في هذه الليلة، ليلة التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة، لعام ألف وأربعمائة وعشرة للهجرة، تنعقد هذه المحاضرة، وأود أن أنبه إلى لبس ربما كنت طرفاً وسبباً فيه، أو كان غيري كذلك لأنني لا أريد أن أتخلى عن المسئولية في هذا الأمر، وهو: أن هذا المحاضرة لها عنوان خاص أعددته منذ أشهر، وكنت جعلت عنوان هذه المحاضرة " نحن المسئولون " فهذا هو العنوان الذي سأتحدث فيه الليلة.
ولذلك لا أحب أن أتخلى عن المسئولية في هذا اللبس؛ لئلا أكون متناقضاً مع هذا العنوان الذي اخترته، وإلا فإنني قد بلغت هذا العنوان إلى الإخوة المسئولين في الإفتاء في الدمام، لكن ربما حصل شيء من اللبس في ذلك.
نحن الآن في هذا البلد الكريم المضياف في الأحساء، نحن في هجر التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أنبئت أن دار هجرتي أرض ذات نخل بين حرتين، فذهب وهلي إلى أنها هجر} لقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام أن تكون هذه البلاد هي دار هجرته، ومقامه ومنطلق رسالته وبعثته، وفي هذا من الدلالة والإشارة ما فيه، وهذه البلد بلد عبد القيس الذين كانوا من أول الناس إسلاماً، ومن أول القبائل إسلاماً ووفوداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخبرهم في الصحيحين {قالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإننا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأربع، ونهاهم عن أربع} وهذا البلد هو أشج عبد القيس الذي قال: عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح: {إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة. قال: يا رسول الله، أخصلتان جبلت عليهما أو اكتسبتهما؟ قال: بل جبلت عليهما. فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه ويرضاه}.
الموضوع الذي سأتحدث عنه، موضوع في غاية الخطورة بلا إشكال، وهو موضوع خطير بالنسبة لكل فرد منا، وبالنسبة لكل مسلم، سواء كان أباً أم ابناً، معلماً أم طالباً، كبيراً أو صغيراً، مسئولاً أم موظفاً عادياً أم مزارعاً أم تاجراً أم أي شيء آخر، فما دام مسلماً؛ فهذا الموضوع في الغاية العليا من الأهمية والخطورة بالنسبة له، ألا وهو: تحديد من المسئول، وهذا الموضوع مع أهميته فيه طرافة وفيه عجب، وفيه إثارة جيدة لمن عقل وتفهم وتدبر.
ونحن نجد أن الإسلام جعل الفرد هو مناط التكليف ومركزه، لم يخلق الله عز وجل الإنسان ملكاً مجبولاً على الخير والطاعة والاستقامة، كما لم يخلقه شيطاناً رجيماً متمحضاً للشر والفساد، وإنما جعله إنساناً قابلاً للهدى والضلال، والخير والشر، والإيمان والفجور، قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا *قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10].
إذاً كل إنسان مكلف، فهو يوم القيامة مسئول ومحاسب وموقوف، كما قال تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ [الصافات:24] الأب لا ينفع ابنه، والابن لا ينفع أباه، والزوج لا ينفع زوجه كما قال تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الدخان:41] من هو المولى؟ هو القريب، وابن العم السيد، والزعيم الحبيب، فكل هؤلاء بعضهم مولى لبعض يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [الدخان:41] يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ *إ ِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89] يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
ويقول الله عز وجل لأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم حين انهزموا في معركة أحد، وتعجب! أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كيف يهزمون بزعامة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام؟ وأمام الطغمة الفاجرة الكافرة من عتاة قريش وفجارها، يهزمون ويقتل منهم من يقتل وتسيل الدماء، ويسقط الرسول صلى الله عليه وسلم في حفرة أبي عامر الفاسق، ويشج رأسه، وتكسر رباعيته، وتدخل حلقة المغفر في وجنته الكريمة بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، تعجبوا كيف يحدث هذا؟! قالوا: أنى هذا كيف حدث هذا؟! استغربوا لم يكونوا يتصورون أن المسلم يهزم أمام الكافر، فقال الله عز وجل: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165] قل هو من عند أنفسكم.
إذاً أنتم المسئولون، وأنتم السبب دون غيركم في هذه الهزيمة النكراء التي لم تحسبوا لها حساباً، وكذلك يقول الله عز وجل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا [الروم:41] فكل فساد يظهر في البر أو في البحر، فهو بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا، حتى حين ينظر الإنسان السطحي المغفل فلا يدرك، فإن العقلاء يدركون أن كل فساد يقع في البر أو البحر أو الجو فإنه بما كسبت أيدي الناس، وأنها ليست كل العقوبة، بل هو بعض الذي عملوا، هو مجرد إيماء وتحذير وتنبيه لعلهم يرجعون.
وفيما يتعلق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعرفون الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يا معشر المهاجرين، خمس خصال إن ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن} فذكر خمس خصال من المصائب والنكبات، وعقوباتها في الدنيا، ولا أريد أن أذكر الحديث فهو بطوله معروف، لكن مثلاً ذكر عقوبة الزنا وهي ظهور الطواعين والأمراض التي لم تكن في أسلافهم، كالهربس، والإيدز، وإلى غير ذلك من الأمراض الجنسية. الربا وأنه هو سبب في ابتلاء الناس بانحباس المطر عنهم، أيضاً ظلم السلاطين، إلى غير ذلك من العقوبات التي رتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بعض المعاصي التي يفعلها الناس في هذه الدار.
ولذلك تقول الإحصائيات: إن عدد المسلمين اليوم ألف مليون أي: مليار إنسان، وعدد المسلمين يعتبر من أعظم الطوائف أو المجموعات التي تدين بدين سماوي في هذه الدنيا، بل لعلهم يحتلون المركز الأول أو ينافسون عليه، لكن هذا العدد الكبير ما مدى انتمائهم لهذا الدين وارتباطهم به وشعورهم بهذا الانتساب؟ أم أنها مجرد أرقام لا رصيد لها من الواقع؟ المشكلة أن الاحتمال الثاني هو الراجح، وأن الواقع أن أكثر المسلمين هم بالصورة التي سوف أتحدث عنها، وأشير إلى جوانب منها.
في واقع الأمة الإسلامية ضاعت قيمة الفرد في نفسه، وبالتالي ضاعت قيمته فيمن يتعامل معهم، فمثلاً: إذا كان الإنسان لا يحس بقيمته فمن بابِ أولى أن الآخرين لا يحسون بقيمته أيضاً، الإنسان إذا كان لا يحس بقيمة نفسه؛ فزوجته -مثلاً- لا تحس بقيمته، وأولاده لا يحسون بقيمته، والمسئول عنه في الدائرة الحكومية لا يحس بقيمته، والمسئول عنه في البلد لا يحس بقيمته، والمسئول عنه في الدولة لا يحس بقيمته، والعدو من باب أولى لا يحس بقيمته ولا يحسب له أي حساب أيضاً.
ومن جهة أخرى تجد بعض المسلمين يعبرون -لكنه تعبير له دلالته- عن شعورهم بالأسف من الواقع بنداء الأموات، مثلاً: امرأة تقول الشعر، لاحظت ما تعانيه الأمة الإسلامية من فقر ومرض وتخلف وجهل وذل إلى غير ذلك، فبدلاً من أن تنادي نفسها، وتنادي أخواتها ومثيلاتها، وتنادي المسلمين، كما قالت المسلمة الأولى لما أهينت واضطهدت قالت: وامعتصماه، تصرخ بـالمعتصم الحاكم في بغداد، فيقول المعتصم: قد أجبتك، ويجهز جيشاً قوامه مائة ألف، ويذهب إلى عمورية حتى يفتحها.
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب |
يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حفلاً معسولة الحلب |
بدلاً من ذلك أصبحت تنادي من؟: تنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تخاطبه وتقول:
يا مرسلاً جاء للدنيا فأنقذها من البلاء وعافاها من السقم |
اذكر لربك أنا أمة جهلت قادها الجهل للبأساء والعدم |
واحد آخر شعره بائس خبيث مخبث، وهو الشاعر المشهور قباني، له قصيدة في لحظة من لحظات يقظته وانتباهه وصحوته من السكر الدائم المزمن، قصيدة طويلة جميلة، يتكلم فيها عن واقع الأمة الإسلامية، وما حل بها من النكبات والمصائب، ويقول ضمن هذه القصية:
وقبر خالد في حمص تلامسه فيرجف القبر من زواره غضباً |
يا رب حي رخام القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصب |
يا بن الوليد ألا سيف تؤجره فإن أسيافنا قد أصبحت خشباً |
يا بن الوليد - رجعنا ننادي الأموات عجزنا عن الأحياء، فصرنا ننادي الأموات، يريد من خالد أن يقوم يؤجره سيفه المسلول الذي انتصر به في المعارك الإسلامية؛ لأن أسيافنا قد أصبحت خشباً، وأذكر شاعراً آخر كان ينادي صلاح الدين ويقول:
قم يا صلاح الدين قم، وآخر يقول: قم يا صلاح الدين طهر أرضنا من كل ومن ماسوني |
المهم: صلاح الدين وخالد وغير خالد، والأموات كلهم لا ينفعون الإنسان شيئاً، ولا يغنون عنه من الله شيئاً، ولا يجوز للإنسان أن يدعوهم أو يناديهم -ليس مقصودي الآن هو الكلام عن هذه النقطة- لكن مقصودي أن أقول: لماذا أصبحنا ننادي الأموات؟! لأن الأحياء فقدنا ثقتنا فيهم، فقدنا شعورنا بقيمة الأحياء في الوقت الذي نشغل فيه بقيمة الأموات، نعرف ماذا صنع خالد بن الوليد، ونعرف ماذا صنع صلاح الدين، ونور الدين، وعماد الدين، ولذلك نناديهم نريد أن يجددوا لنا الأعمال، لماذا لا ننادي محمد وصالح وعلي وأحمد وإبراهيم من الأحياء الذين يعيشون على أقدامهم، لماذا لا نناديهم لأنهم أموات؟!
يا رب حي رخام القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصب |
فنحن نشعر بأنه لا قيمة لهم ولا تأثير، ولا يحسون بالمسئولية فننادي غيرهم، هذه صورة تدلك على عدم شعورنا بالمسئولية تجاه هذه الأعمال.
ويقضي الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود |
صورة ثالثة: تسمعون يوماً من الأيام، أن في روسيا قتل ستة من اليهود، قامت الدنيا وما قعدت، وأجهزة الإعلام تشتغل، ليس في إسرائيل فقط، بل في دول العالم الغربي كله، ليل نهار، لماذا حقوق الإنسان مهدورة؟ لماذا يقتل هؤلاء؟ بأي جرم؟ ما هي المحاكمة التي تعرضوا لها؟ أين مواثيق الأمم المتحدة؟ وهكذا نسمع جدلاً ستة من اليهود من إخوان القردة والخنازير، لا وزن لهم ولا قيمة ولا اعتبار قال تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الفرقان:44] لكنهم يشعرون بقيمتهم، وبالتالي قومهم يشعرون بقيمتهم، فيحركون العالم كله أمام هؤلاء الذين قتلوا.
لكن بالنسبة للمسلمين ليست المسألة ستة أو ستين أو ستمائة! المسألة بالألوف، أحياناً شعوب تباد بأكملها، ولا أحد يتحرك، دماؤنا رخيصة عند قومنا وعند الأعداء، أما الأعداء فلا يلامون، لكن المشكلة أن دماءنا رخيصة عند أقوامنا، وتأتي قضية إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض أو الأحمر أو الأسود، على اختلاف في الروايات، المهم أن المسلمين دماؤهم رخيصة تسفك.
ولعلكم يومياً تسمعون وجبات من دماء المسلمين، كما نجد الآن من آخر القضايا: قضية كشمير، عندما تقرأ الأخبار -والله الذي لا إله غيره- أننا عندما نقرأ الأخبار؛ نشك في صدقها، مع أنه -أحياناً- الإنسان مقتنع أنها صحيحة، لكن من شدة غرابة الخبر وسكوت أجهزة الإعلام عنه، يقول الإنسان: هل معقول يقتل هؤلاء الآلاف المؤلفة؟ هل معقول تباد قرى بأكملها، -أحياناً- بالقنابل وأحياناً بالأسلحة الكيماوية، ولا أحد يتحرك ولا يلتفت؟
نعم معقول؛ لأن هؤلاء المسلمين أو كثيراً منهم، فقدوا إحساسهم بقيمتهم، ففقد الآخرون الإحساس بهم، وفقدوا الترابط الذي هو نتيجة للشعور بأننا أصحاب هم واحد، كما كان يقول الشاعر أحمد شوقي:
نصحت ونحن مختلفون داراً ولكن كلنا في الهم شرق |
نحن نقول: كلنا في الهم إسلام ومسلمون، فلو كان كل إنسان يحس بمسئوليته عن نفسه حقيقة؛ لأحس بمسؤليته عن إخوانه المسلمين في كل مكان، مصداقاً لقول الله عز وجل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً} وقال أيضاً: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}.
لو سألنا إخواننا الموجودين في المسجد: هل أحد منا يشعر أن له دوراً أو مشاركة في احتلال اليهود لـفلسطين، أو احتلال الروس في أفغانستان، أو في انتشار المنكرات في المجتمع، أو في ضعف الأمة الإسلامية، أو في التخلف العلمي الذي نعيشه، أو في الوضع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه الأمة؟! قد تجد (90%) على الأقل يقول: أنا ليس لي دور! أنا قائم بعملي خير قيام، ليس لي تدخل بالناس: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164] ما دخلنا في اليهود أن يحتلوا فلسطين أو غير فلسطين، مالنا علاقة بالأشياء هذه!! الأكثر من الناس هذه تصوراتهم.
إذاً فقدنا شعورنا بالمسئولية عن الأحداث الكبار، دعك من الأحداث العالمية، مثل قضية سقوط الشيوعية، أو قضية التحالفات الجديدة العالمية، دعك منها، لكن لنبقى في الأحداث الإسلامية، بل دعنا من الأحداث الإسلامية البعيدة، دعنا مع الأحداث الإسلامية القريبة التي تقع في مجتمعنا، أكثرنا يقول: ليس لنا علاقة! من نحن؟ إنسان في آخر المشوار وفي آخر القائمة، نقطة لا وزن لها ولا اعتبار لها. هذا تقديرنا لأنفسنا، وهكذا أصبحنا نعيش سلبية قاتلة تجاه كل ما يحدث قريباً كان أو بعيداً، حتى صح وصدق علينا قول القائل:
ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم الله يعلم أني لم أقل فندا |
إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا |
وأذكر لكم قصة أم نكتة في الواقع، وهي أن أحد العلماء كان عنده خلق كثير من الطلاب، له حلقة يحضرها ألوف، فخشي منه الحاكم أو السلطان، قال: إن هذا العالم له جمهور وله رواد وخاف منه، فـأحضره يوماً من الأيام في قصره وقال: أنا لست مطمئن لهذه الجموع الغفيرة التي تجلس عندك، أنا أخشى منهم. قال: لا تخف من هؤلاء، ليس عندي أحد، قال: كم عندك في الحلقة؟ قال عندي واحد ونصف. فضحك الأمير، أو الحاكم، وقال: أنا حضرت الحلقة ورأيت ألوفاً مؤلفة، قال: أبداً، أصدقك الحديث ليس عندي إلا واحد ونصف. قال كيف؟ قال: سوف أريك الآن، وأخذ بيده وخرج به إلى الشرفة يطلون على الشارع، الناس جاءوا إلى المسجد يريدون الحلقة فما وجدوا الحلقة، سألوا: أين الشيخ؟ قالوا: قد ذهب إلى السلطان -دعاه السلطان-. فكلٌ ذهب إلى حال سبيله، هذا في مكانه، وهذا في مزرعته، وهذا في مدرسته، وبعضهم يركض ركضاً، لا يدري أحد أنه يجلس في هذه الحلقة، والثالث والرابع، المهم لاذوا بالفرار. جاء فلَّاح معه مكتل على كتفه آله الحراثة، فقال: أين الشيخ؟ فقالوا: ذهب إلى السلطان. فلم يلو على شيء، وحالاً ذهب إلى السلطان، فلما وقف عند باب القصر؛ وجد الجنود والحرس والأعوان والشرط والسياط والسيوف، لم يلتفت إليهم بل صار يشق الصفوف شقاً، فقال العالم للحاكم: ترى هذا. قال: نعم. قال: هذا واحد، فقال: أين النصف؟ قال: يأتيك الآن، بعد قليل جاء إنسان فصار يتقدم خطوة، ويتأخر أخرى ويلتفت يمنه، ويلتفت يسره، ويريد أن يدخل ثم يرجع، ثم يريد أن يدخل ثم يرجع، فقال: هذا النصف، لو وجد آخر مثله أخذ بيده ودخل مثل الأول، لكنه لم يجد أحداً، فهو نصف رجل يحتاج إلى رجل ثان حتى يكمله.
إذاً فالأمر كما قال الآخر، وهو يصف مصائب المسلمين، ويتحدث عما نـزل بهم، وهو أحد شعراء الشام، يذكر ما نـزل بالأمة، يقول:
ما لي أرى الصخرة الشماء من كمد تلوي وعهدي بها مرفوعة العنق |
ومنبر المسجد الأقصى يئن أسى قد كان يحدو الدنا من طهره الغدق |
واليوم دنسه فجر ألم به من غدر شعب اليهود الداعر الفسق |
وللعذارى العذارى المسلمات على أعواده رنة الموفى على الغرق |
لو استطاع لألقى نفسه حمماً صوناً لهن ودك الأرض في حنق |
وظلت الكعبة الغراء باكية وغم كل أذانٍ غم في الشنق |
هذه مصائبنا ثم يقول:
كثرٌ ولكن عديد لا اعتداد به جمع ولكن بديد غير متسق |
إذاً المصائب كثيرة بعددنا، لكن نحن مع كثرتنا لا اعتداد بنا، وليس لنا مواقف صحيحة صريحة، ولا قوة ولا شجاعة، ولا شعور بقيمتنا ولا شعور بمسئوليتنا.
وأذكر بهذه المناسبة مثالاً موجوداً عند بعض الشعوب، يقول: إن المشاكل التي نعانيها صنعها من قبلنا، وسوف يحلها من بعدنا أما نحن فأبرياء إذاً فنحن ليس لنا من الأمر شيء، إن المشاكل التي نجدها الآن ونعانيها ونصطلي بنارها صنعتها أجيال سابقة، ولن نحلها نحن، إنما سوف يحلها الجيل اللاحق، أما نحن فأصبحنا بين القوسين ليس لنا من الأمر شيء، ما صنعنا هذه المشكلات، أي لم نعترف بخطئنا في المشاركة، وبالتالي ما اعترفنا بدورنا الملقى على عواتقنا في وجوب حل هذه المشكلات أو المساهمة في حلها.
يقول لي أحد الإخوة من طلاب العلم: عجبت لقد التقيت بأناس كثيرين، حتى من طلاب العلم، بل ربما من العلماء، فما تشتكي إلى أحد منهم منكراً إلا ويقول اذهب إلى فلان، انظر فلان، تكلم مع علان، قولوا كذا أو افعلوا كذا، ويكتفي فقط بالتوجيه، يقول: إلا شخص واحد من خلال تجربتي -هذا رأي الأخ المتحدث- يقول: وهو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ما ذكرت لـه يوماً من الأيام منكراً أو خطأً، فقال لي اذهب إلى فلان أو إلى علان أو ما أشبه ذلك، إنما قال: نفعل -إن شاء الله- نخاطب الولاة نتحدث، ننكر ونبلغ، رجل يشعر بمسئوليته، هكذا تستطيع أن تصفه.
أرأيتم لو أننا قاطعنا المنكرات، ما الذي يحدث؟ سوف تكسد أسواقها، مثلاً شريط سيئ أو أغنية أو مجلة أو كتاب، أي بضاعة محرمة لو قاطعناها فمن يشتريها؟! لا أقول سوف تنقطع عن هذه البلاد، بل سوف تتوقف عن الصدور، فإن كثيراً من المجلات والكتب وغيرها، تجد في أسواق هذه البلاد من الرواج والانتشار ما لا تجده في أي بلد آخر، فلو أن كل واحد منا قاطع هذه الأشياء -مجرد حل سلبي ومشاركة سلبية- لانتهت هذه المنكرات وزالت.
مثلاً بنوك الربا، لو أن كل واحد منا لا يتعاطى الربا ولا يودع أمواله، ولا يأخذ الفوائد لانتهت.
لكن أنا وأنت والثاني والثالث، نقول حرام ونأخذه، وبالتالي أصبحنا نأمر بأيدينا وبأموالنا وبجهودنا، هذه المنكرات التي نتحدث عنها، ونقول: إنها منكرات.
قضية ثانية: عندما ترى منكراً ما دورك فيه؟ تقول: ليس لي دور، ليس هناك أحد ليس له دور، أضرب مثلاً بسيطاً: قبل شهر فتحت صندوق البريد، فوجدت فيه رسالة، فتحت هذه الرسالة، فإذا فيها خطاب من شاب مجهول لا أعرفه، قد يكون شاباً أو شيخاً أو غير ذلك، المهم من رجل مجهول، يقول لي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، يصلك مع هذا الخطاب قصاصة من جريدة كذا، وفيها إعلان عن حفل غنائي سوف يقام في بلد كذا، في يوم كذا، وهو حفل مختلط كما يدل عليه الإعلان، أرجو أن تقوموا بما تستطيعون في هذا المجال، ووجدته أرفق مع الخطاب قصاصة من إحدى جرائدنا المحلية فيها إعلان -فعلاً- عن حفل غنائي يقام بعد عيد الفطر المبارك، وحفل مختلط للرجال والنساء، يحييه الفنان المحبوب فلان، والفنان الموهوب علان، وللحجز والاستفسار اتصلوا بوكالة كذا، تليفون كذا.
أتوقع أن هذا الشاب كتب عدة رسائل لعدة أشخاص، فقام بدوره، فلما وضع أمامي القضية وجدت أن الأمر سهل لا يتطلب مني أنا -أيضاً- إلا أن أتصل بالهاتف على هذه الوكالة من باب المناصحة والمحبة في الله، فاتصلت، فقالوا لي: إن هذا قد ألغي وكتبنا في الجريدة نفسها اعتذاراً، وكان خطأً وقعنا فيه، وبلغنا الجهات المختصة بطريقة الوقوع في الخطأ، حتى لا يقع فيه غيرنا، وكان ذلك بفضل الله ثم بفضل تدخل الطيبين والصالحين وطلاب العلم، وكذا وكذا وكذا، وإن شاء الله نعدكم أنه لن يتكرر، هذا جيد، هذا حسن، إذاً ألغي هذا المنكر بسبب خطوة كالتي حدثت.
مثال آخر: في يوم من الأيام أعلن في أحد الجمعيات، يسمونها جمعيات الثقافة، من باب تسميه الشيء بضده، فأُعلن في إحدى هذه الجمعيات؛ أنه سوف تقام دورة للتدريب على الموسيقى للصغار من سن 13 - 18 سنة، فأحد الصالحين صور الخبر الذي فيه هذا، وكتب رقم تليفون الجمعيةـ حتى يتصل بهم ويناصحهم من يحب أن يقول لهم الكلمة الطيبة، وأرسلها إلى فلان وعلان من الناس الذين يعتقد أنه سوف يكون لهم تأثيراً، وفعلاً كان لهذه القضية تأثير، حتى لو لم يترتب عليها إلغاء مثل هذه الدورة، سيترتب عليها في المرة الثانية أن يحسب الإنسان ألف حساب لمثل هذا العمل، الذي يواجه به المجتمع، ويقوم فيه بأمر لا ينفعنا في دنيا ولا في دين.
إذاً ممكن أن تغير منكراً ما، بالخطاب، بالهاتف، بالكلمة الطيبة، بالنصيحة، بالمراسلة بأي شيء، وأضعف الإيمان المقاطعة، فلا تفعل المنكرات، ولا تجلس في المكان الذي يفعل فيه المنكر، ولا تساهم فيه بشكل من الأشكال، هذا أضعف الإيمان.
هذا تحدٍ كبير، لكن من أين نجمع هذه الأموال؟ تجد كل إنسان يقول: ليس لي دور، المسئول فلان ويشير إلى ثري من الأثرياء، لماذا ليس لك دور؟! لو رجعنا إلى الرقم الذي رددناه مراراً ألف مليون، نريد من كل واحد أن يعطينا ريالاً واحداً فقط، هل أحد لا يستطيع؟ والله نعطي أطفالنا أحياناً عشرة ريالات، ومائة ريال، وألف ريال، ونشتري لهم ألعاب بأغلى الأثمان، إذاً نريد ريالاً واحداً، معناه أننا بحملة تبرعات واحدة سنجمع ألف مليون ريال، كل واحد لن يعطينا إلا ريالاً واحداً.
إذاً القضية الأساسية: هي فقدان كثير من المسلمين الشعور بذاتهم وبقيمتهم وبدورهم ومسئوليتهم، وبالتالي تعطلت كثير من الأعمال، وأصبح من الصعب تحديد المسئول عنها، ولذلك أقول: إن الخلاصة من هذه النقطة السابقة؛ أننا نعمل قدر المستطاع على سبيل الحيلة -حيلة نفسية- أن نتخلص من المسئولية؛ لنلقي بها على الآخرين. قد ندرك -أحياناً- أننا مسئولون، لكن من باب الخداع -خداع النفس- نحاول أن نتخلص من المسئولية بأي شكل؛ لنلقي بها على فلان أو على علان.
فإذا نظرنا إلى المصائب التي تنـزل بالأمة، نكبات، احتلال البلاد، تدمير، مشاكل تخلف، كل هذا بقضاء الله تعالى وقدره، وربما يذهب بعضنا إلى أن يستدل بالأحاديث الواردة في آخر الزمان، وما ينـزل بالمسلمين والفتن وغربة الإسلام وما إلى ذلك.
إن القضاء والقدر لم يمنع الكفار من أن يتقدموا، بعد أن بذلوا الأسباب واستفرغوا الإمكانيات ومشوا في الطريق، لم يمنعهم القضاء والقدر من أن يتقدموا، ويمشوا خطوات، والإنسان هو الذي يصنع واقعه بنفسه، والقضاء والقدر غيب مكتوم لا يعلمه إلا الله عز وجل، فهو سر لا يعلمه الإنسان المتخلف والمتأخر والمقصر، لم يعلم أن هذا قدره حتى نفذه، إنما عمله بنفسه، ثم بعدما وقع ما وقع احتج بالقدر، مثل ذلك تماماً: الاحتجاج بالقضاء والقدر على المعايب وعلى المعاصي، فإذا كان الإنسان عاصي فاسق، هو بنفسه يخطو خطوات إلى الرذيلة، ويمد يده إلى الحرام، ويفتح فمه للقمة الحرام، ويلبس الحرام، ويركب الحرام، ومع ذلك إذا سئل لماذا؟ يقول: قضاء وقدر. يا سبحان الله! قضاء وقدر! هذا شأن المشركين، كما قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148] وقال: وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20] وقال أيضاً: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يس:47] أربعة مواضع في القرآن الكريم، ذكر الله تبارك وتعالى فيها أن الاحتجاج بالقضاء والقدر على المعايب والمعاصي، إنما هو شأن الكفار والمشركين.
أما المؤمن فيعلم أن القضاء والقدر واقع، وأن كل شيء بقضاء وقدر، لكن يجعل المسئولية مسئولية نفسه، كما قال أبونا آدم عليه الصلاة والسلام، عندما وقع في المعصية وأكل من الشجرة، لم يقل -هو ولا حواء- قضاء وقدر بل قال الله عنهم: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] ولذلك يقول بعض أهل العلم: من وقع في معصية فاحتج بالقضاء والقدر، ففيه شبه من إبليس، لأن إبليس لما رفض السجود احتج بالقدر، ومن وقع في المعصية فاستغفر وقال رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا [الأعراف:23] ففيه شبه من أبيه آدم ومن يشابه أباه فما ظلم.
إذاً ليس صحيحاً أن يخطئ الإنسان ويحتج بالقدر، أو يقعد عن العمل ويحتج بالقدر، بل الواقع أن القدر غيب من غيب الله تعالى لا يعلمه إلا الله، والإنسان مطالب بأن يعمل ما ينفعه في عاجله وآجله في دنياه وآخرته، على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة.
الأمر الثاني الذي نعلق عليه أخطاءنا هو: الشيطان. والشيطان مسلط على بني آدم لا شك في ذلك، وقد نهانا الله تعالى عن أن نتخذه وليا، وأمرنا أن نعاديه فقال: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6] لكن -أيضاً- الشيطان لم يكن ليبلغ فينا ما بلغ؛ لولا أنه وجد عندنا قابلية، أي أن جرثومة الفسق والانحلال والطاعة للشيطان كانت موجودة في نفوسنا، فلما نفث الشيطان وأرسل أشعته المفسدة المضلة؛ وجدت قابلية وامتصاص في قلوبنا، وبالتالي أفرزت وأثمرت انحرافاً وانحلالاً، قال الله عز وجل: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:100] إذاً الشيطان لم يكن ليحقق فينا ما يريد، لولا أنه وجد عندنا استجابة، ولذلك الشيطان يوم القيامة يقوم خطيباً في أتباعه، قال تعالى: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22] انظر، الأمور يوم القيامة برحت وانكشفت وبانت، ولم يعد هناك مجال للتلاعب والتحايل واللف والدوران، أصبحت القضية مكشوفة وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22].
إذاً الذي يحتج بكيد الشيطان قد أصاب من جانب فالشيطان يكيد، لكنه غفل عن الجانب الآخر؛ وهو أن القابلية لهذا الكيد موجودة عنده تماماً، مثل الجراثيم التي تنتشر -أحياناً- في الهواء، هذا إنسان قد أخذ تطعيم ضد هذا المرض فلا يضره ولا يؤثر فيه، ولكن إنسان آخر جسمه ضعيف هزيل أصلاً، فوجد قابلية وبالتالي فعلت الجراثيم فعلها فيه، وقد تكون أمرضته أو أردته صريعاً ميتاً.
وهو ما يمكن أن نسميه بالزمان، كثيراً ما نتكلم عن الزمن والحال وتغير الزمن، وننسى أن الشمس التي تطلع علينا هي الشمس التي طلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وأن القمر الذي يطل علينا هو الذي كان يطل عليهم، وأن الأرض التي نسكنها هي التي سكنوها، والسماء التي تظلنا هي التي أظلتهم، فالأمور لم يتغير منها شيء، والكون هو الكون، والحياة هي الحياة والأجرام السماوية هي هي، والزمان هو هو، والليل والنهار هما هما، والأمر كما كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول:
نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا |
و قد نهجو الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان بنا هجانا |
وليس الذئب يأكل لحم ذئب و يأكل بعضنا بعضاً عيانا |
نعيب زماننا والعيب فينا، ما هو الزمان؟ الزمان ليس له حقيقة إلا من خلال وجود إنسان يمر به الوقت، فيستخدمه في طاعة أو في معصية، في خير أو في شر، في صلاح أو في فساد، ولذلك تلاحظون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، كما في الحديث القدسي، في الصحيحين، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار -وفي رواية- لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر} وليس المقصود أن الدهر اسم من أسماء الله تعالى، كلا؛ وإنما بيَّن صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: فيما يرويه عن ربه عز وجل: {بيدي الأمر أقلب الليل والنهار} أي: الدهر إنما هو مخلوق لله عز وجل، فإنه يمر على الناس ويتقلب عليهم بإرادة الله سبحانه وتعالى، والناس يجعلون في هذا الدهر ويملئونه بما شاءوا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، كما قال صلى الله عليه وسلم: {فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه}.
وهذا كثيراً ما نتكلم عنه، فإذا كان هناك من يفعل عادة سيئة، كبيرة أو صغيرة، افترض أنه يدخن -مثلاً- لماذا؟ يقول: هذه عادة أخذناها من الوالد أو عن الزملاء أو عن الجيران، عادة تلقيناها. وأصبح الواحد منا كأنه مجبور لا خيار له أمام هذه العادات المنتشرة، وكأن الإنسان حينئذٍ ليس له شخصية، ولا اختيار ولا رأي إنما هو إنسان يسمع ما يقوله له المجتمع وينفذ، وكأنه مرآة ينعكس عليها ما يقع في حال الناس.
وهذا -أيضاً- غير صحيح، بل نحن شاركنا في صنع هذه العادات من جهة وأوجدناها، ومن جهة أخرى استأثرناها وقبلناها. كان هناك خطيب يتكلم على المنابر، وفي يوم من الأيام -على سبيل المثال- تكلم على قضية غلاء المهور، وكثيراً ما ينصح الناس، ويؤكد عليهم ويلومهم ويعاتبهم ويسوق النصوص، وكان عنده بنت فجاء رجل يخطبها، فطلب منه مهراً كبيراً، فقال له: أنت أمس كنت تتكلم عن الموضوع هذا. قال: وهل تريد أن تكون بنتي أقل من بنات الناس؟! أين الذي كنت تقوله لنا بالأمس؟! يقول: هذه عادات الناس وهذا المجتمع، إذا غير الناس أنا أغير!!
إذاً من يعلق الجرس من يبدأ بالتغيير؟ هنا أصبحنا ندور -كما يقال- في حلقة مفرغة، ونستأثر بالعادات والظروف الاجتماعية والأوضاع القائمة، وكأننا نعيش في جبرية لا مفر لنا منها.
وحتى في الأمور الأخرى على مستوى أوسع، عندما ننظر -مثلاً- إلى قضية الاتجاهات العلمية، الأمة بحاجة إلى علماء، إلى أطباء إلى مهندسين إلى مخترعين ومبتكرين واقتصاديين، يحملون هم الإسلام قبل ذلك وبعده، كثير من الناس لا يهتمون بهذه القضايا ولا يكترثون لها؛ لأنهم استوفوا اتجاهاتهم من خلال نظرة المجتمع. ومن خلال واقع الناس، وغفلوا عن الأمر الآخر، حتى أنك قد تجده -أحياناً- متخصصاً ناجحاً في تخصصه، فيدع هذا التخصص ويتجه ليعمل عملاً يمكن أن يقوم به عشرون إنسان غيره، وهو يحمل تخصصاً نادراً لم يهتم به؛ لأن المجتمع لم يكترث لهذا الأمر ولم يلتفت له.
فكثير من الناس يحتج بأن هذه طبيعة، أبي كان كذا وجدي كان كذا، وأنا أعترف أن هذا له رصيد من الواقع أحياناً، أقرب مثال: قضية الوسواس، الوسواس من أسبابه -أحياناً- أسباب وراثية، فتجده قد يكون في الجد فينتقل إلى الأب ثم الابن بصورة أو بأخرى، هذا قد يحدث، لكن -أيضاً- ليس صحيحاً أن الإنسان مجبور على ما هو مجبول عليه، أو على ما ورثه عن آبائه وأجداده، بل إن التهذيب وارد وممكن، ولذلك تجد الشرع أمر بأخلاق معينة، ونهى عن أخلاق معينة، وتجد أن التربية يمكن أن تصوغ الإنسان صياغة جديدة، وتغير مجرى حياته، وتبدل بعض الأخلاق الموجودة عنده، وتجدد فيه أخلاقاً أخرى حميدة، فليس صحيحاً أن الإنسان يقع أمام جبرية حتمية إلزامية، لا مفر منها، تجاه ما كسبه من آبائه وأجداده أو تجاه الطبائع الموروثة.
وإضافة إلى أن كل طبيعة أو جبلة فيها إيجابيات، أنت قد تكون ورثت عيوباً -مثلاً- عن أبيك وجدك، تقول -مثلاً- من طبيعتنا أن عندنا جبن وخوف، هذا لا نريده لكنه طبيعة. لكن آباؤك وأجدادك عندهم كرم وأريحية وشهامة، فلماذا حاولت ألا تقلدهم في هذه الخصال الحميدة، فبرزت عندك الخصال الذميمة، واختفت عندك الخصال الحميدة؟!
أحد المستشرقين الخبثاء اسمه "جيب" له دراسات عن المسلمين والأمة الإسلامية، فيحاول هذا الخبيث أن يوحي للمسلمين؛ بأن المسلمين يعيشون نوعاً من التخلف العقلي الموروث، يقول: طبيعة الشعوب الإسلامية فيها ضعف، وعدم قدرة على التخطيط، وليس عندها بعد نظر. وهذا أمر في غاية الخطورة؛ لأنه يريد أن يلقي للمسلمين بإيحاء مؤداه: لا تحاولوا، أنتم مخلوقون هكذا وإلا فهذا الأمر منقوض علمياً وتاريخياً.
لو أتيت بمخ من يسمونه "آنشتاين" صاحب نظرية النسبية، ومخ أي إنسان من المسلمين أو من غير المسلمين، قد لا تجد هناك فرقاً كبيراً، ولا تجد أن هناك شعوباً تتميز بذكاء عن غيرها من الشعوب، بل الأمر مشاع بين الخلق كلهم، أما من الناحية التاريخية: فالحضارة يوماً من الأيام كانت هنا، والتقدم العلمي كان هنا، والأسماء اللامعة في مجالات الاختراع والطب وغيرها كانت من الأسماء الإسلامية، وقد قام المسلمون بدورهم في بناء وتشييد العلم والتقدم والحضارة بما هو معروف، ولا زالت أوروبا تعيش على المناهج العلمية التجريبية الإسلامية.
فنحن قدنا البشرية يوماً من الأيام، وملكنا أقاليم البلاد، وأذعنت لنا الدنيا، وأثبتنا الجدارة في هذا الأمر، وجُربنا فنجحنا، وليست القضية كما يزعم "جيب" أو غيره من أعداء الإسلام.
فإذا رأينا ما رأينا، قلنا: أهل العلم، أو فلان ابن فلان، وقد يستشهد بعضنا بالحديث الذي رواه أبو نعيم عن ابن عباس: {صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء} فالأمر السابع هو العلماء، تجد أننا نحمل المسئولية العلماء، وكلما حصل شيء قالوا: فلان الله يهديه، فلان لم يقم بدوره، وفلان لم يؤد واجبه، وأحياناً نعمم فنقول: إن العلماء لم يقوموا بدورهم ولم يؤدوا واجبهم، ولست أنكر أن العلماء لهم دور أكثر من غيرهم، وهم رواد الأمه وقوادها وزعماؤها، الذين يجب أن تكون الأمة كلها وراءهم، لكن يجب أن نتفطن هنا إلى القضية الخطيرة؛ قضية دورنا نحن كأفراد، العالم لا يقوم بدوره إلا إذا كان وراءه أفراد كثيرون مثلنا، وكما كان يقول الفارس العربي:
ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرتِ |
لو أن خلفي رجال أقوياء شجعان صناديد؛ لرأيتم كيف تكون بسالتي وشجاعتي ونكايتي في العدو، لكن خلفي أناس أعرف أنهم أول من ينهزم في المعركة، وأول من يهرب، ولذلك تأخرت الرماح فتأخرت أنا،
ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرتِ |
والمشكلة أن العالم -أحياناً- يكون كقائد بلا جنود، كما ورد في الحديث: {يا ويله من مسعر حرب لو كان معه رجال} أنت لو وضعت هذا الحب في أرض مبلطة هل تنتظر أن يثمر؟! لا، الحب قابل لأن ينبت الشجر، لكن بشروط: أن يوضع في تربة، ويسقى الماء، ويتعهد ويحمى من المؤثرات حتى يثمر، فالعالم بحد ذاته ممكن أن يحدث حركة ونشاط وعلم وأمر ونهي وتغيير، لكن بشرط: توفر وسائل وإمكانيات أخرى، بشرط: أن يكون وراءه أناس يعرفون قدره ويحفظونه، أما أن ننتظر من العالم أن يؤدي دوره، ونحن ممن يساهم في إسقاطه صباح مساء فهذا غير صحيح، كثير منا، خاصة أهل السنة -مع الأسف- أصبحنا من حيث نعي أولا نعي نقلل من أهمية العلماء، فإذا جلسنا قلنا: فلان من العلماء له أرض كذا وله مؤسسة في كذا، وعنده من الأموال كذا وراتبه كذا، وإذا كان ذلك كذلك، هل ما هو حلال لغيره أصبح حراماً عليه هو؟! من حق العالم أن يستغني، وأن يطلب الدنيا والرزق بما أباح الله تعالى له، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، كما ذكر الله تعالى: يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ [الفرقان:7] وهكذا سائر الأنبياء والمرسلين، وكفى العالم فخراً أنه يستغني عن الحرام، ويذهب إلى الحلال المباح الذي أحله الله تبارك وتعالى، ومطلوب منا جميعاً أن نساهم في تحريك اقتصاد الأمة الإسلامية، بأن يكون لكل فرد منا دور.
وإذا لم نجد للعالم شيئاً، وجدنا هذا العالم زاهداً في الدنيا ليس عنده شيء أبداً، أعرف بعض أهل العلم يعيشون في بيوت من الطين، لا يستطيع الواحد منا أن يجلس فيها ساعة أو ساعتين، ركضوا الدنيا بأقدامهم وجعلوها وراء ظهورهم، ومع ذلك ما يسلم منا هذا العالم، فإذا لم نجد عليه عيباً نذهب نبحث ونبحث، ونقول: أولاده غير صالحين ابنه فلان في كذا، وابنه فلان في كذا، يا سبحان الله! هذا إن كان صحيحاً فإنه:
أولاً: كما قال تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الزمر:7] وقال: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].
ثانياً: قد يكون من أسباب ما يقع فيه ولده؛ أن هذا العالم كان مشغولاً بما هو أكبر وأهم، كان يحمل قضية الأمة والمجتمع، فهو يذهب ويأتي آمراً ناهياً داعياً معلماً مرشداً مؤلفاً باحثاً، ولذلك انشغل عن القيام بتربية أولاده، أو قصر في ذلك بسبب انشغاله بما هو أهم، من باب الموازنة بين المصالح والمفاسد. أحياناً تجد طالب العلم ينال من العالم، فإذا خيل إليه أنه طالب وأصبح يعرف شيئاً من العلم، أصبح لا يجد مانعاً من أن ينال من أهل العلم، فيقول: فلان أخطأ في كذا. وفلان كذا، وإذا وجد أحداً ينقل فتوى عالم من العلماء قال: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] فنحن جميعاً نساهم في تقليص دور العالم وتأخيره، وبالتالي نقول: لم يؤدِ العالم دوره، العالم يجب أن يقول حينئذٍ:
ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرتِ< |
فنحن نقول: لا شك أن السلطان له دور كبير، ومن أهم أدوار السلاطين: اختيار المسئولين الأكفاء وتوليتهم الأعمال، الرجل المناسب في المكان المناسب وهذه أهمية كبيرة، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري:}إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قالوا: وما أضاعتها؟ قال صلى الله عليه وسلم: إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة}.
فأعظم دور للسلاطين والحكام، هو اختيار المسئولين الأكفاء، ووضعهم في المكان المناسب أولاً، ثم محاسبتهم كما كان يفعل عمر، كان يرسل الرسل للناس ويقول: [[إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن بعثتهم إليكم ليعلموكم دينكم، وليقسموا فيكم فيئكم]] يقسموا بينكم الأموال ويعلمونكم الدين، ومن الملاحظ أن هناك تناسباً ظاهراً بين وضع الحكام والمسئولين وبين وضع الناس، يقول بعض أهل العلم وبعض المؤرخين: لما ولي أبو بكر رضي الله عنه، كان أبو بكر رجلاً متواضعاً خاشعاً ذليلاً لله تعالى، كان يلبس أبسط الثياب، ففعل الناس مثل فعله، وفد عليه الملوك من اليمن ومن أنحاء الدنيا، والأمراء -أمراء القبائل- وغيرها، وكانوا يلبسون التيجان والثياب الفاخرة، فلما رأوا أبا بكر رضي الله عنه خلعوا تيجانهم وثيابهم، حتى نقل أن "ذا الكلاع"، وهو ملك من ملوك حمير، لما رأى أبا بكر وتواضعه وزهده ولباسه؛ خلع ملابسه ولبس لباساً عادياً جداً، حتى إنه تواضع وتذلل وكان يوماً من الأيام يمشي في الشارع، "ذو الكلاع" وعلى ظهره جلد شاة، فلما رآه قومه قالوا: فضحتنا يا فلان، أنت سيدنا ورئيسنا بين المهاجرين والأنصار تحمل جلد شاة على ظهرك؟ فقال لهم: والله لقد رأيت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرى أنه يسعني أن أسلك غير مسلك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما دام خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في السوق، ويحمل بضاعته بنفسه، ومتاعه بنفسه، فأنا مثله سواءً بسواء.
ومثل ذلك الأشعث بن قيس، وغيره من الكبار الذين قد تعودوا على الأبهة والفخامة والملابس الفاخرة وغيرها، والرياش والأموال والعبيد والخدم والحشم، لما وجدوا أبا بكر رضي الله عنه كذلك سلكوا نفس السيرة والمسلك، فهناك تناسب. ولما جاء عثمان رضي الله عنه وأرضاه، كان رجلاً فيه سماحة وجود وكرم وسخاء، والله تعالى فتح على المسلمين الأرض والأموال، فكان يعطي الناس من الأموال، ويوسع عليهم ويقسم بينهم، حتى يعطيهم اللحم وهم في بيوتهم والأطعمة والملابس وغيرها.
وبالتالي تجد المجتمع على نفس النمط، فأصبح الصحابة رضي الله عنهم يتوسعون توسعاً مباحاً، بل محموداً في بعض الجوانب في الدنيا، فبنوا القصور والدور والمساكن وغيرها، كما فعل الزبير رضي عنه فيالكوفة، وفي البصرة، وفي الشام، وفي مصر، وفي المدينة وغيرهم، كـطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وهكذا، حتى أن كثيراً منهم من خيرة أصحاب النبي عليه السلام، ومن العشرة المبشرين بالجنة فعلوا ذلك ولا حرج، بل هذا مسلك حسن من بعض الوجوه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {نعم المال الصالح للرجل الصالح} وكما قال صلى الله عليه وسلم: {إن الله جميل يحب الجمال} وقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده} فهذا مسلك حسن من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي كلٍّ خير.
و لما تولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاءه رجل، فقال: يا أبا الحسن، الناس اجتمعوا على أبي بكر، وتوحدت كلمتهم عليه، لكن لما وليت أنت اختلف الناس عليك وحصل ما حصل، قال له علي بن أبي طالب: أتدري لماذا؟ قال: لا. فالرجل يريد أن يحمل المسئولية علي بن أبي طالب، لكن علي بن أبي طالب، كان فقيهاً في سنن الله تعالى، ولذلك قال علي بن أبي طالب لهذا الرجل: لأن أبا بكر رضي الله عنه كان يحكم مثلي، أما أنا فصرت أحكم مثلك. وبالتالي هناك تناسب بين الراعي والرعية من وجوه عديدة وهذا أمر مطرد.
ولذلك يقولون في أمراء بني أمية، لما تولى هشام بن عبد الملك أو غيره، هشام كان رجلاً بخيلاً ممسكاً للمال، وبالتالي الناس بخلوا لما تولى، وصار هناك شحٌ في الأموال وفي الإمكانيات وفي وظائف الجند وفي غيرها، حتى قيل: إنه لم يمر بالناس عهد ولا عصر أشد عليهم ولا أنكى من عهد هشام، لأنه أمسك الأموال وقلَّت في عصره، فأمسك الناس ما بأيديهم تناسباً مع حاله ووضعه.
ولما تولى حاكم آخر كـعبد الملك وكان قبله، وكان يحب الشعر، كثر الشعر في عصره والشعراء، مثل جرير والفرزدق والأخطل، وكان الرجل -أيضاً- عنده إسراع في الدماء وفي القتل، ولذلك سخر له من الأعوان من يكونون على شاكلته في أكثر البلدان، ولعل من أشهرهم: الحجاج بن يوسف، وكذلك أخوه محمد بن يوسف في اليمن، وغيرهم من أمراء الجور الذين كانوا يبطشون بالناس ويسفكون الدماء. فهناك تناسب، هذا صحيح، لكن هل التناسب. بسبب أن الحاكم من الرعية أو بسبب تأثير الحاكم على الرعية؟ كلاهما موجود وكلاهما واقع، فالحاكم هو واحد من أفراد الناس يوماً من الأيام، مثله مثل أي واحد منهم، هذا من جهة. ومن جهة أخرى: لا شك أن له تأثيراً أكبر من أي إنسان، هذا لا أعتقد أنه موضع خلاف.
لكن ينبغي أن تدرك؛ أنه حتى حين نتصور أن هناك حاكماً في أي بلد، أو سلطاناً استبد بالناس وأفقد الناس قيمتهم وجعلهم أصفاراً، فإن هذا الأمر يرجع إليهم هم، بمنظار الشارع، يقول الله عز وجل في القرآن الكريم -هكذا قاعدة يرسيها الله تبارك وتعالى-: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:12] نولي بعض الظالمين بعضاً، أي نجعلهم أولياء، فحين كان الناس من أمثال قارون وهامان وأمثالهم، سلط الله عليهم فرعون ويوم كان الناس مثل عمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وسعد؛ قيض الله لهم مثل أبي بكر. ولما فسد أمر الناس شد أمر ولاتهم، فالأمر فيه تناسب. ولذلك يقول بعضهم: إن الله تعالى قيض لـعمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة من أمثال رجاء بن حيوة وغيرة من الأتقياء العباد الزهاد العلماء الفقهاء، وكذلك قيض لـعبد الملك بن مروان وأمثاله، الحجاج بن يوسف وأمثاله من الفساق الضلال الظلَّام.
وهكذا تأتي القضية نولي بعض الظالمين بعضاً، يقول الله تعالى: عن فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ [الزخرف:54] ما كان ليستطيع أن يقف خطيباً. ويقول للناس أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] وقال: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي القصص:38] ما كان ليفعل ذلك؛ لولا أنه عرف أن أمامه أناساً لا قيمة لهم، ولا يمكن أن يردوا عليه، ولا يقاوموا ظلمه أو بطشه أو بأسه أو عناده، بل هم يؤمَّنون على ما يقول، خطأً كان أم صواباً حقاً كان أم باطلاً، ولذلك أصبح يقول ما يقول، دون أن يتوقع من أحد أن ينكر عليه أو يرد عليه ما قال. فهناك تناسب واضح، وما يقع من هؤلاء؛ فإنما هو بسبب أن الناس فقدوا شعورهم بقيمتهم كأفراد، فقدوا شعورهم بمسئوليتهم، فتسلط عليهم هؤلاء.
وهذا أمر الكلام فيه يطول، لكنني لا أريد أن أطيل فيه، لأننا كثيراً ما نرتاح ونستأنس حين نتكلم عن الكيد الخارجي، لأننا أصبحنا أبرياء! لماذا؟! لأن اليهود هم الذين فعلوا وخططوا، حكماء صهيون، والماسونية، والشيوعية، والنصارى، والمشركون..و.. إلخ، المهم أصبح أمامنا ألوف مؤلفة من الأمم والأديان والنظريات والمذاهب والجمعيات السرية والمخططات، أصبحنا نلقي عليها كل أخطائنا.
وهذا مهرب نفسي واضح، ولذلك تجد أن الناس يكثرون من الحديث عنه، ويرتاحون لذلك أشد الراحة، حتى أنك تجد الأمة على مستواها العام تلقي بالمسئولية على من ذكرت، لكن حين تنتقل إلى الخاصة من الأمة؛ وهم الدعاة إلى الله عز وجل، في كثير من البلاد تجد الدعاة يلقون بالمسئولية عن الأشياء التي وقعت لهم، لا يقولون نحن المسئولون، بل يقولون: المسئولون هم الحكام في تلك البلاد.
مثلاً: حاكم بطش بالدعوة في بلد ما، واضطهد وعذب وآذى وقتل وعلق على أعواد المشانق، وهذا حدث في بلاد عديدة قلما تجد داعية يقوم ليقول: نحن المسئولون ويحلل الموضوع؛ ليخرج بنتيجة أن هناك أخطاءً في طريقة الدعوة وفي سلوك الدعاة وفي أساليبهم؛ أثمرت هذا الاضطهاد.
بل يكتفي أن يقول: هذا هو فعل الحاكم، هو الذي اضطهد وآذى المسلمين، واعتدى عليهم، وانتهت القضية، وأن الحاكم هو المسئول، وخرج الدعاة أبرياء من كل مسئولية، ومعهم الأمة كذلك تقول: اليهود والنصارى هم الذين خططوا وفعلوا، وأوصلوا الأمة إلى ما وصلت إليه، أما الأمة فهي أمة بريئة لم تفعل شيئاً تعاب به.
وهنا نقول: -كما قلنا سابقاً- نرجع المسؤلية إلينا نحن، يقول الله عز وجل، بعد أن ذكر كيد المشركين قال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120] لم يكن كيد الأعداء ليبلغ ما بلغ، لو كنا أهل صبر وتقوى وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120] فالله تبارك وتعالى يدافع عن الذين آمنوا، ويحميهم ويحفظهم من كيد أعدائهم. وإنما الأمر كما قال أحد المفكرين الغربيين قال: إن الأسباب الحقيقية لكل انحطاط هي أسباب داخلية وليست خارجية، وليس علينا أن نلوم العواصف إذا أسقطت شجرة نخرة لكن علينا أن نلوم الشجرة نفسها. هذه شجرة تتمايل وآيلة للسقوط، فجاءت عاصفة فأسقطتها وجثتها، ليس المسئول عن ذلك العاصفة، إنما الشجرة كانت مهيأة لهذا الأمر.
ولذلك لم يكن أحد أكثر مشاورة من الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، مع أنه معصوم ومؤيد بالوحي من السماء، لكن ليعلم الناس أن من أهم وسائل إشعار الناس بقيمتهم؛ أن نشاورهم، ولذلك لا شيء يفقد قيمة الفرد مثل الاستبداد، إذا كان إنسان مفروض عليه كل شيء، حتى الثياب التي يلبسها، وحتى المدرسة التي يدخلها، والعمل الذي يقوم به، والكتاب الذي يقرؤه، والشريط الذي يسمعه، وكل شيء مفروض عليه وليس له فيه خيار، هنا يفقد الشخص قيمته كإنسان، ويصبح مجرد آلة.
المشكلة -أحياناً- أننا نخلط بين قضية السمع والطاعة، أو نجعل السمع والطاعة بديلاً عن تحميل الناس المسئولية، أنت في عمل معين، أستاذ أو مشرف في مركز صيفي، أو حلقة تعليم، أو في حلقة تحفيظ قرآن، أب في البيت -كما أسلفت- أي صورة من الصور، فرق بين أن يكون هم ك أن تعود من أمامك السمع والطاعة، لأن كثيراً من الناس يطيب له ويلذ له؛ أن يكون سيداً زعيماً إذا أشار قال الناس سمعاً وطاعة، يعجبه ذلك ويرتاح لهذا، لكن لا ينبغي أن ننساق مع هذا الأمر الذي نحبه.
ينبغي أن ندرك أنه يجب أن نربي أناس يكون لهم مشاركة حقيقية في تحمل المسئولية، هذا له كذا وهذا له كذا، ولذلك بعض العقلاء الفاهمين المدركين لأمور الإدارة؛ تجده إذا كان عنده عمل يوزعه بين مجموعة من الأفراد، أنت عندك كذا وأنت عندك كذا، وبالتالي هو مجرد مشرف يتابع ما حدث، مثلاً رحلة يريد أن يخرج بها مجموعة، بدلاً من أن يكون هو كل شيء من الألف إلى الياء، هو الذي يعد البرامج الثقافية والفنية، وهو الذي يأتي بالأطعمة، وهو الذي يأتي بالأواني، وهو الذي منه السيارة، وهو الذي يحدد المكان، وهو الذي يحدد الزمان، بل اجعل كل إنسان له دور، وهو له دور آخر يمكن يكون مع هؤلاء جميعاً. فكل إنسان له جزء من المسئولية يتحملها.
وبالتالي برزت شخصيته، أصبح إنساناً يشعر بقيمته، وليس مجرد شجرة صغيرة نبتت في الظل، ليس فيها قوة ولا نماء ولا خضرة. هذا لا يصح.
مما يتعلق بموضوع تحمل المسئولية والمشاركة في ذلك، في نفس مثال: موضوع التعليم، الآن في كثير من الأحيان تجد التعليم يعتمد على أن واحد يتكلم والباقون يستمعون ويسجلون، حتى في الجامعات وغيرها، أو أستاذ يلقي والطلاب يكتبون. وفي النهاية يختبرون. إذاً لم يعد للطالب دورٌ ولم يعد له مسئولية، لكن عند السلف على الأقل كان الطالب يحفظ ويقرأ، وبالتالي له دور في التعليم، يشارك في العملية، يتحمل قسطاً من المسئولية، فضلاً عن قضية إعداد البحوث، فضلاً عن التدريس -أحياناً- حتى الطالب يشارك في التدريس، كما كانوا يسمونه عند السلف معيداً؛ لأنه يلقي الدرس بالنيابة عن الشيخ، فيكون هناك مشاركة في تحمل المسئولية.
كثير من الأحيان، الإنسان يستطيع أن يعمل أشياء كثيرة، لكن يمنعه الخوف من الفشل.
مثال: تريد أن تتكلف أمام مجموعة من الناس نصيحة كلمة توجيهية، أول أمر يخطر بالبال هو أنه يمكن أن تفشل، عندما تقف تغلق الأبواب في وجهك فلا تستطيع أن تتكلم في شيء، يرتج عليك، أو تقول كلاماً خطأً أو ترتبك، إذاً خوف الفشل يدعوك إلى الإحجام، قل مثل ذلك أي عمل، علم دعوة تجارة، تجد الإنسان يمنعه الخوف من الفشل من الإقدام على هذا العمل، والواقع أن الإنسان يحتاج إلى قدر من الإقدام، والجرأة والشجاعة مع الضبط والحكمة والتخطيط السليم، والإعداد الجيد، حتى يبني نفسه بناءً صحيحاً، ويشارك في تحمل المسئولية مشاركة فعالة.
فالابن والتلميذ والشخص والمواطن، والداعية يعطى دوراً في النقد، كما كان عمر رضي الله عنه، من أقوى الشخصيات، كان الشيطان يخافه حتى أنه يهرب منه، إذا رآه في شارع {ما سلك
وتعرفون قصة المرأة -إن صحت- وقد حسنها السيوطي وغيره، لما وقف عمر، وقال: لا تغالوا في صدق النساء. فقامت امرأة وقالت: أخطأت يا عمر، إن الله تعالى يقول: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [النساء:20] فيروى أن عمر قال: أخطأ عمر وأصابت امرأة. حتى على المنبر يعلنها ليس هناك مانع، لا ينقص من قدره، بالعكس مازالت الأجيال تتمدح. وتتمجد بهذه الأعمال الجليلة والمواقف التي تدل على الثقة بالنفس وقوة الشخصية.
فمثلاً: الأب الذي يعود أولاده على أنه يضربهم بقوة على أي خطأ، تجد هؤلاء الأولاد دائماً عندهم تردد وخوف وهيبة، فلا يقدمون على شيء أبداً، ليس لديهم ثقة بأنفسهم، قد يكبر الواحد منهم وليس عنده ثقة بنفسه؛ لأنه تربى على هذا الأمر.
فينبغي أن نتنبه لهذه الأمور، وبعض هذه الأمور أمور تربوية يحتاج إلى أن تتربى عليها الأجيال، حتى يخرج عندنا أناس واثقون بأنفسهم.
وفي نهاية هذه المحاضرة أقول -كما قلت في عنوانها-: نحن جميعاً وبشكل فردي المسئولون، مسئولية كبيرة عما يحدث لنا كأفراد، وعما يحدث للأمة كلها في مشارق الأرض ومغاربها. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر