ذكر الله في هذه الآية أن الكفار ارتكبوا أخطاء كثيرة منها:
أولاً: أنهم جعلوا لله ولداً بنتاً، وهذا شرك وكذب، فقد كذبوا على الله وافتروا فقالوا: إن الملائكة بنات الله، فرد الله عليهم بقوله: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف:19] أي: أحضروا يوم خلقهم الله فرأوا خلقتهم كما يرى الأب والأم ومن في البيت الوليد عندما يولد عارياً، أذكراً أم أنثى؟
فهل حضروا خلق الملائكة فرأوهم إناثاً؟ ومن أين قالوا ذلك؟ إن هو إلا الكذب والبهتان والضلال.
وقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ [الزخرف:19] وقرئ: (الذين هم عند الرحمن) أي: أنهم جند من جنده، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وقوله تعالى: أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ [الزخرف:19] يقول الله لهم: من أين جئتم بهذا، أحضرتم خلقهم؟ وهذا استفهام إنكاري توبيخي تقريعي.
فالكفار لم يشهدوا خلقهم، ولم يدع ذلك أحد من خلق الله، فكيف يأتي البشر الذين جاءوا بعد الملائكة والجن ويزعمون أنهم أدركوا أن الله جعل الملائكة إناثاً؟ فهم كاذبون مفترون.
وقوله تعالى: سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19] أي: ستكتب شهادتهم في الصحائف التي يحصيها ملك اليمين وملك اليسار، ويسألون عنها ويحاسبون يوم القيامة، وإن ماتوا عليها فيعذبون العذاب المهين في جهنم خالدين مخلدين.
فازدادوا ضلالاً إلى ضلالهم الأول فقالوا: (لو شاء الله ما عبدناهم) أي: لو شاء الله لمنعنا أن نعبد الملائكة على أنهم بنات الله.
وقوله تعالى: مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ [الزخرف:20] الله حرم عبادة كل مخلوق، وما جاءت الرسل منذ آدم إلى شيث إلى نوح إلى إبراهيم وذريته من أنبياء الله ورسله إلا بالتوحيد وعبادة الله الواحد، وتحريم عبادة أي شيء سوى الله الواحد جل جلاله وعز مقامه.
ولكن لجهالتهم وإغراقهم في هذه الجهالة قالوا: لا علم لنا بذلك، ولو حاولوا الدراسة لما في التوراة والإنجيل والزبور وصحائف إبراهيم لوجدوا أن الله حرم عبادة أي شيء سواه، فما جاءت الرسل والأنبياء إلا بتوحيد الله وعبادته وحده.
فكذبهم وجهلهم ترهات ما أنزل الله بها من سلطان.
وقوله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [الزخرف:20] أي: إن هم إلا يكذبون، والخرص: الكذب، فالله لم يأمرهم بعبادة الملائكة ولم يأت بذلك نبي ولا رسول ولا كتاب، بل إن الله حرم منذ خلق البشر أن يوحد ويعبد غيره جل جلاله وعز مقامه.
وهل آتيناهم كتاباً أنزلناه عليهم قبل القرآن الكريم فيه هذا الزعم والكذب والافتراء فهم به مستمسكون، وبه متعلقون، وعلى ما فيه يعملون؟ والجواب: لا. فالعرب كانت أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، وكانوا أهل فترة لم يأتهم نبي إلا نبيهم العربي محمد بن عبد الله الهاشمي صلى الله وسلم عليه وعلى آله.
وكانوا يتمنون من قبل أن يأتيهم رسول معه كتاب يؤمنون به ويعملون بطاعته، ولكن لما جاءهم قاوموه وحاربوه وقاتلوه وأخرجوه من بلاده صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22] أي: وجدنا آباءنا وأجدادنا على دين وعلى طريقة.
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22] أي: فنحن على دينهم وعلى طريقتهم نهتدي ونستبين، فهذا فيه ذم التقليد والاقتداء بالآباء والأجداد بلا دليل من الله ولا كتاب مبين، والتقليد بهذا المعنى بينه العلماء، فمن قال: أنا مسلم لأن أبي مسلم فهذا مقلد، وهو في ضياع، ويجب أن يقول أنا مسلم لأنني أعتقد بواسطة دليل مرئي ودليل محسوس ودليل ظاهر عيان أن هذا الكون لا بد له من مكون؛ وهذا الخلق لا بد له من خالق، فأنا علمت ذلك وأدركته وآمنت به، فأنا على ذلك مؤمن بالدليل والقرآن، فإذا ثبتت هذه المقدمة ثبتت النتيجة، فإذا كان الله واحداً لا ثاني له بلا شريك ولا شبيه ولا مثيل، فهو أرسل رسله وأنزل كتبه على أنبيائه المرسلين، والنبي صلى الله عليه وسلم عاش بين قومه أربعين سنة وهو على غاية ما يكون من الصدق والأمانة فلا يتصور أن يكذب على الخالق بعد سن الأربعين وهو لم يكذب على الناس أربعين عاماً، بل كان يسمى قبل النبوة بالصادق الأمين، فصدقه بالنبوة قد أثبتته المعجزات البينات وكتاب الله الذي أنزل إليه والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي تعهّد الله بحفظه، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فجميع الأدلة القطعية عقلية ونقلية تؤيد صدق الرسالة وصدق نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقوله تعالى: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22] والأمة يعنى بها الجماعة، ويعنى بها الدين، ويعنى بها الطريقة وبكل ذلك قد نطق القرآن الكريم، فهنا معناها الطريق والدين، ومعنى قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا [الزخرف:22] أي: قد عرفناهم واجتمعنا بهم ورأيناهم على هذه الطريقة، وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22] أي: نهتدي ونسير ونقتدي بهم ولو كانوا وثنيين ومخالفين للعقل وللمنطق.
ولو جئتكم بالأهدى والأقوى والأكثر دليلاً وبرهاناً فستكفرون كما كفروا بالرسالات السابقة، ومعنى ذلك أنهم أنكروا الحق عناداً وجهلاً عن غير إدراك ولا فهم ولا دليل لا من عقل ولا من منطق ولا من دليل من قول إلهي أو قول نبوي وإنما هو التقليد الأعمى والعناد الضال المضل.
ولقد عاقب الله قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وقوم صالح وقوم لوط وقوم فرعون، وكذلك المعرضين من الأمة المحمدية، فلقد شرد الله بأولئك الذين بقوا على الكفر في مكة فغُلبوا وقُهروا وذلوا وسحقهم النبي صلى الله عليه وسلم في المعارك، وأخرجهم من أرضهم وبلادهم وطهرها من أجسامهم ومن أصنامهم وعاد إليها عزيزاً مظفراً منتصراً، وقد أزال شركها ووثنيتها وعوضها بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله).
أي: واذكر كذلك ما صنع إبراهيم والد جميع الأنبياء بعده؛ إسماعيل ونبي العالم محمد صلى الله عليه وسلم وأنبياء بني إسرائيل من لدن إسحاق الذي هو أبو يعقوب (إسرائيل) إلى عيسى عليهم جميعاً سلام الله، إذ قال لما أرسل إلى أرض العراق قوم النمرود يدعوا إلى الله الواحد، وقد كانوا وثنيين يعبدون الأصنام والأوثان فكسّر أصنامهم وقذفوه في النار وأرادوا به كيداً فجعلهم الله هم المكيدون، وجعلها عليه برداً وسلاماً وأنقذه منهم ونصره عليهم فكانت النتيجة أن ترك أرضهم وهاجر من بلادهم إلى أرض الشام وقال: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف:26] أي: بريء، وبراء تستعمل في المذكر والمؤنث، والمفرد والمثنى والجمع بصيغة واحدة تقول: إنني براء، وإنهم براء، وإنهن براء، أو الرجال براء، والنساء براء، وذلك عندما يكون المتبرئ نعتاً لأحد مذكراً كان أو مؤنثاً، فقوله: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ [الزخرف:26] أي: إنني بريء منكم ما لم تتوبوا وتئوبوا وتعودوا إلى التوحيد وإلى ما أمرتكم به عن الله؛ بأن تتركوا الأصنام والأوثان وعبادتها، والنبي صلى الله عليه وسلم أنذرهم بمثل ما أنذرهم به إبراهيم فهو بريء ممن بقي على الشرك والكفر، وقد برئ من أقاربه الذين بقوا على الكفر وماتوا عليه، كـأبي لهب مثلاً الذي ذكر في سورة مستقلة وهو عمه أخو أبيه وبرئ منه المسلمون كذلك، كما برئ من غيره من أقاربه عندما عاندوا وأصروا على البقاء على الكفر.
وسبق في هذا المعنى كلام كثير ورجّحنا بالآيات وبالأدلة القاطعة أن الأب المعني هنا هو عمه لا أبوه، وأنه في أخريات أيامه بعد أن انتهى من بناء بيت الله الحرام دعا لأبيه بالمغفرة، حيث قال تعالى: إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة:4] فهو قد دعا لأبيه مع أنه بريء ممن ذكره الله كافراً، وقال الله عنه: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].
فتفسير الأب بالعم وارد في اللغة العربية الفصيحة، وقد أتى بها الشعر والنثر وصحيح القول وهذا منها.
وخليل الله إبراهيم قد مضى على نبوته ورسالته الآلاف من السنين وكل من جاء بعده من ولديه النبيين الكريمين نبي الله إسحاق ونبي الله ورسوله إسماعيل، ومن سلالة إسحاق وسلالة إسماعيل، وكفى إسماعيل فخراً وشرفاً أن تكون سلالته بالنبوة محمداً وحده صلى الله وسلم عليه وعلى آله، فهو نبي الأنبياء وسيد الخلق كافة وهو الذي يبعثه ربه المقام المحمود ويشفع في الخلائق كلها من أمة آدم إلى أمته فيستجيب الله له عندما يتقدم للشفاعة ويقول: (أنا لها أنا لها) فيدعو الله بمحامد لا يلهمها إلا ذلك الوقت ويقول: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فلم يقل هذه الدعوات أحد قبله ولا بعده، لا آدم ولا إبراهيم ولا غيرهما، وفي هذا دلالة على عزّة مقامه، وأنه أفضل منهم وأكرم الخلق، تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253] وأجمع المفسرون أن الذي رُفع درجات هو خاتمهم وإمامهم الذي صلى بهم إماماً في المسجد الأقصى ليلة أسري به -أعاده الله للمسلمين وأخرج منه الكافرين وأذلهم وأذل أشياعهم وقضى عليهم-، قال تعالى جل جلاله وعزّ مقامه: وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28] واختلف الفقهاء إذا أوصى الإنسان بشيء من ملكه لعقبه هل يدخل فيه الذكور والإناث؟
قال بعضهم: يدخل فيها الذكور فقط، وأكثرهم قالوا: يدخل فيها الذكور والإناث، فالقرآن نزل بلغة العرب، ولغة العرب تقول العقب هم سلالته وذريته التي أتت بعده وأعقبته في الوجود والحياة من الذكور والإناث.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر