كل شيء يقع في الكون قد قدره الله عز وجل وأراده، فيجب على المسلم ألا يعترض على المحن والابتلاءات التي تمر بالمسلمين؛ فإن الله عز وجل يريد بها خيراً، والابتلاء سنة الله في خلقه، فقد ابتلى أنبياءه وأولياءه؛ ليرفع درجاتهم، ويعلي مكانتهم.
-
كل شيء في الكون لا يقع إلا بقدر
-
بعض الدروس المستفادة من حادثة الإفك
أيها الأخيار! اسمحوا لي أن أبدأ بهذا الدرس الذي استلهمته من قول الله تعالى في سورة النور:
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:11] .. إلى آخر الآيات الكريمات في سورة النور.
هذا الإفك الخطير، يقول الله فيه: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) وتدبر معي! فأنت قد قرأت الآيات الكريمة من قبل، لكنني اليوم أخاطب فيك عقلك وقلبك وفطرتك، الله يقول في هذا الإفك العظيم الذي طحن قلب المصطفى، ومزق فؤاده، إنه إفك رمي به المصطفى في شرفه.. رمي به المصطفى في عرضه.. رمي به المصطفى في طهارته، وهو الطاهر الذي فاقت طهارته كل العالمين، رمي به المصطفى في صيانة حرمته! إنه إفك خطير، والحديث في الصحيحين، ولا أريد أن أقف مع الحديث بطوله، وإنما نقف عند المهم منه، وفيه: أن
عائشة رضي الله عنها لما تخلفت عن الجيش في غزوة بني المصطلق لقضاء حاجتها، وكانت الغزوة بعد نزول آية الحجاب، فكانت تحمل في الهودج، وتنزل وهي بداخل الهودج، وهذا من دواعي الستر والحجاب، والهودج: هو المحمل المعلوم الذي يوضع على ظهر البعير، فإنه لما نزلت آية الحجاب كان نساء النبي صلى الله عليه وسلم يركبن في الهودج إذا سافرن مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وأرجو أن تتصوروا معي
عائشة الفتاة الحيية التي ترعرعت في بستان الحياء والإيمان إذا أرادت أن تقضي حاجتها وكانت في مكان فيه رجال، أتصور أنها ستنطلق بعيداً بعيداً، حتى لا تراها العين، ثم تقضي حاجتها، وهذا هو الذي كان في هذه الغزوة، فإنها لما خرجت كان الليل شديد السواد، وكان الليل حالك الظلمة، فعادت
عائشة رضوان الله عليها إلى هودجها في المكان الذي نزل فيه الجيش فتحسست عقدها فلم تجده، فعادت إلى المكان الذي قضت فيه حاجتها؛ لتبحث عن عقدها، ثم عادت فوجدت الجيش قد رحل! وكان الرجال قد حملوا الهودج فوضعوه على الراحلة وهم يظنون أن أم المؤمنين بداخل الهودج، فنامت في مكانها حتى يرجع إليها القوم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر
صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه أن يبقى خلف الجيش؛ ليأتي بأي شيء أو بأي متاع، فلما جاء
صفوان بن المعطل ورأى سواد إنسان فنظر إليها فعرفها وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، تقول
عائشة: فوالله! ما استيقظت من نومي إلا على استرجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي -أي: غطيت وجهي بجلبابي- فلما رآني عرفني وكان يراني قبل نزول آية الحجاب، قالت: والله! ما كلمني، ولا كلمته، وما سمعت منه غير استرجاعه -أي: غير قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون- فأناخ
صفوان راحلته، فركبت أم المؤمنين رضي الله عنها حتى أدركوا الجيش في نحر الظهيرة -أي: في وقت شدة الحر- فلما رآها رأس النفاق
عبد الله بن أبي قال: من هذه؟ قالوا: أم المؤمنين
عائشة. قال: ومن هذا؟ قالوا:
صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، قالت: فهلك من هلك في شتمي. وفي رواية خارج الصحيحين: قال المنافق الخبيث: من هذه؟ قالوا: أم المؤمنين
عائشة ، قال: ومن هذا؟ قالوا:
صفوان بن المعطل السلمي فقال الوقح: امرأة نبيكم تبيت مع رجل حتى الصباح، ثم جاء يقود لها الراحلة! والله ما نجت منه وما نجا منها! إنها قولة خبيثة شريرة، وتلقفت عصابات النفاق -التي لا يخلو منها زمان ولا مكان- هذه القولة الشريرة، وهذا الإفك الخطير، ورددت هذه الكلمات التي اتهم فيها رسول الله في عرضه، وفي شرفه ودينه ورسالته، وفي كل شيء، وفي
عائشة التي أحبها من كل قلبه، كما في صحيح
البخاري من حديث
عمرو بن العاص قال: قلت: (
يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة ..)، فيرمى رسول الله في زوجته! ويرمى
الصديق في طهارة بنته! وهو
الصديق الطاهر الذي قال قولته التي تعبر عن مدى ألمه، قال: (والله! ما رضينا بهذا في الجاهلية أفنرضى به في الإسلام؟!) و
عائشة هي الزهرة المتفتحة في بستان الإسلام، المترعرعة في حديقة الإيمان، التي تولى تربيتها ابتداءً
صديق الأمة ، ثم انتقلت في التاسعة من عمرها إلى بيت نبي هذه الأمة، فعلى أي منهج تربت
عائشة ؟! وعلى أي خلق ثم ترمى في عرضها وفي شرفها؟!
ويرمى
صفوان بن المعطل في دينه، بل ويرمى بالخيانة لربه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم! وترجع المسكينة
عائشة إلى بيت رسول الله في المدينة وهي لا تعلم شيئاً، فهي الحصان الرزان التي لا تأبه لمثل هذا، وخاضت عصابة المنافقين في المدينة شهراً كاملاً في هذا الإفك الخطير، ولحكمة يريدها ربنا لا ينزل الوحي على قلب المصطفى شهراً كاملاً، ويحطم الألم كبده، ويهز الحزن فؤاده، حتى خرج النبي يسأل عن
عائشة! فيسأل
أسامة ، ويسأل
علياً ، ويسأل بعض الصحابة عن
عائشة ، وتصوروا معي حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم! تقول
عائشة : وأنا لا أنكر شيئاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اللطف الذي كنت أعرف منه، فكان يدخل عليّ فيسلم ويقول: (
كيف تيكم؟) حتى دخلت عليّ
أم مسطح فأخبرتني بما يقوله أهل الإفك، فلما دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ فأذن لها رسول الله، فذهبت إلى بيت
الصديق رضي الله عنه، وبعد شهر كامل دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت
الصديق ، وجلس إلى جوار
عائشة رضي الله عنها، فتشهد -أي: حمد الله عز وجل، وأثنى عليه- ثم التفت إلى
عائشة وقال: (
يا عائشة ! إن كنت قد ألممت بذنب فاستغفري الله، وتوبي إليه؛ فإن العبد إذا أذنب وتاب إلى الله تاب الله عليه، وإن كنت بريئة فسيبرئك الله عز وجل)، تقول
عائشة : فلما سمعت مقالة رسول الله قلص دمعي -أي: جف دمعي- والتفت إلى أبي، وقلت: أجب عني رسول الله، فقال
الصديق: (والله! ما أدري يا ابنتي! ماذا أقول لرسول الله)، فتركت
عائشة المسكينة أباها
الصديق ، والتفتت إلى أمها وقالت: أجيبي عني رسول الله، فقالت الأم المسكينة الجريحة: والله! ما أدري يا ابنتي! ماذا أقول لرسول الله، ثم قال
عائشة : والله! لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف:
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18]، قالت: ثم نمت على فراشي، وأنا أعلم والله! أني لبريئة، وأن الله مبرئي، لكني ما كنت أظن أن ينزل الله فيّ وحياً يتلى، فلشأني في نفسي كان أحقر من أن ينزل فيّ وحي يتلى، بل كنت أرجو الله أن يرى رسول الله صلى الله عليه سلم رؤيا يبرئني الله فيها، قالت: والله! ما رام أحد مجلسه -أي: ما ترك أحد في البيت مكانه الذي يجلس فيه- وإذ بالوحي يتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا تنزل عليه الوحي أخذته شدة، فتحدر منه عرق كالجمان -أي: كحبات اللؤلؤ- في اليوم الشديد البرد؛ من شدة ما يتنزل عليه من الوحي، قالت: فسري عن رسول الله وهو يبتسم ويقول: (
أبشري يا عائشة ! فلقد برأك الله عز وجل)، فقالت أمها: قومي يا
عائشة ! -أي: قومي إلى رسول الله- فاشكريه، فقالت
عائشة : لا والله! والله! لا أقوم إلى رسول الله، ولا أحمد إلا الله عز وجل الذي أنزل براءتي من السماء، فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت براءتها العظيمة من أعظم مناقب
عائشة ، قال عز وجل:
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11].
ويسأل الآن أصحاب القلوب القلقة المتشككة: أين الخير في هذا الإفك الخطير؟! أين الخير وقد رمي رسول الله في عرضه؟! أين الخير وقد اتهمت
عائشة بالزنا؟ وأين الخير وقد رمي
الصديق في شرفه؟ وأين الخير وقد اتهم
صفوان بالخيانة؟! وأين الخير وقد كادت
عائشة أن تموت وهي بين الأحياء؟! وأين الخير والمؤمنون الصادقون من الأوس والخزرج كادت أن تقع بينهم فتنة؟!
ولكن الخير موجود كما قال تعالى:
لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]، وقال تعالى:
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
فإن قلت: أين الحكمة في هذا الشر؟ وأين الخير في هذا الإثم؟!
فأقول: تدبر معي! وسأقف على ثلاثة دروس فقط من هذا الشر؛ لأجلي الخير الذي فيه.
رسول الله لا يعلم الغيب
الفتن والابتلاءات تظهر المنافقين
حادثة الإفك أظهرت فضل عائشة
-
بعض الدروس المستفادة من ابتلاءات النبي صلى الله عليه وسلم
-
بعض الدروس المستفادة من صلح الحديبية
وفي صلح الحديبية قال
عمر بن الخطاب: (
يا رسول الله! ألسنا على الحق؟! قال: بلى، أليسوا على الباطل؟! قال: بلى، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا ونرجع؟!).
لقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف وأربعمائة رجل من أصحابه -على الراجح من أقوال المحققين من أهل السير- للعمرة، خرج رسول الله بإحرامه يسوق الهدي أمامه، ولم يخرج للقتال، ولكن المشركين تكبروا وعاندوا وأعرضوا ومنعوا رسول الله من دخول بيت الله الحرام، وأرسلوا إليه مفاوضين، حتى أرسلوا إليه
سهيل بن عمرو؛ ليوقع عقد صلح الحديبية مع رسول الله، وكان عقداً مجحفاً ظالماً في الظاهر، حتى قال
عمر : فلم نعط الدنية في ديننا؟! وغضب
عمر إلى الحد الذي ترك فيه رسول الله وذهب إلى
الصديق؛ ليقول له ما قاله للنبي: يا
أبا بكر ! ألسنا على الحق؟! قال: بلى، أوليسوا على الباطل؟! قال: بلى، أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى، قال: فلم نعط الدنية في ديننا يا
أبا بكر ؟! فيقول
الصديق لـ
عمر ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لـ
عمر ، فالرسول قال: (
إني رسول الله ولن يضيعني)، و
الصديق قال لـ
عمر : (يا
عمر ! إنه رسول الله، ولن يضيعه).
ونزل القرآن على رسول الله يخبره أن الصلح كان فتحاً، ونزل قوله تعالى:
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا [الفتح:1]، فلما سمع
عمر الآية اطمأن قلبه، واستبشر بأنه فتح، وبالفعل لقد كان فتحاً، فلقد تفرغ النبي صلى الله عليه وسلم للدعوة، وأرسل كتبه إلى الملوك والحكام والرؤساء، وصار الإسلام قوة لا يستهان بها، وبعد سنوات قليلة عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه المؤمنين الأتقياء؛ ليفتحوا مكة بأمر رب الأرض والسماء، فكان صلح الحديبية -وإن كان في ظاهره ظلم شديد للمسلمين- فتحاً مبيناً، كما قال رب العالمين، وكما وعد بذلك سيد المرسلين: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ).
-
الدروس المستفادة من الأحداث والمحن عبر التاريخ
لا أريد أن استطرد مع أحداث التاريخ كلها، ففي كل محنة خير، وفي كل شر خير، ولا يوجد على الإطلاق شر محض، بل في كل محنة منحة، وفي كل ابتلاء دروس، وإن غابت عنا الحكمة فالله يعلمها؛ لأنه هو الذي قدر وقضى بعلم وحكمة.
وإمام أهل السنة:
أحمد بن حنبل ما عرفت إمامته إلا بعد محنة فتنة خلق القرآن، وما صار إماماً لأهل السنة إلا بعد المحنة، وما عرف بأنه إمام من أئمة الصبر، وبأنه جبل من جبال الثبات على الحق، إلا بعد المحنة، فالمحن تظهر الرجال، والمحن تظهر المخبوء في الصدور؛ لأن الإنسان في حال الرخاء والسعة قد لا يعرف خبايا نفسه، وقد لا يقف على عيوبها، بل قد يتوهم الكمال، فإذا ما تعرض لمحنة أو ابتلاء ظهرت عيوب نفسه: من الجزع والفزع والهلع، والخوف وعدم الحب لدين لله، فالمحن تظهر الرجال.
ولما تعرض الإمام
أحمد للمحنة، وسجن ثلاثين شهراً، وضرب بالسوط، من أجل أن يقول: إن القرآن مخلوق، فقال: ائتوني بآية من كتاب الله لأقول بها، ائتوني بحديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحدث به، فثبت الإمام حتى صار بعد المحنة إماماً لأهل السنة، حتى قال إمام الجرح والتعديل
علي بن المديني رحمه الله تعالى: لقد أعز الله الدين بـ
أبي بكر يوم الردة، وبـ
أحمد بن حنبل يوم المحنة.
وهذا درس آخر من أحداث التتار لما نزلوا العراق، وأسأل الله أن يكشف هم العراق، وأن يدمر الأمريكان ومن عاونهم من البريطان، فما زالوا يدكون العراق بالطائرات، بل أعدوا العدة لضرب العراق ضربة ساحقة.
لما دخل التتار بغداد، وكانت عاصمة الخلافة، فمنعوا صلاة الجمعة وصلاة الجماعة في بيوت الله جل وعلا، وخشي المسلم من أن يخرج إلى الشارع، ولقد هزم المسلمون يومها هزيمة نفسية نكراء، حتى كان الرجل التتري إذا رأى المسلم في الشارع صرخ فيه وقال: قف مكانك! حتى أرجع إلى داري لآتي بسيفي لأذبحك! فيثبت المسلم في مكانه من الفزع والرعب ولا يتحرك حتى يغيب التتري ما شاء الله له أن يغيب ثم يرجع ليذبح المسلم في مكانه، وهو لم يتحرك من الهزيمة النفسية القاتلة!! لكن هذا كان يحمل من الخير ما الله به عليم، فبهذه المحنة صفت القلوب، وصفت الصفوف، فثبت على الصف الأطهار والأبرار، وخرج من الصف المنافقون والدخلاء، حتى قام المسلمون على قلب رجل واحد، فهزموا التتار شر هزيمة، وعادت عاصمة الخلافة مرة أخرى إلى المسلمين.
ثم جاءت بعد ذلك الحروب الصليبية الطاحنة، واستولى الصليبيون على بيت المقدس، ورفعوا الصلبان على كل أجزائه وأماكنه، ومنعوا الصلاة في المسجد الأقصى واحداً وتسعين عاماً، ولم تصل في المسجد صلاة واحداً وتسعين عاماً! هذه المحنة الشديدة الطويلة صفت القلوب، وغربلت الصفوف، فخرج من الأمة الأطهار والأبطال، وأنا أؤكد تأكيداً جازماً: أن الأمة لا تخلو أبداً من هذه العصابة المؤمنة من أبناء الطائفة المنصورة التي لا يخلو منها زمان ولا مكان، فخرجت هذه الصفوة وهذه الثلة المباركة بقيادة
صلاح الدين -أسأل الله أن يزرق الأمة الصلاح؛ لتكون من جديد قادرة على إنجاب مثل:
صلاح- فهزموا الصليبيين شر هزيمة، واستردوا المسجد الأقصى، ويومها علّم
صلاح الدين الصليبيين الحاقدين درساً من أعظم دروس الإحسان في الإسلام.
-
بعض الدروس المستفادة من الأحداث الجارية على الأمة الإسلامية في هذا العصر
والمحنة التي تمر بها أمتنا الآن في فلسطين وفي كشمير وفي الشيشان وفي الفلبين وفي طاجاكستان وفي العراق وفي الجزائر وفي السودان وفي اريتريا وفي كل مكان، أقول -بعد هذا السرد التاريخي السريع- بملء فمي وأعلى صوتي: لا تحسبوا هذه الفتن شراً لكم، بل هي خير لكم، وإن ظن البعض أنه لا خير؛ لأن الدماء تسفك، والأشلاء تمزق، والقدس في أيدي اليهود، والشيشانيون يذبحون، والمسلمون في كشمير يذبحون .. إلخ.
ولكن كما قال الله: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) وأستطيع أن أستخرج بعض دروس الخير من هذه الفتنة الحالقة الطاحنة، وأنا أقر بأنها طاحنة وبأنها قد طالت، فبعد زوال ظل الخلافة لم تزل الأمة في محنة، ومما يزيد الألم في القلب: أن الأمة في الماضي كانت مع كل محنة تملك جل أو كل مقومات النصر: من إيمان صادق بالله، وتوكل عليه، واستعانة به، وإعداد للقوة على قدر الطاقة، وبهذا تكون الأمة قد نفذت أمر الله، وامتثلت شريعته، لكن الذي يزيد الألم الآن في القلب: أن الأمة قد نحت شريعة الله بالجملة، ولم تعد تثق في الله كثقتها في أمريكا أو في أوروبا! بل ما زالت الأمة الآن -على ألسنة زعمائها- تردد وتتغنى بالدور الأمريكي، وبراعية السلام في المنطقة! وبالاتحاد الأوروبي! وبالحلف الأطلسي! وبالبيت الأبيض! وبالبيت الأحمر! فالأمة الآن تثق في أمريكا وفي بعض الدول أكثر من ثقتها برب السماء والأرض! وهذا مما يزيد المحنة أسىً، وأنا لا أنكر ذلك، ولكنني ومع كل ذلك أذكر بقوله تعالى: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)، فإن قلت أين الخير؟! فأقول: تدبر معي! لقد شاء الله جل وعلا في هذه المحنة الأخيرة الطاحنة أن يظهر للعالم كله حقيقة الغرب، وسقطت ورقة التوت، التي طالما وارى بها الغرب عوراتهم وسوءاتهم، وتمزقت خيوط العنكبوت التي طالما وارى بها النظام الغربي وجهه الكالح الغشوم، فسقطت ورقة التوت، وتمزقت كل خيوط العنكبوت، وأظهرت المحنة الأخيرة بعد زوال ظل الخلافة، وبعد وضع الغدة السرطانية الخبيثة المعروفة بدولة اليهود في قلب فلسطين الحبيبة، أظهرت المحنة النظام الغربي على حقيقته، وقد كنا منذ سنوات قليلة جداً نسمع في إعلامنا، ونقرأ على صفحات الجرائد لأقلام تعزف على وتر التصفيق والتشييد للغرب، فشاء الله تبارك وتعالى أن تظهر المحنة حقيقة الغرب، وأن الغرب الكافر لن ينصر توحيداً قط؛ لأن الكفر ملة واحدة، وصدق ربي إذ يقول:
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وصدق ربي إذ يقول:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [الممتحنة:1].
والمؤمن لا يحتاج إلى هذا الواقع ليصدق به كلام الله، ولكن الواقع المر يظهر الحقائق لأصحاب القلوب القلقة المتشككة، فقد ظهر النظام الغربي على حقيقته، وظهرت حقيقة البيت الأبيض، وظهرت حقيقة هيئة الأمم، وظهرت حقيقة الحلف الأطلسي، وظهرت حقيقة مجلس الأمن، وظهرت حقائق هذه الأحلاف والمنظمات والهيئات، وعلم المسلمون بل والعلمانيون أن القضية لن تحلها أمريكا، ولن تحلها أوروبا أبداً!
هذه الفتنة أظهرت كل هذه الحقائق، وبدون هذه المحنة لم يكن قد ظهر شيء من هذا على الإطلاق، ولقد انتبه غافل قومنا من المسلمين إلى أن الغرب الكافر لا ينصر لله ديناً، ولا ينصر للأمة قضية، وأظهرت المحنة حقيقة الزعماء، وحقيقة كثير ممن يدعي أنه يحب الإسلام، بل أظهرت حقيقة من يدعي الوطنية، وأظهرت هذه المحنة حقيقة الوطنيين، فما أودى بالأمة إلا وطنية مشئومة، وما أودى بالأمة إلا عصبية منتنة، ولكن المحنة أظهرت كل هذا، وأظهرت المحنة أيضاً حقيقة كثير من العلماء ممن سقطوا فزوروا الفتاوى من أجل كرسي أو منصب زائل، وأظهرت المحنة أيضاً كثيراً ممن كان يتغنى بحب الجهاد، ولكنه يبخل بدعوة لإخوانه فضلاً عن جهاد بماله! فأظهرت الأزمة للأمة هذه الحقائق.
وأظهرت الأزمة أيضاً: أن محمداً ما مات، وما خلف بنات، بل خلف رجالاً، بل إن الأطفال على أرض فلسطين قد سطروا المعجزات، ورب الكعبة! لقد صرت أحقر نفسي إلى جوار طفل على أرض فلسطين، فماذا أفعل؟! وماذا يصنع مثلي؟! نتكلم ولكن لا ينفع الكلام، ونناظر في التكليفات الباردة، وما أيسر التنظير! نشاهد الدماء كل يوم تسفك، والأشلاء كل يوم تمزق! وبعدها بلحظات نأكل ملء بطوننا، وننام ملء جفوننا، ونضحك ملء أفواهنا، وإذا خرج أحدنا في مظاهرة صاخبة عاد وهو يتصور أنه قد فتح القدس، وقد أدى كل ما عليه لله!
والله! لقد صرت أحقر نفسي إلى جوار طفل صغير في الخامسة أو في السادسة من عمره على أرض فلسطين، طفل لا يجد أمامه إلا حجراً يواجه به.. عصفوراً.. يواجه به كلباً! بل يواجه به أعتى كلاب الأرض .. يواجه به أشد الخنازير! يواجه به طائرات في السماء! .. يواجه به دبابات في الأرض! يواجه به رصاصاً حياً! طفل يمسك حجراً يريد الشرف .. يريد الكرامة .. يريد العزة للأمة المسلوبة الجريحة، طفل علم الرجال الكرامة .. طفل علم الرجال الرجولة .. طفل علم الزعماء البطولة .. طفل علم القادة حقيقة التضحية والفداء!!
فما ظهر هذا الخير إلا بعد هذه المحنة، ظهر شباب على أرض القدس يريد أن يضحي بنفسه لله جل وعلا.
ويوم أن خرج أمناء جبل الهيكل المزعوم في يوم الأحد لوضع حجر الأساس، نادى طفل القدس على المسلمين في القدس: أن احفظوا المسجد الأقصى، وحولوا بين اليهود وبين بيت الله، فخرج المسلمون الأطهار بعشرات الألوف من كل أنحاء فلسطين، ولم يخرجوا في صباح يوم الأحد بل خرجوا ليلة الأحد، فباتوا في بيت الله جل وعلا، باتوا في المسجد الأقصى وكلهم يشتاق للقاء الله، وكلهم يريد أن يضحي بجسده وبروحه وببيته وبماله من أجل بيت الله جل وعلا، ولم تستطع العصابة اليهودية المتطرفة أن تضع الحجر في ذلك اليوم، ولم تتمكن من ذلك بفضل الله، ثم بفضل هذه الثلة الكريمة التي علمت الدنيا كلها: أن محمداً ما مات وما خلف بنات، بل خلف أطهاراً أبراراً، تحترق قلوبهم شوقاً للشهادة، ويتمنى أحدهم أن لو ضحى بنفسه لنصرة دين الله جل وعلا، وأن لو بذل كل دمه لحماية المسجد الأقصى من براثن اليهود المجرمين، فـ(لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).
-
النصر مقرون بالابتلاء والمحن