أما بعد:
ها نحن في السنة العاشرة -سنة وفاته صلى الله عليه وسلم-.
قال: [قدوم وفود عديدة على الرسول صلى الله عليه وسلم] كما كانت السنة التاسعة كانت كذلك السنة العاشرة كثيرة الوفود، والمراد بالوفود جمع وفد، والوفد: جماعة تفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعلن عن إسلامها وإسلام قومها؛ وذلك لما رأوا أنوار الإسلام تغمر الجزيرة، والناس يدخلون في دين الله أفواجاً، حملهم ذلك بعد توفيق الله إلى أن يفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلنوا عن إسلامهم وإسلام قومهم.
قال: [والسنة العاشرة كالتاسعة، كانت سنة وفود أيضاً، وها هي ذي قائمة بأسماء تلك الوفود، وبعض أحوالها:
لكن إياك أن تقول: إذاً يجوز لنا أن نشكو الآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن بديارنا قحط أو جدب أو فتنة، وهذا بالإجماع لا يصح، ولا يجوز، ولا يقبل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح في الملكوت الأعلى عند ربه، في جوار مولاه، وانقطع وقت العبادة، والدعاء عبادة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان سيد العابدين وأقواهم وأقدرهم، فإذا دعا لا يرد دعاؤه، أما بعد وفاته ولحاقه بالرفيق الأعلى فلم يسأله أحد من أصحابه، ولا من أبنائهم، ولا من أبناء أبنائهم في تلك العصور الذهبية، حتى اختلط أمر المسلمين، وعم الجهل، ومكر بهم العدو، وسلبهم أنوارهم، فأصبحوا يتخبطون ويسألون الأموات.
[فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر لهم بجوائز] لا ندري ما نوعها ولا ماهيتها، ولكن حسبنا أنها جائزة أجازهم بها رسول الله [فأخذوها وودعوا الحبيب صلى الله عليه وسلم ورجعوا إلى بلادهم] وصلوها وبعد أيام [فوجدوها قد أمطرت في نفس الوقت الذي دعا لهم فيه] رسول الله صلى الله عليه وسلم [وفي نفس الساعة بالضبط] التي دعا لهم فيها، وهذه آيات النبوة وعلاماتها [فكانت آية نبوته صلى الله عليه وسلم.
[ثالثاً: ووفد عامر: في شهر رمضان منها أيضاً.
رابعاً: وفد الأزد: وكان يتألف من بضعة عشر رجلاً، على رأسهم صرد بن عبد الله ، فأسلموا وأمّر النبي صلى الله عليه وسلم صرداً على من أسلم من قومه] ومعنى أمره أي: جعله أميراً؛ لأن الفوضى مهلكة، فلا بد من إمارة وأمير تجتمع تحته الكلمة وتتحد القوى، وتعمل الأمة في صلاحها وهدايتها، بل أوسع من هذا، فقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كنا ثلاثة في سفر فينبغي أن نؤمّر أحدنا علينا، سواء كنا في سيارة، أو في طائرة، أو في باخرة، أو على أرجلنا.. فلا بد من إمارة نخضع لها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فلا فوضى في الإسلام قط.
[وأمره أن يجاهد المشركين بمن معه من المسلمين] ليدخلوهم في رحمة الله وينجوهم ويخلصوهم من عذاب الآخرة [فسار صرد الأمير إلى مدينة جرش، وفيها قبائل من اليمن فيهم خثعم] من بينهم خثعم [فحاصرهم قريباً من شهر] أحاطوهم وانتظروا فدايتهم [فامتنعوا منه، فرجع حتى كان بجبل يقال له: كشر، فظن أهل جرش أنه منهزم، فخرجوا في طلبه فأدركوه، فعطف عليهم فقاتلهم قتالاً شديداً، وقد كان أهل جرش قد بعثوا رجلين منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظران حاله] هل هو منتصر أم ماذا؟ [فبينما هما عنده إذ قال: ( بأي بلاد الله كشر؟ )] هذا الرسول صلى الله عليه وسلم يحدثهم [( وإن بدن الله لتنحر عنده الآن )] وهذا من الغيب [فقال لهما أبو بكر أو عثمان ] وكان في حضرة الحبيب صلى الله عليه وسلم [ويحكما! إنه ينعى لكما قومكما، فسألاه أن يدعو الله يرفع عنهم، ففعل فقال: ( اللهم ارفع عنهم ) فخرجا من عنده إلى قومهما، فوجداهم قد أصيبوا ذلك اليوم في تلك الساعة التي ذكر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حالهم، وخرج وفد جرش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا] دعوة استجابها الله عز وجل، وهي آية نبوته صلى الله عليه وسلم.
[فإن نغلب فغلابون قدما وإن نهزم فغير مهزَّمينا
وما إن طبنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا
كذاك الدهر دولته سجال تكر صروفه حيناً فحيناً
فبينا ما يسر به ويرضى ولو لبست غضارته سنينا
إذا انقلبت به كرَّات دهر فألفى للأولى غبطوا طحيناً
ومن يغبط بريب الدهر منهم يجد ريب الزمان له خئونا
فلو خلد الملوك إذاً خلدنا ولو بقي الكرام إذاً بقينا
فأفنى ذلكم سروات قومي كما أفنى القرون الأولينا] كلام عال لا نفهمه، يحتاج إلى بيان وشرح.
قال: [ولما توجه فروة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
لما رأيت ملوك كندة أعرضت كالرجل خان الرجل عرق نسائها] وعرق النساء معروف.
[قربت راحلتي أؤم محمداً أرجو فواضلها وحسن ثرائها
فلما وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله قائلاً: (هل ساءك ما أصاب قومك يوم الرزم؟ قال: يا رسول الله! من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الرذم ولا يسوءه ذلك؟)] يعني: من هو هذا الذي لا يستاء لمحنة كتلك [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: (أما إن ذلك لا يزيد قومك في الإسلام إلا خيراً)] يعني: الذي أصابهم من الهزيمة [واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد وزُبيد ومذحج كلها] أمره على ثلاث مناطق [وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة] ليجبي الزكاة [فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم].
[وكان منزله بمُعان في أرض الشام، ولما بلغ الروم إسلامه، طلبوه] قالوا له: تعال [فأسروه] أخذوه أسيراً [وحبسوه] سجنوه [ليقتلوه، فلما اجتمعت الروم لصلبه على ماء لهم يقال له: عفرى بفلسطين قال] أنشد شعراً يودعهم:
[ألا هل أتى سلمى بأن خليلها على ماء عفرى فوق إحدى الرواحل
على ناقة لم يلقح الفحل أمها مشذبة أطرافها بالمناجل
فلما قدموه ليصلبوه قال:
بلغ سراة المسلمين بأنني سلمٌ لربي أعظمي ومقامي
ثم ضربوا عنقه وصلبوه، فمات شهيداً من أجل إسلامه لله وجهه وقلبه] فرضي الله عنه وأرضاه.
[وجدنا ملك فروة شر ملك حماراً ساف منخره بثفر
وكنت إذا رأيت أبا عمير ترى الحولاء من خبث وغدر] سب، وشتم، وشفى صدره.
[فقال الأشعث: والله لا أسمع رجلاً يقولها إلا ضربته ثمانين] ضربة، وعدل عما قال، وذلك لما نفى الرسول صلى الله عليه وسلم قوله، فكأنه كان يعتز بذلك، فلما نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا قال: والله لا أسمع رجلاً يقولاها من رجالنا إلا ضربته ثمانين ضربة.
[ولما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد رجلوا جممهم] جمع جمة، أي: حسنوا شعر رءوسهم وجملوه [وتكحلوا] وضعوا الكحل في أعينهم كالسلاطين [عليهم جبب الحبرة] جمع جبة من الثياب معروفة تصنع في اليمن [وقد كففوها بالحرير، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألم تسلموا؟) قالوا: بلى] أي أسلمنا [قال: ( فما بال هذا الحرير في أعناقكم؟ فشقوه منها وألقوه)] ومعنى هذا أنك إذا ارتكبت خطأ، وجاء من يعلمك أنك مخطئ فعلى الفور يجب أن تمتثل، فلم يقولوا: حتى نصبح، أو حتى نعود إلى بلادنا، ولكن نفذوا في الحال.
الحادي عشر: قدوم وفد عبد عبس.
الثاني عشر: قدوم وفد صدف: وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع.
الثالث عشر: قدوم وفد الرهاويين: وهم بطن من مذحج.
الرابع عشر: قدوم وفد خولان: وكانوا عشرة أشخاص.
[فلما قدموا، جعل عامر يكلم النبي صلى الله عليه وسلم؛ يشغله ليفتك به أربد] نسوا أن الله قال له: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] ولو اجتمع من على الأرض ما قتلوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لهذا الوعد الإلهي، ولم تكن هذه أول محاولة، ولا الثالثة، ولا الرابعة، ولا الخامسة [فلم يفعل أربد شيئاً] فشل فلم يفعل شيئاً [فقال عامر للنبي صلى الله عليه وسلم: لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً] يعني: توعد الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيملأ البلاد عليه خيلاً ورجالاً [فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اكفني
[فلما خرجوا قال عامر لـأربد : لِم لَم تقتله؟ قال: كلما هممت بقتله دخلت بيني وبينه] لا إله إلا الله! كلما هم ليضرب وإذا صاحبه يحول بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي آية من آيات النبوة كالشمس وضحاها [حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟!].
قال: [ورجعوا] خائبين مهزومين [فلما كانا ببعض الطريق أرسل الله تعالى على عامر بن الطفيل الطاعون فقتله] مرض خطير [وإنه لفي بيت امرأة سلولية. فمات وجعل يقول] قبل موته [يا بني عامر أغدّة كغدّة البعير؟] وكان الذي أصابه [وموت في بيت سلولية؟!!] أية هزيمة أعظم من هذه؟ [وأرسل الله على أربد صاعقة فأحرقته] وكفى الله نبيه الرجلين [وكان أربد بن قيس أخاً للبيد بن ربيعة لأمه].
[إن لهذه المقطوعة من السيرة العطرة نتائج وعبراً نجملها كالآتي:
أولاً: من آيات النبوة المحمدية استجابة دعائه صلى الله عليه وسلم في موطنين مرتين.
ثانياً: حرمة لبس الحرير على الرجال ووجوب سرعة الامتثال لأمر الله ورسوله] الوفد الذي كان قد اكتحل ولبس الحرير لم يأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم في لبس الحرير وأمره بخلعه فخلعوه.
[ثالثاً: آية النبوة المحمدية في نزول الصاعقة بـأربد] عليه لعائن الله [والطاعون بـابن الطفيل لعنة الله عليه].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر