وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد:
أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الإثنين من يوم الأحد- ندرس كتاب الله عز وجل، رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة الأعراف المكية، والتي تعالج -كغيرها من السور المكية- العقيدة:
تقرير مبدأ لا إله إلا الله، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبعث الآخر وما يجري فيه ويتم من جزاء على الصالحات وعلى الطالحات، فالصالحات في جنات النعيم والطالحات في جحيم العذاب الأليم.
وها نحن مع هذه الآيات الثلاث فلنستمع إليها مرتلة مجودة، ثم نشرع إن شاء الله في دراستها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:163-166].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!قول ربنا جل ذكره: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ [الأعراف:163] من الآمر؟ الله، من المأمور؟ رسوله صلى الله عليه وسلم. من المسئولون؟ اليهود الذين كانوا يعيشون بهذه المدينة، وكانوا ثلاث قبائل أو طوائف: بنو قينقاع، بنو قريظة، بنو النضير.
الأول: ما كان يلاقونه من التنكيل والتعذيب والسخرية والاستهزاء من الرومان؛ إذ النصارى ينظرون إلى اليهودي أنه قاتل ربهم وصالبه، فالمتدينون لا يستطيع أحدهم أن يفتح عينيه في يهودي، والواقع يشهد، يعتقد أنه صلب إلهه وقتله فكيف يحبه أو ينظر إليه؟ فنالهم من الرومان البلاء العجيب، فهربوا إلى هذه الديار الآمنة التي هي بلاد شرك ومشركين ليست بلاد أهل كتاب، فزحفوا من الشمال ونزلوا في قرى متتالية إلى المدينة، لكن أكثر سكانهم كانوا بالمدينة النبوية: بنو قينقاع، بنو قريظة، بنو النضير.
السبب الثاني: كانوا يتطلعون إلى النبوة الخاتمة بما لديهم في التوراة من نعوت وصفات للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، ويعرفون دار هجرته بأنها مدينة سبخة ذات نخيل، ولو تسمعون ما في التوراة فستعجبون، فهم ينتظرون النبي الخاتم فيؤمنون به ويقاتلون به الأبيض والأسود لاسترداد مملكتهم وإعادة مجدهم وكمالهم.
وإياك أن تغفل، والله! إنهم إلى الآن يطلبون هذا ويعملون الليل والنهار لإيجاده، وإن شئتم برهنت لكم، كل هذا الخبث في بلاد المسلمين بأصابع اليهود من أجل إسقاط الروح الإسلامية الإيمانية، فيسهل عليهم الاستغلال والاستعمار والأخذ.
أحلف لكم بالله على أن كل المحرمات التي يزينونها ويحسنونها من الربا إلى بيع الخمر، إلى الزنا، إلى السفور، إلى المنكر.. كله بأصابع اليهود من أجل أن تهبط الأمة وتسقط فيعلوا فوقها؛ لأنهم أهل علم.
وما إن شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم يتجه غير اتجاههم حتى كشروا عن أنيابهم وقطبوا وعبسوا، وأول حادثة كانت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، ما إن انتصر فيها رسول الله حتى كادوا يستشيطون غيضاً، فبنو قينقاع أثر ذلك في حالهم فكان سبباً في الاستهزاء بمؤمنة، ومن ثم قضى رسول الله عليهم بالجلاء والإخراج من المدينة، فنزحوا إلى الشام.
فهو تعالى يبين لرسوله كيف يجادلهم ويحاجهم ويدحض شبهاتهم وأباطيلهم لتقوم الحجة عليهم، والرسول أمي، مكث أربعين سنة ما قال كلمة، كيف -إذاً- يتحدث عن أحداث مرت عليها آلاف السنين إن لم يكن رسول الله؟ كيف يكون هذا؟ وهذه آية نبوته.
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [الأعراف:163] لكن دمرت وقضي عليها، إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ [الأعراف:163] ما معنى (يعدون)؟ عدا يعدو عليه واعتدى يعتدي عليه: ظلمه فضربه أو أخذ ماله أو استحل الحرام.
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ [الأعراف:163]، يعتدون في يوم السبت، كيف يعتدون؟ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163]، الحيتان واحدها الحوت، وهي السمك، ويصح أن تسمي الحوت سمكاً والسمك حوتاً، والكل واسع، أو تطلق الحوت على الكبير والسمك على الصغير.
إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا [الأعراف:163] ما معنى شرعاً؟ تكاد تقفز فوق الماء، السمكة تسبح في الماء أم لا؟ فهي هنا ترتفع وتسقط، تهيجهم، هذه محنة، هذا ابتلاء من الله عز وجل ليظهر ما في النفوس من خبث أو طيب، لما تمردوا وكثر فسقهم امتحنهم، هذا اليوم يوم السبت يوم الاستراحة والعمل والتعبد، فالحيتان تأتيهم شرعاً، شرع له وعليه: ارتفع أو أظهر نفسه له، فحين يقفون على الساحل يشاهدون الحوت يقفز يغريهم ويفتنهم، والزمان غير الزمان، وممكن أنه كان عيشهم على الحوت أكثر.
وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163] يوم الأحد والإثنين والثلاثاء إلى الجمعة ما يشاهدون حوتاً، يسبح في الماء داخل البحر، لكن يوم السبت يظهر، فمن أقدره على هذا؟ من دفعه إلى هذا؟ من سخره؟ الله يمتحن عباده ليعلم التقي من الفاجر والساقط من العالي.
هذا معنى قوله تعالى: وَاسْأَلْهُمْ [الأعراف:163] يا رسولنا عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163].
اعلموا أن البشرية نسبتها إلى الله واحدة، كل البشرية عبيد الله، فأيما أمة في بلد أو إقليم أو حتى في قرية تفسق عن أمر الله إلا ويبتليها الله عز وجل، فإما أن تفوق وتنجح، وإما أن تستمر في الكفران فتهلك وتبيد، لأن بني إسرائيل أشرف العالمين في زمنهم، أليس كذلك؟ هل نسبتهم جعلت الله تعالى يرحمهم ولا يعذبهم؟ نسبة البشر إلى الله واحدة، عبيد الله، من زكى وطاب وطهر أحبه ورضي عنه، ومن فسق أو فجر وخبث وتعفن أهمله وأبعده عنه، أبيض كان أو أسود.
كَذَلِكَ [الأعراف:163] كهذا الابتلاء بكون السمك يظهر يوم السبت ليهيجهم حتى يقدموا على صيده امتحاناً لهم. لماذا ابتلاهم؟ بسبب فسقهم، وسيترتب على هذا البلاء الأخير.
أقول مرة ثانية: إذا أمة أعرضت عن الله، عن ذكره وكتابه وشرعه، واشتغلت بالشهوات والأباطيل فإنها تمتحن ثم تضرب، لكن إذا أفاقت من سكرتها أيام امتحانها وتابت تاب الله عليها وواصل نعمه عليها، وإن هي استمرت في الباطل واللهو والترف والخبث فحينئذ يبتليها ثم يهلكها.
هكذا يقول تعالى: كَذَلِكَ [الأعراف:163] كهذا البلاء نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:163] الباء سببية، أي: بسبب فسقهم الذي كانوا يزاولونه ويتعاطونه ويعملون به من عهد نزول هذه الآية عهد إلى موسى عليه السلام، ومنهم أمة صالحة قطعاً كما تقدم.
وَإِذْ قَالَتْ [الأعراف:164] أي: واذكر لهم إذ قالت أُمَّةٌ مِنْهُمْ [الأعراف:164] أي: من اليهود لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف:164]، ومعنى هذا: أنه وجد بينهم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكنهم أقلية ما نفعوا، وهكذا يوجد في بلاد المسلمين من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لكن نسبته إلى الأمة واحد إلى مائة ألف، فما ينفع.
اذكر إذ قالت أمة منهم: لم تعظون هؤلاء؟ هؤلاء جماعة عرفوا من إخوانهم ما عرفوا أنهم لا يرجعون ولا يتأخرون ولا يتوبون، جربوهم، فقالوا للذين يعظونهم ويذكرونهم بالله ويخوفونهم عذاب الله، قالوا: يا جماعة! ما الفائدة من هذا؟ اسكتوا، استريحوا، لن يتوبوا. وهذا هو النوع الآيس ويوجد في المسلمين أيضاً، آيس من أنهم لن يتوبوا، ما هناك حاجة إلى أن تتكلم وتقول.
لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف:164] قالوا هذا لعلمهم؛ لأنهم أهل كتاب يعلمون أن الله إذا غضب وسخط عذب وسلب النعمة أو سلط البلاء، فهذه الطائفة من اليهود قالت للطائفة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر: اتركوهم، فلن يستجيبوا لكم.
قال تعالى: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف:164].
ومن خبثهم أنهم لما منعوا من الصيد يوم السبت أخذوا يضعون الشباك ليلة السبت فتمتلئ وفي يوم الأحد يأخذونها، وقالوا: ما صدنا، وهذا هو الظلم بعينه، هذا الاحتيال الذي لعنهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: ما نصيد يوم السبت، لكن ضعوا الشباك ليلة السبت لتمتلئ بالحيتان، وفي يوم الأحد خذوها. هذا احتيال أم لا؟ ولهذا لعنهم الله عز وجل، ولذلك أيضاً ينفخ الشيطان هذا النوع في إخواننا في الشرق والغرب، يحتالون على ما حرم الله فيحلونه بمثل هذه الأباطيل والترهات.
إذاً: طائفة ملت، سئمت، أيست، فقالوا لإخوانهم: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف:164]، قالت الطائفة المؤمنة الصالحة: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164] ويتوبون.
وافهموا حتى لا تشكوا من الآلام والمصائب حين تنزل: يجب على كل مؤمن أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إذا رأى المعروف متروكاً، مثلاً: رأى من لا يصلي، رأى من لا يصوم، رأى من يعق والديه مثلاً، فيأمره: يا عبد الله، يا أخي
يا ولدي! هذا ما يصلح، أنت مؤمن. وإذا رأى من يرتكب المنهي قال: يا بني! لا تفعل هذا، يا أخيتي! لا يجوز لكِ فعل هذا، يا أماه! لا يحل لكِ فعل هذا، بحسب الحال.
ثانياً: إذا لم تعرف أن هذا معروف فلا تأمر به، إذا لم تعرف أن هذا منكر فلا تنه عنه، لأنك تفسد وتحدث شغباً، لا بد من معرفة المعروف لنأمر به ومعرفة المنكر لننهى عنه، وكيف نعرف يا شيخ؟ بالسؤال، الرسول يقول: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، والمسلمة تابعة لأخيها، فريضة مفروضة من السماء، فرض الله عليك أن تصلي فكيف تصلي؟ لا بد أن تعرف كيف تصلي، فرض الله الصيام فكيف الصيام؟ لا بد أن تسأل كيف تصوم، وهكذا. والشاهد عندنا: لو أقمنا دين الله بحق ما يبقى بيننا جاهل ولا جاهلة.
أقول: يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )، فلم يبق بين المسلمين من لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
( من رأى منكم منكراً ) ما معنى المنكر؟ ما أنكره الله في كتابه وحرمه ونهى عنه وبينه رسوله وحرمه وحذر منه، هذا هو المنكر، المعروف ما عرفه الله ديناً وحقاً ونافعاً غير ضار وصالحاً غير فاسد، ذاك هو المعروف.
من رأى منكم منكراً فليغيره بأي شيء؟ بيده إذا كان أهلاً لذلك، فأنت في بيتك أما تستطيع؟ أما أنت بمالك أولادك وأمهم؟ فتستطيع، مدرس مع تلامذته، قائد عسكري مع رجاله أما يستطيع أن يغير بيده؟ الحاكم من باب أولى، غير هؤلاء عاجزون فباللسان تبرأ ذمتهم وينفع الله بتغييرهم بلسانهم، أما اليأس والقنوط كما يئس هؤلاء فلا يحل بيننا أبداً، لا تقل: هؤلاء ما يستجيبون، فأنت بين، وجه، انصح، فعلوا أو لم يفعلوا، ليس عليك إلا أنك أديت الواجب.
وأما كيفية الأمر بالمعروف فبآدابك، بسلامة ألفاظك، بكلمات طيبة، ما هو بالعنف والشدة والغضب أو اللعن، هذا فعل الجاهلين.
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف:165] نجاهم الله، الذين كانوا ينهون نجاهم الله من البلاء والعذاب الذي سينزل بالقوم، آية الله عز وجل، الذين ينهون عن المنكر ينجيهم الله عز وجل، إلا إذا عم البلاء وكانت الفتنة عامة فحينئذ يكون المفروض أن يخرجوا من تلك البلاد، فإن بقوا ونزل العذاب عمهم وأجرهم على الله يوم القيامة، وفي هذا يقول تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25] هذه الفتنة هي أن يكثر الهرج، أن يكثر الباطل والشر والفساد، فاتقوها، أي: فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر في قراكم، في أسواقكم، في مدنكم، بالتي هي أحسن لتطهر البلاد وتطيب وتأمنوا فلا خوف عليكم ولا حزن.
فالله يقول: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ [الأعراف:165] أي: ما بين لهم من أنه منكر وباطل ولا يجوز، أو واجب وحق ويجب أن نفعل.
نَسُوا [الأعراف:165] أعرضوا عنه، ما هو بنسيان كالذي ينسى الشيء، نسوا بمعنى: لم يلتفتوا إليه ولم يقبلوا عليه.
أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف:165] ما السوء؟ ما يسيء إلى النفس، ما يضر النفس من كل خبث، من كل شر، من كل باطل، أي: المنكر، أنجينا الذين ينهون عن المنكر، عما يسيء إلى الإنسان في أخلاقه، في آدابه، في بدنه، في ماله، وفي روحه قبل كل شيء فيخبثها ويدسيها.
أَنْجَيْنَا [الأعراف:165] من الفاعل؟ الله جل جلاله وعظمت قدرته، يقول: أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ [الأعراف:165]، والبئس والبئيس: العذاب الشديد الذي يوجد البؤس في صاحبه، و(بئيس) و(بئس) قراءتان.
أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ [الأعراف:165] ما السوء يرحمكم الله؟ كل ما يحدث مساءة لنفسك فهو السوء: الكذب، الخيانة، الغش، الزنا، الربا، اللواط، الغيبة، النميمة، تأخير الصلاة عن وقتها، إضاعتها، كل هذه هي السيئات التي تسيء إلى النفس البشرية وتحولها إلى نفس خبيثة كأرواح الشياطين.
وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165] وأنجينا الذين ينهون عن السوء، نجاهم الله من البلاء الآتي.
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165]، إن شاء الله لا يرانا الله نفسق أبداً طول الحياة، لا زنا ولا ربا ولا كذب ولا غش ولا خداع ولا عجب ولا كبر ولا ظلم ولا اعتداء أبداً، ما نخرج عن طاعة الله وطاعة رسوله، ومن زلت قدمه وخرج بالأمس فليتب اليوم ويصرخ: أتوب إلى الله وأستغفره وأرجع إليه، فيمحى الأثر.
فَلَمَّا عَتَوْا [الأعراف:166] ما أصبحوا يحتفلون بما يقال لهم أو ينظرون فيه، يسخرون ممن يأمرهم وينهاهم، واستمروا على طغيانهم وعلى صيدهم يوم السبت، أو بالاحتيال بإلقاء الشباك ليلة السبت وأخذها يوم الأحد ملآى.
فَلَمَّا عَتَوْا [الأعراف:166] ما معنى عتوا؟ تكبروا وبغوا. عن أي شيء عتوا؟ عما نهوا عنه، عن ذاك الذي قيل لهم: لا تفعلوه، لا تصيدوا يوم السبت ولا ترموا بالشباك ليلة السبت.
قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً [الأعراف:166] هذه الكلمة كلمة التقدير، ليست أمراً، ولكن كلمة القدر، أي: قلنا لهم كونوا فكانوا، فمسخهم الله عز وجل قردة، وكانت المدن عليها أسوار، فنظر الناس فرأوا الأبواب ما فتحت، فقالوا: كيف لم يخرج أحد من المدينة؟ فاطلعوا على السور وشاهدوهم قردة يمشون في الشوارع ذكوراً وإناثاً، وإذا شاهدوا قريبهم يبكون أمامه، ثلاثة أيام ثم نسفهم الله عز وجل فماتوا أجمعون ولم يبق منهم أحد، إذ الممسوخ لا يزيد على ثلاثة أيام حسب سنة الرب تعالى في خلقه، ثلاثة أيام وتحولوا إلى الآخرة.
هكذا يقول تعالى: فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:166] خاسرين أذلاء مهانين كأسوأ ما يكونون.
قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:
[ هداية الآيات:
من هداية الآيات:
أولاً: تقرير الوحي والنبوة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ]، كيف لأمي أن يحدث بني إسرائيل عن أحداث مضى عليها ثلاثة آلاف سنة، هل كان معهم هو؟ كيف يتكلم بهذا؟ معناه أنه يوحى إليه، والله! إنه لرسول الله، ما يستطيع أحد أن يسحرك أو يغلبك أبداً، كيف لأمي ما يقرأ ولا يكتب أن يتكلم مع اليهود ويطلعهم على فضائح مضى عليها آلاف السنين؟ كيف لا يكون رسول الله؟ مستحيل أن يكون غير رسول الله.
قال: [ تقرير الوحي والنبوة لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ مثل هذا القصص الذي يذكر لبني إسرائيل لن يتم إلا عن طريق الوحي، وإلا فكيف علمه وذكر به اليهود أصحابه وأهله وقد مضى عليه زمن طويل؟ ]، فلهذا لو نقتل، لو نصلب، لو نمزق ما نستطيع أن نقول: محمد ما هو برسول، لعلمنا بهذه الحجج الظاهرة، ولهذا فيل ويل من كفر بنبوته وكذبه برسالته، فهو كافر كافر كافر.
[ ثانياً: إذا أنعم الله على أمة بنعمة ] هذه لكم يا بني الإسلام، أنعم الله على المسلمين من إندونيسيا إلى موريتانيا بالحرية والاستقلال، ذهب الاستعمار وأهله، فامتحن الله المسلمين هل يذكرون، هل يشكرون؟ فأعرضوا عن كتاب الله وهدي رسوله، واستمر الوضع أسوأ من أيام الاستعمار، والله العظيم! إني لذو علم ومعرفة، لست كحدث من أحداثكم، الآن هم تحت النظارة أم لا؟ إما أن يرجعوا وإما أن يدمروا بعذاب أشد من الأول.
قال: [ إذا أنعم الله على أمة بنعمة ثم أعرضت عن شكرها تعرضت للبلاء أولاً ثم العذاب ثانياً ]، ونحن -معشر السعوديين- في نعمة عظيمة أم لا؟ الأمن والرخاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأين مظاهر الشكر؟ يجب أن تتجلى مظاهر الشكر في نسائنا ورجالنا وفي أطفالنا وفي كل أفرادنا لنتأكد من أننا شاكرون، وإلا فربنا بالمرصاد، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14] ينظر إلينا.
إذاً: [ إذا أنعم الله على أمة بنعمة ثم أعرضت عن شكرها تعرضت للبلاء أولاً ثم للعذاب ثانياً ]، حق وصدق هذا، أخذنا هذا من الآية الكريمة.
[ ثالثاً: جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ]، جدواهما، ونفعهما، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أفضل الأعمال وأشرفها، وصاحبه دائماً سعيد.
[ جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد نجى الله تعالى الناهين عن المنكر، وأهلك الذين باشروه ولم ] يتوبوا و[ ينتهوا عنه ]، فلم لا يوجد في قرى المسلمين أمر بمعروف ونهي عن منكر؟ قلنا لهم: يا أهل القرية! في مسجدكم كونوا لجنة من علمائكم وصلحائكم وشيخ القرية وعمدتها، لجنة المسجد هذه تتولى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن، بالآداب الإسلامية والروح الإيمانية، ما يبقى في القرية فاسق ولا فاجر، واجعلوا صندوقاً في هذا المسجد اجمعوا فيه زكواتكم وصدقاتكم، والله ما يبقى فقير بينكم ولا محتاج في قريتكم، لم لا نفعل هذا؟
نجتمع كل ليلة بنسائنا وأطفالنا ورجالنا في بيت ربنا ولو كنا في باريس أو في برلين، ونتعلم كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، بكل هذا صرخنا وبكينا عشرات السنين وهم صم بكم عمي لا يسمعون، فماذا ننتظر؟
قال: [ رابعاً: إطلاق لفظ السوء على المعصية مؤذن بأن المعصية مهما كانت صغيرة تحدث السوء في نفس فاعلها ] كما قدمنا، كل معصية تحدث السوء في النفس، إن كانت كبيرة تكون الظلمة كبيرة، وإن كانت صغيرة يكون التأثير صغيراً.
والله تعالى أسأل أن يتوب علينا وعلى كل مؤمن ومؤمنة، وألا يرانا نفعل السوء ولا نقوله ولا نعتقده، اللهم آمين، اللهم آمين.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر