بسم الله، والحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله: [ بسم الله الرحمن الرحيم.
رب يسر وأعن بفضلك ورحمتك, أخبرنا قاضي القضاة بدمشق نظام الدين عمر بن إبراهيم بن محمد بن مفلح الصالحي الحنبلي إجازة مشافهة, أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد بن محب المقدسي إجازة إن لم يكن سماعاً, أخبرنا الشيخان جمال الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عمر بن شكر و أبو عبد الله محمد بن المحب عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسيين قال الأول: أخبرنا إسماعيل بن أحمد بن الحسين بن محمد العراقي، سماعاً، أخبرنا أبو الفتح عبد الله بن أحمد الخرقي إجازة، وقال الثاني: أخبرنا أحمد بن عبد الدائم.
وأخبرنا المحدث تاج الدين محمد ابن الحافظ عماد الدين إسماعيل بن محمد بن بردس البعلي في كتابه، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن الخباز شفاهاً، أخبرنا أحمد بن عبد الدائم إجازة إن لم يكن سماعاً، أخبرنا الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، أخبرنا الخرقي سماعاً، أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن إسماعيل الصابوني، حدثنا والدي شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن فذكره.
وأخبرنا قاضي القضاة عز الدين عبد الرحيم بن محمد بن الفرات الحنفي إجازة مشافهة، أخبرنا محمود بن خليفة بن محمد بن خلف المنبجي إجازة, أخبرنا جمال عبد الرحمن بن أحمد بن عمر بن شكر بسنده قال: الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين].
المصنف رحمه الله هو: إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني رحمه الله, وقد عاش ثلاثاً وسبعين سنة في القرن الرابع, وهو من أئمة أهل السنة، ومن أئمة الشافعية, وهنا ينبغي لطالب العلم أن يعلم أن أئمة السنة من سائر المذاهب سواء كانوا من الحنابلة أو من الحنفية أو من الشافعية أو من المالكية كانوا على عقيدة سواء, حتى جاءت الكثير من الأقوال الدخيلة في هذا الباب, فتنوعت المشارب، وتنوعت الأقوال، وظهرت كثير من الطوائف البدعية ونحو ذلك, حتى غلب على كثير من المذاهب شيء من العقائد الغالبة على غير هدي السلف الصالح, لهذا ينبغي أن نعلم أن الأئمة عليهم رحمة الله من أئمة المذاهب الأربعة، وكذلك أيضاً من تلامذتهم, وكذلك أيضاً من أتباعهم من المتقدمين أنهم كانوا على عقيدة سواء غالباً, وسواء كانوا من الشافعية أو من المالكية أو الحنابلة أو الحنفية, وهذا ما ينازع فيه كثير من المقلدين الذين يظنون أن الأئمة الكبار من الشافعية المتقدمين والمالكية وغيرهم أنهم كانوا على عقيدة تخالف عقيدة السلف الصالح, فيما يتعلق بتأويل الصفات أو تعطيلها أو غير ذلك, لهذا ينبغي لطالب العلم أن يأخذ بعقائد الأئمة عليهم رحمة الله تعالى من المتقدمين حتى يعرف تلك المشارب، ويعرف زمن الحيدة التي طرأت على كثير من الأئمة, وانفصلوا عن عقائد أئمتهم الأربعة عليهم رحمة الله, وأن الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله إنما كانوا غالباً ممن يسلك منهج خير القرون من الصحابة، وكذلك أيضاً من التابعين.
ابتدأ المصنف رحمه الله بالحمدلة, ( وكل أمر ذي بال لا يبتدئ فيه بباسم الله أو بذكر الله أو بالحمد لله فهو أبتر ), وينبغي أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان من هديه إذا كتب كتاباً أن يبتدئ بباسم الله ), كما جاء ذلك في الصحيح من حديث عبد الله بن عباس أنه قال: ( كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن عبد الله ), وينبغي أن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ابتدأ أمراً ذا بال من خطب ونحو ذلك ابتدأه بالحمدلة.
ولهذا نقول: إذا كان الإنسان يكاتب أحداً بعينه فليكتب (باسم الله)، ويكتفي بذلك, وأن البدء بالحمدلة في المكاتبات التي تكون بين الناس ونحو ذلك ليس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم, والسنة أن يبتدئ ببسم الله الرحمن الرحيم, ويكتفي بذلك, هذا بالنسبة للمراسلات الخاصة ونحو ذلك.
أما المؤلفات التي تشابه الخطب فإنه يبتدئ في ذلك بالحمد لله رب العالمين، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كحال خطب الجمعة ونحو ذلك, وبالنسبة للمقالات والرسائل التي يكتبها الإنسان إلى أحد بعينه أو إلى عموم المسلمين مما تكون على سبيل الاختصار، نقول: يبتدئ فيها الإنسان ببسم الله الرحمن الرحيم, وهذا هو الأقرب لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما ما عدا ذلك من أحوال الناس من كلامهم مما لا يعد له البال فنقول حينئذ: إن الإنسان لا حرج عليه ألا يبتدئ فيه بذكر الله؛ وذلك كحديث الإنسان مع صاحبه, أو حديث الإنسان مع زوجه وولده ونحو ذلك, فهذا من الأمور العامة التي تندرج تحت كلام الناس العام, فينبغي للإنسان أن يكون حاضراً في ذكر الله عز وجل بلسانه على سبيل الدوام من غير تخصيص لأمثال هذه المواضع, فإنها لم تكن معهودة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والابتداء بالحمدلة فيه البركة واليمن بذكر الله عز وجل, وفيه أيضاً إظهار الافتقار، وضعف العبد بين يدي ربه سبحانه وتعالى, وكذلك أيضاً إعلان الفاقة والعجز في قول الإنسان، وكذلك أيضاً عمله وتصنيفه, وأنه إذا لم يكن له معين من الله سبحانه وتعالى فإنه ليس إلى تسديد, ولهذا المصنف رحمه الله ابتدأ هذا الكتاب بالحمدلة؛ باعتبار أن هذا الكتاب هو كتاب يشابه الخطب التي تتضمن جملة من مسائل العلم, والإنسان في هذه الأحوال يأخذ بذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, والأئمة في ذلك متنوعون؛ منهم من يبتدئ بالبسملة مجردة, ومنهم من يبتدئ بالحمدلة حتى في أبواب المصنفات, ولهذا من نظر إلى طرائق الأئمة عليهم رحمة الله؛ كالإمام البخاري , والإمام أحمد و عبد الرزاق في كتابه المصنف يجد أن أمثال هؤلاء ابتدءوا بالبسملة وما ابتدءوا بشيء من الخطب في مصنفاتهم. والذي يظهر والله أعلم أن هذه المصنفات إنما هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم, وهي وحي في ذاتها, وأن مثلها غني عن أن يبتدأ بغيره سوى البسملة التي اعتاد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكاتباته.
ومن العلماء من يفتتح في مقدمة مصنفاته بالبسملة والحمدلة, وهذا يشتهر كثيراً؛ كطريقة الإمام مسلم رحمه الله في افتتاح كتابه, وكذلك أيضاً أبي داود رحمه الله في رسالته, وغيرهم من أئمة الإسلام, وهذا كما تقدم الإشارة إليه للتماس اليمن والبركة والمدد من الله، والعون والتسديد منه سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [ أما بعد:
فإني لما وردت آمد طبرستان, وبلاد جيلان؛ متوجهاً إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الكرام, سألني إخواني في الدين أن أجمع لهم فصولاً في أصول الدين التي استمسك بها الذين مضوا من أئمة الدين، وعلماء المسلمين، والسلف الصالحين, وهدوا ودعوا الناس إليها في كل حين, ونهوا عما يضادها وينافيها جملة المؤمنين المصدقين المتقين, ووالوا في اتباعها وعادوا فيها, وبدعوا وكفروا من اعتقد غيرها, وأحرزوا لأنفسهم ولمن دعوه إليها بركتها وخيرها, وأفضوا إلى ما قدموه من ثواب اعتقادهم لها, واستمساكهم بها، وإرشاد العباد إليها, وحملهم إياهم عليها, فاستخرت الله تعالى وأثبت في هذا الجزء ما تيسر منها على سبيل الاختصار ].
الكثير من الأئمة يشيرون إلى أسباب تصنيفهم لهذه المؤلفات, ولهم في ذلك مقاصد متعددة, من هذه المقاصد: أنهم يريدون أن يبينوا أنهم ما عمدوا إلى التصنيف مجرداً لحظ التصنيف وحظ النفس, أو أنهم أرادوا بذلك تدويناً ينسب إليهم, وإنما أرادوا بذلك أنهم ما عمدوا إلى هذا التصنيف إلا لحاجة الناس إلى الكتابة في ذلك, وهذا ما يظهر في كثير من مصنفات أهل العلم, منها ما يذكرونه في مقدمة مصنفاتهم, ومنها ما يذكرونه في ثناياه, أو ربما ما يذكر عنهم في غير ذلك المصنف, أو يشير إليه ذلك الإمام في موضع آخر من مصنفاته, إشارة إلى أن التصنيف إنما هو لحاجة الناس لا لحظ النفس المجرد, وكأنهم يريدون من ذلك دفعاً لتزكية النفس, وأن الإنسان ما قصد إلى هذا التصنيف في هذا الباب إشباعاً للرغبة الذاتية, وإنما للحاجة التي وجدت لدى كثير من الناس, ولهذا المصنف رحمه الله قد أشار إلى أنه إنما صنف هذه الرسالة بعد أن سئل التصنيف فيها, فعمد إلى جمع كلام الأئمة عليهم رحمة الله تعالى في مسائل العقائد، ومسائل السنة, وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك, وكذلك أيضاً معرفة الفرق المخالفة في هذه المسائل, وطريقة الرد عليهم.
ومما لا يخفى أن ذلك الزمن قد ظهرت فيه أقوال أهل البدع، وتشعبت وتنوعت، وكثر فيه أدعياء الحق, والمتسترين بالحجج من كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, والسبب الأصلي في ذلك: أن في بعض القلوب زيغاً, ولهذا يقول الله عز وجل في كتابه العظيم: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7], أي: يسلكون الطريق في معرفة كلام الله عز وجل بالتشبث بالمتشابه، وترك المحكم من كلام الله عز وجل ليقرروا مسائل لم تكن مقررة, أو يخالفوا في ذلك الأصول المحكمة اتباعاً للأهواء, فيطوون المحكم وينشرون المتشابه.
وربما أيضاً السبب في ذلك هو الضعف والقصور العلمي, ويظهر هذا لدى العجم, ونحن إذا أردنا أن ننظر في البدع التي ظهرت في الإسلام نجد أن جلها وراءها عجم, إما أن يكونوا بحسن قصد، أو بسوء قصد, ومرد ذلك هو إما إلى الجهل، وإما إلى إرادة الفتنة، والتأويل لكلام الله سبحانه وتعالى.
ولهذا نقول: إنه ينبغي لطالب العلم أن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنزل الله عز وجل عليه الوحي في معاقل الإيمان والوحي؛ وهي مكة والمدينة، وشيء فيما بينها، وقليل فيما خرج عن ذلك, وأنه ينبغي للإنسان أن يستكثر مما كان عليه العرب الفصحاء من خير القرون, من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وكذلك أيضاً من التابعين, وأما مجرد الإمامة في باب من الأبواب ونحو ذلك فهذا لا يعني معرفة للحق.
ولهذا نقول: إن البدع التي ظهرت في الإسلام سواء كانت بدعة القدر, أو فيما يتعلق بالبدع التي وقعت في حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وغير ذلك من البدع المتنوعة في الجهمية وغيرهم, بل حتى ما يتعلق في الصوفية الخرافية, هذا إنما نشأ عند العجم من جهة أول منبته, وتشبثوا في تفصيل ذلك وتقعيده لما رد عليهم كثير من الناس, فتشبثوا ببعض الأدلة من كلام الله، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأصلوا في ذلك تلك المذاهب, وكان دافعها في ابتداء ذلك الجهل, ولهذا تجد أن أكثر أهل العربية وقعوا في البدع؛ لأنهم ليسوا عرباً, إنما أخذوا العربية تعلماً, وما أخذوها سليقة, يعني: لم يكونوا أخذوها وراثة، واستقامت على ألسنتهم كما استقامت لدى كثير من العرب الذين ورثوها من آبائهم وأمهاتهم، وكذلك ممن حولهم, فوقعوا في كثير من البدع, لهذا ينبغي ألا يلتفت الإنسان مثلاً إلى إمامة فلان في العربية ونحو ذلك؛ لكثرة مصنفاته ونحو ذلك؛ بل نقول: إنه ينبغي أن نعلم أن الصحابي الذي لم يرد عنه شيء من العربية -يعني: لاستدلاله بأشعار العرب ونحو ذلك- أنه أبصر من جميع ممن يأتي بعده بالعربية؛ لأن عربيته سليقية, ولهذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله عن الإمام مالك : إن الإمام مالك يتكلم العربية سليقية, يعني: أنه لا يتكلم بقواعد وضوابط ونحو ذلك, وإنما يقيم اللسان سليقة.
ولهذا الأعراب الذين يرد إليهم النص من كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدر الأول من الصحابة, وكذلك من التابعين من أهل المدينة ومن حولها, الذين لم تدخلهم العجمة, يفهمون كلام الله عز وجل أكثر من سيبويه و الخليل بن أحمد ، وغيرهم من أئمة العربية؛ لأنهم أصحاب سليقة, وليسوا بأصحاب عجمة, وهؤلاء إنما توغلوا في هذا الباب، وأكثروا من الكلام في العربية ومعرفة الأدلة والشواهد ونحو ذلك, وإنما أخذوا ذلك بالقواعد, والقواعد في ذلك لا تسلم للإنسان في كل حين وفي كل موضع.
فالإنسان لا يفهم ذلك النص حتى يفهم الوضع الذي نزل عليه الدليل, فما كل من رجع إلى القواميس العربية يفهم الدليل, ولهذا ينبغي أن نفهم الوضع الذي جاء فيه النص في كلام الله عز وجل، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقد جاء في الصحيح وغيره من حديث عدي بن حاتم عليه رضوان الله تعالى ( أن الله عز وجل لما أنزل قوله جل وعلا: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187], قال عدي بن حاتم عليه رضوان الله: عمدت إلى عقالين فوضعتهما تحت وسادتي.. إلى آخر الخبر, فذكر ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ليلك لطويل, إنما هو سواد الليل وبياض النهار ), فـعدي بن حاتم عربي, ولكنه ليس من أهل المدينة.
فالوضع الذي نزل عليه النص ينبغي للإنسان أن يعرف السياق المعروف في المدينة, وأما من جهة اللغة العربية فحجة عدي صحيحة؛ لأنك حتى لو رجعت مثلاً إلى القاموس تجد أن البياض المراد بذلك هو اللون المعين, وتجد أيضاً أن السواد هو اللون المعين, وتجد أيضاً أن الحبل هي الحبال المفتولة، وكذلك الخيط, فيجد الإنسان هذا التعريف, ولكن نقول: إن العربية في ذلك أعم, وتنزل على أجزاء متعددة, ويغلب النص نزولاً على أحدها, فيأتي في ذلك شيء من الفهم المخالف لظاهر الدليل, وهذا وقع يسيراً في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف في التابعين, فكيف في العجم من الكوفيين والبصريين وغيرهم, بل أيضاً ممن أبعد من ذلك من أهل فارس, وغيرهم ممن دخل في الإسلام من الروم وغيرها.
لهذا نقول: ينبغي للإنسان إذا أراد أن يفهم مسائل الدين أصولاً وفروعاً أن يرجع إلى أقوال أهل العربية من أهل العلم والفضل, وصدر ذلك هم الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في المدينة ومكة, وكذلك أيضاً الأجلة من فقهاء التابعين في المدينة ومكة, فينبغي له أن يعرف أقوالهم، وأن يتبصر بها, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم إنما فضل أصحابه لهذا الباب, وكذلك أيضاً إنما جاء تفضيل المدينة وأهلها وفضل سكناها؛ باعتبار أن البدع فيها أقل من غيرها.
وما ذكره المصنف رحمه الله أنه سئل ذلك وهو في طريقه؛ في هذا إشارة إلى أن العالم والداعي إلى الله عز وجل سواء كان في حله وترحاله ينبغي أن يعرف أحوال الناس, ويتفقد حاجتهم أيضاً, ويعرف مواضع الجهل والخلل فيهم, وألا يكون منكفئاً على نفسه, بل يتبصر بأحوالهم، ويعرف ما يحتاجونه وما يجهلونه, فيسأل عن حاجتهم, وعن قصورهم في باب من الأبواب, فالمؤلف رحمه الله لما عمد إلى بعض البلدان قاصداً المدينة النبوية سألوه التصنيف في هذا الباب, فعمد إلى تصنيف هذه الرسالة في مسائل العقائد.
ومما ينبغي التنبيه له أن الإنسان إنما يقصد المدينة النبوية قصداً لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا لقبره, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ), وفي هذا إشارة إلى أن الإنسان لا يشد رحله تعبداً إلا إليها, وقوله: ( لا تشد الرحال ), يعني: تعبداً لله سبحانه وتعالى؛ وذلك كقولنا: لا إله أي: لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى.
فقوله: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) يعني: تعبداً لله سبحانه وتعالى, أما إذا شد الإنسان الرحال لكونه أراد أن يسافر نزهة أو يسافر لأي موضع من مواضع الأرض فله أن يسافر في ذلك, ما دام الأمر ليس للعبادة, وأما ما كان للتعبد في موضع معين فإنه لا يكون إلا لهذه المساجد الثلاثة.
وأما الإنسان إذا أراد أن يرتحل إلى طلب علم ونحو ذلك, فنقول: إن الرحلة في ذلك ليست لبقعة معينة, وإنما هي للعلم, فلو تغير معقل ذلك العلم لتغيرت معه وجهته, فيتحول إليه بحسب تحول ذلك العلم, فيرتحل إلى اليمن, ويرتحل إلى العراق, ويرتحل إلى مصر، وإلى مكة، وإلى المدينة, وإلى غيرها من المواضع, فهو لم يقصد المكان، وإنما قصد الحال التي هي عليها، وهي العلم الذي أراده الإنسان.
كذلك أيضاً إذا قصد الإنسان السفر لصلة الرحم, فهو ما قصد بقعة وإنما قصد الرحم, فهو يرتحل لأمه وأبيه, وكذلك لقرابته, فإذا تحول أبوه من مكة إلى المدينة تحول هو إلى مكة, وإذا تحول من مكة إلى اليمن تحول إلى اليمن, فهو لم يقصد بقعة وإنما قصد رحمه, فلهذا نقول: إن النص الذي قد جاء هنا عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد ) أن المراد بذلك هي المواضع, والمساجد هي ما يسجد فيها لله سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [ وأثبت في هذا الجزء ما تيسر منها على سبيل الاختصار, رجاء أن ينتفع به أولو الألباب والأبصار، والله سبحانه يحقق الظن، ويجزل علينا المن بالتوفيق والاستقامة على سبيل الرشد والحق بمنه وفضله ].
وفي هذا أنه ينبغي للإنسان إذا عمد لشيء من الأعمال والأقوال, سواء كان ذلك تصنيفاً أو كان ذلك دعوة وتعليماً أو كان دلالة وإرشاداً أو كان ذلك شيئاً من أمور الدنيا؛ ألا يخلي نفسه من سؤال الله عز وجل التسديد والهداية والإعانة والتوفيق, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسأل الله عز وجل ذلك، وهو المؤيد بتأييد الله عز وجل وتسديده.
وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي سلمة عن عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح صلاة الليل: اللهم رب السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة, اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السموات والأرض, أنت تحكم بين عبادك فيما اختلفوا فيه, اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ), وهذا التضرع الليلي في موضع السحر من النبي صلى الله عليه وسلم سؤال لله عز وجل بالاستقامة والتسديد ومعرفة مواضع الخلاف, وكذلك مواضع الفضل في مسائل التفاضل في مواضع الخلاف.
لهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يستكثر من سؤال الله عز وجل معرفة الهداية والحق, ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما أرشد السائل قال: ( قل: اللهم اهدني وسددني, وتذكر بالهداية هداية الطريق, وبالسداد سداد السهم ), لهذا ينبغي للإنسان أن يسأل الله عز وجل التسديد فيما يأتي ويذر, وهذا يتأكد إذا عمد الإنسان إلى شيء من الأعمال، أو عمد إلى شيء من الأقوال, وهذا ظهر في كلام المصنف رحمه الله أنه سأل الله عز وجل تحقيق الظن, وسأل الله عز وجل الإعانة والسداد فيما يعمد إليه من تصنيفه لهذا الكتاب, فإن من توكل على الله عز وجل فهو حسبه, ومن اعتمد عليه كفاه جل وعلا, وهذا من المواضع الباطنة التي لها أثر كبير على الأمور الظاهرة, وأن الإنسان كلما كان أكثر توكلاً وتعبداً قلبياً في الباطن لله سبحانه وتعالى كفاه الله عز وجل ذلك, لهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36], يعني: أن الله عز وجل يكفي عبده بقدر عبوديته له, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: ( قال الله عز وجل: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة, يقول الله عز وجل: فلا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينه, ولئن استعاذني لأعيذنه ), وجاء في رواية وهي خارج الصحيح: ( قال: فبي يبطش, وبي يمشي, وبي يسمع, وبي يبصر ), فهذا تسديد من الله عز وجل, أي: أنك إذا كتبت سددت, وإذا توقفت سددت حتى في التوقف, فيسدده الله عز وجل في سمعه فلا يسمع إلا حقاً, ويسدده في بصره فلا يبصر إلا حقاً, وكذلك في مسيره, وكذلك أيضاً في بطشه وضربه فيسدد فيما يأتي ويذر, ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يعتمد على الله عز وجل, وأن يكثر من ذلك, فهذا من أجل مواضع العبادة.
قال المؤلف رحمه الله: [ قلت وبالله التوفيق: أصحاب الحديث حفظ الله أحياءهم ورحم أمواتهم! ].
هنا يقول المصنف رحمه الله: (أصحاب الحديث), والمراد بذلك هو حديث النبي صلى الله عليه وسلم, وهنا عمد المؤلف إلى الكلام على أصحاب الحديث ولم يقل: أهل القرآن أو أصحاب القرآن؛ لأن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحديثه المروي عنه هو أكثر تفصيلاً، وهو بيان لكلام الله سبحانه وتعالى، وهو وحي, وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله عز وجل أنزله على نبيه عليه الصلاة والسلام, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، فالسنة وحي أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله وسلم كما أنزل الله عز وجل بواسطة جبريل القرآن, ولهذا يقول حسان بن عطية : إن جبريل نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما نزل عليه بالقرآن. وقد روى الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية من حديث أحمد بن زيد بن هارون قال: إنما هي -يعني: سنة النبي صلى الله عليه وسلم- صالح عن صالح, وصالح عن تابع, وتابع عن صاحب, وصاحب عن رسول الله, ورسول الله عن جبريل, وجبريل عن الله.
ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67], يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو حامل رسالة, وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [النور:54], يعني: مبلغ رسالة وحاملها إلى الناس.
ولهذا نقول: إن كلام الله عز وجل وحي, وسنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي, ولهذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله: السنة وحي يتلى. وقد قال ذلك أيضاً ابن حزم الأندلسي رحمه الله كما في كتابه الإحكام؛ أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي, وكذلك أيضاً وحي يتلى كما يتلى القرآن, إلا أن أجر قراءة وتلاوة سنة النبي صلى الله عليه وسلم تختلف عن كلام الله سبحانه وتعالى؛ باعتبار أن اللفظ والمعنى من الله عز وجل في القرآن، وأن اللفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم, والمعنى من الله جل وعلا في السنة, والهيبة في ذلك للحق ينبغي أن تكون سواء, والسنة هي قسيمة للقرآن.
ولهذا جعل الله عز وجل من أدب سماع سنة النبي صلى الله عليه وسلم من الكمال ما ينبغي أن يكون كالكمال الذي يكون لكلام الله عز وجل, ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2], يعني: أنه ينبغي للإنسان أن يتأدب عند سماع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن ينصت؛ لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم وحي, والدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول كلاماً من تلقاء نفسه: أنه كان إذا سئل عن مسألة وكان لديه علم سابق أجاب, وإذا لم يكن لديه علم سابق من الله عز وجل أمسك حتى ينزل عليه الوحي, وقد أمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن جملة من المواضع ولم يجب السائل, وقد جاء في ذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة و زيد بن خالد الجهني عليهما رضوان الله تعالى: ( أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً على هذا -يعني: أجيراً يرعى له غنمه- وإنه زنى بامرأته، فقيل لي: على ابنك القتل, ففديت ابني بمائة من الغنم ووليدة, فاقض بيننا بكتاب الله, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله, فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما الغنم والوليدة فرد عليك. وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام, واغد يا أنيس! إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ), فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لأقضين بينكما بكتاب الله ), ومعلوم أن التغريب ليس في كلام الله عز وجل من القرآن, وإنما هو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء في الصحيح من حديث يعلى بن أمية : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بالجعرانة، وجاءه رجل عليه جبة، وقد تضمخ بالخلوق, فقال ذلك الرجل للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله! ما تقول في رجل أهل بعمرة وتضمخ بخلوق وعليه جبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وصوب نظره إليه ثم أطرق, فلما أطال خرج ذلك الرجل ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أين الرجل السائل عن العمرة؟ فأتي به, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما الجبة فانزعها, واغسل عنك أثر الخلوق, واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك ), فالنبي صلى الله عليه وسلم ما أجابه؛ لأنه ليس لديه علم من الله عز وجل في ذلك الموضع, ثم انتظر فلما طال الأمر بذلك السائل ذهب ذلك السائل إلى سبيله, ثم ناداه النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه الوحي, وهذا مصداق قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67]، وقوله: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [النور:54], يعني: أنت حامل رسالة إلى الأمم, وهذا إذا كان حال النبي صلى الله عليه وسلم, فينبغي للإنسان أن يعلم أنه ليس نائباً عن الله سبحانه وتعالى في كل شيء, بل هو مبلغ لرسالة الله عز وجل وليس له منة في ذلك, وأنه حامل وحي، والمنة في ذلك لله عز وجل على عبده أن سدده إلى شيء من معرفة الوحي, فكان مبلغاً ووريثاً لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا نقول: إن القرآن غائي, والمراد بغائي أي: يهتم بالغايات وألفاظ العموم, وما يسمى بالألفاظ الكلية وجوامع الكلم, وأما سنة النبي صلى الله عليه وسلم فهي شاملة لهذا وشاملة لهذا, فهي غائية وكلية في كثير من المواضع, والأكثر في ذلك أنها تفصيلية.
وكلما كان الإنسان بسنة النبي صلى الله عليه وسلم أبصر كان بمعرفة الحق أظهر وأبين, ولهذا يقول العلماء: إن الطائفة المنصورة والفرقة الناجية هم أهل الحديث؛ كما نص على ذلك غير واحد من العلماء؛ كـعلي بن المديني والإمام أحمد رحمهما الله كما نقله عنهما الإمام الحاكم رحمه الله في معرفة علوم الحديث, فإن الإمام أحمد رحمه الله يقول: إذا لم يكونوا أهل الحديث هم فلا أدري من هم؟! باعتبار أنهم أعرف الناس بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرف الناس بالتفصيليات, ولهذا إنما ظهرت البدع لأن أهلها استدلوا بشيء من المجملات في كلام الله عز وجل فضلوا في أصول الإيمان, وكذلك في فروعه.
وفي قوله رحمه الله: (أصحاب الحديث حفظ الله تعالى أحياءهم ورحم أمواتهم), فهو هنا ذكر الأموات وذكر الأحياء؛ باعتبار أن أهل الحديث ليسوا في هذا الجيل فقط الذين هم على هذا المنهج, بل أيضاً حتى في الجيل الغابر؛ أن منهجهم في ذلك على حد سواء, وأهل الحديث هم الذين يتبعون سنة النبي صلى الله عليه وسلم, وكذلك أيضاً يميزون صحيحها من ضعيفها, أما الذي يأخذ الحديث ولا يدري الصحيح من الضعيف فإن هذا ليس من أهل الحديث, فهذا إنما يتلفظ ما يأتي إليه, وربما وقع إليه شيء من الأدلة الواهية فعمد إليها, فاستخرج منها حكماً مخالفاً لأمر الله سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله: [ يشهدون لله تعالى بالوحدانية ].
قوله: (يشهدون لله بالوحدانية), المراد بالشهادة هنا هو الإخبار عما في القلب, فيقول فلان: أشهد على كذا, أي: أخبر عما في قلبي على لساني, فهو يجري ما في قلبه على لسانه, وهذا معنى الشهادة, ولهذا يقال: ائت بشاهد يشهد على هذا, أي: يوجد الأمر في قلبه ثم يجريه على لسانه, فيقول: شهدت بكذا, ولهذا العلماء يقولون: إن الإنسان إذا عاين شيئاً لابد أن يخبر عما في قلبه حتى لا يظن أنه فهمه على غير مراده, وذلك إما بتلفظه فيقول: أشهد على كذا، أو بكتابته بالإخبار عما في قلبه.
يقول هنا: (يشهدون لله بالوحدانية), فالله سبحانه وتعالى واحد فرد, كما في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18], والله سبحانه وتعالى واحد في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته, ومن ذلك اشتق لفظ التوحيد, ولفظ التوحيد على هذا التركيب لم يرد في كلام الله، ولا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإنما جاءت مصادره في ذلك, وجاء في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي معبد عن عبد الله بن عباس: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: إنك تأتي قوماً أهل كتاب, فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله ).
ويظهر لي -والله أعلم- أن هذه الرواية رويت بالمعنى, وأن الأرجح في هذا هو ما جاء أيضاً في حديث أبي معبد عن عبد الله بن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنك تأتي قوماً أهل كتاب, فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله ), فاختصر هذه الرواية بالشهادة بالتوحيد, وهذا أيضاً من فقه الإمام البخاري رحمه الله أنه أتى بهذه الرواية في كتابه الصحيح، وقد ذكر هذا الحديث في عدة مواضع من كتابه الصحيح، منها في كتاب التوحيد في كتابه الصحيح, إذاً فالمراد بالتوحيد هو الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله.
ولا إله إلا الله معناها: لا معبود بحق إلا الله, وذكر هذا المعنى ابن جرير الطبري رحمه الله؛ أن معنى لا إله إلا الله أي: لا معبود بحق إلا الله, وقوله: (إله), الإله أي: المعبود, على أحد المعاني, وقيل: إن الله لفظ الجلالة سبحانه وتعالى هو اسم الله عز وجل الأعظم, وهذا هو الأشهر, وإن كان لا يثبت في ذلك شيء، إلا أن الثابت في ذلك عن جماعة من السلف كـمجاهد بن جبر وغيره أن هذا هو اسم الله الأعظم؛ باعتبار أنه يتضمن جملة من المعاني لا تقع في غيره, فقولنا: يشهدون لله عز وجل بالوحدانية, والله سبحانه وتعالى هو المعبود جل في علاه سبحانه وتعالى.
واختلف في اشتقاق هذا اللفظ؛ منهم من قال: إنه مشتق في ذلك, وهذا هو الأشهر, واختلف في اشتقاقه, وأشهر وجوه الاشتقاق أنهم يقولون: إنه مشتق من أله أي: عبد, ولهذا يقول الشاعر:
لله در الغانيات المدَّهِ سبحن واسترجعن من تأله
يعني: من تعبد.
ومنهم من قال: إنه مشتق من العلو والارتفاع, يقال: لاه كذا أي: ارتفع, وكانت العرب تسمي الشمس: آلهة, يعني: مرتفعة, ولهذا يقول الشاعر العربي:
تروحنا من الدهناء عصراً وأعجلنا الإلهة أن تغيب
يعني: استعجلنا قبل غروب الشمس أن نصل إلى مقصدنا, ومنهم من قال: هو البقاء والدوام وعدم التغير, ولهذا يقول الشاعر:
ألهت بدار لا تبين رسومها كأن بقاياها وشام على اليد
ومنهم من قال: هو الاستتار والخفاء؛ وذلك أن الإنسان يخفى عليه من علم الله عز وجل أكثر مما يعلمه, والله سبحانه وتعالى قد حجب نفسه عن عباده في هذه الدنيا، وجعل رؤيته سبحانه وتعالى في الآخرة, ويستدلون أيضاً بقول الشاعر في معشوقته:
لاهت فما عرفت يوماً بخارجة يا ليتها خرجت حتى رأيناها
لاهت يعني: اختفت, ويريد من معشوقته أن تظهر له, يقول:
لاهت فما عرفت يوماً بخارجة يا ليتها برزت حتى رأيناها
ومنهم من قال: إن الاشتقاق بلفظ الجلالة الله أنه من أَلِه أي: التجأ, وهو من الالتجاء لله سبحانه وتعالى, ولهذا يقول الشاعر:
ألهت إليكم في أمور تنوبني فألفيتكم منها كراماً أماجدا
ألهت إليكم أي: التجأت إليكم, والذي يظهر لي والله أعلم: أن لفظ الجلالة الله يشتق من مجموع هذه المعاني الجليلة, وأظهرها هو العبودية لله سبحانه وتعالى, وهذا ظاهر في قول الشاعر:
لله در الغانيات المدَّهِ سبحن واسترجعن من تأله
يعني: من تعبد, ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى إنما جعل تحقق توحيده جل وعلا لا يجري على ما في القلب مجرداً, وإنما لابد أن يكون على ما في اللسان وعمل الجوارح, ولهذا قال: (يشهدون) أي: يجري على ألسنتهم ما يجري في بواطنهم من أعمال القلوب بالوحدانية, أي: أنه سبحانه وتعالى فرد جل وعلا في الربوبية والألوهية، وكذلك أيضاً في أسمائه وصفاته, والذين يثبتون حق الله عز وجل في العبادة هم عامة أهل الأرض, ولكن وحدانيته بهذا الحق هو الذي يضل فيه كثير من الناس, يقولون: الله عز وجل معبود, لكنه معبود وحده أو معبود مع غيره.
ولهذا يقول: يشهدون لله بالوحدانية أي: بالتفرد بحقه سبحانه وتعالى, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث معاذ: ( قال: ما حق العباد على الله؟ وما حق الله على العباد؟ قال: حق الله على العباد أن يعبدوه, -هل هو مجرداً؟ لا- لا يشركون به شيئاً ), ولهذا نقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله -في حديث معاذ بن جبل - إشارة إلى نفي كل شريك له سبحانه وتعالى في عبوديته جل في علاه في أنواع الشراكة, فإذا تحقق ذلك تحقق حينئذ توحيد الإنسان لربه جل وعلا.
قال المؤلف رحمه الله: [وللرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة ].
قوله: (ولرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة والنبوة), هذا جامعه قوله صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث معاذ بن جبل ؛ ( قال: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله ), أي: أن يشهدوا بهاتين الشهادتين؛ إفراد الله عز وجل بالعبودية, وكذلك أيضاً أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صاحب الرسالة.
وهنا سؤال: لماذا نقول: لابد من الشهادتين, وأن الإنسان لا يكتفي أن يشهد بأن الله عز وجل واحد في عبوديته؛ بل لابد أن يشهد أن محمداً رسول الله؟ نقول: إن الإنسان إذا أفرد الله عز وجل بعبوديته وحده؛ فكيف تتحقق له تلك العبودية إلا بمعرفة الرسالة, وهذه الرسالة جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنه إذا أفرد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ولم يكن عارفاً لهذه العبادة التي يفرد الله عز وجل بها؛ فإنه سيأتي بعبادة لم ينزل الله عز وجل بها من سلطان, ولهذا أفرد الله عز وجل بالعبادة، وأفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة, لا يشاركه في زمنه، وما جاء بعده أحد من الأنبياء بالنبوة في ذلك, ولهذا نقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول من الله أرسله الله عز وجل.
وجعل للنبي صلى الله عليه وسلم جملة من الخصائص.
من هذه الخصائص: أن الله عز وجل أرسله إلى الناس كافة, ولهذا يقول الله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[سبأ:28].
وكذلك أيضاً من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا نبي بعده, كما جاء في الخبر قال: ( لا نبي بعدي ).
وأرسله الله عز وجل إلى جميع الأجناس, ويخاطب الله عز وجل فيه الثقلين الإنس والجن, يقول الله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56], وغير ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم مما يتعلق بماهية الرسالة.
وثمة أيضاً من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته، وكذلك في بعض أحكام شريعته من أن الله عز وجل جعل له الأرض مسجداً وطهوراً, وخصه الله عز وجل بجملة من الخصائص في ذاته, منها لواء الحمد والوسيلة, وغير ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم التي ليس هذا موضع بسطها, ولكن نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى أمره بأن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله, أي: لا تتحقق الشهادة الأولى، وهو إفراد الله عز وجل بالعبودية إلا بالإقرار برسالة محمد صلى الله عليه وسلم, أي: أن العبادة التي تفرد الله عز وجل بها يأتيك بها محمد صلى الله عليه وسلم, لا تبتدع عبادة من عندك فتقع حينئذ في التشريع من دون الله عز وجل, فتقع في الكفر بعد أن أفردت الله عز وجل في هذا الباب.
نقف عند هذا الحد, وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر