جميع الأمم تنظر إلى تاريخها نظرة إكبار واعتزاز، وإن أحق الأمم بذلك أمة الإسلام، وكيف لا ورجالها هم الذين سطروا التاريخ بدمائهم، وسادوا الأمم بالعدل والدين والحق، وإن من رجالها وأبطالها أبو بكر الصديق السابق بالخيرات، والمبشر بالجنة، أعلم الصحابة وأفضلهم، قامع الردة وأهلها، جامع القرآن.. إنه رجل كاد أن يطأ الثريا وأن يعانق الجوزاء، إنه صاحب السيرة العطرة والأيام المشرقة رضي الله عنه وأرضاه.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين
أما بعد:
فمرحباً بكم أحبتي في الله! وأسأل الله جل وعلا أن ينضّر هذه الوجوه المشرقة الطيبة، وأن يزكي هذه الأنفس، وأن يشرح هذه الصدور، وأن يتقبل منا وإياكم صالح الأعمال، وأن يجمعنا وإياكم في الدنيا دائماً وأبداً على طاعته، وفي الآخرة مع سيد النبيين في جنته ورحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير.
أحبتي في الله! إن كل أمة من الأمم تعتز بتاريخها وتفخر ببطولات رجالها وأبنائها، وإن أحق أمم الأرض بذلك الاعتزاز والفخار هي الأمة الإسلامية فهي تستحقه بجدارة واقتدار، بل وبشهادة العزيز الغفار، كما في قوله سبحانه:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، فليست هذه الخيرية لهذه الأمة ذاتية ولا عرقية ولا قومية ولكن خيرية هذه الأمة مستمدة من رسالتها التي من أجلها أخرجت للناس.
الأمة الإسلامية هي الأمة التي أنجبت على طول تاريخها رجالاً وأبطالاً وأطهاراً وأفذاذاً، سيقف التاريخ إلى ما شاء الله جل وعلا أمام سيرتهم وقفة إعزاز وإعظام، وإجلال وإكبار.
ومن الصعب أن نحصر عدد هؤلاء الأبطال وهؤلاء الأطهار، لأنهم عمر الزمن ونبض الحياة، ومن المحال أن نعد أنفاس الزمن وأن نقدر نبض الحياة، وليس من الصعوبة أن نقطف زهرة في وسط صحراء مقفرة، ولكن من الصعب أن نقطف زهرة في وسط حديقة غناء تضم كل أنواع الزهور، وتحوي كل أنواع الرياحين، وتضم كل أصناف العطر والطيب والعبير.
لذا فإني أرجو من الإخوة أن يعذروني إذا لم تضم باقتي التي سأجمعها كل أنواع الورود، وجميع أنواع الرياحين المطلوبة، وكل أنواع العطور المحبوبة والمرغوبة؛ لأنه -كما ذكرت آنفاً- من الصعوبة بمكان أن نقطف زهرة بنوعية معينة ترضى عنها جميع الرغبات في وسط هذه الحديقة الغناء الفيحاء.
وأنا لا أقدم هذه السيرة مع هذه السلسلة الجديدة التي أعلنا عنها في اللقاء الماضي بعنوان: (أئمة الهدى ومصابيح الدجى) لا أقدم هذه السيرة وهذه السلسلة الجديدة لمجرد أنها قصص تحكى على المنبر، ولا لمجرد سرد التاريخ والأحداث والسير، وإنما أقدم هذه السير للعظة والعبرة من ناحية، ولتربية الجيل على سير هؤلاء الأبطال الأطهار من ناحية أخرى خاصة في ظل هذه الأزمة الفكرية التي سيطرت على العقول طيلة هذه السنوات الماضية، والتي سميتها آنفاً في خطب الخواطر: (الدعوة في أزمة الوعي)، وها هو هذا الجيل المبارك -بفضل الله جل وعلا- ينتقل من أزمة الوعي إلى وعي الأزمة.
أيها الأحبة! تعالوا بنا لنستهل هذه الباقة، ولنبدأ هذه السلسلة، سلسلة أئمة الهدى ومصابيح الدجى بهذا الرجل الذي عاين طائر الفاقة يحوم حول حب الإيثار، فألقى له حب الحب على روض الرضا، واستلقى على فراش الفقر آمناً مطمئناً، فرفع الطائر الحب إلى حوصلة المضاعفة، وتركه هنالك يغرد لهذا الرجل العظيم بأغلى وأعلى فنون المدح، وهو يتلو في حبه قول ربه
وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى *
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى *
وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:17-21]. إنه الرجل الذي لم يتلعثم ولم يتردد لحظة من لحظات حياته في إسلامه وإيمانه بالله جل وعلا وبرسوله صلى الله عليه وسلم، إنه الرجل الذي كان شعاره إذا تأزمت الأمور وتشككت الصدور: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك فقد صدق، ولذا فقد استحق هذا الرجل بجدارة أن يسمى صديق هذه الأمة إنه
أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه! إنه أحب الرجال إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الذي رواه
البخاري من حديث
عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (
قلت: يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال:
عمر).
إنه أحب الرجال إلى قلب أستاذه ومعلمه محمد صلى الله عليه وسلم!! ولم لا يكون
أبو بكر أحب الرجال إلى قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أول رجل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: صدقت، يوم أن قال له الناس في مكة: كذبت؟!
وهو الرجل الذي قدم ماله وعمره وحياته ونفسه وروحه لله جل وعلا ولأستاذه ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
ما منكم من أحد كان له عندنا يد إلا كافأناه بها إلا الصديق فإنا لم نستطع مكافأته فتركنا مكافأته لله عز وجل).
الله أكبر! أي طراز من الناس كان هذا الرجل؟! أي صنف من الناس كان هذا الرجل العظيم العجيب؟!
(
ما منكم من أحد كان له عندنا يد إلا الصديق فإن له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال
أبي بكر ، ولو كنت متخذاً من العباد خليلاً لاتخذت
أبا بكر خليلاً، ألا وإن صاحبكم خليل الله) والحديث رواه
الترمذي وغيره واللفظ
للترمذي والحديث حسن بشواهده.
أبو بكر من أهل الجنة
مسارعة أبي بكر إلى الخيرات
أيها الأحبة! ورد في صحيح
مسلم : (
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: من منكم اليوم أصبح صائماً؟ فقال أبو بكر : أنا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من منكم اليوم أطعم مسكيناً؟ فقال
أبو بكر : أنا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من منكم اليوم اتبع جنازة؟ فقال
أبو بكر : أنا يا رسول الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من منكم اليوم عاد مريضاً؟ فقال
أبو بكر : أنا يا رسول الله، فقال الحبيب صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة).
الله أكبر! ماذا أقول عن
أبي بكر ؟! ومن أي المواطن والمواقف أبدأ؟!
أيها الأحبة! لست مؤرخاً ولا قاصاً ولا حاكياً، إنما سنتوقف عند بعض المواقف لنستلهم الدروس والعظات والعبر من ماضينا المشرق لحاضرنا ومستقبلنا الزاهر المجيد، الذي حاول أعداء ديننا مراراً وتكراراً أن يفصلوا بيننا وبين هذا الماضي المجيد، وأن يضعوا السدود بيننا وبينه حتى لا نرفع رءوسنا خفاقة عالية لتناطح كواكب الجوزاء في عنان وكبد السماء.
أبو بكر أعلم الناس
أيها الأحباب! هذا هو تاريخنا، وهؤلاء هم أجدادنا وأبطالنا، هذا هو
أبو بكر رضي الله عنه، ذلكم الرجل الذي وقف موقفاً عجيباً رهيباً يوم أن قام النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر في مرضه الأخير قبل الموت وقال -كما ورد في حديث
أبي سعيد الذي رواه
البخاري و
مسلم - : (
أيها الناس! إن عبداً من عباد الله خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله، فاختار ما عند الله، فبكى الصديق رضي الله عنه، وقال: فديناك بآبائنا يا رسول الله! فديناك بأمهاتنا يا رسول الله! فديناك بأنفسنا يا رسول الله!)، فضج الناس في المسجد عجباً لهذا الشيخ، الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن عبد خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ما عند الله فما الذي يقوله ويفعله
أبو بكر رضي الله عنه؟!
ولكن
الصديق علم أن العبد المخير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففداه بنفسه وأبيه وأمه، فداه بماله وبكل شيء.
يقول
أبو سعيد : فكان
أبو بكر أعلمنا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي يوم الإثنين كشف عليه الصلاة والسلام الستر من حجرة
عائشة رضي الله عنها ونظر إلى المسجد فرآهم وهم يصلون وراء إمامهم
الصديق رضي الله عنه، وكاد الناس أن يفتنون في الصلاة، وسمع
الصديق صوتاً وجلبة -وكان لا يلتفت في الصلاة أبداً- فعلم أن هذا الصوت لا يكون إلا لخروج النبي صلى الله عليه وسلم، فكاد
الصديق أن يخلي مكان إمام الأئمة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم أشار إليهم أن اثبتوا، ودخل الحبيب إلى غرفة
عائشة وكان ملك الموت في انتظاره، فإن الأجل قد حان، والعمر انتهى كما حدده الله جل وعلا.
ثبات أبي بكر عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم
-
موقف أبي بكر في سقيفة بني ساعدة
أيها الأحباب! ما لبث هذا الأمر أن حدث وذهب الأنصار رضي الله عنهم إلى سقيفة بني ساعدة؛ ليختاروا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع
عمر بن الخطاب الخبر فذهب إلى
أبي بكر وأخذه وأخذ
أبا عبيدة وأسرعوا رضي الله عنهم جميعاً إلى السقيفة إلى إخوانهم من الأنصار.
يقول
عمر : وكنت قد زورت -أي: أعددت- مقالة جميلة لأتحدث بها بين يدي هؤلاء، إلا أن
الصديق قد استأذن
عمر بن الخطاب ، وكان
الصديق أول من تكلم فأثنى على الأنصار خيراً وأثنى على المهاجرين، وقال هم أحق الناس بالخلافة من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقام
الحباب بن المنذر وقال: منا أمير ومنكم أمير وكاد الشيطان -والعياذ بالله- أن يلعب لعبته ولكن أنى لهذه القلوب التي رباها محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أن تتمزق وأن تتشتت! وبعدها قام الصحابي الجليل المبارك
بشير بن سعد أبو الصحابي الجليل
النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قام وقال مقالة وقعت كحبات الندى على القلوب، قام
بشير بن سعد رضي الله عنه وقال: يا معشر الأنصار! والله لئن كان لنا فضل في جهاد المشركين، وسبق في هذا الدين، فإنه لا ينبغي أن نستطيل بهذا على الناس، وأن نبتغي به عرضاً، فنحن ما أردنا بذلك إلا رضا ربنا وطاعة نبينا صلى الله عليه وسلم، ووالله إن رسول الله من قريش وقومه أحق به، وايم الله لا يراني الله أنازع القوم في هذا الأمر أبداً، فاتقوا الله يا معشر الأنصار ولا تخالفوا المهاجرين ولا تنازعوهم.
فالتقط
الصديق هذه الكلمات النيرة الندية الرخية المؤمنة التقية، ورفع يد
عمر ويد
أبي عبيدة بن الجراح وقال: أيها الناس! هذا
عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام، وهذا
أبو عبيدة الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم إنه أمين هذه الأمة، لقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين، فقال
أبو عبيدة و
عمر نتقدمك؟ لا والله، والله لا نقدم على هذا الأمر أحداً دونك يا
أبا بكر .
إنه التجرد لله جل وعلا! إنه الصفاء والإخلاص!
إن جلال هذا الموقف أبلغ من كل مقال، وأبلغ من كل كلام، بل ويصرخ
عمر ! ويبكي
أبو عبيدة ! ويقول
عمر : والله لئن أقدم فيضرب عنقي في غير إثم أحب إلي أن أؤمر على قوم فيهم
أبو بكر رضي الله عنه.
ويبكي
أبو عبيدة ويقول: أنت أفضل المهاجرين، وأنت ثاني اثنين إذ هما في الغار، وأنت خليفة رسول الله في الصلاة وهي أعظم ديننا، أيرضاك رسول الله لديننا ولا نرضاك لدنيانا؟! ابسط يدك يا
أبا بكر ابسط يدك فبسط
الصديق يده، فقام الصحابي الجليل
بشير بن سعد وكان أول من بايع كما في أصح الروايات، وبايعه
عمر و
أبو عبيدة، وازدحم الأنصار رضي الله عنهم ليبايعوا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما أن غربت شمس هذا اليوم إلا وقد غربت بكل جزئية من جزئيات الخلاف، والتأم الصف ورئب الصدع على يد ابن الإسلام المبارك التقي النقي.. على يد
أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وخمدت نار الفتنة في مهدها، وكان يوماً عظيماً على الإسلام.
أيها الأحباب! لقد من الله على الإسلام في هذا اليوم بـ
أبي بكر ! حتى ظننت -وأنا أقرأ هذا المشهد من أكثر من مرجع- أن الله جل وعلا قد اختار لهذا اليوم
أبا بكر بالذات، وبدأ
الصديق رضي الله عنه يعلن سياسته العامة للدولة.
-
خطبة أبي بكر بعد توليه الخلافة
-
توفيق الله لأبي بكر في إنفاذ جيش أسامة
وبدأ
الصديق رضي الله عنه أول أعماله الكبيرة العظيمة بإنفاذ بعث وجيش
أسامة رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الجيش الذي كان على حدود المدينة المنورة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإرساله لمناطحة العدو في الحدود الشمالية للدولة الإسلامية، على حدود الروم، ولتأديب قبائل قضاعة التي انحازت إلى الروم في غزوة مؤتة.
أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم هذا الجيش لتأديبهم واختار لهذا الجيش
أسامة الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره!
وأمر
الصديق بأن ينفذ جيش
أسامة ، ولم يتجاوز الجيش حدود المدينة المنورة إلا وقد أطلت فتنة برأسها كادت أن تدمر الأخضر واليابس لولا أن من الله على الإسلام -كما قال
ابن مسعود - بـ
أبي بكر رضي الله عنه.
بدأت فتنة أهل الردة والمرتدين، فمنهم من ارتد عن الإسلام بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم لم يدخلوا في الإسلام إلا مداهنة وتقية، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم ارتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة، وقالوا: كنا نؤديها لرسول الله، فلن نؤديها لأحد بعده، فقال
الصديق قولته الخالدة: والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.
ويومها ذهب الفاروق
عمر ليناقش
الصديق في هذه الفتوى ويقول: يا خليفة رسول الله! أتقاتل قوماً شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؟! ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: من قالها عصم مني دمه وماله؟!
ولكن
الصديق كان أفهم الصحابة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم يا
عمر ! إلا بحقها والزكاة من حقها؟ والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.
يقول
عمر فما لبث أن شرح الله صدري لما رأى
أبو بكر رضي الله عنه.
ولما أطلت هذه الفتنة برأسها رأى بعض الصحابة وعلى رأسهم
عمر و
أسامة بن زيد قائد الجيش: أن في إرسال جيش
أسامة مخاطرة رهيبة؛ لأن المدينة نفسها مهددة بالغزو من المرتدين، فلابد أن يبقى الجيش لحماية المدينة في هذا الظرف الحرج، ولكن هذا الرجل عجيب.. يظهر إيمانه ويقينه مرة أخرى ويعلن قولته الخالدة ويقول: والله لو تخطفتني الذئاب لأنفذت بعث
أسامة ولست أنا الذي يرد قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد أن ينفذ جيش
أسامة .
فلما رأى الصحابة
أبا بكر مصراً على رأيه ذهبوا إليه مرة أخرى وعلى رأسهم
عمر ، وقالوا: إن كان ولابد يا خليفة رسول الله فاجعل على رأس الجيش من هو أسن وأكبر من
أسامة فمسك
أبو بكر بلحية
عمر وقال: ويحك يا
ابن الخطاب! أيوليه رسول الله وأعزله أنا؟ والله لا يكون.
وأراد
الصديق أن يفض هذا الإشكال فقام بنفسه مع
عمر إلى حيث عسكر الجيش الإسلامي بقيادة
أسامة وخرج إليهم على حدود المدينة فلقيهم
أسامة بن زيد على ظهر فرسه و
الصديق يمشي على رجليه، فنظر
أسامة الذي تربى في مدرسة النبوة وقال: يا خليفة رسول الله! والله إما أن تركب وإما أن أترجل، فقال
الصديق والله لن أركب ولن تترجل! وأكثير عليَّ يا
أسامة أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله؟!
ومشى
الصديق على الأرض إلى جوار قائد الجيش
أسامة ابن الثمانية عشرة... مشى خليفة المسلمين.. خليفة رسول الله إلى جوار
أسامة ليبين للناس أنه إمام وأستاذ وقائد الموكب.
إن الإسلام لا ينظر إلى سن ولا نسب ولا إلى شرف، بل إن ميزان الإسلام هو التقوى:
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، ووقف
أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليزف هذه الوصايا وليبين لهذا الجيش المبارك دستوره الحربي في أعظم دستور عرفه التاريخ، فوالله ما عرف التاريخ دستوراً حربياً أعظم ولا أطهر ولا أشرف مما عرفه التاريخ في حروب الإسلام طيلة القرون الطويلة الماضية، وسوف يظل التاريخ يقف أمام هؤلاء وقفة إجلال وإعظام وإعزاز وإكبار!
اسمعوا أيها الأحبة ماذا قال
الصديق للجيش؟
حمد الله وأثنى عليه وقال: لا تخونوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا -أي بالجثث-، ولا تقتلوا طفلاً أو شيخاً كبيراً أو امرأة، ولا تحرقوا نخلاً ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرةً ولا بعيراً إلا للطعام، وسوف تمرون على قوم قد تفرغوا للعبادة في صوامعهم فدعوهم على ما هم عليه، ثم قال: اندفعوا باسم الله.
هذا هو الميثاق، وهذا هو دستور الحروب في الإسلام فأين أدعياء الحضارة الذين يتغنون ويرقصون لخدمة الإنسانية في الليل والنهار؟!
أين أدعياء الحضارة الذين ساموا الإنسانية سوء العذاب؟! وإن ما يحدث على خشبة المسرح العالمي في جمهورية البوسنة والهرسك لأعظم دليل على أن هؤلاء كذبة فجرة وخونة، لا يعرفون من هذا المضمار إلا هذه الكلمات الجوفاء الكاذبة الرنانة.
أين هم من أبناء الشعب المسلم في البوسنة؟! سفكت دماؤهم، ومزقت أشلاؤهم، واغتصبت نساؤهم، وقتل أطفالهم وحرقت بيوتهم، أين هم من هؤلاء؟!
(لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً أو شيخاً كبيراً أو امرأة، ولا تحرقوا نخلاً، ولا تقطعوا شجرة مثمرة) إنه دستور الإسلام!
وانطلق الجيش على بركة الله وباسم الله، تحت راية الإسلام، وباسم التوحيد والإيمان، بأوامر هذا الابن المبارك للإسلام، إنه
أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه!!
وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
المصالح المترتبة على إنفاذ جيش أسامة
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من اقتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين
أما بعد:
فهكذا أنفذ
الصديق رضي الله عنه جيش
أسامة الذي كان له أثر بليغ في قلوب هؤلاء المرتدين في أطراف الجزيرة العربية الذين قالوا: لو كانت المدينة بهذا الضعف الذي سمعنا ما خرج هذا الجيش الجرار لهذه المعركة الضارية، لمناطحة قوة الروم العاتية، وكانت هذه بركة من بركات
أبي بكر رضي الله عنه، ووئدت نار فتنة المرتدين ومدعي النبوة وقد ظهر
طليحة وظهرت
سجاح مسيلمة وكل قد ادعى النبوة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
-
ومن فضائل أبي بكر جمعه للقرآن
رحماك رحماك يا الله! أي فتن هذه التي تطل على
أبي بكر ؟!
لقد وأد
الصديق نار الفتنة في مهدها، ولم تتوقف بركاته عند هذا الحدث، وإنما بعد موقعة اليمامة ذهب إليه
عمر وأشار إليه بجمع القرآن كما في حديث
زيد بن ثابت الذي رواه
البخاري وشرح الله صدره إلى ذلك، فأمر
زيد بن ثابت بجمع القرآن.
يقول
زيد : والله لو كلفني بنقل جبل لكان أهون علي، أو ما كان أثقل علي مما كلفني به.
وجمع
الصديق القرآن لأول مرة، وكانت الصحف في بيته حتى توفي، ثم انتقلت إلى بيت
عمر حتى توفي، ثم في بيت
حفصة رضي الله عنهم جميعاً وأرضاهم.
وهذه بعض المواقف وبعض الدروس، وإلا فلو توقفنا مع
الصديق لطالت بنا الوقفة ولطال بنا المقام، ولقد آليت على نفسي ألا أقف في كل لقاء مع كل شخصية من هؤلاء الأئمة وهؤلاء المصابيح إلا جمعة واحدة.
-
عهد أبي بكر بالخلافة بعده لعمر
أيها الأحباب! ونام
الصديق بعد هذا التاريخ الحافل على فراش الموت ليسلم روحه إلى الله جل وعلا، ولكنه أضفى على الأمة وعلى الإسلام بركة أخرى لا يمكن أبداً أن ينتهي اللقاء إلا ونشير إليها إشارة، فلقد استدعى
عثمان بن عفان رضي الله عنه، وقال: يا
عثمان! اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد به
أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وفي أول عهده بالآخرة داخلاًً فيها: أني قد استخلفت عليكم
عمر بن الخطاب ، فأطيعوا له واسمعوا، ثم قال: فإن عدل فهذا علمي به وظني فيه، وإن بدل وغير فإن لكل امرئ ما اكتسب وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله.
وأمر
عثمان أن يخرج ليقرأ الكتاب على المسلمين، فقام المسلمون جميعاً وبايعوا
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما فعل ذلك
الصديق إلا خشية من أن تحدث فتنة شديدة على الإسلام والمسلمين، ثم استدعى
عمر فوصاه وصية جميلة رقيقة لا يتسع المقام والمجال لذكرها، ثم رفع
الصديق يده ودعا الله لـ
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال له: اللهم أصلحه وأصلح له الرعية.
وبعد أيام قليلة دخل ملك الموت مرة أخرى؛ لينزع أطهر روح وأشرف روح بعد روح المصطفى صلى الله عليه وسلم، ليقبض
أبا بكر رضي الله عنه، ولما اشتد به الوجع دخلت عليه الصديقة
عائشة رضي الله عنها تقول:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فكشف
الصديق الغطاء عن وجهه، وقال: لا تقولي هذا يا ابنتي وإنما قولي:
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19] رضي الله عن
أبي بكر وأرضاه وجمعنا الله جل وعلا به مع أستاذه ونبيه في جنة الله ومستقر رحمته، إنه ولي ذلك ومولاه وهو على كل شيء قدير .
اللهم اجز عنا
أبا بكر خير ما جازيت مصلحاً أو صالحاً!
اللهم اجز
أبا بكر عن الإسلام خير الجزاء!
اللهم اجمعنا به في دار كرامتك ومستقر رحمتك!
اللهم صل وسلم وبارك على من علمه ورباه وخرجه وأنجبه لهذا الدين!
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه وزوجاته وأتباعه وأطهاره وأخياره الذين اتبعوه بإحسان إلى يوم الدين!
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين.
اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، وقيض لأمة التوحيد أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم وفق حكام المسلمين إلى العودة لكتابك، وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، أنت ولي ذلك ومولاه!
وأكثروا من الصلاة والسلام على حبيبنا ونبينا محمد، فإن الله جل وعلا قد أمركم بذلك في محكم كتابه، فقال:
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أحبتي في الله! هذا وما كان من توفيق فمن الله وحده، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.