أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس إن شاء الله كتاب الله؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة التوبة -تاب الله علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة-، ومع هاتين الآيتين فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوتهما، ثم نأخذ في دراستهما، والله تعالى أسأل أن يفتح علينا وأن يشرح صدورنا وينور قلوبنا ويدخلنا برحمته في عباده الصالحين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة:36-37].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ [التوبة:36]، ما زال السياق فيما شرعه الله للرسول والمؤمنين من قتال المشركين، بعد الإعلان العام: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة:5]، ثم من بديع القرآن أنه يأتي بكلام يعترض بين كلام وآخر؛ حتى لا يمل، فقد تقدم الحديث عن اليهود والنصارى، وعن رهبانهم وأحبارهم، وعن فعائلهم المجرمة، وصنائعهم الباطلة، وعاد السياق من جديد إلى قتال المشركين بعد الفتح.
أي: لا تظلموا أنفسكم بارتكاب الذنوب والآثام بالأشهر الحرام، غداً إن شاء الله ذي القعدة، معصيتك غداً أعظم من معصيتك اليوم أو قبل اليوم، فالذنب في الأشهر الحرم قبيح -وهو دائماً قبيح-، ولكن أقبح ما يكون في هذه الأشهر الحرم الأربعة.
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ [التوبة:36]، أي: لا تظلموا في تلك الأشهر الأربعة أنفسكم، وكيف يكون ظلم النفس؟
نفسك مشرقة كالنور، فإذا كذبت الكذبة وقع عليها نكتة سوداء، وإذا حلفت بالباطل وقع نكتة سوداء، وإذا مددت يدك إلى حرام كانت نكتة سوداء، فأنت ظالم لنفسك، فبدلاً أن تبقى مضيئة مشرقة طاهرة؛ حتى تعود إلى الله كما جاءت، تلطخها وتصب عليها أطنان الذنوب والآثام، فتكون أنت إذاً الظالم لنفسك، فكل من يكذب كذبة، أو يقول باطل أو يأكل حراماً أو يسيء إلى مؤمن فهو ظالم لنفسه.
فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، أي: أيها المؤمنون، لا ترتكبوا -أيها المؤمنون- الذنوب عامة، وبهذه الأشهر خاصة، وهذا معروف بالضرورة، فالذي يؤذي رجلاً صالحاً ليس كالذي يؤذي صعلوكاً من الصعاليك، فهذا أمر معروف بين المسلمين، فهذه الأشهر الحرم يجب أن تحترم وألا يعصى الرحمن تعالى فيها بأي ذنب من الذنوب، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ [التوبة:36]، أي: في تلك الأشهر أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، ويظلم العبد نفسه بفعل معصية من معصية الله ورسوله؛ لأنه لطخها بالظلم والعفن، حتى تصبح غير مرضي عنها من الله، ولا تدخل دار السلام مع أولياء الله.
وهنا لا بأس أن نذكر بيان القتال الواجب وغير والواجب، والفرض العين والكفائي.
الجهاد فرض كفاية لا فرض عين، بمعنى: إذا قام به جماعة أو جيش وسد الحاجة، لا يأثم الباقون أبداً، ولا يقال: لم ما جاهدوا؛ لأنه قام من قام به من المسلمين.
ويكون الجهاد فرض عين فيما يلي:
أولاً: أن يعين إمام المسلمين أفراداً بأعيانهم كثيرين كانوا أو قليلين تعين عليهم الجهاد، فمن عينه تعين عليه، وأصبح لو لم يفعل آثم؛ لأنه ترك واجب.
ثانياً: إذا داهم العدو مدينة على الساحل، أو قرية على الحدود كان على أهل القرية أو المدينة أن يقاتلوا ذلك العدو؛ حتى يأتيهم المدد من الدولة الإسلامية، يقاتلونهم بكلهم ولا يحل لواحد أن يتأخر، صداً ودفعاً لهذا العدو الذي هاجمهم، حتى يأتيهم الجيش الإسلامي، وحينئذٍ يسقط الواجب عنهم.
ثالثاً: التعبئة العامة أو النفير العام، إذا قال إمام المسلمين: لا يتخلفن غداً رجل في البلاد، يدخل في هذا: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36]، إذا إمام المسلمين رأى من الضرورة؛ لأن العدو كثير، قال: لا يتخلفن رجل، وهو ما يسمى: بالنفير العام، ففي هذه الحال يتعين على كل فرد قادر أن يقاتل، وهذا النفير العام ينتظم مع قول الله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، هم يقاتلونك كافة، قاتلونهم كذلك أنتم مجتمعين على قتالهم ولا تتفرقوا.
والتقوى هي طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا خالفنا أوامر الله عز وجل في الجهاد وعصيناه فلسنا أهلاً للنصر، فللحرب أنظمتها وخططها وسلوكها، فإذا لم نسلك ذلك السبيل المعتاد في الحرب خسرنا وهزمنا؛ لأننا ما اتقينا الله عز وجل.
فمثلاً لو نريد أن نخرج بلا سلاح، ونقول: نحن مؤمنون صالحون! فلن ننتصر، بل ننكسر لأننا عصينا الله عز وجل، فمثلاً عندنا أسلحة مختلفة، فأخذنا الأسلحة الخفيفة التي لا تكلفنا تعباً وخرجنا للعدو فلن ننتصر؛ لأننا ما اتقينا الله حتى نأخذ أثقل الأسلحة.
وهكذا نعرف أن الله مع المتقين دائماً وأبداً في كل المعارك، وفي كل المصائب، وفي كل الأحوال والظروف؛ لأن الله ولي المؤمنين، ومن كان الله وليه فلا يخاف ولا يحزن، والمتقون هم الأولياء، وَاعْلَمُوا [التوبة:36]، يا عباد الله! وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:36]، أي: بنصره وبتأييده، أي: فاتقوا الله عز وجل.
الأشهر الحرم أربعة، ثلاثة سرد وواحد فرد، وهذه الأشهر الحرم احترمها العرب من عهد إسماعيل وهم يحترمونها أعظم الاحترام، فلا يقاتلون فيها؛ لأن الله جعلها وخصها للحجاج فلا يقاتلون فيها، فقد قال تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97]، أراد الله أن يرزق سكان حماه وحرمه من المؤمنين، فحفظهم الله عز وجل ووقاهم المكروه، وأتاح لهم فرصة ليحجون فيها، ويتاجرون ويسافرون ويعودون لا يخافون أحداً ألا الله.
القلائد: هي العلامات التي تعلق على أعناق الإبل أو المواشي حتى تكون علامة على أنها مهداة إلى الحرم، فيسوقها صاحبها إلى الحرم، ولا يخاف من اللصوص أو من قطاع الطرق في هذه الأشهر الحرم إلا الله عز وجل.
فإذا دخل الشهر الحرام سافر واحمل الذهب والفضة معك ولا تخف، اذهب إلى اليمن أو إلى الشام فلا تخاف إلا الله، فقد وضع الله عز وجل هذا في قلوب العباد؛ لحكمة ذكرها حتى يبقى الحرم آمناً وأهله آمنين.
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة:97]، (قِيَامًا لِلنَّاسِ): أي: معاشهم بسببها.
وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [المائدة:97]، (القلائد): هي التي تعلق في الإبل وغيرها، وهذا تدبير الله عز وجل.
ومضت القرون على هذه الحال.. وجاء الإسلام فأصبح القتال بإذن إمام المسلمين، قال تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36]، وقال: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ [التوبة:123]، أي: (قاتلوا..) ولو كان ذلك القتال في شهر حرام؛ لأن هذا القتال في سبيل الله ومن أجل الله، فليس قتال ظلم أو قتال مادة أو مال؛ لقوله عز وجل: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [البقرة:194].
(النَّسِيءُ): هو التأخير، فإذا دخل شهر محرم وقبل دخوله بيوم أو يومين، ويعرفون أنهم محتاجون إلى القتال في هذا الشهر، يعلن أحدهم ويقول: معاشر كذا.. نحن كذا كذا.. لقد أخرنا المحرم إلى صفر، والآن نقاتل عدونا، ويقاتلون في الشهر الحرام أي: شهر المحرم، وإذا دخل شهر صفر لا يتقاتلون؛ لأنهم حرموه وجعلوه بدلاً من شهر المحرم، فإذا دخل رجب وكانت الحاجة داعية إلى القتال ينسئونه، أي: يؤخرونه، إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، وهذا التحليل والتحريم الباطل، وهذا الاستنباط والتصرف في شرع الله.
لقد ذم الله عز وجل الرهبان والأحبار؛ لأنهم يحلون ما حرم الله، فهذا التصرف -والعياذ بالله- مقت الله أصحابه، فقال تعالى: زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، هم كفار لشركهم وإنكارهم للبعث الآخر، وإنكارهم للرسالة المحمدية، ويزدادون كفراً؛ لأنهم يحرمون ما أحل الله، أو يحلون ما حرم الله، فهذه قاعدة عامة: (كل من يحرم ما أحل الله فهو كافر، وكل من يحل ما حرم الله كذلك كافر)، إذ لا يحلل ولا يحرم إلا الله عز وجل؛ لأن المحلل لهم والمحرم عليهم عبيده، يحل لهم ما يشاء ويحرم ما يشاء، ولأنه لا يحلل إلا ما فيه منافع عباده، ولا يحرم إلا ما فيه مضارهم من أجل أن يكملوا ويسعدوا في آدابهم وأخلاقهم ويدخلوا الجنة، أما غير الله عز وجل فلا حق له أن يحرم شيئاً أحله الله أو يحلل شيئاً حرمه الله، فانظروا كيف قال تعالى فيهم: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة:37]، قال شاعرهم مفتخراً:
وكنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراماً
ينادي مناديهم في عرفات أو في منى، أنا كذا أنا كذا.. أنا قضيت بكذا.. فيلبون ويستجيبون، فيؤخرون مثلاً شهر المحرم إلى صفر، ويقاتلوا في المحرم.
قال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة:37]، (يضل به الذين كفروا) أي: يضللهم إبليس والذين يحلون ويحرمون. يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة:37]، وهنا في أيام الحج في عرفات أو منى خطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض )؛ لأن ذلك التقديم والتأخير أفسد السنة، وأصبح شهر محرم شهر صفر، وأصبح رجب شعبان، وأصبح شعبان رمضان، وأصبح شوال هو ذي القعدة، فبالتقديم والتأخير انتكست السنة، وشاء الله أن يحج أبو بكر في السنة التاسعة، فحج في ذي القعدة، حسب حسابهم الأول، فذي القعدة هو ذي الحجة، وحج الرسول صلى الله عليه وسلم في شهر الحج أي: في ذي الحجة، ففي ذلك العام دار الزمان وعاد كما كان وكما شرعه الله، فكان محرم أولاً، ثم صفر، فربيع، فربيع... إلخ، فقال عليه الصلاة والسلام: ( ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، أربعة منها حرم )، وثمانية غير محرمة، فوافق حجه صلى الله عليه وسلم الحج الحقيقي وهو شهر ذي الحجة، وأعلن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالذين يحللون ويحرمون أفسدوا على الناس دينهم، اختلط أمر الأشهر، حتى لا يستطيع أن يقول القائل: هذا رجب أو شعبان، فكل عام يقدمون أو يؤخرون، بل يزيدون الأيام أيضاً، جعلوا للسنة خمسة وعشرين يوماً، وهذا هو ذم الله تعالى لهم في قوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة:37]، لماذا؟ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا [التوبة:37]، لماذا؟ لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة:37]، المهم يجعلونها أربعة أشهر حرام فقط، سواء كانت في أول العام أو في آخره بحسب مصلحتهم، فإذا أرادوا القتال في شعبان وهو شهر حرام يؤخرونه إلى رمضان. لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التوبة:37].
وقال تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة:37] أي: لم يهدهم الله وهم كافرين، فهم ليسوا أهلاً للهداية، فلما جاء الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً وأسلموا، هداهم إلى بيان الأشهر الحرم وأشهر الحلال، وهذه سنته في خلقه، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة:37]، أي: ما داموا كافرين لن يهديهم الله وهذه سنته، فإذا عدلوا عن الكفر إلى الإيمان، أو إلى الصلاح بعد الفساد، يهديهم الله عز وجل حسب سننه في الخلق، الطعام يشبع، الماء يروي، النار تحرق، الحديد يقطع، فالكفر والفسق صاحبهما لن يهتدي، ولن يهديه الله إلا إذا قرع بابه وأناب ورجع إليه فلن يرفضه عز وجل.
قال: [ أولاً: بيان أن شهور السنة الهجرية اثنا عشر شهراً، وأيامها ثلاثمائة وخمسة وخمسون يوماً ]؛ لقوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ [التوبة:36]، والشهر يكون تسعة وعشرين.
[ ثانياً: بيان أن الأشهر الحرم أربعة، وقد بينها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي رجب والقعدة والحجة ومحرم ]، ويصح أن تقول: القعدة والحجة ومحرم، الأشهر الحرم أربعة: ثلاثة متتالية مسرودة واحد بعد واحد، ورجب الفرد، وفائدة معرفتنا للأشهر الحرم؛ لنتحاشى معصية الله ورسوله فيها؛ لأن الذنب فيها عظيم، يجب أن نحترم ما احترم الله، ونقدر ما قدر الله.
قال: [ ثالثاً: حرمة الأشهر الحرم، ومضاعفة السيئات فيها، أي: قبح الذنوب فيها ].
[ رابعاً: صفة المعية لله تعالى وهي معية خاصة بالنصر والتأييد لأهل تقواه ]؛ لقوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة:36]، أي: ليس معناه بذاته معهم، فالله فوق عرشه بائن من خلقه، لكن هذه المعية بالنصر والتأييد والعلم، فأينما كنت كان الله معك بعلمه وقدرته على أن يأخذ ويعطي، فذات الرب تعالى لا تحل في هذه الأجرام.
[ خامساً: حرمة الاحتيال على الشرع بالفتاوى الباطلة لإحلال الحرام -أو تحريم الحلال- وأن هذا الاحتيال ما هو إلا زيادة في الإثم ]، والعياذ بالله.
أقول: حرمة الاحتيال على الشرع بالفتاوى الباطلة، كالذين يفتون بتحليل الربا، كالذي يفتي بتحليل حلق الوجه، كالذي يفتي بتحليل كشف المرأة لوجهها أمام الأجانب، وأمثال هذا كثير وقع فيه أهل الضلال، فلا يحل لمؤمن أن يفتي بأن يحل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله.
[ سادساً: تزيين الباطل وتحسين المنكر من الشيطان ]، ويقوم بهذا التزيين والتحسين هو الشيطان عدو الإنسان؛ لأنه يريد ألا ينجي إنسان من النار؛ ليكون معه كل البشر في جهنم، فلهذا يعمل ليل نهار على هذا.
[ سابعاً: حرمان أهل الكفر والفسق من هداية الله تعالى وتوفيقه لما هو حق وخير حالاً ومآلاً ]؛ لقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة:37]، وجاء: (الْفَاسِقِينَ)، و(الظَّالِمِينَ).. في آيات كثيرة حسب سنة الله تعالى، تريد أن تبقى على كفرك والله! ما تهتدي حتى ترغب في إزالة الكفر وطلب الهداية، تريد أن تبقى على فسقك فلن يمكن أن ترجع حتى ترغب بنفسك في الرجوع إلى الحق وترك الباطل، فهذه سنة الله في خلقه، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة:19]، لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264]، الذين توغلوا في هذا الفساد، وأبوا أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إليه.
هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر