اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.
اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فلا زلنا نتدارس المبحث السادس من مباحث النبوة الذي يدور حول معرفة الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقلت: إن هذه الأمور كثيرة وفيرة يمكن أن يجدها الإنسان في أربع علامات:
العلامة الأولى: النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، في خلقه وخلقه.
والعلامة الثانية: النظر إلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ورسالته التي بعث بها.
والعلامة الثالثة: النظر إلى المعجزات وخوارق العادات التي أيده الله بها وأكرمه.
والعلامة الرابعة: -وهي آخر العلامات- النظر إلى أصحابه الكرام، فالتلاميذ صورة لشيخهم ومربيهم على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.
وكنا نتدارس العلامة الأولى التي تدور حول النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، في خلقه وخلقه، وقلت: إن الله أعطى أنبياءه -على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه- الكمال في الأمرين: في الخلق وفي الخلق، فمنحهم الجمال والجلال في خلقهم وفي أخلاقهم كما منحهم البهاء والملاحة.
وقد تقدم معنا ما يتعلق بالنظر إلى خلق النبي عليه الصلاة والسلام وفصلت الكلام على هذا وبينت وجه دلالة هذا الأمر على صدق نبينا عليه الصلاة والسلام في أنه رسول الله حقاً وصدقاً.
ثم بعد ذلك انتقلنا إلى مدارسة الأمر الثاني ألا وهو النظر إلى خلق النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد أن بينت أن نبينا صلوات الله وسلامه عليه هو أكمل المخلوقات خلقاً فلابد من تحديد هذا بتفصيل دقيق، وقلت: إن خلقه عليه الصلاة والسلام ينقسم إلى خلق مع الحق جل وعلا، وإلى خلق مع الخلق، وأما خلقه مع الخلق فسنتدارسه ضمن عدة أمور لتتضح الصورة في أذهان الناس.
وهذا التفصيل ينبغي أن نتكلم على خلقه عليه الصلاة والسلام مع أهله في بيته، وعلى خلقه مع أصحابه وأمته، وعلى خلقه مع الملائكة الكرام على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وعلى خلقه مع أعدائه من شياطين الإنس والجن، وعلى خلقه مع الحيوانات، وعلى خلقه مع الجمادات.
فهذه من تأملها لم يرتب في أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو رسول رب الأرض والسماوات حقاً وصدقاً.
وسنتدارس الأمر الأول من هذه الأمور السبعة ألا وهو: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله في بيته، وهذا الأمر ينبغي أن نجمله في أربعة أمور أيضاً:
أولها: فيما يتعلق بسكنه ومنزله وحجر نسائه عليه وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.
الأمر الثاني: في الأثاث الذي يوجد في ذلك المسكن وتلك الحجر.
والأمر الثالث: الطعام الذي كان يتناول ويقدم في تلك الحجر ويأكله هو وأهله على نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه.
والأمر الرابع: كيف كان يتعامل نبينا عليه الصلاة والسلام مع أمهاتنا -أزواجه الطاهرات الطيبات- عليه وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.
وتقدم معنا ما يتعلق بالأمر الأول من الأمور الأربعة ألا وهو: مسكن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا ثابت في صفة حجر نبينا عليه الصلاة والسلام وهي باختصار -كما تقدم معنا- حجره وهي لمن جعل هذه الدنيا ممراً ولم يتخذها مقراً.
وقلت: إنما فعل هذا اختياراً ليكتمل أجره ومنزلته ورفعة قدره عند ربه جل وعلا، فلا يؤثر أحد من الدنيا شيئاً إلا ونقص من درجته عند الله وإن كان عنده كبيراً، ونبينا عليه صلوات الله وسلامه آثر الآخرة على الدنيا بكل ما تحتمل هذه الجملة من معان، ولذلك عندما اختار ذلك المسكن والأثاث المتواضع -الذي سيأتينا بيان حاله- والطعام الذي هو بمقدار البلغة والضرورة، ثم بعد ذلك معاملته مع نسائه عليه وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه، وهذه الاعتبارات كلها دليل على أنه رسول الله حقاً وصدقاً عليه صلوات الله وسلامه، وأنه آثر الآخرة على العاجلة، وما فعل ذلك من قلة ولا من بخل، فقد أعطاه الله وفتح عليه لكنه جاد به هنا وهناك، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ثم بعد ذلك هو وأهله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه يطوون الليل جياعاً.
وهذا الخلق الكريم الذي كان عليه نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام ورثه أهل بيته الطيبين الطاهرين، وكنت ذكرت قصة واحدة من قصص أمهاتنا أزواج نبينا عليه وعليهن جميعاً صلوات الله وسلامه، وهي قصة أمنا عائشة رضي الله عنها، وبينت كيف كانت تجيئها الألوف المؤلفة، وإذا وصلت إليها تصدقت بها في جميع الجهات، فإذا حان وقت إفطارها أفطرت على خبز وزيت رضي الله عنها وأرضاها، وعندما عوتبت في ذلك وقيل لها: هلا تركتِ درهماً لنشتري به لحماً نفطر عليه؟ قالت لجاريتها: لا تعنفيني لو ذكرتيني لفعلت.
فهذا الخلق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعهد أهل بيته دائماً في مراعاته والتقيد به، وبيت النبوة لا ينبغي أن يكون فيه رائحة الدنيا.
ولذلك قبل أن أنتقل إلى وصف أثاث نبينا عليه الصلاة والسلام في بيوته وحجره أحب أن أذكر قصتين فقط فيما يتعلق بتوجيهه لأكرم الخلق عليه من أهله وأسرته إنها بضعته الطاهرة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فانظر إلى التوجيه الذي كان يتعهدها به نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
ثم قال: (فلم يدخل) فجاء علي فرآها مغتمة فقال: ما لكِ؟ فأخبرته بانصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بابها، فأتى علي رضي الله عنه وأرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وقال: قد اشتد ذلك عليها، أي على فاطمة على نبينا وآل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما لنا وللدنيا، ما لنا وللرقم ) والرقم هو النقش، وهذا الإنكار مع أنه ليس فيها صور على الإطلاق إنما: ( ما لنا وللرقم )، أي ما لنا وللدنيا، فذهب علي إلى فاطمة فأخبرها أن النبي عليه الصلاة والسلام ما دخل البيت لما فيه من ستارة ملونة، وأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا علي ارجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام تقول: ( فما تأمرنا به فيه؟ )؛ أي: ماذا نعمل؟ قال: ( ترسلين به إلى بني فلان)، فتصدقت بذلك الثوب.
قال الحافظ ابن حجر : لم نقف على تعيينه، يعني: ذلك البيت الذي تصدقت بالثوب عليه.
قال أهل العلم: كره نبينا صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة ما كرهه لنفسه من تعجيل الطيبات في الدنيا، وستر الباب ليس بحرام؛ يعني: إذا وضع الإنسان ستارة على الباب أو على النافذة ليس بحرام، لكن كره نبينا عليه الصلاة والسلام لابنته ما كرهه لنفسه من تعجيل الطيبات؛ لأنه لا يصيب أحد من الدنيا نعمة إلا وينقص من درجته عند الله وإن كان شيئاً حلالاً, وإن دخل الجنة بغير حساب.
يقول سفينة مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( إن رجلاً أضاف
والإمام ابن حبان استدل بحديث سفينة أبي عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه أن هذا الأمر أي: الإنكار على وضع الستائر على الجدار كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعله في بيته وينبغي أن يفعل في سائر البيوت، فلا ينبغي أن يكون في البيوت تزويق ولا ستائر، وسيأتينا أن ستر الجدران أقل ما فيه الكراهة، بل ذهب بعض أئمتنا إلى التحريم فالله لا يرضى لنا أن يجعل بيتنا كالكعبة المشرفة بيت رب العالمين، فبيته الذي يكسى، أما بيوتنا ينبغي أن يكون لها حالة أخرى، ويأتينا هذا عند هدي الإسلام في البناء والعمران.
والإمام ابن حبان بوب على هذا الحديث باباً فقال: البيان بأن ذلك لم يكن منه صلوات الله وسلامه في بيت فاطمة فقط دون غيرها، لأنه قال: ( ليس لنبي أن يدخل بيتاً مزوقاً )، وسنذكر آثار الصحابة بعد ذلك والأحاديث الصحيحة التي تبين حكم تزويق البيوت وزخرفتها إن شاء الله.
فالمجهول الأول: حميد الشامي من رجال أبي داود ، لم يخرج له أبو داود إلا هذا الحديث، وكذلك ابن ماجه أيضاً في التفسير قال عنه الحافظ في التقريب: مجهول من الأولى، أي: توفي بعد سنة مائة للهجرة، وروى حميد الشامي هذا الحديث عن سليمان بن المنبهي قال عنه الحافظ : مجهول من الثانية، وروى سليمان بن المنبهي الحديث عن ثوبان ، وسليمان بن المنبهي أخرج حديثه أبو داود وابن ماجه في التفسير، وقال عنه الحافظ في التقريب: مجهول، وذكر في تهذيب التهذيب أن ابن حبان ترجمه في الثقات فقال: هو ثقة عند ابن حبان ، والمسألة خلافية في أن من لم يعلم فيه جرح وروى عنه راو واحد فقد خرج من الجهالة وهو ثقة، وقلت: إن مذهب ابن حبان فيه اتساع غير مرضي عند أئمتنا. ولذلك عندما يقال وثقه ابن حبان يعني: هو مجهول عند الجمهور.
فالحديث في المسند وسنن أبي داود وكتاب تركة النبي عليه الصلاة والسلام عن حميد الشامي عن سليمان بن المنبهي؛ يعني: الطريق واحدة. لكن يشهد له ما تقدم معنا من رواية ابن عمر وسفينة رضي الله عنهم أجمعين، يقول ثوبان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة، أي: أنه كان يودع نساءه وأصحابه وأقاربه، وآخر من يودعه فاطمة ، يختم بها ثم يسافر عليه صلوات الله وسلامه، وكان إذا قدم من سفره كان أول من يدخل عليه فاطمة ، فهي آخر من يودعها وهي أول من يدخل عليها عند قدومه رضي الله عنها وعلى نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه.
قال ثوبان : فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من غزاة له وقد علقت مسحاً أو ستراً على بابها، والمسح يقول أئمتنا: هو الملابس، وهو قطعة من الخيط أو من الشعر، فعلقت مسحاً أو ستراً على بابها, وحلت الحسن والحسين قلدين من فضة، القلد قال أئمتنا: كالسوار، ألبست الحسن والحسين قلدين من فضة يزينهما وهما صغار، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدخل، فظنت أن ما منعه أن يدخل هو ما رأى من المسح ومن القلدين في يدي الحسن والحسين عليهما رضوان الله. فهتكت الستر وفكت القلدين عن الصبيين، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -الحسن والحسين- وهما يبكيان، فأخذه القلدين منهما وقال: يا ثوبان ، اذهب بهذا إلى آل فلان، ثم قال: ( إن هؤلاء أهلي ) أي: الحسن والحسين وفاطمة على نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه، قال: ( إن هؤلاء أهلي، وأكره أن يأخذوا من طيباتهم في حياتهم الدنيا، يا
قال أئمتنا: المراد بالعاج هنا: الذبل بفتح الذال المشددة والباء الساكنة، قالوا: وهو عظم ظهر السلحفاة.
وأما العاج الذي تعرفه العامة وهو ناب الفيل فليس هو الذي يريده نبينا الجليل عليه الصلاة والسلام، وأئمتنا بعد ذلك اختلفوا في طهارة ناب العاج، فعند الحنفية: أن شعر الميتة وعظمها طاهر كما في كتاب الاختيار في الجزء الأول صفحة ستة عشر، والشافعي قال عكس ذلك تماماً: أن شعر الميتة وعظمها نجس، والخلاف: هل تحل الحياة في هذه الأشياء أم لا؟ فالحنفية يقولون: لا تدخل الحياة في العظام، ولا تدخل في الشعر، ولا تدخل في الصوف، ولا تدخل في القرن، ولا تدخل في السن، ولا تدخل في المنقار، فهذه كلها طاهرة، قالوا: إلا في الخنزير فذاك نجس العين، شعره نجس حياً وميتاً، أما الميتة شعرها وعظمها طاهر وإن كان اللحم نجساً، والسبب كونها لا تحلها الحياة، يعني: كما أنها طاهرة في حال الحياة فهي طاهرة بعد الممات، والشافعية على عكس هذا، قالوا: الحياة تحلها، وواقع الأمر أنه لا تحل الحياة في هذه الأشياء كما تحل في بقية أعضاء البدن، والإمامان المباركان مالك والإمام أحمد توسطا فقالا: الشعور والصوف والوبر والريش طاهرة، وأما العظم والقرن والسن والضرس والظفر فهذه نجسة، وعليه ناب الفيل عند ثلاثة من أئمتنا نجس إلا الإمام مالك فعنده أن الفيل إذا ذكي عظامه تكون طاهرة، ويجوز عنده أن يذبح الفيل ويؤكل من بين المذاهب الأربعة، وأئمتنا خالفوه لأن نبينا عليه الصلاة والسلام: (حرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير).
وعلى كل حال! فالمراد بالسوادين من عاج: عظم ظهر السلحفاة وليس سن الفيل.
وهذا توجيه نبينا عليه الصلاة والسلام لأهل بيته الكرام عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فكل هذا كما تقدم معنا -من باب الاحتياط لا من باب الاضطرار، فليس هناك فقر وليس هناك بخل، وإنما هناك إيثار بالآخرة على الدنيا.
قال عمر رضي الله عنه: ( فنظرت في البيت وإذا بقبضة من شعير نحو الصاع )؛ يعني: بمقدار الصاع، والصاع كيلوان إلا ربع.
يقول: ( وقرظ في ناحية البيت )، والقرظ هو ورق السمر الذي يدبغ به الجلد، يقول: (وإذا بهذا المعلَّق) وهو الجلد المدبوغ، قال: ( فابتدرت عيناي ) فبدأت الدموع تذرف منهما ( فالتفت إليه النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ما يبكيك يا
فهذه حادثة تبين لك ما في بيت نبينا عليه الصلاة والسلام من أثاث ومتاع، وهو حصير وحفنة من شعير، هذا الذي في بيت نبينا الجليل عليه صلوات الله وسلامه، وهذه الحادثة كررت مع عدد من الصحابة الكرام مع نبينا عليه الصلاة والسلام.
وفي بعض روايات الحديث كما في الطبراني وغيره عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ( دخلت على النبي عليه الصلاة والسلام وهو في غرفة كأنها حمام -أي: من الحر- ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم على حصير قد أثر في جنبه فبكيت، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: يا
ثم بعد ذلك جاء عمر وتحقق من الخبر وتبين له أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يطلق نساءه ونزلت آية التخيير وهي أخوف آية كما يقول كثير من علمائنا الكرام وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28]، لكن هي ما تريد إلا أن تملأ بطنها، ما تريد زيادة على هذا، فكأن حال النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت النبوة يخبر أنه ينبغي أن يكون لنا شأن حتى إذا نظر الإنسان إلى حالنا يعلم أنني ما أردت بما أدعو إليه عرض الدنيا، وأن أول من تركها أنا ومن أملك أمره، فأنتن إن لم توافقن فلا ألزمكن إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28]، أي: والتمسن الدنيا من عند أهلها, وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:29].
وأي قدر أعظم من أن تكون أمنا عائشة وسائر أمهاتنا في درجة أعلى من درجة أبي بكر في الجنة؟ لأن نساء النبي عليه الصلاة والسلام معه, فمنزلتهن أعلى من منزلة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة الكرام، بل وأعلى من سائر النبيين أجمعين؛ لأنهن مع زوجهن على نبينا صلوات الله وسلامه، فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:29] فلا يمكن لإنسان أن يحيط بعظمه ولا بمقداره وجلالته، فكل واحدة بعد اعتزال الشهر قالت: بل أختار الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.
قال عمر رضي الله عنه: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصى، أي: من الهم والغم، ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب، فقال عمر: لأعلمن ذلك اليوم، أي: بنفسي, وسيتحقق من النبي عليه الصلاة والسلام هل طلق أم لا؟ قال: ( فدخلت على
وقد ألف الإمام السيوطي كتاباً سماه: قطف الثمر في موافقة عمر، فكان يقول شيئاً فينزل القرآن بتصديقه، قال: فنزلت هذه الآية آية التخيير: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ [التحريم:5] إلى قوله: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]، وكانت عائشة بنت أبي بكر وحفصة قد تظاهرا على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ( يا رسول الله! صلى الله عليه وسلم أطلقتهن؟ قال: لا، قلت: يا رسول الله! إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى، يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: نعم إن شئت، فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه عليه صلوات الله وسلامه وحتى كشر فضحك )؛ أي: بدت أسنانه الشريفة، ( وكان من أحسن الناس ثغراً، ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ونزلت فنزلت أتشبث بالجذع )؛ أي: الذي نقب ليكون درجاً، ( ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده عليه صلوات الله وسلامه، فقلت: يا رسول الله! إنما كنت في الغرفة تسعة وعشرين، قال: إن الشهر يكون تسعاً وعشرين، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ونزلت هذه الآية: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] وكنت أنا استنبطت ذلك الأمر وأنزل الله عز وجل آية التحريم ).
هذا ما كان يوجد من أثاث ومتاع في بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
ثبت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود وابن ماجه ، والحديث رواه الترمذي في الشمائل ورواه البيهقي في دلائل النبوة ورواه هناد بن السري في كتاب الزهد، والحديث في أعلى درجات الصحة عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم حشوه ليف )، الأدم: هو الجلد.
وفي رواية: ( كان وساد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتكئ عليه من أدم حشوه ليف ).
وفي رواية: ( كان وساد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه من أدم حشوه ليف ).
وفي رواية: ( كان اضطجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يضطجع عليه إذا نام من أدم حشوه ليف ).
هذا فراشه عليه صلوات الله وسلامه في بيت أمنا عائشة وكذا في بيت أمنا حفصة ، فكان فراشه عليه صلوات الله وسلامه مسحاً: وهو كساء خشن من صوف يثنى ثنيتين فينام عليه سيد الكونين عليه صلوات الله وسلامه.
أكمل هذا إخوتي الكرام! في المواعظ الآتية إن شاء الله، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، ولجميع المسلمين إنك غفور رحيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر