] وليس هذا دائماً بالاستطراد، فإنك قد تجد منافقاً هزيلاً ضعيفاً، وقد تجد مؤمناً سميناً بطيناً قوياً، لكن هذه فطر في الغالب، لكن أولئك يعتنون بالمظاهر وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] أي: فصحاء.
وعند الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم قال: {البذاء والبيان شعبتان من النفاق، والعي والحياء شعبتان من الإيمان} أي: العي إنسان لا يتحدث، خجول في المجالس، فيه إيمان وحياء والبذاء والبيان شعبتان من النفاق إذا علم هذا فوصفهم الله بهذه الأوصاف وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون:4] يقولون: صيحة عليهم، أي: إنهم يخافون من الأحداث، ولذلك المنافق الآن إذا وقع شيء في الدنيا كأنه وقع في بيته. ترتفع الأسعار يموت، ودائماً حديث الساعة عنده في المجالس: سمعنا بارتفاع الأسعار، سمعنا بكذا، سمعنا بكذا، نخاف من الحروب هذه، نخاف من الزلازل؛ لأنه يريد الحياة الدنيا فقط، لكن إذا ضيع الصلوات الخمس لا يخاف، وكثير من المسلمين منهم من يفسق، ومنهم لا يخاف من خروج المرأة متبرجة ولا يخاف من انتشار شريط الغناء، والفيديو الهدام ولا يخاف من المجلة الخليعة، لكنه يخاف من الأرزاق والأمطار والأشجار لأن همه الأكبر أن يأكل مثل الدابة ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3].
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] حكم الله عليهم أنهم كفرة، لأنهم يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [البقرة:9] الخداع معناه الفساد، هو في أصله من الخدع، أي: من الفساد، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (يُخَادِعُونَ) ولم يقل يخدعون؛ لأن يخادعون غير يخدعون فأنا أقول لك أنا أخادعك يعني أحاول خداعك، وخدعتك أي: أوقعتك في الخديعة حقيقة، فالله يقول: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [البقرة:9] ويقول هناك: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142] أي: أثبت أنه خدعهم حقيقة، وأما هم فجعلهم يحاولون ولكن ما لم يستطيعوا.
فقوله يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] كيف يخادعون الله؟ يقولون: نحن نحب الصلاة ويصلون وليس في قلوبهم إيمان، يأخذون المصاحف فيقرءون ولا يصدّقون بالقرآن، يحضرون مجالس الذكر ولكن مجاملة ورياء وسمعة وهم لا يريدون مجالس الذكر ولا العلم ولا الفقه في الدين، يظهرون النسك والخشوع وليس في قلوبهم نسك ولا خشوع، فهؤلاء يخادعون الله والذين آمنوا.
و(ما يخدعون) يعني: حقيقة (إلا أنفسهم).
قال: وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] كيف قال: (وما يشعرون) لماذا لم يقل: وما يعلمون؟ لأن الذي لا يشعر أعظم جهلاً من الذي لا يعلم.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام |
إنسان ميت وتأتيه بخنجر وتطعنه، هل يحس؟ لا، ولذلك (لا يشعرون) وهذا هو الجهل المركب، والجهل قسمان: جهل بسيط، وجهل مركب.
والجهل البسيط: جاهل يعرف أنه جاهل، تقول له: أنت لا تحفظ الفاتحة، فيقول: صدقت أنا لا أحفظ الفاتحة. لكن تأتي إلى جاهل جهلاً مركباً تقول: أنت لا تحفظ -وهو لا يحفظ- فيقول: أنا؟! أنا أعلم الناس، أنا ماهر، أنا من أذكياء الدنيا.
هذا جاهل جهلاً مركباً.
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب |
وتوما هذا رجل حكيم، كان له حمار فتكلم الناظم على لسان حمار الحكيم توما:
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب |
يقول: لو كان الدهر فيه إنصاف وعدل كان توما هو الحمار وأنا الراكب
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب |
فإنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركب |
أي: يقول: أنا جاهل وأعلم أني جاهل لكن صاحبي جاهل ولا يدري أنه جاهل.
كان زاهداً عابداً ولكن أحب علم العروض يقول: تن تن تن يعني: البحور مستفعل مستفعل مستفعل فيتنتن، فدخل ابنه فلما رأى أباه يتنتن ذهب عند أمه وولول، وقال: أبي جُنَّ الليلة، قال الخليل بن أحمد لابنه:
لو كنتَ تعلم ما أقول عذرتني أو كنت أعلم ما تقول عذلتكا |
لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهل فعذرتكا |
يقول أنت لا تعرف ماذا أفعل؟ وأنا لا أعرف أنك سفيه، فأنت تعذلني وأنا أعذرك، هذا معنى كلامه، كان من الأذكياء الكبار، الشاهد أنه لما توفي رُئي في المنام رحمه الله - وهذه ذكرها الخطيب البغدادي في كتاب اقتضاء العلم العمل -قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: تعرفون علم العروض؟ قالوا: نعم نعرفه قال: ما نفعني عند الله بشيء قالوا: ماذا نفعك؟ قال: كنت أعلم سورة الفاتحة عجائز في قريتي. ذهب التنتن والدندن، يعني: ليس في الحسنات، هو صحيح قد يفيد في الشعر لكن هل يوضع في سجل الحسنات؟ هل الأمة متوقفة حتى تعرف تن تن ودن دن؟ لا. فالأمة تعيش بدون تن تن ودن دن، ولذلك أذهب أبو الفرج الأصبهاني وقته وحياته في كتاب الأغاني من التنتنة والدندنة ولو أن فيه فوائد.
يقول الخليل بن أحمد: الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري، والثاني: يدري ولا يدري أنه يدري، والثالث: لا يدري ويدري أنه لا يدري، والرابع لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، يقول: هذه أقسام الناس.
فأما الأول قال: فهو عالم فاسألوه، إنسان يدري ويدري أنه يدري، يعني يعرف ويعرف أنه يعرف، فهذا واثق من نفسه عالم تذهب إليه تقول هل تعلم هذا؟ قال: نعم أعلم علم الكتاب والسنة وأنا واثق من نفسي وأقول على حقيقة ودليل وبرهان، فهذا عالم فاسألوه.
أما الثاني: فغافل فنبهوه، أي رجل غافل عنده علم ولكن لا يدري بذلك، يقول: ليس عندي شيء، مع أن عنده حصيلة طيبة من علم الكتاب والسنة ويفهم كثيراً من القضايا، لكن يقولون: تحدث أثابك الله، يقول: ما عندي شيء، قالوا: صل بنا الليلة، قال: أنا لا أعرف أصلي بكم، فلا يدري أنه يدري، قال: فهذا غافل فنبهوه، قولوا: عندك خير، عندك علم، عندك نفع للناس.
أما الثالث: فهذا جاهل فعلموه، إنسان مسكين يقول: أنا ليس عندي علموني ما عندي شيء، فيقول له الناس: أنت لا تعرف تصلي قال: صدقتم كيف كان يصلي صلى الله عليه وسلم؟ هذا جاهل فعلموه.
وأما الرابع: فهو الطامة الكبرى والمصيبة الدهياء: وهو الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، وهو الجاهل المركب، يقال له: أنت جاهل، قال: أنا جاهل؟! بل أنا عالم من العلماء، أنت لا تعرف شيئاً، قال: أنا حافظ من حفاظ الدنيا، فهذا هو الجاهل المركب، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9] إنهم يخدعون أنفسهم، يقول: أحد الشعراء يسب أعداء ابن تيمية:
ولو أنه جهل بسيطٌ عذرته ولكنه يدلي بجهل مركب |
وقوله و(وما يشعرون) في الكلام تقدير أي: وما يشعرون أنهم يخدعون أنفسهم.
ثم قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة:10] تقديم الجار والمجرور يقتضي الحصر، إذا قلت: في البيت محمد أبلغ من قولك: محمد في البيت، وهذه من صور الحصر.
أما النفاق الاعتقادي، فهو: الكفر الذي يخلد في النار مثل الذي يكذب بالقرآن، يقول: هذا القرآن ما نزل من عند الله، هذا منافق نفاقاً اعتقادياً، صاحبه خالد مخلد في النار، ومثل أن يكذب بالرسول صلى الله عليه وسلم، أما الذي يكذب في القول ويخلف في الوعد فهو منافق نفاقاً عملياً، ومن النفاق العملي حب أعداء الله، قد تجد بعض الناس مصلياً صائماً قائماً، يذكر الله، ويتلو القرآن، ولكن يحب الخواجات، قلبه معلق بالكفار، لا يتحدث في المجالس إلا عن أمريكا وأوربا، ترده إلى مكة يطير بك إلى واشنطن تأتي به إلى المدينة المنورة يذهب بك إلى لندن، يقول: كم عندهم من التقدم؟! كم عندهم من التنسيق؟! كم من الوفاء؟! كم من الصدق؟! كم من الإخلاص؟! هذا منافق نفاقاً عملياً.
أحب بني السمراء من أجل حبها ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا |
يقول: حتى كلاب حيهم أحبها من أجل حب أهلها، ويقول مجنون ليلى:
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا |
فالمؤمن يحب مكة والمدينة ليس من أجل حجارتها السود، لا والله، بل من أجل من مشى على ترابها، سادة العالم وقادة البشرية ومفاتيح الخير ومشاعل الحق: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي مع صاحبهم الكبير عليه أفضل الصلاة والسلام، والكفر يبغض ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم{أحد جبل يحبنا ونحبه، وعير من جبال النار} فلذلك المؤمنون يحبون جبل أحد لا لحجارته وترابه لكن لأنه يحبه صلى الله عليه وسلم، والدبا يأكله أنس فقالوا: ما لك؟ قال: [[أحبه لأني رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يتتبعه في الصحفة فأنا أحبه]] والضب كثير من الصحابة لا يأكله، وكانوا يأكلونه، قالوا: ما لك؟ قال: [[كرهه الرسول صلى الله عليه وسلم فأنا أكرهه]] فحب ما يحب الله عز وجل من علامة الإيمان، وحب ما يبغضه الله من علامة النفاق، هذا لا بد أن يبين.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] فيها إثبات زيادة الكفر وأن الكفر درجات، وأن النفاق درجات، وأن الإيمان درجات بمفهوم المخالفة، لأنه مر معنا أن الله يزيد الذين آمنوا إيماناً، ويزيدهم هدىً، وهنا يزيد الله المنافقين نفاقاً، فهم درجات، منهم في المركز الأول، ومنهم من يحمل دكتوراه في النفاق، ومنهم ماجستير، ومنهم من عنده مسحة من النفاق، ومنهم من عنده واحد في المائة، فهم درجات هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ [آل عمران:163].
ولا يخلو أحد في الغالب من شيء من النفاق، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه وأرضاه لـحذيفة كما في صحيح البخاري: [[أسألك بالله يا حذيفة، أسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟ قال: لا، ولا أزكي أحداً بعدك]] فالنفاق كما قال الحسن البصري كما في صحيح البخاري: [[ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق]] المنافق الآن إذا جئته وقلت: أنت منافق! فإنه يقاتلك، يقول: أنا منافق؟! وإذا قلت لبعض المنتسبين إلى الإسلام الذي بلغ درجة الكفر وهو في بلاد المسلمين لا يصلي أبداً، يا كافر! فإنه يقاتلك، والمؤمن إذا أتيت تقول له: أخشى عليك من النفاق، يتأثر وينكسر قلبه، ويخاف منه ويقول: نعوذ بالله، نسأل الله العافية، يارب رحماك وعفوك، إذاً النفاق ما خافه إلا مؤمن ولا أمنه إلا منافق.
ومن علامات النفاق: الاستهتار بالذنوب والخطايا، قال ابن مسعود: [[المؤمن يرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يسقط عليه، والمنافق يرى ذنوبه كأنها ذباب قال به هكذا فطار من على أنفه]] يرتكب الكبائر ويقول الحمد لله نحن على خير، ونسأل الله الخاتمة الحسنة، والله غفور رحيم والناس كلهم في صلاح وخير، ورحمة الله وسعت كل شيء، لكن لا يذكر أن الله شديد العقاب.
ولكن المؤمن إذا أتى بخصلة فتراه دائماً يعض أنامله ويندم ويبكي ويتأثر، فهذه من علامات الإيمان وتلك من علامة النفاق، وقد ورد في حديث لـعمر وبعضهم يرفعه وبعضهم يوقفه عليه {من سرته حسنته، وساءته سيئته فهو المؤمن} فمثلاً أنت إذا صليت بخشوع فرحت فأنت مؤمن، وإذا تصدقت انشرح صدرك فأنت مؤمن، وإذا وصلت رحمك فانشرح صدرك فأنت مؤمن وإذا أسأت بكلمة أو بنظرة فندمت فأنت مؤمن، إن شاء الله، وهذا ميزان.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] يقول ابن تيمية شيخ الإسلام: مبنى النفاق على الكذب، أي أن الكذب بني على النفاق ولذلك أكذب الناس أقربهم إلى النفاق، وأكثر الناس نفاقاً أكثرهم كذباً، فالكذب ابن عم النفاق.
رضيعي لبان ثدي أم تقاسما بأسحم داج عوض لا نتفرقا |
الكذب والنفاق أولاد عم رضعا من ثدي واحد، وهو ثدي الكفر والخبث -والعياذ بالله- فما يأتي الكذاب إلا منافقاً والمنافق إلا كذاباً، ولذلك الشجاع لا يكذب أبداً، وممن وصف بالصدق في التاريخ أناس كثير، حتى ولو كان في الصدق حتفهم منهم:
زر بن حبيش أحد الرواة العلماء الصادقين الصالحين العباد، قال الحجاج بن يوسف: أيكذب أحد من الناس؟ قالوا: لا ندري إلا أن زراً لن يكذب أبداً قال: لأحوجن زراً إلى أن يكذب هذا اليوم، فقال: أين أبناؤه؟ قال الناس: أبناؤه في بيته، قال: سوف أقول له: سوف أقتلهم؛ فإنه بذلك سوف يخفيهم ويكذب، فأرسل إليه الجنود فأتوا بـزر وهو شيخ كبير قال: أبناؤك خرجوا علينا وفعلوا وفعلوا ثم حلف الحجاج لأقتلنهم أين هم؟ قال: هم في البيت، فتبسم الحجاج قال: إن كذب أحد فلن يكذب زر أو كما قال، يعني من صدقه لن يكذب أبداً.
يقول الإمام أحمد: الصدق كالسيف لو وضع على جرح لبرى، ولذلك بلغ الله الصادقين منازل الصدق، وبلغ الكاذبين منازل الكذب -نعوذ بالله من الكذب- وإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، إذا ألجئت إلى مسألة وأردت ألا تكذب فعليك بالمعاريض، وهو أن تعرض بكلامك إلا في الحقوق فإنه لا يجوز لك أن تذهب إلى القاضي وتكذب في الظاهر وأنت تريد أمراً في الباطن؛ لأن في الحديث الصحيح {يمينك على ما صدقك به صاحبك} مثلاً: إذا ضربت أحداً بالعصا، فيأتي القاضي فيقول لك: كيف تضربه بالعصا؟ تقول: ما ضربته، فتقول: والله الذي لا إله إلا هو أني ما ضربته يعني: تقصد في نيتك ما ضربته بيدي، لكن العصا ضربته، -وهذا ما يفعله بعض الناس- ويقول: ما حلفت على هذا لكن حلفت على هذا، يقول لك: لماذا غيرت منار الأرض من مكان إلى مكان؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو ما غيرته، يعني: أنه ليس هو لكنه ابنه، وهذه من المعاريض المحرمة لأخذ حقوق الناس.
لكن المعاريض المباحة تكون في عدم أخذ الحقوق وأموال الناس مثلما حصل لـ مطرف بن عبد الله وهو أحد العلماء لما غضب عليه الحجاج بن يوسف وأرغى وأزبد وأرعد وأراد أن يقتله قال: عليَّ بـمطرف، فأتى مطرف فدخل عليه يريد أن يقتله؛ لأنه يقول: إنه مع الذين خرجوا عليه، قال: لماذا لم تأتنا؟ قال: والله ما رفعت جنبي منذ أن فارقتك إلا ما رفعه الله، وهو صادق، ما يرفع الإنسان جنبه إلا ما رفعه الله، فصدقه الحجاج، يقول: ما رفعت جنبي يعني: كأنه من المرض إلا ما رفعه الله.
الإمام أحمد أتى إليه في أيام الفتنة جندي أرسله المعتصم يريد أخذ الإمام أحمد فطرق الباب فقام تلميذ الإمام أحمد وقال: إن أحمد ليس هنا وأشار بيده إلى كفه من وراء الباب، وهو صحيح وهذه من معاريض الأذكياء ولـابن الجوزي كتاب يسمى كتاب الأذكياء في المعاريض.
ابن الجوزي دخل في حي للرافضة تعرفون الرافضة وهو لو تكلم بكلمة خطأ لقتلوه قالوا: أي الصحابة أفضل؟ فقال ابن الجوزي: أفضلهم الذي ابنته عنده، ثم سكت، فسكت أهل السنة وسكت الرافضة، أهل السنة يقولون ابنته أي: أبو بكر ابنته عند الرسول صلى الله عليه وسلم والرافضة يقولون: ابنته أي بنت الرسول صلى الله عليه وسلم عند علي فسكت، فهذه هي من المعاريض التي هي مندوحة عن الكذب هذا على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10].
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْض ) [البقرة:11] إفساد المنافقين هو بتعطيل ما أنزل الله على رسوله وبتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم، وبإدخال الشك والريبة في قلوب المؤمنين وهذا أعظم فساد وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [البقرة:11] ما هو أصل الجواب؟ إنسان يقول لك: لا تفسد، الجواب أن تقول: أنا لا أفسد، لكن الأدهى والأمَرْ أن يقال لك: لا تفسد، فتقول: إنما أنا مصلح، لو قالوا: ما أفسدنا لكان أسهل، لكنهم: قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] كما لو قلت للكافر: لا تكفر بالله، يقول: ما كفرت هذا يمكن أن تتفاوض معه، لكن أن يقول: إنما أنا مؤمن، فهذا من الطامة.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] وهنا حصر " إنما " " نحن " بالضمير المنفصل وهو من أدوات الحصر (إنما نحن مصلحون) ما هو الجواب؟ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12] وسوف نتحدث بعد قليل عن السر بين كلمة (يشعرون) و(يعلمون).
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] قال أهل العلم إفساد المنافقين: بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، والتشكيك في رسالته، والاستهزاء به من خلفه.
1/ تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم:
الرسول عليه الصلاة والسلام في الخندق يحفر وبه من الجوع ما لا يعلمه إلا الله، وضع حجرين على بطنه، والصحابة وضعوا حجراً حجراً فأتى الصحابة يشتكون إليه ورفعوا عن بطونهم فرأى الحجر فتبسم صلى الله عليه وسلم ورفع ثوبه عن بطنه فإذا.
ينـزل صلى الله عليه وسلم والأعداء من حوله حلقة، الكفار والمنافقون واليهود والمشركون: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10] أي القلوب التي في الصدور أصبحت في الحنجرة من كثرة الخوف، ومع ذاك الخوف يأتي صلى الله عليه وسلم يأخذ المعول فيضرب به الصخرة فيلمع الشرر في الجو، فيقول: هذه قصور كسرى! فتحها الله عليَّ فيتضاحك المنافقون ويتغامزون، فقالوا: أحدنا لا يستطيع أن يبول من العدو ويقول: يفتح الله عليه قصور كسرى وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب:12] فيأتي صلى الله عليه وسلم فيضرب الثانية فيلمع الشرر في الجو، فيقول: هذه قصور هرقل يعني ملك الروم وسوف يفتح الله عليَّ الأبيضين: الأبيض والأحمر يعني الذهب والفضة، فيضحكون ويقولون: يفتح الله عليه قصور هرقل! وبعد خمس وعشرين سنة يفتحها الله عليه.
2/ الاستهزاء بالصالحين:
من استهزائهم ما قاله عبد الله بن أبي حين اختلف أجيران أحدهما أنصاري والآخر مهاجري على ماء فتضاربا فكسع المهاجري الأنصاري فقال عبد الله بن أبي: صدق القائل: (سمن كلبك يأكلك، وجوع كلبك يتبعك) يعني: أن الصحابة لما أتوا من مكة كانوا جياعاً، فأطعمناهم حتى سمنوا فأكلونا، فذهبوا بكلامه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
ويقول أيضاً: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون:8] يقول: إذا رجعنا سوف نخرج هؤلاء المهاجرين، فوصل الكلام إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فسكت، فقال عمر: يا رسول الله اقتله فإنه منافق، فقال صلى الله عليه وسلم: سوف يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.
فأتى ابنه البار الراشد ابن عبد الله هذا واسمه عبد الله لكن الله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ [الأنعام:95] أرأيت الشوك يوم يخرج منه الورد، هذا المنافق أتى من صلبه مؤمن يحمل السيف، ويقول: يا رسول الله، لا تأمر أحداً بقتل أبي فوالله الذي لا إله إلا هو، لا أطمئن في الحياة ولا أمشي على الأرض وأنا أرى قاتل أبي إلا قتلته، ولكن إن تريد رأس أبي هذا اليوم فوالله الذي لا إله إلا هو لآتينك برأسه، قال صلى الله عليه وسلم: {أإنك قاتله؟ قال: والله الذي لا إله إلا هو إن أمرتني بقتله لأقتلنه الآن -وصدق- فقال صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به} يعني نصاحبه معروفاً، انظر إلى بعد النظرة، قال أحمد شوقي:
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء |
وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هم الرحماء |
وإذا أخذت العهد أو أعطيته فجميع عهدك ذمة ووفاء |
وتمد حبلك للسفيه مدارياً حتى يضيق بحبلك السفهاء |
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعدو الندي وللقلوب بكاء |
وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق لا ظغن ولا بغضاء |
وإذا سعيت إلى العدى فغضنفر وإذا جريت فإنك النكباء |
فلما أراد عبد الله بن أبي أن يدخل المدينة وقف عبد الله بن عبد الله ابنه عند مدخل المدينة فلما رأى أباه سل السيف أمامه وقال: [[والله الذي لا إله إلا هو، والذي شرف وجه محمد بالنبوة لا تدخل المدينة حتى يأذن لك الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ولم؟ قال: لأنك الأذل وهو الأعز -هو عكس الآية عليه- فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن له أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجز الآن]] يدخل هذا المنافق الكبير.
في تبوك يأتي المنافقون فجلسوا في السمر، ودائماً إذا خلوا يخرجون ما في قلوبهم يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا خَلَوْا [البقرة:14] لم يقل: إذا ذهبوا، لأنهم يحبون الخلوات ويحبون الدياجير والساعات الحمراء مثل الماسونية وأذناب الصهيونية العالمية والقومية والعلمانية يحبون السمر من الساعة الثانية إلى الفجر دائماً: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] وسوف يأتي من هم شياطينهم ولماذا وصفهم بالشيطنة؟ وماذا يفعلون في خلواتهم؟ فخلوا في آخر الليل يتضاحكون قالوا: ما رأينا كقرائنا أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء يقصدون قراء الصحابة.
وفي الصباح ولكن الله السميع البصير أنزل جبريل وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: الحق بهؤلاء فقد احترقوا، يعني احترقوا في النار، أتى صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لكم لماذا قلتم البارحة كذا وكذا؟ فأتوا يمسكون بحبل الناقة من أمامها ومن خلفها ويمسحون يد الرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، كنا نمزح فقال الله عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة:65-66] ولذلك في الحديث {رب كلمة يقولها صاحبها لا يلقي لها بالاً؛ تهوي به في النار سبعين خريفاً، ورب كلمة من الخير لا يلقي لها صاحبها بالاً يرفعه الله عز وجل عنده في الجنة}.
مثل إنسان يقول في المجلس وهو يريد أن يضحك الناس فيتكلم على عالم من علماء المسلمين، أو على سنة، أو على هيئات الصلاة، أو يتكلم عن صيام رمضان، أو عن بعض القضايا الإسلامية، كالقرآن والحرم أو أي شيء فيه اسم الإسلام هذه ربما تهوي به في النار ويحترق سبعين خريفاً لا ينجو من النار أبداً، يقول كلمة يكفر بها العبد ربما يستهزئ بسنة صغيرة من السنن فيدخل بها النار -والعياذ بالله، ونسأل الله العافية والسلامة- وابن الراوندي الملحد والقاسم بن عبيد الله أحد الوزراء الملاحدة كان وزيراً عباسياً وكان ملحداً، دخل عليه أحد العلماء: فتساءل هو وإياه، قال: في أي سورة هذه؟ قال: في سورة البقرة، قال الوزير: في بقرتكم أنتم، فقال هذا العالم: والله ما صدقت أنه ملحد إلا ذاك اليوم.
والإمام أحمد قال له رجل: إن فلاناً يتنقص أهل الحديث ويسب أهل السنة طلبة العلم، قال: زنديق زنديق، وزنديق يعني: ملحد وقد يلحد الإنسان بكلمة والعياذ بالله.
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11] هذه دعوى عريضة.
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء |
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12] انظر إلى الضبط (أَلا إِنَّهُمْ) بالتأكيد بـ (إن) المؤكدة، (هُمُ) الضمير المنفصل (الْمُفْسِدُونَ) بأل (وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) إنما قال: لا يشعرون، لأن الشعور مع الدقة والخفاء والعلم مع الشيء الجلي الواضح.
3/ اتهام الصالحين بالسفه:
قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] أي إذا قيل للمنافقين: آمنوا كما آمن الناس، أي: الصحابة من المهاجرين والأنصار، وإذا قيل لشخص اهتدي كما اهتدى آل فلان قال: هم سفهاء متخلفون متطرفون متزمتون، وهذه أسماء تعرض دائماً لكن بألقاب تتغير مع مر التاريخ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ [البقرة:13] يعني: الصحابة على رأي ابن كثير ومجاهد وغيرهم من العلماء قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] السفيه الذي لا يملك رشده، والسفيه: الذي يضع الشيء في غير موضعه، وقد يكون الإنسان سفيهاً وهو كبير، يعني: لا يملك رشداً قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] يقصدون بالسفهاء الصحابة -قاتل الله أولئك المنافقين- والصحابة هم الصحابة وأبصرهم وأكثرهم إشراقاً.
وفي قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ البقرة:13] أعاد الله الضمير و(أل) ليحصر فيهم السفه وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] هنا أتى بـ(لا) يعلمون، وهناك أتى بـ(لا يشعرون)؛ لأنه هنا أمر جلي وواضح أنهم هم السفهاء، ولكن هناك التبست عليهم الأمور فقال: لا يشعرون وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ وهذا وذاك من الجهل المركب الذي لا يدري ولا يدري أنه لا يدري.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب |
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان |
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني |
فالخلوة عند الصوفية يسمونها الخلوة والجلوة، والخلوة، هي: الانزواء عن أعين الناس، يقول ابن تيمية: "ماذا يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنّا سرت فهي معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة " يعني: خلوة أختلي بها مع الله عز وجل كما في الحديث: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} يعني وحده؛ لأنه أبعد عن الرياء. فهذه الخلوة قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَإِذَا خَلَوْا) يعني خلا بعضهم إلى بعض، (إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) وهم رؤساء الضلالة، ولكل قوم شياطين، مثلاً الماسونية لها شياطين كبار، ولليهودية شياطين كبار، وهكذا والعلمانية والزنادقة هؤلاء الأساتذة والمنظرون وراء الكواليس وراء الأسوار في الليالي الحمراء وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] تضاحكوا و قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14] كيف إنا معكم؟ يعني: معكم على معتقدكم ليس معكم بالجلوس، فهذا أمر معروف، إنا معكم يعني: على المعتقد والمنهج والسلوك والطريقة إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] أي: نستهزئ بالمؤمنين وقيل: مستهزئون بالعقيدة، وقيل: بالقرآن وقيل: بالرسول، والكلام كله صحيح.
إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] هنا لم يقل: إنما نحن نستهزئ أو يستهزئون وإنما قال: مستهزئون؛ لأن الاسم يقبل الاستمرار أكثر من المصدر والفعل؛ لأنه اسم هنا يقبل الاستمرار والدوام أكثر من الفعل.
وفي قوله تعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ [البقرة:14] أي: إلى كبرائهم قال ابن كثير - وقد أورد الأقوال- قال: هم رؤساؤهم من اليهود والمنافقين والمشركين وهو صحيح، وقيل: علماء اليهود وأحبارهم وقيل: هم رؤساؤهم في الدنيا، وكل المعاني صحيحة لكن الواحد منهم إذا كبر سمي شيطاناً، يقول أحدهم:
وكنت امرأً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي |
نعوذ بالله! يقول: وكنت امرأً من جند إبليس، أي: كنت تابعاً له فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي، أورده ابن القيم في ذخيرة الصابرين، فالمقصود أن الشيطان لا يسمى شيطاناً إلا إذا بلغ الرأس في الضلالة، فإذا أصبح رأساً سمي شيطاناً، ولذلك يقول الناس للمسرف في اللعب: هذا شيطان، ويقولون للمخرب والمدمر: شيطان مناوب، ويقولون للخبيث: شيطان مخبث، فالشيطان هو الرئيس في الضلالة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14] معكم أي: على معتقدكم، يعني: في الباطن معكم وفي الظاهر مع المسلمين، ولذلك نحذر أنفسنا وإياكم من ذي الوجهين، وهو الذي يجلس مع قوم بوجه ومع آخرين بوجه أن يكون فيه نفاق وهو بلا شك فيه نفاق- وهذا من أشد الناس عذاباً كما في الصحيح.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر