إسلام ويب

التربية لماذا 4للشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التربية الإيمانية في الأمة جزء من حياتها وسلوكها، فأمة بلا تربية ليس لها ذكر، وأمة بلا سلوك أمة مهزومة ذليلة خانعة! ولذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الجانب، فربى جيلاً خلد ذكره التاريخ، وسطر عظمته الدهر، وإذا نظرت إلى المعلم والمربي عليه الصلاة والسلام وجدت أنه ما كان يأمرهم بأمر إلا كان أول الممتثلين له، وما نهاهم عن شيء إلا كان أول المنتهين والمجتنبين له، فكان قدوة مثلى في الأخلاق والقيم، فتعلقت به قلوب أصحابه، وأحبته، وعملت بكل ما أرشد إليه، وحث عليه، وهذه هي التربية بالقدوة التي هي من مهمات الأسرة المسلمة.

    1.   

    ملخص لما مضى من المحاضرات السابقة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض، فلا راد لحكمه، ولا معقب لأمره. وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحيا الله هذه الوجوه الطيبة المشرقة، وزكى الله هذه الأنفس، وشرح الله هذه الصدور، وأسأل الله جل وتعالى أن يتقبل مني وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعني وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد الدعاة، وإمام النبيين في جنته، ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أيها الأحبة في الله! أعلن أحبابنا في هذا المسجد الطيب المبارك عن محاضرة الليلة بعنوان: أمة القرآن بين الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا العنوان أنا الذي أعطيتهم إياه، ولكني رأيت أنه من الأفضل أن نواصل سلسلتنا التربوية المنهجية التي بدأناها في مساجد هذا البلد الكريم. لذا فإن لقاءنا الليلة هو اللقاء الرابع من لقاءات هذه السلسلة المنهجية التي أعلنا لها بعنوان: التربية لماذا؟ وفي عجالة سريعة ألخص لحضراتكم ما ذكرناه في اللقاءات الماضية، وإن هذه السلسلة المنهجية من الأهمية بمكان، يحتاجها كل داعية وكل مرب، بل وكل مسلم، بل وكل مسلمة، فإنا في أمس الحاجة إلى منهج تربوي أصيل، منبثق من القرآن والسنة لفهم سلف الأمة رضوان الله عليهم جميعاً. ألخص لحضراتكم أهم العناصر التي ذكرناها في اللقاءات الماضية في عجالة سريعة وأقول: تكلمنا عن أهم الأسباب التي أدت إلى طرح هذا الموضوع في هذه الآونة. ولخصت هذه الأسباب فيما يلي: أولاً: هذه الصحوة الإسلامية العالمية المباركة، وهذه لا ينكرها أحد على الإطلاق، ولكن هذه الصحوة من أجل أن تكون صحوة قوية بناءة مثمرة، لا يضيع جهدها كما يضيع ماء الأمطار بين الوديان والشعاب، فإنها في حاجة ماسة إلى منهج تربوي أصيل، منبثق من القرآن والسنة، بفهم سلف الأمة؛ حتى لا تقع الصحوة في أي تعامل خاطئ مع النصوص الخاصة أو العامة، بوضعها في غير موضعها، أو بالاستشهاد بها في غير محلها، أو بدون تحقيق المناطات الخاصة والعامة التي لابد منها للربط ربطاً صحيحاً بين دلالات النصوص وحركة الواقع. السبب الثاني: الذوبان في بوتقة المناهج التربوية الغربية الدخيلة، فإننا نرى الأمة يوم أن هزمت هزيمة نفسية نكراء غدت مستعدة للذوبان في أي بوتقة لأي منهج تربوي حتى ولو كان هذا المنهج يصطدم اصطداماً مباشراً مع عقيدتها وأخلاقها وسلوكها. ومن ثم وجب علينا أن نقدم هذا المنهج ليتخلص واضعو ومخططو المناهج التربوية لأبنائنا وبناتنا من عقدة النقص أمام هذه المناهج الغربية الدخيلة على عقيدتنا وديننا وإسلامنا. السبب الثالث: الانفصام بين المنهج المنير والواقع المرير، فإنا نرى الآن انفصاماً نكداً بين منهجنا الرباني وواقع الأمة في جانب العقيدة.. في جانب العبادة.. في جانب التشريع.. في جانب الاتباع.. في جانب الأخلاق والمعاملات والسلوك، وبعد هذه الأسباب بينت المصادر التي يجب على الأمة أن ترجع إليها مرة أخرى لتستقي منها منهجها التربوي. وقلت: إن هذه المصادر هي: القرآن الكريم؛ فإن القرآن هو مصدر التربية الأول الذي يجب على جميع أفراد الأمة أن يعودوا إلى نبعه الفياض الذي لا ينبضب، وأن يستقوا منه منهجهم في كل مناحي الحياة، في جانب السياسية.. في جانب الإعلام.. في جانب التعليم.. في جانب التربية.. في جانب الاقتصاد.. في جانب الاتباع.. في جانب الأخلاق.. في جانب السلوك.. في كل جوانب الحياة؛ لأن القرآن منهج حياة. المصدر الثاني من مصادر التربية: هو السنة، فمن نادى بعودة الأمة إلى القرآن بدون السنة فإنما هو مخادع، فهو على كذب وعلى وباطل؛ لأن من آمن بالقرآن وقد ضيع السنة فقد ضيع السنة والقرآن معها. فلا بد من التمسك بالسنة مع القرآن؛ لأن السنة توضح وتبين آيات الحق جل وعلا. المصدر الثالث: هو منهج السلف باعتباره يمثل التطبيق العملي للقرآن والسنة. ثم تكلمت بعد ذلك -أيها الأحباب- عن خصائص التربية، وقلت: إن المنهج التربوي ينفرد بخصائص كثيرة ومن أهمها ما يلي: أولاً: خاصية التكامل والشمول. ثانياً: التوازن والاعتدال. ثالثاً: التميز والمفاصلة. التكامل والشمول: خاصية فريدة من خصائص المنهج التربوي الإسلامي؛ لأنه منهج رباني ليس من صنع البشر؛ إذ من المستحيل أن يقدم منهج بشري منهجاً متكاملاً شاملاً؛ لأن الإنسان محدود من ناحية الزمان والمكان، ومحال أن يقدم الإنسان منهجاً متكاملاً شاملاً؛ لأنه إن قدم منهجاً يصلح لجانب فإنه لن يصلح لجانب آخر، وإن صلح هذا المنهج لزمان فإنه لا يصلح لزمان آخر؛ لأن الإنسان محكوم بفقره، محكوم بضعفه، محكوم بعجزه، محكوم بقصر عمره، محكوم بشهواته وضعفه ونزواته. لذا أيها الأحباب! فإن المنهج الوحيد الذي يمتاز بالتكامل والشمول في جميع مناحي الحياة إنما هو المنهج الرباني؛ وليس ذلك إلا لأنه منهج من وضع وصنع الله جل وعلا، الذي خلق الكون والإنسان وهو القائل: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]. الخاصية الثانية من خصائص المنهج التربوي: هي التوازن والاعتدال، وقلت في اللقاء الماضي: بأن خاصية التوازن والاعتدال ليست سمة للمنهج التربوي فحسب، ولكنها خاصية للكون كله، إننا نرى التوازن والاعتدال ليس في المنهج فقط، وإنما في الكون كله؛ لأن الذي خلق الكون ووضع المنهج إنما هو الله الواحد جل وعلا. ليل ونهار، ضياء وظلام، صيف وشتاء، حرارة وبرودة، ماء ويابس، لا يطغى عنصر على مقابله، ولا يحيد عن مداره أو عن فلكه الذي حدده الله، فإننا نرى التوازن والاعتدال في الكون كله؛ لأن الذي أبدع الكون كله إنما هو الله: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88]. ومن هذا التوازن في الكون كله استمد المنهج التربوي توازنه واعتداله، وضربت عدة أمثلة لهذا التوازن والاعتدال في جانب الروح والمادة أو الدين والدنيا، وضربت مثلاً لهذا التوازن والاعتدال في أمر التشريع وقلت: بأن جميع المناهج الأرضية إن كانت قد نبغت في جانب فإنها قد تعطلت في جانب آخر، فنرى منهجاً أرضياً منحرفاً ركز على ما يشبع الروح في هذا الإنسان، فأعطى للروح كل ما تشتهيه حتى أصبح الإنسان كائناً مشلولاً عن كل ما يمت إلى المادة والحياة بصلة، كالرهبانية التي ابتدعها بعض طوائف النصارى، ونرى منهجاً قد ركز على الجانب المادي في الإنسان فأعطى للإنسان -أي: لهذا البدن- كل ما يشتهي من أكل وشراب وطعام، وشهوات ونزوات، وأصبح الإنسان لا يعيش إلا لعرشه.. لا يعيش إلا لكرشه.. لا يعيشه إلا لفرجه.. لا يعيش إلا لشهواته ونزواته، كالأنعام تماماً بتمام كما حكى ربنا عن هذا الصنف، فقال جل وعلا: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]. والخاصية الثالثة: هي خاصية التميز والمفاصلة؛ وكم كنت أتمنى أن أفرد لهذه الخاصية محاضرات لا محاضرة واحدة، ولكن نسأل الله أن يفرج الكرب، وأن يكشف الغمة عن الأمة، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أقول: يوم أن كان المسلم متميزاً مفاصلاً لكل أفراد المجتمع الذي يعيش فيه -أي: من المشركين والمنافقين الذين يخالطونه في هذا المجتمع- ويوم أن كانت الأمة متميزة مفاصلة لمجتمعات الشرك والكفر والضلال، كانت الأمة حينئذٍ علماً على رأس الدنيا، فلما تركت الأمة هذا التميز والمفاصلة أصبحت نكرة في هذه الدنيا، لا وزن لها ولا اعتبار، بل سمعنا بأم آذاننا من يقول على الكافر: والله إنني أراه الآن أفضل من المسلمين، ورب العالمين يقول: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. ذلكم حكم الله، فيأتي موتور تربى على موائد العلمانيين ليقول بملء فمه: إنني أرى الكافر الآن أفضل من كثير من المسلمين. فالتميز والمفاصلة من أهم خصائص المنهج التربوي، فالمنهج التربوي الإسلامي يربي المسلم تربية فريدة فذة، تربية عقائدية وتعبدية، وسلوكية وأخلاقية، وفكرية وحضارية، لا يمكن على الإطلاق أن تلتقي مع أي منهج تربوي أرضي منحرف من صنع البشر من المهازيل، ممن تتحكم فيهم الأهواء والشبهات والنزوات من العلمانيين الشيوعيين والديمقراطيين، والفارغين والساقطين الذين تقدموا الآن ليقننوا وليشرعوا، وليقودوا دفة التوجيه ودفة التربية ولا حول ولا قوه إلا بالله العلي العظيم!

    1.   

    من وسائل التربية

    أيها الأحبة! وبعد الانتهاء من مصادر التربية وخصائص التربية فإننا الليلة سنبدأ الحديث عن عنصر آخر من عناصر هذا المنهج التربوي ألا وهو: وسائل التربية، كيف نربي؟ وبعد الانتهاء من الوسائل إن شاء الله جل وعلا إن قدر لنا البقاء واللقاء فسوف أتحدث عن صفات المربي، أي: من الذي ينبغي أن يتصدى للتربية؟ وقبل هذه تعالوا لنبدأ الليلة عنصراً جديداً من عناصر هذا المنهج التربوي ألا وهو: وسائل التربية، وسوف أركز الحديث مع حضراتكم في الوسائل التالية: أولاً: التربية بالقدوة. ثانياً: التربية بالموعظة. ثالثاً: التربية بالقصص القرآني والنبوي. رابعاً: التربية بالمثل القرآني والنبوي. خامساً: التربية بالعادة والأحداث الجارية. سادساً: التربية بالعبادة. وأخيراً: التربية بالعقوبة.

    من وسائل التربية القدوة الصالحة

    وأرجو الله أن يبارك لي في وقتي وفي وقتكم، لنتحدث الليلة عن الوسيلة الأولى ألا وهي: التربية بالقدوة. والحق أقول: والله يا إخواني إنني وأنا أتحدث الآن عن التربية بالقدوة أراني أتجاوز قدري، وأتعدى حدودي، ويرن في أذني الآن قول القائل: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كي ما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل ما تقول ويقتدى بالفعل منك وينفع التعليم ولكن المرء -أيها الأحباب- قد ينطلق في حديثه لا من منطلق شعوره بأنه قدوة، ولا من منطلق الشعور بالأهلية، وإنما ينطلق من منطلق الشعور بالمسئولية، والقاعدة الأصولية تقول: (من عدم الماء تيمم بالتراب). فأسأل الله جل وعلا أن يغفر ذنبنا، وأن يستر عيبنا، وأن يتقبل منا وإياكم صالح أعمالنا، وأن يرزقنا الإخلاص والصدق في أقوالنا، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير. أيها الحبيب الكريم! إن التربية بالقدوة من أهم وأخطر وسائل التربية، وإننا نرى الآن كثيراً من شباب الأمة يتخبط في حيرة، يرى انفصاماً نكداً ورهيباً، لا يرى قدوة عملية بعدما صمت آذانه بكثير الكلام، وهنا يعيش كثير من شبابنا في هذا الصراع النفسي القاتل، لماذا؟ لأنه يسمع كلاماً ككلام جحا الذي صنع يوماً ساقية على النهر، تأخذ الماء من النهر فترد نفس الماء إلى نفس النهر، لم يكن عندنا غير هذا الأسلوب، والحمد لله كلكم أهل علم وأهل فهم. أقول: كـجحا الذي صنع ساقية على النهر، لتأخذ الماء من النهر ولترد نفس الماء إلى نفس النهر، فتعجب الناس وقالوا: عجباً لك يا جحا ! تصنع ساقية تأخذ الماء من النهر لترد نفس الماء إلى نفس النهر، فقال: جحا : يكفيني نعيرها، وهذا هو الواقع، يكفينا أننا نسمع هذا الصياح. وهذا هو الواقع المر أيها الأحباب! أعني هذا الانفصام، بل إن شئت فقل: هذا الصراع النفسي الذي يعيشه كثير من شباب الأمة -لا أقول في مصر وحدها، بل في جميع أرجاء المعمورة- إنما هو نتيجة حتمية؛ لأن شباب الأمة يسمع ولا يرى، يسمع كلاماً كثيراً ولا يرى القدوة العملية الحية، ورحم الله من قال قديماً: مشى الطاوس يوماً باختيال فقلده بمشيته بنوه فقال علام تختالون قالوا لقد بدأت ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه نرى طالب العلم جريئاً على الفتيا، نرى طالب العلم لا يحسن الأدب مع العلماء إلا من رحم الله جل وعلا؛ لأن طالب العلم يرى الآن رحى الصراع دائرة بين علمائه وشيوخه، وبين من يتلقى المنهج على أيديهم، هذا صراع نفسي، والله إني أعذر طلاب العلم حينما يرون هذا، فلذا أيها الأحباب! أقول: إن أعظم خطوة عملية نخطوها الآن لتصحيح المسار والمنهج، ولتصحيح الطريق إنما هي أن نقدم لشباب الأمة ولأبناء الأمة القدوة العملية، ليرى الشباب القدوة تتحرك بين أيديهم، يرونها بأعينهم، ويسمعونها بآذانهم، حينئذ لا ترى هذا الصراع النفسي القاتل المدمر. فحينئذ قد يكون من اليسير جداً أن نقدم منهجاً نظرياً في التربية كساقية جحا بالضبط، ونقدم منهجاً دقيقاً محكماً، وكيف لا وسوف نقدم منهجاً نقول فيه: قال الله.. قال رسوله.. فعل السلف الصالح، منهج نظري دقيق محكم، ولم لا وهو قرآن وسنة وفعل سلف. ولكن ليست العبرة بأن نقدم المنهج النظري فحسب، بل سيظل هذا المنهج حبراً على ورق ما لم يتحول إلى منهج عملي وواقع يتحرك في دنيا الناس، كل عالم نظري يقدم المنهج النظري، وكثير من طلبة العلم وشباب الأمة حافظين المنهج النظري، لكن المنهج هذا ليس له قيمة والعياذ بالله! ليس في ذاته وإنما في حياتنا لماذا؟ لأن المنهج سيظل حبراً على ورق مثل القوانين التي هي محبوسة في أدراج مجلس الشعب لتقنين وتطبيق الشريعة، حبر على ورق لا قيمة له، ليس في ذاته فهو الخير كله ولكن في حياتنا وواقعنا، سيظل المنهج حبراً على ورق إلى أن يتحول في حياة الناس إلى منهج عملي، وإلى واقع متحرك مرئي ومسموع ومنظور. يا أخي! هب أن الله جل وعلا قد أرسل رسوله للناس ملكاً، فهل ينفع؟ لا ينفع. لو جاء هذا الملك وصام رمضان ثلاثين يوماً، لقالوا: الحمد لله هذا ملك، ليس من خلقتنا، وليس من طينتنا، ولو جاء وصلى الخمس الصلوات في اليوم، لقالوا: الحمد لله هذا ملك، ولو جاء وأدى الأمانة وأدى جزئيات وأركان المنهج، وحولها إلى واقع لقال الناس: إنه ملك هيئ وأعد لهذا، أما نحن فلا نستطيع أن نفعل ما فعله، ولكن الله جل وعلا -وهو الحكيم الخبير- لم يرسل رسوله ولا نبيه إلا من جنس البشر: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا [الأنعام:9]. سبحان الله! لابد أن يكون من صنف البشر لماذا؟ حتى ولو جاء هذا الرسول ليحول المنهج التربوي الإسلامي إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة متحرك ومرئي ومسموع ومنظور، ويرى الناس بأعينهم، ويسمع الناس بآذانهم، يعرف الناس حينئذ أن هذا المنهج حق، حول في دنيا الناس إلى واقع؛ فيتبعونه بدون انفصام وصراع. ومن هنا أرسل الله القدوة والمثل للعالمين جميعاً؛ ليحول هذا المنهج الرباني إلى واقع عملي، وإلى منهج حياة، بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله سلم القدوة الطيبة والمثل الأعلى ليحول المنهج النظري إلى واقع، وقال جل وعلا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. أقول: أعظم وسائل التربية: التربية بالقدوة، متى يخرج الولد محباً للصلاة؟ إذا رأى أباه يصلي، وإذا رأى أمه تصلي. متى تخرج البنت الصغيرة محبة للحجاب والعفة؟ إذا رأت أمها محبة للحجاب ملتزمة به. متى يخرج الولد راقصاً؟ إذا رأى أباه راقصاً، وإذا رأى أمه عارية. متى تخرج البنت مستهترة لا تعترف بفضيلة ولا تقدس إلا الرذيلة؟ إذا نشأت في بيت يحارب الفضيلة ويقدس الرذيلة، وهكذا كما ذكرت في أبياتي التي ذكرتها منذ قليل: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه لا يمكن على الإطلاق أن يتربى الولد على الصدق إذا رأى أباه كاذباً .. لا يمكن على الإطلاق أن يتربى الولد على الأمانة إذا رأى أمه تخون أباه.. لا يمكن على الإطلاق أن تتربى البنت على الفضيلة إذا رأت أمها مستهترة تحب الرذيلة!

    الأستاذ والمعلم هو القدوة الصالحة

    جاء تلميذ يوماً لأستاذه وقال: يا أستاذي! أريد أن تعلمني اسم الله الأعظم، الله أكبر.. شيء عظيم! التلميذ يفكر في مثل هذا. الأستاذ قال له: يا بني أنت تظن أن المسألة سهلة، وأن العملية بسيطة؟! من الذي يعرف اسم الله الأعظم؟ ومعظم الأحاديث التي وردت وحددت الاسم الأعظم ضعيفة، لكن الأستاذ كان قدوة أراد أن يقنع تلميذه بالدليل والمنطق، وبالحجة وبالواقع، ما نهره وما طرده، وما سفه سؤاله، كلا، وهذا هو المربي الناجح، إياك أن تتهرب من أسئلة ولدك أجب، وإن عجزت عن الجواب فسل أهل العلم لتجيب على ولدك إجابة صادقة صحيحة، ابنك يقول لك: أين الله؟ تقول له: الله في كل مكان، تبقى داهية، وكثير من الدعاة لو سألته: أين الله؟ يقول: والله قرأتها الليلة الماضية في كتاب مطبوع لعالم كبير بعيني يقول: أين الله؟ ويجيب على نفسه: في كل مكان. والجارية التي لم تدخل جامعة من الجامعات، ولا كلية من الكليات، ولم تحصل على الماجستير، ولم تأخذ الدكتوراه، لما سألها الحبيب صلى الله عليه وسلم وقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء). أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْض [الملك:16] .. الآيات، قال: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فالتفت إلى وليها وقال: أعتقها فإنها مؤمنة). الجارية لا درست في جامعة ولا كلية، ولا معها ماجستير ولا دكتوراه، أين الله؟ قالت: في السماء، لكن اليوم لو سألت كثيراً: أين الله؟ يقول لك: في كل مكان، يا أخي! اتق الله، لا تجعل ذات الله في أماكن الأقذار والأنجاس وإنما: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة:7] بعلمه .. بسمعه .. ببصره.. بقدرته .. بإحاطته .. بمعيته، ولا تقل بذاته لتقع فيما وقع فيه أهل الحلول والاتحاد. حتى أني قرأت يوماً لرجل من هؤلاء، أنه دخل ليزور رجلاً من العلماء، وكان الرجل العالم عنده غنم أعزكم الله، فهو جالس فسمع غنم عالمه تعير؛ فرد عليها العالم قائلاً: لبيك يا سيدي!! الله! نظر الرجل حوله فما وجد أحداً فقال له: هل يوجد شيء؟ قال له: ألا تعلم أن الله قد حل فيها وينادي عليّ الآن؟! المسلم البسيط الفلاح لا يعرف شيئاً أبداً إلا رب العزة بالفطرة، وليس عنده إلا ملكة الفطرة، فقال: بالله هل ترضى ذلك عن ملك الملوك وجبار السماوات والأرض جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]؟ سئل إسحاق بن راهويه : يا إسحاق ! كيف تزعمون أن الله يتنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ويدع عرشه؟ فقال إسحاق : يا هذا! إن كنت لا تؤمن بإله يتنزل كل ليلة إلى السماء الدنيا إذا مضى ثلث الليل الأول، فنحن نؤمن به جل وعلا، واعلم بأن الله قادر على أن يتنزل من عرشه ولا يخلو منه عرشه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. لا تدركه العقول، ولا تكيفه الأفهام، ولا يحيطون به علماً، استوى كما أخبر، وعلى الوجه الذي أراد، وبالمعنى الذي قال، استواءً منزهاً عن الحلول والانتقال، فلا العرش يحمله، ولا الكرسي يسنده، بل العرش وحملته والكرسي وعظمته؛ الكل محمول بلطف قدرته، مقهور بجلال قبضته. فالاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. عظم ربك جل وعلا، عظم الله جل وعلا، واعرف قدر الله تبارك وتعالى، والله جل وعلا يقول: (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91]. ووالله ما تجرأنا على أن نتحدى الله وشرع الله، وعلى أن نتحدى سنة رسول الله، وعلى أن نعصي الله في الليل والنهار إلا يوم أن غاب في قلوبنا قدر العزيز الغفار جل وعلا. ولذا قال أحد السلف: لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت. هذه العبارة عجيبة يا إخوان! لا تنظر إلى صغر المعصية، يا أخي! فالذنوب إذا وقعت من المؤمن رآها في عينه كالجبل، أما المنافق فهو الذي يرى ذنبه كذبابة سقطت على أنفه، فقال بها هكذا فطارت، لكن المؤمن وقاف عند ذنوبه ومعاصيه. ورحم الله ابن المعتز إذ يقول: خل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى واصنع كماشٍ فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى أيها الحبيب الكريم! جاء التلميذ لأستاذه ليطلب منه أن يعلمه اسم الله الأعظم، الأستاذ، فما طرده ولا نهره وإنما قال له: سأعطيك أمانة تذهب بها إلى فلان، فإذا رجعت علمتك، قال له: فما هي الأمانة؟ فأحضر أستاذه فأراً ووضعه في صندوق مغلق بحيث لا يظهر الذي فيه، وأعطاه وقال له: هذه الأمانة اذهب بها إلى فلان وعندما ترجع أعلمك. أخذ التلميذ هذا الصندوق، وبداخله الفأر، فجعل الفأر يلعب ويتحرك في الصندوق فالولد تعجب ماذا يوجد في الصندوق؟! ودائماً الممنوع مرغوب. وهذه ركيزة في أي إنسان فهو دائماً يريد أن يعرف ما الذي خلف الجدار، فالولد مسكين! هو حامل للصندوق وإذا الفأر يلعب فيه، فهو يقول: ما هذا الذي في الصندوق؟ إذاً: هناك شيء لو فتحت الصندوق وعرفت الذي فيه ثم أوصلت الأمانة وهل سيبقى بعد هذا أميناً يا إخوان؟! لا. ففتح التلميذ غطاء الصندوق، فهرب الفأر ورجع الغطاء على الصندوق ثم رجع إلى أستاذه فقال: يا أستاذ! هل يوجد أحد في الدنيا يهدي لأخيه فأراً؟ وهل هذه هدية؟ فقال له: أنت رأيت الفأر قال له: هو نط من الصندوق وجرى، فقال أستاذه: اسمع -وهذا محل الشاهد- يابني! إنك لم تستأمن على فأر فكيف تستأمن على اسم الله الأعظم؟! هنا التربية يا إخوان بالقدوة، المعلم ما نهره، لكن علمه درساً عمره ما سيأتي مرة ثانية يسأل هذا السؤال. وهذا أستاذ يريد أن يربي أولاده وطلابه وتلاميذه الصغار على المراقبة لله، يريد أن يعلمهم درساً عملياً، فقال لهم: يا أولاد! كل واحد يأخذ هذه الدجاجة ويذهب يذبحها في مكان، بشرط أن لا يوجد أحد في المكان ينظر إليه أبداً، قالوا: هذا أمر سهل. فالناس كانوا يربون أبناءهم على المراقبة واليوم القانون يريد أن يربي الناس على مراقبة المهازيل العمي من البشر، يعني: أنا أذكر وأنا في الجيش كنت أذهب فألقي الكلمة في طابور الصباح، ويأتي الأول برتبة صغيرة فلا يبالون، فإنا أتى صاحب الرتبة الكبيرة يكثر الصمت ويسود الهدوء، فعلى قدر الرتبة يسود الهدوء، حتى يأتي من هو أعلى رتبة والنجمات تلمع فالكل يسكت، سبحان الله! فإذا ذهب هذا العميد وركب سيارته تجد الذي يقوم والذي يقعد والذي يلف، ويرتفع الهرج والمرج حتى يسود الطابور كله. فسبحان الله! جلست مع بعض الإخوة وأردت أن أعملهم من خلال هذا المشهد كيف يجب علينا أن نربي قلوبنا على أن تراقب الله وحده، فقلت لهم: يا إخوان! انظروا الضابط الكبير الذي يمشي ما الذي يحصل؟ وقلت لهم: أيش رأيكم في الألوف المؤلفة التي تقف وراء الإمام في صلاة الجمعة، الإمام يقف فيلتفت للصف الأول فقط ويقول: استووا.. اعتدلوا.. استقيموا.. ثم يعطي المأمومين ظهره، فإذا ما أعطاهم ظهره هل ينصرف منهم أحد؟ هل يجلس منهم أحد؟ هل يخرج منهم أحد؟ لأن هؤلاء ما وقفوا مراقبين للإمام، بل وقفوا مراقبة لله جل وعلا! فنحن نريد أن نربي قلوبنا على أن نراقب الله لا على أن نراقب عين القانون الأعمى؛ لأن القانون لو نظرنا في مكان وفي ساعة، فلن يرانا في مكان آخر وفي ساعة أخرى، رب قلبك ونفسك وابنك وزوجتك وبنتك على مراقبة الله جل وعلا. المهم: كل تلميذ الدجاجة، فبعضهم ذهب تحت شجر السلم، وبعضهم دخل الغرفة وقفل على نفسه، وكل منهم ذهب مكاناً كهذا وذبح دجاجته، ثم رأى الأستاذ تلميذاً رجع بالدجاجة وهي حية، فقال له: لمَ لم تذبح دجاجتك؟ قال له: يا أستاذ! أنت اشترطت علينا أن نذبح الدجاجة في مكان لا يرانا فيه أحد، وما من مكان ذهبت فيه إلا وعلمت أن الله يراني، فأين أذهب إذاً؟ إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب

    محمد صلى الله عليه وسلم هو المعلم الأول والقدوة المثلى

    أيها الحبيب! أقول: إن التربية بالقدوة من أعظم وسائل التربية، ولذا لما علم الله جل وعلا أن المنهج التربوي لا يمكن أن يتحول في دنيا الناس إلى واقع عملي إلا بالقدوة، بعث الله القدوة الطاهرة، والمثل الأعلى محمداً صلى الله عليه وعلى وآله وسلم، فأدبه ربه وزكاه في كل شيء، ويحلو لي أن أكرر هذه التزكية في كل زمان ومكان: زكاه ربه في عقله فقال سبحانه: مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:2]. وزكاه ربه في فؤاده فقال سبحانه: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11]. وزكاه في بصره فقال سبحانه: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17]. وزكاه في صدره فقال سبحانه: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1]. وزكاه سبحانه في ذكره فقال: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]. وزكاه في طهره فقال: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2]. وزكاه في حلمه فقال: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]. وزكاه في علمه فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5]. وزكاه في صدقه فقال: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3]. وزكاه كله وقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. صلى الله عليه وآله وسلم، أعظم قدوة يا إخوان! نريد أن نأخذ القدوة هذه مثلاً أعلى، في وقت قدم فيه الفارغون والتافهون، والساقطون والراقصون ليكونوا القدوة والمثال، ساقط داعر يقدم للشعب ولأبناء الأمة على أنه قدوة، وعلى أنه مثل يقتدى به، اسأل اليوم كثيراً من شباب الأمة، ماذا تعرف عن محمد بن مسلمة؟ ماذا تعرف عن معاذ بن جبل؟ ماذا تعرف عن خالد بن الوليد؟ ماذا تعرف عن عادل إمام الكلب؟ سبحان الله! قدم الساقطون والفارغون والتافهون ليكونوا القدوة والمثال، وأخر الأطهار الأبرار الأخيار، السادة القادة، أهل العظمة البشرية بكل معانيها وصورها، أخر هؤلاء وحذف تاريخهم حتى لا يشب الجيل على سير هؤلاء الأطهار، وإنما ليشب الجيل على سير هؤلاء الأوباش الأقزام وإنا لله وإنا إليه راجعون! وهذا يلقي عبئاً كبيراً على الدعاة بصفة خاصة وعلى الآباء بصفة عامة، لا تكتف بأن يكون ابنك داخل مدرسة، أنت اطمئن على المنهج، اطمئن على عقيدة ولدك، اطمئن على فكر ولدك، اطمئن على سلامة منهجه، لا تتكل على هذا، وإذا كنت لا تجيد هذا الاطمئنان فخذ ولدك إلى أهل العلم والفضل.. إلى أهل الخير الذين يصححون المسار والطريق، ويصححون المنهج ويزيلون عنه الشوائب والشبهات والشكوك. رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوتنا، وارفعوا رءوسكم لتناطح كواكب الجوزاء، وأعلنوها للدنيا وقولوا: قدوتنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، رجل وشخصية جمع الله جل وعلا فيها شخصيات كثيرة في آن واحد، فهو رسول الله، ورحم الله من قال وغفر له: فمبلغ العلم فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهم بشر تجمعت فيه شخصيات متخصصة متجمعة في آن واحد، فهو رسول يتلقى الوحي من الله، ليربط الأرض بالسماء في أعظم رباط، وهو رجل سياسة من الطراز الأول يبني أمة من الفتات المتناثر، فإذا بها بناء لا يطاوله بناء في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً. أقول العبارة مرة ثانية: رجل سياسة من الطراز الأول، يبني دولة وأمة من الفتات المتناثر، فإذا هي بناء لا يطاوله بناء في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئاً. وهو رجل حرب من الطراز الأول، يقود الجيوش، ويضع الخطط، ويقف في غرفة العمليات ليوجه الجند والصف، بل إذا حمي الوطيس واشتدت المعركة وصمتت الألسنة الطويلة، وخطبت السيوف والرماح على منابر الرقاب، كان الحبيب في مقدمة الصفوف يعلن بأعلى صوته للجمع ويقول: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب). وأب وزوج، ورب أسرة كبيرة تحتاج كثيراً من النفقات، من نفقات الوقت.. من نفقات الجهد.. من نفقات الشعور.. من نفقات الفكر.. من نفقات العقل.. من نفقات التربية.. من نفقات التوجيه، فضلاً عن نفقات المادة، فقام الحبيب بهذا الدور خير قيام. وهو رجل إنساني من الطراز الأول، تشغله هموم الناس، وتملأ نفسه مشاعرهم وآلامهم وأحزانهم، فيمنحهم من وقته وفكره وعقله وجهده، بل ومن روحه، بل ومن ماله، بل ومن تربيته، بل ومن توجيهه كرجل إنساني القلب قد شغلته في هذه الدنيا هموم الناس فحسب. وهو رجل عابد خاشع خاضع أواب، كرجل تفرغ للعبادة فقط لا يشغله هم من هموم الدنيا، ولا تؤثر فيه شهوة من شهواتها أو نزوة من نزواتها. هذه الشخصيات كلها في رسول الله، فضلاً عن أنه كان صاحب دعوة أخذت عقله ووقته وجهده وروحه وفكره بل ودمه، ومع هذا كان الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم قدوة في كل مجال وميدان من هذه الميادين المتفرقة. نعم أيها الأحباب! أمر النبي أصحابه بالعبادة فكان القدوة، تورمت قدماه من العبادة، فلا تقل لابنك: صل، وأنت جالس في البيت، ولا تقل لابنك: لا تدخن، وأنت تدخن في وجهه كل ليلة، أين القدوة؟ حتى لو امتثل الولد سيمتثل بخلل، وبدون اتزان وتوافق أبداً، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالعبادة فتورمت قدماه من العبادة وقيل له: (يا رسول الله! أليس الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فقال الحبيب: أفلا أكون عبداً شكوراً). فهذا هو القدوة يا إخوان! أمرهم بالجود والإنفاق والبذل والعطاء فكان أجود بالخير من الريح المرسلة، ورد في صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أنه قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سئل على شيء في الإسلام إلا وأعطاه، ولقد جاءه يوماً رجل فسأله، فأعطاه غنماً بين جبلين، فانطلق الرجل يسوق الغنم كلها بين يديه -وعاد إلى قومه ليقرر هذه الحقيقة الكبرى وليصرخ في قومه ويقول-: يا قوم! أسلموا، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر). أيها الأحبة! أقول: إن القدوة العملية التي قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه بل وللدنيا كلها، يجب علينا أن نقف أمامها طويلاً طويلاً، لنحول فعل النبي صلى الله عليه وسلم الآن إلى واقع، لنقدم القدوة عملية واقعية سلوكية مرة أخرى كما فعل الحبيب مع أصحابه، بل ومع أمته. أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالعبادة فكان سيد العباد.. أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالإنفاق فكان أجود بالخير من الريح المرسلة.. أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضوان الله عليهم بالحلم والرحمة والتواضع فكان سيد هذه الصفات، واحتل ذروة سنامها. نعم أيها الأحباب! ولا أريد أن أتوقف مع كل صفة وإلا لطالت وقفتنا. أقول: أيها الحبيب الكريم! يكفي أن تقف مع هذا المشهد الحي، والحديث رواه الحاكم في المستدرك وابن ماجة في السنن، وابن سعد في الطبقات وهو حديث صحيح: (أن أعرابياً دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فارتعدت فرائصه واضطربت جوارحه -فماذا قال له الحبيب؟- فقال له: هون عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد في مكة) انظروا التواضع يا إخوان! ونحن الآن في أمس الحاجة -يا طلاب العلم- إلى أن نتواضع، تاج الداعية التواضع؛ أسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل التواضع. تاج طالب العلم التواضع، إذا من الله عليك بالعلم فتواضع ليرفعك الله، ليزيدك الله جل وعلا، فمن تواضع لله رفعه، لا تتعال على إخوانك وأحبابك وعلى طلابك، ولا تقل بلسان الحال: أنا العالم وأنتم الجاهلون، وأنا الطائع وأنتم المذنبون، وأنا الموفق وأنتم المقصرون، لا يا أخي! تذكر فضل الله عليك ونعمة الله عليك، فورب الكعبة لو تخلى الله عنك برحمته طرفة عين لهلكت، من أنت حتى تغتر بعملك؟ من أنت حتى تغتر بمالك؟ من أنت حتى تغتر بجاهك؟ أنت لا شيء بدون ستر الله، وبدون فضل الله، وبدون رحمة الله: كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا [النساء:94]، كنت ضالاً فهداك، وكنت وضيعاً فرفعك، وكنت فقيراً فأغناك، وكنت ذليلاً فأعزك، فاعرف فضل الله عليك، ووالله لو تخلى الله عنك طرفة عين لكنت بمثابة الشاة التي احتوشتها الذئاب من كل ناحية: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17]. وهكذا أيها الأحباب! ما أمرهم النبي بأمر إلا وكان أول الممتثلين له، وما نهاهم عن شيء إلا وكان أول المجتنبين له، وما حد لهم حداً إلا وكان أول الوقافين عند هذا الحد. ومن هنا تعلقت به قلوب أصحابه، هذا أعظم سبب لتعلق القلوب بالقدوة، أن يرى الناس بالقدوة النموذج الحي لكل ما يقول. ومن هنا تعلقت القلوب برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال وفعل، وقدم القدوة العملية المشرقة في أروع وأجل صورها! وأختم بعبارة مهمة جداً، وأرجو الله أن تحفر في القلوب قبل العقول، وأقول: قدوتنا وأسوتنا هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولما قدم الإسلام هذه القدوة فإنه ما قدمها لجيل الصحابة فحسب، وإنما قدم الإسلام هذه القدوة لتظل خالدة على مر الأجيال والقرون، ولم يقدمها الإسلام لتكون قدوة باهتة ليتعامل الناس معها تعاملاً نظرياً بحتاً، وإنما ليحول الناس هذه القدوة مرة أخرى في حياتهم إلى منهج حياة، وإلى واقع متحرك مرئي ومسموع ومنظور: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. فيا أيها المسلم! يا أيها الأستاذ! يا أيها المربي! يا أيها الأب الكريم! يا أيتها الأم الفاضلة! يا من حملك الله أمانة التربية، وأمانة التوجيه، وأمانة ال

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756612522