الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [وعن جابر رضي الله عنه قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء) رواه مسلم، وللبخاري نحوه من حديث أبي جحيفة ].
آكل هنا: اسم فاعل يختص بالذكور، وإذا كانت امرأة تأكل الربا، فهل معفو عنها أو هي داخلة؟
هذا أيضاً من إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به المساوي له، فهي داخلة، (وموكله) وكذلك موكلته.
وآكل الربا هو الذي يأخذ الزيادة عن رأس المال، وموكله هو الذي يدفعه، فهو ما أكل، ولكن أطعم غيره، إذاً: عقد الربا فيه آكل وموكل، آخذ ودافع، وكلاهما داخل في هذا الوعيد واللعن.
قد يأتي إنسان ويقول: هناك أشياء اضطرارية، هذا أكل الربا اضطراراً، وهذا أكله بغير اضطرار، فالذنب على الذي أخذ، هذا بحث أشرنا إليه في أكل الرشوة وليس في الربا.
وقد أشرت سابقاً: أنه في مؤتمر ماليزيا الإسلامي عرض على المؤتمر طلب إباحة الربا للضرورة، وكانت قارعة، وأعان الله سبحانه وتعالى بأن قدم: أن الربا لا تدخله الضروريات البتة لا شرعاً ولا عقلاً، وكان النقاش حاداً فعلاً، حتى أعلن رئيس المؤتمر وهو رئيس الوزراء: أن نرجئ هذا القرار إلى مؤتمر آخر.
وكلكم تعلمون أنه مؤتمر عالمي، ستة وثلاثون دولة مسلمة مشتركة فيه، ويقدم قرار في لجنة ويدرس ويأتي إلى لجنة للتصويت، ثم يوقف هذا القرار بمناقشة تبطله، ويعلن رئيس المؤتمر بإرجائه، يعني ما نجح، وقام رجل مغربي رحمه الله إن مات، وجزاه الله خيراً إن كان حياً، وصاح على الجميع: أتريدون أن نحارب الله ورسوله؟! أجئنا من بلادنا لنعلن الحرب مع الله ورسوله في ماليزيا حتى تريدون أن نبيح الربا؟! إلى أمر يطول شرحه.
إذاً: الربا محرم بكل أنوعه وصنوفه، وهناك لفتة عجيبة جداً في (آكل وموكل)، قال الله عن اليهود: فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء:160-161]، وقال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ [البقرة:275]، وفي حق اليهود قال: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا)، ما قال: وأكلهم، مما يدل على أن الربا كان في اليهود مهنة وليس من حاجة؛ لأن الذي يأكل الربا قد يكون محتاجاً، ولكن اليهود يأخذون، والأخذ أعم من مجرد الأكل، فهم يأخذونه كتجارة، يأخذونه كحرفة، وليس عن حاجة، ومن هنا -أيها الإخوة- لا تجد مرابياً فقيراً، الذين يرابون في أموال الناس هم الأغنياء، وما دمت غنياً ومغنيك الله فلماذا تنزلق في هذا الطريق الحرج؟!
قال: (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا) ولم يقل: وأكلهم، إذاً أخذهم للربا كان عن غنى، وليس عن فاقة وحاجة تدعو إلى الأكل.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (وكاتبه)، الكاتب الذي يكتب السند، كما قال الله: إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]. وقوله: (وشاهديه)؛ لأن اثنين يشهدون على الكتابة كالعادة، كما قال الله: وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ [الطلاق:2]، وشاهده اسم جنس يشمل الواحد والاثنين والعشرة، وقيّد العلماء الشاهد والكاتب في اللعن إذا كانا عالمين بأنهما يكتبان ويشهدان على ربا.
أما إذا جاءوا إلى إنسان لا يعلم بذلك، وقالوا: اكتب: هذا له في ذمتي ألف، وما يدري ما سبب الألف، وترتبت على ماذا، فكتب: فلان له في ذمة فلان ألف، وشهد الشهود: نشهد باعتراف فلان بأن في ذمته لفلان ألفاً، فلا شيء عليه، لكن إذا كانوا يعلمون أنه أقرضه ثمانمائة والتزم له بدفع الألف، وكتب الألف على أنه أصل الدَين، وهو يعلم أن الأصل ثمانمائة، والمائتان ربا، فهو شريك.
وكما يقولون:
وسامع الذم شريك لقائله ..
إذا جلست في مجلس فيه من يغتاب إنسان وتسمعت، وتتبعت، وتسليت؛ فأنت شريك للمغتاب.
وسامع الذم شريك لقائله ومُطعم المأكول شريك للآكل
لو كان طعام موجوداً في محل لزيد فجاء شخص وقال: والله! إني جائع، فإنسان فضولي رأى الأكل موجوداً فقال: خذ. قال: هل هو حقك؟ قال: لا، ما هو حقي. فالآكل يعلم أن الذي قدم له الطعام لا يملك هذا الطعام، والذي قدم الطعام يعلم أنه لا يملك هذا الطعام، فجاء صاحب الطعام. فيغرم قيمة الطعام الذي أكل، والذي أعطاه ومطعم المأكول شريك الآكل؛ لأنه هو الذي سلطه عليه، وإن كان الآكل هو المتلف المباشر، لكن يضم المطعم في الغرامة؛ لأنه عن طريقه وصل إليه. (وقال: هم سواء) أي: هم سواء في الإثم، لا نقول: الآكل الذي أخذ الربا هو الآثم وحده، بل نقول: هؤلاء شركاء وسواء في الإثم.
هذا الحديث الثاني -يا إخوان- يدل على فظاعة الربا، وعلى شناعة أمره، وأن الغريب في هذا هو: مقابلة أبواب الربا بشعب الإيمان، والتقبيح لأيسر هذه الأبواب. إذاً: هناك أبواب لا يعلم جرمها إلا الله، إذا كان أيسر الثلاثة والسبعين مثل هذه الصفة التي ليست في عقولنا صفة أشنع منها؟ ما نقدر أن نتصور صفة أخرى! وهذا من باب التهويل الفظيع الذي يقرع القلوب. (وإن أربا الربا عرض الرجل المسلم)، وهو ما يسمى بالغيبة، وهو تناول عرض المسلم في غيبته؛ لأن حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة الكعبة، الكعبة إذا هدمت يمكن بناؤها، فحجارتها موجودة، والأرض موجودة، لكن عرض المسلم إذا لمز وغمز، ودم المسلم إذا سفك، فمن يعيد بناءه؟ وهذا مما يعظم شأن الغيبة، وأنها أكثر ذنباً من أدنى أبواب الربا، نسأل الله العافية والسلامة!
وما تقدم تمهيد وتوطئة لباب الربا، ومن يريد أن يقف على حقيقة شناعة الربا فلينظر في كتب الرقائق، وما يترتب على تفشي الربا في المجتمعات من قلة المطر، ومحق البركة، وقصر الأعمار، وأشياء كثيرة تتسبب عن الربا.
الشبهة التي قامت عند الجاهليين هي قولهم: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا [البقرة:275]، وجاء الجواب: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وسيأتي إن شاء الله الفرق في المعاملة بين معاوضة البيع ومعاوضة الربا؛ لتنكشف شبهة العرب في الجاهلية، وتظهر حقيقة التشريع؛ لأن الله لم يناقشهم في العلة، ولكن أعطاهم الحكم، كأنه استصغر نفوسهم، واستحقر عقولهم؛ لأنهم شبهوا الربا بما فيه من الزيادة بالبيع بما فيه من الربح، والفرق بعيد جداً، فالله استجهلهم واعتبرهم لا يدركون الحقيقة، فقال: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)، كأنه قال: لستم أهلاً لأن يقال لكم علة التحريم، بل اسمعوا الحكم فقط واسكتوا، وهذا قمع لهم وتجهيل، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.
وإذا نظرنا -يا إخوان- إلى النتيجة العملية إذا تعامل الإنسان بالبيع الحلال كما شرع الله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)، وإذا تعامل بالربا أو بما هو على شاكلته فيكون بين أحد أمرين:
إما أن يأكل لقمة الحلال، أو يأكل لقمة الحرام، وكذلك من تلزمه نفقتهم، إما أن يربيهم على الحلال أو يربيهم على الحرام، وقد بين صلى الله عليه وسلم: (أيما لقمة يأكلها الإنسان ينبت منها دم ولحم وعظم، وأيما لحم نبت على الحلال فالجنة أولى به، وأيما لحم نبت على الحرام فالنار أولى به) .
وتقدم معنا في الحج، إذا قال الملبي: لبيك اللهم لبيك، وكان طعامه حلالاً، وراحلته حلالاً، ماذا يقال له؟ لبيك وسعديك، حجك مبرور، وذنبك مغفور. وإذا كان طعامه حراماً قيل له: لا لبيك ولا سعديك، ارجع مأزوراً لا مأجوراً!
إذاً: يجب التحري في لقمة العيش، وتحري المسلم طيب الكسب ينبني عليه صحة عباداته، وصحة جسمه، وسلامة مصيره يوم القيامة، فلنتحرى الحلال جميعاً بقدر المستطاع، ولنبتعد جميعاً بقدر المستطاع عن طريق الربا، وبالله تعالى التوفيق.
عقد البيع فيه مبيع وثمن، الثمن من المشتري، والمبيع من البائع، والأصل أن الذهب قيمة المشتريات، كما يقولون: المال السائل، فهو الوسيط بين صاحب السلعة ومن يحتاجها، وكان قبل الذهب وقبل النقود وقبل العملة؛ كان البيع والشراء بالمقايضة، تأخذ صاع تمر وتبيعه لصاحب البر فيعطيك بالتمر براً، أو تأخذ البر وتبيعه لصاحب السكر، فتقول له: خذ هذا الصاع من البر، وأعطني سكراً، فكانت مقايضة بالأصناف والأعيان، وتأخذ صاع الحب وتذهب للجزار وتقول له: أعطني بهذا لحماً، وإلى الآن في بعض البلدان يتعاملون بالحبوب مقايضة في دكان البقالة، إلى الآن موجود.
ثم جاءت النقود، والمعاملة بها صارت أيسر وميسرة للسفر، وتحديدها معلوم للجميع، فهنا الذهب بالذهب، أيهما ثمن؟ وأيهما مثمن؟ مع أن الذهب في أصله هو قيمة المشتريات وكذلك الفضة، لكن الذهب يخرج عن كونه قيمة المشتريات ويصبح سلعة؛ لأن الذهب له ثلاث حالات:
إما تبر، مادة خام، سبيكة.
وإما مضروب، دنانير أنصاف دنانير إلى آخره، وهذه عملة.
وإما مصوغ كما يقال: منقوش، سوار، قرط في الأذن، خاتم في الأصبع، كذا كذا إلى آخره.
فهو عملة وقيمة للمثمنات حينما يضرب، ويجعل وحدة متحدة وزناً وقيمة، والذين يضربون الذهب الآن يجعلونه جنيهات ذهبية، الجنيه الجورج، الجنيه الأمريكي، الجنيه السعودي، وغيرها، وفي حد علمي أن وزن معظم الجنيهات في العالم، وهو الجنيه الصغير ثمانية جرامات، وكأنه وحدة عالمية، وهناك جنيهات تخرج عن هذا، يوجد جنيه إنجليزي أو أمريكي بقدر أربع جنيهات، وفي عهد البرامكة جعلوا الدينار البرمكي أربعة مثاقيل؛ لأنه كان ضخماً يقدم هدية.
والذي يهمنا أن الذهب بالذهب ربا، والذهب أصل قيمة المبيعات، فإذا أصبح الذهب ثمناً ومثمناً، فأين الثمن، وأين المثمن؟ إذا كان الذهب مضروباً نقداً فهذا هو الثمن، وإذا كان الذهب مصوغاً أو تبراً -مادة الخام- فهذا هو المثمن، أي: المشترى.
إذاً: يمكن بيع الذهب بالذهب نقداً بنقد، مثل: بيع الذهب بالذهب تبراً بتبر، بيع الذهب بالذهب مصوغاً بمصوغ، بيع الذهب بالذهب مضروباً نقداً بمصوغ، مضروباً نقداً بتبر، كل هذه المسميات داخلة تحت قوله: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا...)، حتى قال بعض العلماء: ولو كان أحدهما مغشوشاً والثاني سليماً فلا يجوز أن تبيع ذهباً خالصاً بذهب مغشوش بالنحاس -أو ما يسمى شبه النحاس الراقي الذي يشبه الذهب في لونه- وزناً بوزن، ما يجوز ولو زدت فيه؛ لأننا لا نعلم قدر المغشوش في المغشوش، ولا نستطيع أن نحكم على الذهب الصافي بالذهب الصافي هناك، إذاً مهما كانت صورة الذهب تبراً، نقداً، صافياً، مصوغاً، خالصاً أو مغشوشاً، فجنس ذهب بذهب إذا بيع هذا بهذا لا يمكن أن تكون هناك زيادة، ولا تأخير.
فالذهب بالذهب يحرم فيه الزيادة، ويحرم فيه التأخير، يعني: يحرم فيه ربا الفضل، وربا النسيئة.
وإذا أردت أن أشتري حلياً، وعندي ذهب دنانير جنيه، فالوجه الشرعي أن توضع الحلي في كفة، وتوضع الدنانير المضروبة في كفة حتى تتعادل الكفتان، والتاجر يأخذ الدنانير الذهب، والمشتري يأخذ الحلي. ولو قال قائل: ما عندي دنانير، لكن عندي ذهب سبائك، وأريد ذهباً مصنعاً، فالوجه الشرعي أن يوضع الحلي المصنوع المزخرف في كفة، ويوضع الذهب الخام السبائك في كفة، فإذا تعادلتا صح البيع، وإذا زاد في وزن السبائك ونقص في المصوغ وقال: من أجل الصياغة؛ بطل هذا البيع، ولا يجوز، وما المخرج من هذا إذاً؟
بع السبيكة بالفضة، واشتري الحلي بالفضة، ويجوز بيع الذهب بالفضة مع الزيادة والنقص، ولا يشترط التماثل في الوزن، الفضة كيلو، وهذا الذهب ربع كيلو، فيوجد فرق في المقدار، لكن يشترط التقابض يداً بيد. إذاً: الجنس بالجنس من هذه المسميات يشترط فيه التماثل والتقابض، مثل بيع الذهب بالذهب تبراً، مصوغاً، مضروباً، مغشوشاً، صحيحاً، مستعملاً، مكسراً، بأي صفة من الأصناف، ما دام مادة الذال والهاء والباء موجودة، فإن بيع بجنسه وجب أن يكون وزناً بوزن، يداً بيد.
وأهل الذهب ربما يعملون حيلة، يقول أحدهم: خذ هذه خمسين ريالاً قرضة حسنة مني إليك، أعطني الخمسين الباقية، وهذه الحيلة على من؟! تبغى تروج بضاعتك بالحيلة على الشرع؟ لا.
وفي الذهب مشاكل كثيرة في الأسواق، إذا بيع بغير جنسه بالدولار، بالربية، بالاسترليني، بأي عملة ما لم تكن ذهبية، بع واشتر ما شئت، ولكن لا تفارق البائع وله عندك فلس واحد.
إذا جاء المصطرف بالدنانير، والصراف قاعد عند باب الدكان، وأعطاه مثلاً مائة دينار، فقال: مرحباً، عندي صرف، وأخذ الدنانير من صاحبها، ودخل إلى مكان في آخر دكانه ليفتح الصندوق، ويضع الدنانير ويأتي بالدراهم، مالك قال: لا يجوز؛ لأنه ما حصل يد بيد، والواجب أن يترك الدنانير مع صاحبها، ويذهب يفتح صندوقه، ويأتي بالدراهم إلى صاحب الدنانير، ثم هاء وهاء، خذ وهات.
فـمالك لا يقبل تأخير الصرف ما بين أن يذهب إلى آخر دكانه ويأتي، فما بالك إذا جاءه فقال: أروح البيت ثم أمر عليك؟! هذه معاملة ممنوعة في الذهب بالفضة أو الفضة بالذهب.
إذاً: (لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل)، والمماثلة المعادلة، في الكيل بالكيل، وفي الموزون بالوزن، وفي المعدود بالعد، والذهب والفضة موزونان.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تشفوا بعضها على بعض) ].
الشف: الزيادة أو النقص، والعوام يستعملونها، تذهب إلى الجزار وتقول: أبغى لحماً مشفياً، مشفي يعني: منقوص العظم، زائد اللحم (لا تشفوا بعضها على بعض)، لا تقل: هذا مصنوع ومصوغ ودقة صفتها وصفتها، وهذا قديم ومكسر ويبغى له صياغة من جديد، لا تشفوا الناقص المكسر القديم على وزنه بالجديد أبداً، تبغى ذهباً بذهب مثلاً بمثل، وما تبغى مثلاً بمثل فبع هذا الذهب بفضة، واشتر ذاك الذهب الثاني بفضة، وتكون الفضة هي الوسيط، وبين الذهب والفضة لا ربا في الزيادة، ولكن يداً بيد.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل) ].
الورِق والورَق أو الوَرْقُ: هو النقد من الفضة خاصة فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ [الكهف:19] سبحان الله! يا إخواني! كم استوقفتني كلمة (هذه)، فالورِق هو عملة، فالأصل أن يقولوا: ابعثوا واحداً بالدراهم التي معكم لينظر لكم طعاماً ويشتريه، لكن التنصيص على (هَذِهِ) إعجاز القرآن أي: الموجودة معكم؛ لأنها هي مفتاح السر الذي سيكشف عنهم، فلما ذهب بتلك الورق التي معهم إلى المدينة، فالناس رءوا هذه العملة قديمة جداً، فسألوه: من أين هذه؟! فالعملة (هَذِهِ) هي التي كشفت عن سر أصحاب الكهف لأهل المدينة! إذاً: الورق هو الفضة نقداً.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تشفوا بعضها على بعض) ].
الفضة حكمها حكم الذهب في جميع التفصيلات السابقة، فإن كانت الفضة تبراً، أو مضروبة دراهماً، أو مصوغة حلياً، جديدة، قديمة، مكسرة، مغشوشة، سليمة، كله إذا كان فضة بفضة فهو مثل الذهب، وزناً بوزن يداً بيد.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (ولا تبيعوا منها غائباً بناجز)]
ناجز أي: حاضر، فالصائغ عنده الحلية حاضرة، فلا يجوز لك أن تشتريها بدين لك على الصائغ، فهذا بيع حاضر بغائب، ولا يجوز التأخير، فمنع ربا الفضل في الفضة كما منع في الذهب، ومنع ربا النسيئة في الفضة كما منع في الذهب، فالذهب والفضة بنات خالة أو بنات عم.
قدم المؤلف رحمه الله حديث أبي سعيد في الذهب والفضة؛ لأن أكثر ما يكون الربا، في المعاملات فيهما، ثم جاء بالحديث الثاني وفيه (البر بالبر)، ما هو البر؟ أظنه معروفاً في العالم كله، ويسمى البر، أو الحنطة، أو القمح، وكل هذه كما يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: مترادفات على مسمى واحد، كما تقول: الأسد والغضنفر والهزبر وو .. الخ.
لكن بعض العلماء ينفي توارد الأسماء على مسمى واحد الذي هو الترادف، ويقول ابن تيمية رحمه الله: هناك سر، فإذا وجدت عدة أسماء لمسمى واحد؛ فكل اسم منها يختص بصفة في المسمى، إذا قلت: أسد، فهذا للجنس يشمل الصغير والكبير والمريض والمتعافي، وإذا قلت: هزبر، فمعناه أنه في حالة النشاط والقوة، وإذا قلت: غضنفر، فمعناه أنه ضخم وكبير، وهذا كله راجع لعين واحدة، ولكن روعيت صفاته، فكان لكل صفة اسم تشير إلى المعنى المنطلق منه.
فالحنطة والبر والقمح كلها أسماء لمسمى واحد، ويراعى فيها الجودة والنوعية، وربما أننا نعرف أربعة أو خمسة أصناف موجودة، إذاً: هذا الصنف من الحبوب سمه ما شئت: قمحاً، براً، حنطة، فإذا بيع بجنسه فيجب التماثل والتقابض، صاع بر مديني بصاع بر شامي، تفاوتت صفات كل منهما وخواصه، فيوجد نوع من الحنطة يسمى العرق إذا طحن وعجن صارت العجينة مثل المطاط، ونوع إذا سحبته قليلاً تقطع مثل الذرة، فالذرة ما لها عرق، والقمح له عرق، ويتفاوت، ومهما تفاوت في صنفه، أو في لونه، أو في حجمه، حبة كبيرة وحبة صغيرة، ما دام المسمى بهذه الاسم (حنطة بحنطة)، فلا تباع الحنطة بالحنطة إلا مثلاً بمثل يداً بيد.
وأما الشعير فأعتقد أن العالم كله يعرف الشعير، ولكن كما يقول أهل الفلاحة: الشعير نوعان: شعير يسميه العامة شعير الحمير، وهو للعلف، وشعير يناسب كبار السن، يجعل لهم منه الخبز، فيكون ليناً سهل الهضم، ولا يكون معه إمساك عند كبار السن، ويدخل في الأدوية، فمهما كان صنفه شعير بشعير، أمريكي فرنسي للعلف أو للأكل، فكله شعير، ومالك رحمه الله يجعل -في الربويات والزكاة- البر والشعير صنفاً واحداً، ففي الزكاة إذا كان عنده ثلاثة أوسق براً، ووسقان شعير، فقال: يكمّل بعضهما بعضاً؛ لأنهما جنسٌ واحد ويزكي.
والجمهور يقولون: لا، ما كمل عنده النصاب، هذا بر ثلاثة أوسق، وليس فيها زكاة، وهذا شعير وسقان وليس فيها زكاة، فلا زكاة عليه فيهما؛ لأن الحديث هنا ذكر الصنفين، ولو كان صنفاً واحداً لاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر.
إذاً: (البر بالبر والشعير بالشعير مثلاً بمثل)، لكن لو بعنا البر بالشعير صاع بر بصاعين أو بثلاثة آصع شعير يجوز بشرط أن يكون هاء وهاء، يداً بيد، فإن قال: خذ البر واذهب وأعطني الشعير، لا يجوز، بل يكون كلاهما حاضراً: (ولا تبع ناجزاً بغائب).
إذاً: التمر بالتمر قضية عامة، وسيأتي حديث تمر خيبر الجنيب: (أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا، إنا نأخذ الصاع بالصاعين)، وذلك كما يقول ابن عبد البر : كنا نرزق التمر، فنبيع الصاعين بالصاع، فنهينا عن ذلك، وسيأتي له زيادة بيان.
إذاً: التمر بالتمر أياً كان نوعه من المائتي صنف، إذا كان التمر ثمناً ومثمناً فلا بد أن يكون بالكيل سواء بسواء، وما كان يباع بالكيل عرفاً فلا يجوز بيعه بجنسه وزناً، والتمر مكيل أو موزون؟
الأصل فيه أنه مكيل، ويرجع في معرفة المكيل والموزون إلى عرف مكة والمدينة، فما كان مكيلاً في المدينة فعرفه الشرعي الكيل، وما كان موزوناً في مكة فعرفه الشرعي الوزن، فالتمر بالتمر مثلاً بمثل، وعرف التمر الكيل، فإذا أخذنا أحسن صنف من التمر في صاع ووضعناه في كفة، وأخذنا أردأ أنواع التمر في صاع ووضعناه في كفة أخرى، فهل يكون هناك زيادة في الحجم المكعب بين الصنفين أو يكونان متساويين؟
متساويين مثلاً بمثل، لكن إذا غايرنا العرف فيه، وبعنا كيلو بكيلو، فهل يتفق الحجم المكعب في كيلو تمر الصفاوي مع الشلبي الذي هو خفيف أو الحلية الذي هو أثقل؟ هل يتفق التماثل في الحجم المكعب؟ لا، ما يتفق، إذاً: هل حصلت المثلية؟
لا، والجهل بالمساواة كالعلم بالزيادة؛ ولهذا لا يجوز بيع صنف ربوي بجنسه إن كان مكيلاً إلا بعرفه الكيل، وإن كان موزوناً فبعرفه الوزن، فإذا غايرنا العرف، اختلف المقدار، ودخلنا في الجهالة بالمساواة، والجهالة بالمساواة كالعلم بالزيادة؛ لأننا نقطع بأن هناك زيادة، إذاً: التمر بالتمر مثلاً بمثل، وتعرف المثلية فيه بالكيل، ويكون الحجم واحداً، ولكن العرف يختلف، وباختلاف العرف يتفاوت الحجم، فالتمر بالتمر مثلاً بمثل بالكيل؛ لأن عرفه الكيل.
والذهب يوزن ولا يكال، فلو وضعت ذهباً مكسراً قدر نصف صاع، وقلت: أعطني ذهباً جديداً نصف صاع، هل يتعادل الذهبان؟ لا يتعادل، لو وضعت حلقات وخواتم قدر نصف صاع، ووضعت ذهباً آخر مصوغاً ومكسراً قدر نصف صاع، فهل حصلت مماثلة بالكيل أو لا؟ لا؛ لأن الذهب يتماثل بالوزن.
إذاً: لا يجوز بيع الصنف بالصنف بغير عرفه، فلا يجوز بيع الصنف الربوي المكيل بصنفه موزوناً، ولا الموزون مكيلاً؛ لأن اختلاف عرف التقدير يأتي بالزيادة، ويأتي بالربا.
الملح عظيم القدر، حتى ذكر مع الذهب والفضة، ومع البر والشعير والتمر، ولا غنى لأحد عن الملح، لكن إذا زاد يفسد، والملح قسمان:
ملح جبلي، وهو معدني.
وملح بحري.
وما كل بحر يخرج منه الملح، فمياه البحار فيها العديد من الأملاح، وبحيرة لوط خاصة فيها أنواع من الأملاح، وملح الطعام يؤخذ مما يسمونه الملاحة، وهي بقاع من الأرض يتجمع فيها الماء، وغالباً تكون الأرض سبخة مالحة، فإذا طفح الماء من منبعه، وامتلأت الحفرة، ترك الماء يتعرض للشمس، وتبخر الماء وترسب الملح، فيجمع ويكوّم ويجفف ويعبأ في الأكياس وينزل به إلى الأسواق، هذا ملح مائي، وليس معناه أن تذهب إلى البحر الأحمر وتستخرج ملح الطعام مباشرة، لا يوجد، وإن وجد فبمقدار قليل مع أملاح أخرى (صوديوم وفسفور وفسفات)، وكل هذه يمكن استخراجها من المحيطات، ولكن ملح الطعام إما يستخرج من منقع ماء في أرض سبخة وإما من معدن في جبل، وفي أفريقيا بعض الجبال فيها عرق الملح، كما يوجد فيها عرق الذهب، وعرق الفضة، وعرق النحاس، كما يوجد فيها أحجار تحمل كحل الإثمد، تجد حجرة مثل الليمونة أو البرتقالة وفيها كحل العين، لا يكون فيها طين أو تراب، بل يكون فيها كحل من أجود أنواع الإثمد، مطحون وجاهز.
والملح المعدني يدق؛ لأنه حجر مثل الرخام، وكيفية استعماله: أن يكسر منه قطعاً مثل علب الكبريت مثلاً، وتضعها في الماء، وتحركها في الماء حتى يستحلب منها الملح، كما أنه إذا وضع الملح في الماء فإنه يذوب نهائياً، سواء كان ملحاً معدنياً أو ملحاً مائياً.
وهل الملح يكال أو يوزن في العرف؟
يكال، فإذا أردت أن تبيع ملحاً بملح ولو معدني بمائي فالجنس واحد، فيشترط التماثل والتقابض كما في أجناس البر وأجناس التمر، وكذلك الآن الرز أصناف، بل قالوا: فيه رز صناعي ورز نباتي، والذي يدخل في الربا الرز النباتي، لا الصناعي، ويهمنا هنا قوله: (والملح بالملح مثلاً بمثل)، فلا يجوز فيه الزيادة، ولا يجوز فيه التأخير.
وقوله عليه الصلاة والسلام: [ (مثلاً بمثل سواء بسواء يداً بيد) ].
(سواء بسواء) أي: متعادل (يداً بيد)، وفي بعض الروايات: (هاء وهاء) (ها وها)، (هاك وهاك)، وهذه اسم فعل كما يقول ابن مالك : بمعنى: خذ، هات.
هذا هي القاعدة العامة، فإذا اتحدت هذه الأصناف: ذهب بذهب، فضة بفضة، بر ببر، شعير بشعير، تمر بتمر، ملح بملح، وكان الثمن والمثمن من جنس واحد، فلا تشفوا بعضها على بعض، مثلاً بمثل، ويداً بيد، وإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم.
فإذا كان الثمن جنساً، والمثمن جنساً آخر، مثلاً: باع ذهباً بفضة، فهل اتحد الجنس أو اختلف؟
اختلف، وهكذا: باع تمراً ببر اختلف، فإذا اختلفت هذه الأجناس، وأصبح المبيع يغاير الثمن، والثمن يغاير المبيع، وإن كان كلاً منهما ربوي، وإن كان كلاً منهما من الأصناف الستة؛ (فبيعوا كيف شئتم)، بمعنى: صاع بصاعين، صاع بعشرة، لا يوجد مانع، ولكن بقيد: يداً بيد، (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)، فإذا كان عندك البر، وعنده التمر، واشتريت التمر ببر، ويمكن التمر يكون أحسن، والصاع فيه بصاعين بر أو بالعكس كما فعل معاوية ، نصف صاع يعادل صاعاً، فهل يجوز أن تبيع البر نصف صاع بصاع تمر إلى بعد يوم؟ لا، ولا يؤخر دقيقة، ولا بد أن يكون الصنفان موجودين، خذ وهات.
إلى هنا إن شاء الله يكون قد اتضح لنا صور بيع الربويات الست بعضها ببعض إذا اختلفت أجناسها، ثم بعد ذلك تبقى عندنا مسألة: هل يقتصر الحكم على هذه الأصناف الستة أو يلحق بها غيرها؟
وإذا كان يلحق بها غيرها، فبأي علة يكون الإلحاق؟ سنتكلم على هذا في الدرس القادم.
وبالله تعالى التوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر