الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فيقول الله تعالى: قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27]، قول يوسف صلى الله عليه وسلم: (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) مستعملاً ضمير الغائب إشارة إلى أدب جم كان عليه صلى الله عليه وسلم، فلم يقل لها، ولم ينزل إلى مستوى المحاججة معها بقوله: (أنت راودتيني عن نفسي)، فهي أياً كانت امرأة ناقصة عقل ودين، فترفع يوسف عليه السلام عن قول: (أنت راودتيني عن نفسي).
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ [يوسف:26]، والشاهد من أهلها له دلالاته وله شهادته؛ لأن الذي من أهلها في الغالب أنه لن يجور عليها، أما إذا لم يكن من أهلها فاحتمال جوره عليها وارد، فقوله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا ، لمزيد من الإثبات لبراءة يوسف صلى الله عليه وسلم، إذ الشاهد كان من أهلها.
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [يوسف:26]، فقدم ما يبرؤها به قبل ما يبرئ به يوسف صلى الله عليه وسلم، وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:27]، (من دبر) أي: من الخلف، وهذا من إعمال القرائن أيضاً، فالقرائن يعمل بها في الأحكام، وقد ورد أن شريحاً القاضي رحمه الله أتى إليه خصمان يختصمان في وشاح أحمر يغطى به الرأس، وكل يدعي أنه له، فقال لهذا: امتشط على ثوب أبيض، فامتشط، وقال للآخر: امتشط على ثوب أبيض، فامتشط، فالذي نزل من شعره حمارٌ زائد حكم له به، وهذا من إعمال القرائن.
فهذا يبين لنا أنه لابد من استحضار سنة النبي عليه الصلاة والسلام عند تأويل الآيات، حتى لا نذهب مذهباً بعيداً في التأويل، بناء على ظواهر الآيات مع إغفالٍ لسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولعمومات الشرع في هذا المقام.
فما معنى قوله: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ ؟
من العلماء من أول ذلك بقوله: اطلبي مغفرة زوجك لك، كما قال تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ [الجاثية:14]، وكما قال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن عبد الله بن أبي : اغفر له يا رسول الله! أو اعف عنه واصفح يا رسول لله! فهذا وجه ساقه بعض أهل العلم.
فقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ توجيه، إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف:29]، لِم لَم يقل: من الخاطئات؟ من أهل العلم من قال: إن خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث، مستدلاً بهذه الآية: إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ [يوسف:29]، ولم يقل: من الخاطئات، وكذلك استدل بقوله تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم:12]، ولم يقل: من القانتات، فاستدل بذلك فريق من أهل العلم على أن خطاب الذكور يشمل الذكور والإناث، فالتكليف الذي يأتي للذكور يشمل الذكور والإناث ما لم يأت نص يخصصه. ومن العلماء من قال: خطاب الذكور للذكور والنساء يلزمهن خطاب مستقل، واستدل هذا القائل بقول الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الأحزاب:35] إلى آخر الآية، وبقوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ [الحجرات:11]، وبقول الشاعر:
ولا أدري ولست إخال أدري أقوم أهل حصن أم نساء
فقال بناء على هذا: إن خطاب الذكور للذكور وخطاب الإناث للإناث، إلا أن الأولين وجهوا ذلك بأن قوله تعالى: وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ [الحجرات:11] ، من باب عطف الخاص على العام، وعطف الخاص على العام جائز، وهذا ينبني عليه اختلاف في بعض الأحكام الفقهية، ومن أمثل الأمثلة التي تساق لذلك: مسألة المجامع في رمضان، هل تلزم امرأته هي الأخرى بكفارة أم لا؟
فعلى قول من قال: إن خطاب الذكور للذكور والإناث يلزمها بكفارة هي الأخرى، وعلى قول من قال: إن النساء يلزمهن خطاب مستقل فسيقول: إن النبي لم يلزم هذه المرأة التي جامعها زوجها في رمضان بكفارة، ومن ثَم يتألق قول من قال: إن الكفارة عليهما معاً. والله أعلم.
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ، والنساء كثيرات الحديث أكثر من الرجال، امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ، أي: تطلبه لنفسها، قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا [يوسف:30]، أي: وصل حبه إلى شغاف قلبها، وكما قال البعض: هو حجاب القلب، فوصل حب يوسف إلى شغاف قلب المرأة وتمكن حبه من قلبها.
إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:30]، أي: في ذهاب عن القصد بعيد، وذهاب عن الصواب والحق.
وهل لنا نحن أن نأكل ونحن متكئون؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لا آكل متكئاً)، فيكره الأكل وأنت متكئ، لكنه لا يحرم، وفي الاتكاء قولان للعلماء: القول الأول: أن الاتكاء الميل بأحد الشقين على الأرض، والقول الثاني: الاتكاء هو: التربع.
وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا ، أي: أعطت كل واحدة منهن سكيناً، وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ [يوسف:31]، وهو عبد مأمور في بيت ساداته، فخرج يوسف صلى الله عليه وسلم، ولكن سياق الكتاب العزيز موجز، فلم يقل: فخرج عليهن، وإنما فهم ذلك من السياق، فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ [يوسف:31]، أي: أعظمنه وأجللنه، ورفعن شأنه، وهو مرفوع الشأن عليه الصلاة والسلام، (أَكْبَرْنَهُ): أعظمنه إعظاماً شديداً لا يوصف.
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ، انظر كيف صنع جمال يوسف بعقول هؤلاء النسوة!! لقد ذهب بعقولهن، حتى إن المرأة منهن تقطع يديها وهي لا تشعر بألم القطع؛ إذ الذهن كل الذهن منصب على رؤية يوسف الصديق، وكما سلف: أنه قد أوتي شطر الحسن عليه الصلاة والسلام، ونصف الحسن الآخر قسم على العالم كله، أما يوسف فقد استأثر بشطر الحسن، فلم تشعر النسوة مع جمال يوسف ونظرهن إلى جمال يوسف بالأيدي وهي تقطع.
وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31]، أي: ما هذا إلا ملك كريم، فما ظنك بالحور العين؟! وما ظنك بأهل الجنة ونسائها اللواتي وصفهن النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يرى مخ سوقهن من وراء اللحم من الحسن)؟!
إلى هند صبا قلبـي وهند مثلها يصبا
فاستفدنا من الآية الكريمة: أن المحفوظ من حفظه الله، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ، وهذا المعنى مستفاد كذلك من الكلمة التي اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم وأخبر أنها كنز من كنوز الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فمن معاني تلك الكلمة المباركة الطيبة التي لا يدرك معناها كثيرون: لا تحول لي عن معصية الله إلا إذا حولني الله، ولا قوة لي على طاعة الله إلا إذا قواني الله، لا تحول لي عن أمر مهما كان إلا إذا حولني الله عز وجل، ولا قوة لي على أي عمل كان إلا إذا قواني الله عليه.
وهذا المعنى معنى حسن ينبغي أن يتفطن له أهل الفطنة والإيمان، قال نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: (أتريدون أن تجتهدوا في العبادة؟ قولوا: اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، وهذا المعنى فهمه أولو الألباب، وقد قال الخليل إبراهيم عليه السلام: وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ [الأنعام:80]، أنا لا أخشى أصنامكم ولا آلهتكم، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا [الأنعام:80]، فإذا شاء الله لي أن أتحول إلى الشرك -والعياذ بالله- سيتحول الشخص إلى الشرك، فجدير بالمسلم أن يفهم تماماً هذا المعنى، أن الذي يصرف السوء هو الله، وأن الذي يعصم من الزلل هو الله، فليسأل ربه العصمة من الزلل، وليسأل ربه الثبات على الإيمان، فأنت يا عبد الله ضعيف، ولا قوة لك إلا بالله، فاطلبها منه واستمدها منه سبحانه وتعالى.
قال يوسف الصديق: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ، إذا خيرت يا رب بين الفاحشة وبين السجن فأنا أختار السجن، وهو أحب إلي مما يدعونني إليه، فإذا زلت قدم في الزنا تنزع النور والبهاء من قلب الزاني والعياذ بالله! ينزع الإيمان ويكون فوق رأسه كالظلة إذ هو يزني، وتجلب له نكداً وهماً في الدارين الدنيا والآخرة، وتتسبب في حرق فرجه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (ومررت برجال ونساء عراة على مثل التنور يأتيهم لهب من أسفل منهم فيحرق فروجهم، فيسمع لهم ضوضاء وصياح، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني!)، فهذا شيء من مصيرهم، قال تعالى: وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68]، فعياذاً بالله من هذه الفاحشة! وعياذاً بالله من هذه الموبقة!
قال يوسف الصديق: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ، سجن لطاعته لربه يرث فيه إيماناً يجد حلاوته في قلبه، وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ، هنا يقول العلماء أو فريق منهم: لا إكراه على الزنا لهذه الآية، فإذا أكرهت على الزنا فلتسجن خير لك.
وفي الآية دليل على أنهن تآمرن جميعاً عليه، وكدن لهن جميعاً، سواء كدن لأنفسهن أو كدن لأمرأة العزيز، بدليل قوله: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ، أي: أميل إليهن، وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، ليس المقصود بالجاهل هنا الذي خفي عليه حكم مسألة، إنما الجاهل هو الذي عصى ربه، ومنه قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17]، فليس معناه الخطأ، فالمخطئ مرفوع عنه القلم، ولكن كما قال ابن عباس وغيره: (كل من عصى الله فهو جاهل).
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:34]، فإنه مخير: إما أن تسجن وإما أن تزني، وكلاهما شر، فاختار أخف الشرين وهو السجن، ولهذه القاعدة شواهد، منها قصة موسى مع الخضر في شأن السفينة، فخرق السفينة وارد، واغتصابها وارد، فاختار الخضر خرق السفينة بدلاً من أن تغتصب، وكذلك في المرأة المختلعة، التي خافت ألا تقيم حدود الله مع زوجها، فهي بين الشرين: إما أن تتنازل الزوجة عن المال وهو المهر، وإما أن تضار في دينها، فدفعت الضرر عن دينها بمال دفعته لزوجها، قال تعالى: فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ [البقرة:229].
وهذا أصل عظيم يعمل به في الملمات والشدائد، فلو أتاك رجل يجري وخلفه سفاح قاتل، فدخل الذي يجري بيتك وجاء السفاح فسألك: هل دخل بيتك فلان؟ فإذا أخبرته قتله، وإذا كذبت فقد كذبت والكذب إثم، فتختار أخف الضررين وهو الكذب دفعاً لمفسدة القتل، وهكذا تسير الأمور.
فإذا تواردت المفاسد اخترنا أخف المفاسد، فالغلام كان سيرهق أبويه طغياناً وكفراً، وقتله إثم وجرم، ولكن اختير القتل على تكفير الأبوين وإرهاقهما، فإذا تواردت علينا الشرور والمفاسد اخترنا أخفها.
وحينئذ قال الله تعالى في كتابه الكريم: فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، السميع للأقوال، وللدعوات، الذي لا يخفى عليه دعاء داعيه، ولا سؤال سائله، العليم بالنوايا، وبالقلوب، علم ربنا من قلب نبيه يوسف عليه السلام أنه لا يريد الفاحشة، فصرفه الله عنها، فالتعويل في كثير من المسائل على القلوب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:70]، وقال تعالى: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].
دخل يوسف السجن لعفته وطهارته، كما طالب قوم لوط إخراج لوط من قريتهم، لِم؟ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [النمل:56]، فليخرج المتطهرون من البلدان، وهكذا يفعل بالأتقياء والأولياء.
قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ، يعني: أعصر عنباً فيؤول العنب إلى خمر، وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36]، فعلامات الإحسان وسيم الصلاح تصاحب المحسنين في السجون والبيوت والطرقات.
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
ولا يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس منهم بالتأسي
وأحسن من ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة : (يا
أرجع فأقول -وبالله التوفيق-: إن الاشتراك في المصيبة يهونها ويخففها، إلا مصائب الآخرة والعياذ بالله! فالله يقول لأهل الكفر: وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [الزخرف:39]، أي: لا ينفعكم اشتراككم في العذاب يوم القيامة في التخفيف عنكم شيئاً، فدخول الفتيين مع يوسف السجن فيه نوع من التخفيف عنه صلى الله عليه وسلم.
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:36]، فعلامات الإحسان تبدو على الوجوه، سواء في السجون أو في خارج السجون، وقد قال الله تعالى في شأن أهل الإيمان والصلاة: سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ [الفتح:29]، وكذلك علامات الصلاح تظهر من كلمات تخرج من الأفواه، فالرجل الطيب والمرأة الطيبة تعرفهم من طيب قولهم، إذ قال الله: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ [النور:26]، وقال في شأن أهل النفاق: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:30].
والجواب: أن الله سبحانه وتعالى يستأثر أنبياءه ببعض أنواع العلوم التي لا يستأثر بها غيرهم، فالله يستأثر أنبياءه ويخصهم ببعض أنواع العلوم مما هو آت مما لا يعلمها غيرهم، إكراماً من الله لهم، ودليل ذلك من كتاب الله: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:26-28]، فقول عيسى عليه السلام: وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آل عمران:49]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتلوه من كتاب حين نزل عليه: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:2-4]، وإخبار النبي بأمور لم تكن وقعت، فوقعت بعد ذلك ما أخبر صلوات الله وسلامه عليه، فمن ثم قال يوسف عليه السلام: لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي [يوسف:37]، أي: ليس من عند نفسي، إنما هذا العلم من الله، فهو يخبرهم عن الله، ويعلمهم بالله، فهم قوم يجهلون ربهم، ويجهلون معرفة الله، فقال لهم يوسف بالله معلماً ومذكراً: ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [يوسف:37] .
قال الله تبارك وتعالى: قال يوسف الصديق، وهنا نقول: هل الأصوب أن نقول: قال يوسف الصديق، أم نقول: قال الله تعالى إذا رمنا أن نقول: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي ؟ الظاهر أننا نقول مباشرة: قال يوسف الصديق: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ، ولا نقول: قال الله: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي ، ولا نقول أيضاً كما قال البعض أن هذا حكاية عن يوسف؛ لأن هذا ليس من صنيع الرسول، بل الرسول عليه الصلاة والسلام قال: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة:117]، وقال عليه الصلاة والسلام كذلك: (نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260])، ولم يقل: إذ قال الله حكاية عنه: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، وكذلك قالت عائشة فيما سلف بيانه: (فلا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [يوسف:18])، ولم تقل: كما قال الله حكاية عن أبي يوسف، فمن ثَم نقول: قال يوسف عليه السلام: وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي ، والملة هي: الدين، ولها معانٍ أخر.
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ، أي: ما كان ينبغي لنا أن نشرك بالله من شيء، ما صح وما جاز وما ينبغي لنا أبداً أن نشرك بالله من شيء، ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا ، وأكبر فضل على الإطلاق أن يرزقنا الله التوحيد سبب النجاة يوم القيامة؛ فمن لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقي الله يشرك به شيئاً دخل النار، والشرك ذنب لا يغفر: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، ومن ثم فالفضل كل الفضل في توحيد الله سبحانه، فهي أعظم النعم على الإطلاق أن نرزق التوحيد، قال عليه الصلاة والسلام: مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ ، أي: ما رزقنا به من التوحيد من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، ويجعلون لله شركاء.
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ، يا من ابتليتما مثلي بالسجن! فهذه رابطة يثيرها يوسف صلى الله عليه وسلم، وهكذا ينبغي أن نثير الروابط التي تفتح الصدور عند الخطاب، فإن الأنفس جبلت على التقارب من مثيلها ونظيرها، أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، أآلهة متعددة خير أم إله واحد؟ من نطيع من هؤلاء الأرباب؟ إن الله سبحانه ضرب مثلاً للموحد مع المشرك، فقال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ [الزمر:29]، أي: عبد يتنازعه جملة من السادة، وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا [الزمر:29]، أي: رجلاً يتلقى أوامره من رجل واحد، وآخر يتلقى أوامره من عشرة، هذا يقول له: افعل كذا، وهذا يقول له: بل افعل كذا، وثالث يقول له: بل افعل كذا، فإذا أطاع هذا أضر به ذاك، وإذا أطاع هذا أضر به الآخر، فأيهما أسلم وأحكم: أن أتبع إلهاً واحداً أم آلهة متعددة؟ وليس ثَم إله إلا الله.. فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، وكما قال تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء:42-43].
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، الذي قهر كل شيء، وخضع له كل شيء، ثم قال: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ [يوسف:40]، أسماء لا حقيقة لها، ولا تأثير لها، سميتموها واختلقتموها وادعيتم لها الربوبية، وليست من الربوبية في شيء، وليست من الألوهية بمكان، مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [يوسف:40]، فما أنزل الله في كتابه: أن اعبدوا اللات أو العزى، أو مناة الثالثة الأخرى، أو هبل، أبداً، ما أنزل الله ذلك في كتابه، ولا أنزل الله على لسان رسله: أن ادعوا الولي الفلاني من دون الله.. وإلى من كان يتقرب الخليل إبراهيم؟ وماذا قال الخليل إبراهيم؟ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:80-81]سبحانه وتعالى جل شأنه وعز جاهه.
مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ، وليس ثم حجة على ربوبيتها، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [يوسف:40]، الأمر والقضاء لله، والحكم حكمه، والخلق خلقه، والقضاء قضاؤه، والتشريع شرعه سبحانه وتعالى، أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [يوسف:40]، القويم المستقيم، الموصل إلى مرضاة الله، (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) أن نفرد الله بالألوهية وبالوحدانية، وأن نتحاكم إليه وحده لا شريك له.
قال الله تبارك وتعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، وحق ما قاله ربنا؛ فأكثر الناس جهلة، وأكثر الناس في شرك وضلال، كما قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وكما قال: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ [سبأ:13]، وكما قال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وقال عليه الصلاة والسلام: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي يمر ومعه الرجل، والنبي يمر ومعه الرجلان، والنبي يمر ومعه الرهط، والنبي يمر وليس معه أحد)، ففي هذا تعزية وتسلية لأهل الإيمان، فأهل الإيمان أقلة، أهل الإيمان قلة على مستوى أو على مدار القرون والعصور، فلتتعز ولتتسل بقلة أهل الإيمان في كل زمان وفي كل مكان، وكما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (ما أنتم في سائر الأمم إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض).
قال تعالى: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، فهم في غمرة ساهون، جهلة بعيدون عن الصواب والحق.
ثم بعد هذا التقرير والتمهيد في أبواب التوحيد، لم يكن ليوسف عليه السلام أن يغفل دعوة التوحيد؛ فهؤلاء جهلة، ولهم حق علينا أن نعلمهم أمر دينهم، قوم لم يرد عليهم من يعلمهم الدين ولا التوحيد، فعلى نبي الله يوسف وعلى سائر الدعاة أن يعلموا أمثال هؤلاء الدين الحق؛ إذ الدعوة إلى الله لازمة، ثم هي شرف لفاعلها، فهي عمل المرسلين عليهم الصلاة والسلام: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]، فلم يمتنع يوسف لكونه في السجن من أن يبلغ دعوة الله ودين الله الحق، وما صده سجنه عن ذلك أبداً؛ بل أدى الرسالة صلى الله عليه وسلم كما أداها إخوانه من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولم يمنعه السجن من إبلاغ دعوة الله بين يدي تأويل الرؤيا.
فالأمور يقدم أهمها ثم الأهم؛ (فإن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، وثَم رجل يخبر بأنه سيصلب وتأكل الطير من رأسه، فليذكر مثل هذا بشيء عساه أن ينتفع به قبل الممات، كما كان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يفعل، فلقد عاد النبي عليه الصلاة والسلام غلاماً يهودياً كان يخدمه، فقال له (يا غلام! قل: لا إله إلا الله، فنظر الغلام إلى أبيه كأنه يستأذنه، فقال أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: لا إله إلا الله ثم مات. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار)،
وهذا مقام ليوسف عليه السلام يفسر فيه رؤيا، وفي تفسيرها: أن أحدهما سيموت، فجدير به إذاً أن لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، بل يعلمهم وينتفع بذلك، فهو أولى من تعليم الرؤيا، وحينئذ قدم يوسف عليه السلام الأنفع وهو تعليم التوحيد قبل تأويل الرؤيا.
اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42]، وهل هذا من باب الأخذ بالأسباب المشروعة، أم أن ترك ذلك أولى؟
إن فعلنا ذلك ونحن مطمئنون إلى أمر الله راجون فرج الله، وجعلنا هذا فقط مجرد سبب؛ فلا بأس بذلك، أما أن نجعل هذا هو السبب الأعظم، ونتخلى عن دعائنا لربنا سبحانه وتعالى؛ فهذا فيه خلل كبير في القصد والمعتقد.
وثم وجه آخر في تفسير قوله الله تبارك وتعالى: فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [يوسف:42]، ألا وهو: أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف صلى الله عليه وسلم، فإن اعترض على هذا التأويل باعتراض: أن هذا نبي، وقد لا يتأتى في حقه هذا المذكور.
فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني بشر أغضب كما يغضب البشر، وأنسى كما ينسى البشر)، وقال الله سبحانه وتعالى: فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42].
الجواب على مثل هذا أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً)، وهذا على الغالب، ولا مانع أن تتحقق رؤيا الكافر لتحقق رؤيا هذين الفتيين، ولتحقق رؤيا الملك، وسوف تأتي إن شاء الله.
قال الله: فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42]، والبضع كما هو رأي كثير من العلماء: من ثلاثة إلى تسعة، وورد في هذا الباب: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان قد رأى أن الروم ستغلب الفرس، فلما نزل قول الله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:2-4]، وكان قد وقت خمس سنين، فلما مرت الخمس ولم تغلب الروم الفرس ذهب أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأشار إليه: لو مددت إلى تسع، فما مرت التسع إلا وقد غلبت الروم الفرس، فاستأنس البعض بذلك على أن البضع أقل من العشرة، أي: من ثلاثة إلى تسعة، والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر