قال الله عز وجل في سورة غافر:
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:38-43].
في هذه الآيات يذكر الله عز وجل لنا مناظرة مؤمن من آل فرعون من أهل مصر لفرعون ومن معه، وقد أراد فرعون -كما تقدم- أن يقتل موسى ومن معه، قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26] فانبرى هذا الرجل المؤمن مدافعاً عن موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقائلاً لهؤلاء: علام تقتلون هذا الرجل؟ تقتلونه لأنه يقول ربي الله؟ وماذا في ذلك؟ وقد جاءكم ببينات من عند ربه وقد رأيتم هذه البينات، فإن أطعتم هذا الرجل فيما يقول فإن كان صادقاً أصابكم بعض الذي يعدكم، وإن كان كاذباً فكذبه على نفسه وسوف يحاسبه ربه على ذلك.
قال سبحانه وتعالى: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:38] بدأ الكلام معهم وهو يقول: يا قوم، وكان يكتم إيمانه، فلم يزل يناظر ويذكر شيئاً فشيئاً ليتدبروا بعقولهم، حتى كشف لهم عن أمر نفسه، فقال: (اتبعوني)، أي: أطيعوني (أهدكم سبيل الرشاد)، وكان قبل ذلك قد كذب فرعون موسى وأنهى الحوار معه، قال تعالى: قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] أي: رأيي هو الصواب، والذي أنا أقوله هو الذي سينفذ، ثم أراد أن يريهم آية لنفسه، قال تعالى: وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ [غافر:36] أي: اجعل لي قصراً عظيماً وهرماً عالياً جداً من أجل أن أصعد إلى السماء وأنظر أين إله موسى الذي يزعمه، وأنا على يقين أنه كاذب، فلا يوجد إله في السماء، قال تعالى: وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ [غافر:37] إنَّ الذي زين لفرعون سوء عمله وزين له الكفر فاتبع هواه وقال: أنا ربكم الأعلى هو الشيطان، والله سبحانه وتعالى ختم على قلبه، فلا يفهم ولا يفقه شيئاً، فهو يسير في طريق الضلالة، فقد أضله الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أعجب بنفسه، وأعجبه رأيه، ولم يستمع إلى داعي الله، ولم يستمع إلى موسى الذي جاء بالآيات من عند الله سبحانه وتعالى.
فلما قال فرعون: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29] قال هذا المؤمن: يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:38] أي: سبيل الرشد، طريق الله سبحانه وتعالى الذي ترشدون فيه وتعقلون فيه وتفهمون الحق، وتستحقون من الله عز وجل أن يدلكم على الجنة وأن يدخلكموها، فقوله: (أهدكم سبيل الرشاد) أي: طريق الهدى وطريق الجنة.
قال تعالى: يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ [غافر:39] فالإنسان يتمتع في الدنيا بشبابه، ويتمتع بجماله ومنصبه وماله وأولاده، كل ذلك متاع الدنيا، ولن يدوم هذا المتاع أبداً، فإذا اغتر الإنسان بشبابه سرعان ما تأتيه الكهولة والشيخوخة، ويرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً، ومهما ادخر الإنسان المال فإنه سيتركه لمن يرثه، فيستمتع قليلاً ثم يترك هذا الذي استمتع به.
ويستمتع الإنسان بجماله حتى يظن أنه لا شيء أجمل منه، ثم تأتي عليه أعراض هذه الدنيا، وسرعان ما يزول ذلك، وتكون المرأة في أوج جمالها فتكبر في السن شيئاً فشيئاً ويذهب هذا كله، فالدنيا كلها متاع يستمتع بها الإنسان شيئاً، وما استمتع به زال بعد ذلك وتركه هذا الإنسان أو تركه هذا المتاع.
ومن البديع في القول المقابلة بين الدنيا والآخرة، يقول تعالى: إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ [غافر:39] وقابلها بالآخرة فقال: وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39] أي: دار الاستقرار إما إلى جنة وإما إلى نار، فأهل الجنة يستقرون فيها، وأهل النار يستقرون فيها، والدنيا دار زوال وسفر للإنسان، يرحل في هذه الدنيا إلى الآخرة حتى يصل إلى قبره ثم إلى الجنة أو إلى النار.
وقوله تعالى: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى [غافر:40]، حتى لا يظن أن الثواب والجنة للذكران دون الإناث، فالإنسان سواء كان ذكراً أو أنثى الذي يعمل العمل الصالح قل أو كثر، وهو مؤمن -أي: بشرط الإيمان- هو الذي يتقبل الله منه عمله، فالمؤمن ينتفع بعمله الصالح، أما الكافر فمهما عمل صالحاً فإنه يجزى به في الدنيا، أما يوم القيامة فيقول الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، فالكافر ظلم نفسه بأن كفر بالله وأشرك به وجحد، وجعل لله نداً وهو الذي خلقه سبحانه، فاستحق ألا يعطى شيئاً في الآخرة؛ لأن شركه أحبط جميع عمله، لكن المؤمن جاء بهذا الإيمان العظيم الذي يقبل به العمل وإن قل.
قال تعالى: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [غافر:40] يقال لهم: ادخلوا الجنة فيدخلون الجنة، وفي قوله تعالى: يُدْخَلُوْنِ الْجَنَّةَ قراءتان في هذه الكلمة.
فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [غافر:40] أي: يأمرهم الله سبحانه بدخول الجنة جزاءً بما كانوا يعملون، يأتون إليها ويدخلونها، فيدخلون الجنة، وتدلهم الملائكة: هذا طريقكم، هذه بيوتكم، هذه جنتكم، ولم يدخلوا الجنة بأعمالهم لتكون ثمناً، وإنما أعمالهم سبب لدخول الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)، والله عز وجل يقول: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، فصدق الله عز وجل، وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، فربنا يقول: بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] والباء للسببية، أي: بسبب ما كنتم تعملون، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) والباء هنا للثمنية، أي: عملك ليس ثمناً للجنة؛ لأن الجنة أغلى بكثير من عملك الذي عملته، إنما عملك سبب للجنة، فيرضى الله عز وجل عنك ويدخلك الجنة برحمته وهو أرحم الراحمين سبحانه.
وقوله تعالى: يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:40] أي: يرزقون في الجنة، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وقال تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]، وقال تعالى: فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:22-24] ، وقال تعالى: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن:52]، وقال تعالى: فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [الرحمن:68] هذه هي الجنة العالية، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهلها.
وقوله تعالى: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: بلا نهاية، فليس هناك نهاية للجزاء، فالله عز وجل قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24] أي: تهنوا بما في هذه الجنة، فقد تعبتم في الدنيا وعملتم، فهذا اليوم يوم الجزاء ويوم الراحة، تستريحون في الجنة فلا كدر ولا تعب ولا نصب فيها ولا خروج منها، ولا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، فهي جنة الله سبحانه.
قال تعالى: تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [غافر:42] أي: تدعونني لشيء من الجهل، ليس لي ولا لكم، تدعونني إلى الكفر وإلى عبادة البقر، وإلى عبادة فرعون الذي لا يملك لنفسه شيئاً، والكفر بالله: هو الجحود، أي: أن يعتقد أنه لا يوجد إله، والشرك بالله: أن يتخذ أنداداً مع الله، وحاشا لله سبحانه وتعالى، فهم يدعونه للكفر والشرك بالله، وهو يدعوهم إلى الله سبحانه العزيز الغالب القوي الجناب الذي لا يمانع، الذي إذا قال للأمر كن فلابد وأن يكون، سبحانه وتعالى عما يقوله الظالمون علواً كبيراً.
وقوله تعالى: وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ [غافر:42] العزيز: هو الله الغالب سبحانه، والغفار: غافر الذنب وقابل التوب، يغفر الذنوب ويمحوها سبحانه وتعالى ويسترها على أصحابها، ويكفر عنهم سيئاتهم.
وقوله تعالى: وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:43] (مردنا): رجوعنا إلى الله، (وأن المسرفين): كفرعون ومن معه الذين أسرفوا في قتل النفوس، وفي شركهم بالله سبحانه وتعالى، وفي عصيانهم، فهم أصحاب النار المستحقون لدخولها، والمستحقون لعذابها.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على سيدنا وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر