إسلام ويب

تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78]للشيخ : عبد الحي يوسف

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يحكي ربنا ما حدث بعد أن أخذ موسى العهد ألا يسأل عن شيء يفعله الخضر، فانطلقا معاً فركبا سفينة، ثم إذا بالخضر يخرق السفينة، فاعترض عليه موسى فذكره بالعهد فاعتذر موسى، ثم انطلقا فوجدا غلاماً فقتله الخضر فاعترض عليه موسى فذكره الخضر بالعهد، فأخذ موسى على نفسه العهد إن سأله شيئاً آخر ألا يصاحبه، فاعترض عليه موسى ففارقه الخضر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها ...) إلى قوله: (... ولا ترهقني من أمري عسراً)

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

    اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

    سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

    فيقول تعالى: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:71-78].

    تقدم معنا الكلام عن سبب هذه القصة التي أوردها ربنا تبارك وتعالى في هذه السورة، وعرفنا من كلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : ( أن نبي الله موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: هل أحد أعلم منك؟ فقال: لا )، أو سئل: ( يا نبي الله! أي الناس أعلم؟ فقال: أنا، ولم يستثن، فعاتبه ربه أن لم يرد العلم إليه، وقال له: بلى، إن عبدنا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال: يا رب! كيف السبيل إلى لقيه؟ فقال له: خذ حوتاً، فحيثما فقدت الحوت فهو ثم، فانطلق موسى عليه السلام ومعه فتاه يوشع بن نون إلى أن بلغ المكان الذي عين لهما، فوجدا ذلك العبد الصالح مسجىً ببردة خضراء، فسلم عليه موسى عليه السلام، وسأله الصحبة ليتعلم منه علماً نافعاً، فاشترط عليه ذلك العبد الصالح إن صحبه ألا يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يخبره، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70]، وبين له العلة في ذلك، فقال له: يا موسى! أنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا، وأنا على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه أنت ).

    العلة في عدم ذكر يوشع فتى موسى في رحلته مع الخضر كما في قوله تعالى: (فانطلقا)

    يقول الله عز وجل في وصف رحلة موسى عليه السلام مع العبد الصالح: فَانطَلَقَا [الكهف:71]، الحديث هنا عن شخصين، (فانطلقا) المراد بذلك: موسى و الخضر ، ولم يذكر يوشع فتى موسى؛ إما لأنه تابع غير أصيل في القصة، وقال بعض المفسرين: بل رده موسى إلى بني إسرائيل، يعني: بعدما وجد موسى ضالته، والتقى العبد الصالح الذي طلبه أمر فتاه بأن يرجع إلى بني إسرائيل فيكون عليهم قائداً يصرف أمورهم، ويسوس شئونهم.

    قال الله عز وجل: فَانطَلَقَا [الكهف:71]، والانطلاق: الذهاب والمشي، مشتق من الإطلاق، وهو: ضد التقييد، يقال: أطلقت الدابة إذا تركتها تذهب، وحللت عنها عقالها.

    ركوب موسى والخضر في السفينة

    حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ [الكهف:71]، (حتى) غائية، أي: إلى غاية ركوبهم في السفينة، وقد مرت بهم سفينة جميلة لا يوجد سفن في ذلك الوقت أجمل منها، فلما عرف أصحاب هذه السفينة العبد الصالح الخضر عليه السلام، حملوه إكراماً له هو وصاحبه من غير نول، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام البخاري ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، ليس لهما سفينة، فمرت بهما سفينة، فطلبا منهم أن يحملوهما -أي: موسى و الخضر طلبا من أصحاب السفينة أن يحملوهما- فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول، -أي بغير أجرة- فجاء عصفور فوقع على حرف السفينة -أي وقف على طرفها وحافتها- فنقر نقرةً أو نقرتين في البحر، فقال الخضر : يا موسى! ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور في البحر ).

    المراد بالنقص من علم الله في قول الخضر: (ما نقص علمي وعلمك من علم الله ...)

    قال شراح الحديث: إما أن يكون المقصود بالنقص: العلم المعلوم؛ لأن العلم صفة أزلية قائمة بذات الله لا تتعرض لنقص، أو أن يكون معنى النقص هنا: الأخذ، ( ما نقص علمي وعلمك من علم الله )، أي: ما أخذنا من علم الله جل جلاله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من ماء البحر، وانظروا إلى النسبة كم أخذ العصفور من ماء البحر، فالنسبة لو أردنا أن نقدرها فهي لا شيء، فعلم نبي الله موسى الذي اصطفاه الله على الناس برسالاته وبكلامه، وكلمه الله تكليماً، وآتاه التوراة فيها هدىً ونور، وعلم الخضر هذا النبي الفاضل، أو العبد الصالح، على سعة علمه، علمه مع علم موسى ما أخذ من علم الله عز وجل إلا كما أخذ هذا العصفور من ماء البحر، ويكفينا الآية التي نحفظها جميعاً، والتي هي سيدة آي القرآن قال الله عز وجل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255].

    وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه فسر الكرسي هنا: بالعلم، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، أي: علمه، وقبلها قول الله عز وجل: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، يعني: لا يعلم العباد إلا ما شاء تعليمهم إياه.

    خرق الخضر للسفينة وإنكار موسى عليه

    يقول الله عز وجل: حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا [الكهف:71]، يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفائدة الظرفية هنا يقول الله عز وجل: حَتَّى إِذَا رَكِبَا [الكهف:71]، أي: بمجرد ركوبهما عمد العبد الصالح إلى خرق السفينة، فما تلبث ولا انتظر، حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ [الكهف:71].

    هذا الفعل (ركبا) الأصل أنه يتعدى بنفسه، قال الله عز وجل: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً [النحل:8]، ما قال: لتركبوا عليها؛ لأن الفعل يتعدى بنفسه، تقول: ركبت السفينة، ركبت الطائرة، وركبت القطار، ولكن هنا جيء بحرف الجر (في) لإفادة الدخول، حتى إذا دخلا في السفينة خرقها، والخرق هو: الشق والثقب، وهو: ضد الالتئام، كيف خرقها الخضر ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة فنزعه )، أي: نزع لوحاً واحداً من ألواح السفينة، ( فقال موسى عليه السلام منكراً هذه الفعلة: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71] )، وهذه قراءة الجمهور، وفي قراءة حمزة و الكسائي و خلف العاشر : (أخرقتها ليغرق أهلها)، وعلى القراءتين نلاحظ أن موسى عليه السلام لم يتكلم عن نفسه، وإنما يتكلم عن الناس، يعني: ليس همه نفسه، لم يقل عليه السلام: أخرقتها لأغرق، أخرقتها لتغرقني، وإنما همه في الناس (أخرقتها ليغرق أهلها)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فقال موسى: قوم حملونا بغير نول، عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ). وجاء في بعض الروايات: أن موسى عليه السلام قال للخضر : ( أخرقتها لتغرق أهلها، لتعلمن أنك أول غارق )، أي: أنت أول واحد سيغرق.

    إطلاع الله أنبياءه على ما يشاء من علم الغيب

    وفي بعض الروايات: ( بأن موسى عليه السلام انتحى جانباً -بعدما قال له الخضر : أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:72]- وبدأ يحدث نفسه، ويقول: قد كنت في بني إسرائيل أعظهم وأذكرهم فينفعهم الله بكلامي، فما أصنع بصحبة هذا الرجل؟ )، يعني: أوقعني في هذه المصيبة، ( فجاء الخضر وقال له: يا موسى! إن شئت أخبرتك بما حدثتك نفسك )، ولا غرابة فليس هذا دليلاً على أن الخضر يعلم الغيب؛ بل الخضر كما مضى الكلام نبي، والأنبياء يطلعهم الله عز وجل على ما شاء من الغيوب، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( جاء أحد الناس قال: يا رسول الله! أريد أن أسألك، فقال له عليه الصلاة والسلام: إن شئت سألت، وإن شئت أخبرتك، فقال: أخبرني، قال: جئت تسأل عن البر والإثم؟ البر: حسن الخلق، والإثم: ما تردد في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس )، وكذلك ( الرجل الذي جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يشكو أن أباه يأخذ ماله -أي: معه مال وأبوه يستولي عليه- فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: ادع لي أباك، فلما ذهب الشاب ليدعو أباه نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا محمد! إن جاءك الشيخ فسله عن شيء تحدثت به نفسه، لم تسمعه أذنه ) يعني: هو نفسه ما تكلم به، ( فلما جاء الشيخ قال له النبي عليه الصلاة والسلام: إن ولدك يشكو أنك تأخذ ماله، فقال: يا رسول الله! سله -يعني سل هذا الولد- هل أنفقه إلا على إحدى عماته أو خالاته؟ )، يعني: أنا آخذ ماله نعم، ولكن أين أذهب به؟ أنفقه على إحدى عماته أو خالاته، ( فالنبي عليه الصلاة والسلام قال له: دع عنك هذا، وحدثني بشيء تحدثت به في نفسك لم تسمعه أذناك، فقال الرجل: يا رسول الله! والله ما زلنا في كل يوم نزداد يقيناً بأنك رسول الله، ثم قال له: لقد قلت في نفسي كلمات أخاطب بها ولدي هذا:

    غذوتك مولوداً ومنتك يافعاً تعل بما أجني عليك وتنهل

    إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململ

    كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيناي تهمل

    فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤمل

    جعلت جزائي غلظةً وفظاظةً كأنك أنت المنعم المتفضل

    فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل

    فأوليتني حق الجوار ولم تكن علي بمال دون مالك تبخل

    فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ بتلابيب الولد، وقال له: قم، أنت ومالك لأبيك ).

    فالشاهد أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يطلعهم الله عز وجل على ما شاء من الغيوب.

    أما بالنسبة للأولياء فسيأتي بحث إن شاء الله في خواتيم هذه القصة فيما يتعلق بما يسمى بالكشف أو المكاشفة، وأبين إن شاء الله وجه الحق في هذا والعلم عند الله تعالى.

    رد الخضر على موسى وإنكاره خرق السفينة

    قال الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام مخاطباً العبد الصالح: أَخَرَقْتَهَا [الكهف:71]، أي: أخرقت تلك السفينة؛ لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71]، (لقد جئت) أي: أتيت وفعلت، (شيئاً إمراً) أي: منكراً عظيماً، وفعلةً شنيعة، والإمر يقال: أمر الشيء يأمر، أمر يأمر إمراً، من باب فرح يفرح، أمر يأمر إمراً، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71].

    وقال الشاعر:

    لقد لقي الأقران مني نكراً داهيةً دهياء إداً إمراً

    أي: لقد جئت منكراً عظيماً وشيئاً فظيعاً تستحق المؤاخذة عليه، جاء في بعض الروايات أن السفينة لم يدخلها الماء، رغم أنه قد قلع لوحاً من ألواحها، وجاء في بعضها أن الخضر عليه السلام عمد على شيء من زجاج، فسد به تلك الفتحة أو ذلك الخرق الذي أحدثه.

    لما أنكر موسى على الخضر بقوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71]، قال له الخضر المعلم الشفوق مذكراً هذا التلميذ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:72]، أي: لقد كنت أعلم حين أخبرتك أولاً أنك لن تستطيع معي صبراً، وأنت يا موسى! قلت عن نفسك: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً [الكهف:69]، والآن يبدو من حالك أنك لن تصبر، أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:72]، فبادر موسى عليه السلام على علو كعبه في العلم، وعظيم منزلته عند الله إلى الاعتذار: قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [الكهف:73]، (لا تؤاخذني) (لا) الناهية، (تؤاخذني) من المؤاخذة، وهي مشتقة من الأخذ، إذا أخذ الإنسان بجريرته قيل عن ذلك: مؤاخذة، وهي مفاعلة على سبيل المبالغة، وإلا فالأخذ حقيقةً يكون من طرف واحد.

    معنى النسيان في القرآن الكريم

    قوله تعالى: بِمَا نَسِيتُ [الكهف:73]، الباء: باء السببية، أي: بسبب ما نسيت، (ما) إما أن تكون موصولة، أي: لا تؤاخذني بالذي نسيت، وإما أن تكون مصدرية، لا تؤاخذني بنسياني، ومعنى النسيان هنا: إما أن يكون مراداً به: الذهول، فقولك: أنا ذهلت، أي: حصل لي شيء من نسياني ما أخذته على نفسي من عهد، وإما أن يكون مراداً بالنسيان: الترك، لا تؤاخذني بما تركت من العهد الذي قطعته على نفسي، وكلا المعنيين في القرآن مذكور، فالنسيان بمعنى: الذهول كثير، وقد مضى معنا قول الله عز وجل: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ [الكهف:63]، أما النسيان بمعنى: الترك، فهو في قول الله عز وجل: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة:67]، (نسيهم) بمعنى: تركهم، وإلا لا يتصور في حق الله جل جلاله الذهول كما قال نبي الله موسى: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:50-52].

    النسيان من الله عز وجل معناه: الترك، (نسوا الله فنسيهم) أي: تركهم وأهملهم، فموسى عليه السلام يعتذر إلى الخضر ، يقول له: قد أصابني شيء من الذهول والنسيان، وهذه من عوارض البشرية التي تطرأ على الأنبياء، وسيد الأنبياء رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه مرةً فقام من اثنتين، يعني: بعد ركعتين، فبدلاً من أن يجلس للتشهد قام لثالثة، ومرةً قام لخامسة صلوات الله وسلامه عليه، ومرةً سلم من اثنتين، يعني: بعدما صلى بهم ركعتين في إحدى صلاتي الظهر أو العصر سلم، وكان عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه: ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني )، وربنا سبحانه وتعالى قال عن آدم: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه:115]، فهذا دليل على استيلاء النقص على جملة البشر؛ لأن جملة البشر معرضون للنسيان.

    معنى قوله: (ولا ترهقني) واختلاف القراءات في (عسراً)

    موسى عليه السلام قال: وَلا تُرْهِقْنِي [الكهف:73]، يقال: رهقه إذا غشيه، وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً [الكهف:73]، (عسراً) هذه قراءة الجمهور، وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع : (ولا ترهقني من أمري عسراً)، بضم العين والسين، وهما لغتان، كما يقال: نكراً، ونكراً، سيأتي معنا في الآية التي بعدها قراءة: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74]، وقراءة: (لقد جئت شيئاً نكراً)، هنا أيضاً (عُسْراً) (عُسُراً)، يقول موسى عليه السلام لأستاذه: عاملني باليسر لا بالعسر، لا تؤاخذني بالنسيان الذي طرأ علي، ففرط مني ما فرط من إنكار وغلظة قول، فأرجو منك المسامحة لا المؤاخذة.

    1.   

    فوائد من قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها ...) إلى قوله: (... سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً)

    هذه الآيات يستفاد منها فوائد:

    الفائدة الأولى: قول الله عز وجل: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ [الكهف:71] يستفاد منه جواز ركوب السفينة في البحر من غير كراهة، وهذا الكلام قد تستغربونه، لكن يزول استغرابكم لو علمتم بأن بعض الفقهاء قالوا بكراهة ركوب البحر، لكن الصحيح: أنه لا حرج، وقد ركبه الصحابة؛ بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تنبأ بذلك لما قال في بيت أم حرام -أي: نام نومة القيلولة- فاستيقظ وهي تمسح العرق عن وجهه صلى الله عليه وسلم، فتبسم وقال: ( أريت أناساً من أمتي يركبون ثبج هذا البحر، ملوكاً على الأسرة، غزاةً في سبيل الله. فقالت أم حرام : ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم )، وفعلاً هذه المرأة الصالحة ركبت مع زوجها عبادة بن الصامت غازيةً في سبيل الله، ومريدون غزو القسطنطينية، فأدركها الموت رضي الله عنها ودفنت في تلك البلاد، وإلى الآن قبرها يعرف بقبر المرأة الصالحة.

    الفائدة الثانية: قول الله عز وجل: خَرَقَهَا [الكهف:71]، للخرق سببان: الأول: قول: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ [الكهف:79] أي: أمامهم مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:79]، وفي قراءة ابن عباس : (كل سفينة صالحة غصباً)، يعني: أي سفينة تعجبه يأخذها، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، أي: أردت تشويهها من أجل أنه إذا رآها ذلك الملك الظالم يزهد فيها، كما لو أن إنساناً ظالماً رأى سيارةً من نوع المرسيدس مثلاً أو من نوع سيارة كبيرة فإنه تحدثه نفسه بالاستيلاء عليها، لكن لو رأى مضرورة ذات اليمين وذات الشمال ففي الغالب أنه يخليه يفوت ويمشي.

    فهنا أخذ العلماء قاعدة، قالوا: في خرق السفينة دليل على أن للولي أن ينقص مال اليتيم إذا رآه صالحاً، مثل أن يخاف على ريعه ظالماً فيخرب بعضه، وقال أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب أبي حنيفة : يجوز للولي أن يصانع السلطان ببعض مال اليتيم.

    نقول: يجوز إتلاف بعض المال لإنقاذ كله، سفينة تحمل مالاً كثيراً بلاط مثلاً، أو إسمنت، والحمولة ثقيلة، في هذه الحالة يرمى ببعضه في البحر من أجل إنقاذ كله.

    الفائدة الثالثة: قول موسى عليه السلام للخضر : لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71]، يدل على مشروعية إنكار المنكر لمن علم أنه منكر، فهنا موسى عليه السلام وجد أن هذا الأمر منكر بحسب شريعته هو عليه الصلاة والسلام، فبادر إلى الإنكار.

    وقول موسى عليه السلام: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74]، يدل على مشروعية القصاص في شريعة موسى، وهذا ظاهر في قول الله عز وجل: وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا [المائدة:45] أي: في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة:45].

    الفائدة الرابعة: قول الله عز وجل: اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا [الكهف:77] فيه دليل على جواز سؤال القوت، وأن من جاع وجب عليه أن يطلب ما يرد به جوعه، يعني: لو أن إنساناً جائعاً ما عنده شيء فلا يقول: أنا لا أسأل الناس، وأنا أتعفف، حتى يموت من الجوع، فيلقى الله عاصياً، فالجائع له أن يسأل الناس ما يرد به جوعه.

    مما نأخذه من إشارات هذه الآيات: أن الضيافة كانت واجبة في دين القوم، قال أهل التفسير: وهذا هو الأليق بحال الأنبياء والأولياء، أنهم لا يسألون الناس إلا ما وجب عليهم بذله.

    الفائدة الخامسة: في الآيات دليل على وجود المجاز في القرآن، وهو مذهب الجمهور، مع تقديرنا واعتزازنا بالعلامة الشيخ محمد الأمين رحمه الله، إلا أنني أقول: الصحيح -والعلم عند الله تعالى- هو أن المجاز موجود في القرآن، لكن في غير صفات الله جل جلاله، ومنه قول الله عز وجل: وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [يوسف:82]، فليس المقصود: أن يعقوب سيذهب ليسأل الجدران، وإنما المقصود: واسأل أهل القرية، وكذلك قول الله عز وجل في سفينة نوح: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ [القمر:14]، باتفاق المفسرين أن المقصود بقوله تعالى: (تجري بأعيننا) أي: برعايتنا وعنايتنا، ومنه قول الله عز وجل: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39].

    الفائدة السادسة: جواز الإجارة، وهذه مأخوذة من قول الله: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً [الكهف:77]، وفي القرآن الكريم أن موسى عليه السلام آجر نفسه لما تزوج بنت العبد الصالح، فقال له: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27]، وقد أتم موسى العشرة، فالإجارة جائزة.

    الفائدة السابعة: جواز التبرع بالعمل ابتغاء وجه الله، وقد تبرع الخضر عليه السلام بعمله ولم يرد من الناس جزاءً ولا شكوراً، وإنما أراد ما عند الله من أجر وثواب.

    أسأل الله أن ينفعني، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله ...) إلى قوله: (... قد بلغت من لدني عذراً)

    قتل الخضر للغلام وإطلاق لفظ الغلام في كلام العرب

    ثم بعد ذلك قال الله عز وجل: فَانطَلَقَا [الكهف:74]، بعدما نزلا من السفينة انطلقا يمشيان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا غلمان يلعبون، فعمد الخضر إلى أحدهم -وفي بعض الروايات: إلى أصبحهم وجهاً، وأحسنهم هيئة-، فأخذ برأسه من أعلاه ثم اقتلعه بيده )، ولك أن تتصور تلك الحال، بأن ترى أمامك جريمة قتل، كاملة الأركان، وليست جريمةً توجه إلى إنسان مكلف وإنما لغلام يافع، ( فقال موسى: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74] )، في المرأة الأولى قال له: (إمراً)، وهنا: (نكراً)، ( فقال له الخضر : أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الكهف:75] )، المرة الأولى قال له: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:72]، وهنا: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:75]، فشدة نكير من موسى يصحبها شدة تهذيب من الخضر عليهما السلام، قال الله عز وجل: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاماً [الكهف:74].

    والحديث الذي ذكرته وهو في صحيح البخاري يغلب على الظن من لفظه والله أعلم أن هذا الغلام ما كان بالغاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا بغلام يلعب مع الغلمان )، ولكن يعكر على هذا أن بالغين كثيرون يلعبون، وما زلنا نرى في كل يوم، بل والله ليسوا بالغين وإنما شيوخ طاعنون، وما بينهم وبين المقابر سوى أيام معدودات، يجلسون ويلعبون تلك الألعاب التي تعرفونها، يجلسون حلقاً حلقاً، والأذان يؤذن وهم جلوس، والصلاة تقام وهم جلوس، والإمام يرتل وهم جلوس، والناس يرجعون من المسجد وهم جلوس، لا يستحون من الله ولا من الناس، نعوذ بالله من الخذلان.

    وفي اللغة تطلق كلمة الغلام على الصبي وعلى الرجل، ومن إطلاقها على الرجل قول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج بن يوسف طاغية ثقيف ومبيرها تقول له:

    شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها

    وأوضح من هذا لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم كان عمره ثلاثاً وخمسين سنة، وفي بعض الروايات بأنه كان ابن خمسين سنة عليه السلام، ( لما عرج به إلى السموات العلى، وفي السماء السادسة لقي موسى بن عمران، وتعرف عليه، وسلم عليه، فلما جاوزه بكى موسى عليه السلام، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث من بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر ممن يدخل من أمتي )، والغلام هو الرسول صلى الله عليه وسلم، قال أهل الحديث: أراد موسى مدحه لا انتقاصه.

    ومثله لما هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وخرج الأنصار الطيبون يستقبلونه، وما كانوا يعرفون من هو الرسول؟ ومن هو أبو بكر ؟ فأكثرهم ما رأى النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كانوا يبشر بعضهم بعضاً، والصبيان والجواري والرجال والنساء يقولون: جاء رسول الله، وهم فرحون، لكن لم يقدروا على التمييز، حتى إذا جاءت الشمس وزال الظل قام أبو بكر رضي الله عنه فخلع رداءه وظلل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففهم الأنصار أن القائم أبو بكر والجالس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا الشاب وذاك الشيخ، فالشاب الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أنه كان أسن من أبي بكر بسنتين، أي: أكبر من أبي بكر بسنتين، أرادوا بذلك مدحه صلوات ربي وسلامه عليه؛ لذلك قال محمد بن السائب الكلبي : كان هذا الغلام الذي قتله الخضر بالغاً، يقطع الطريق بين قريتين، وأبوه من عظماء أهل إحدى القريتين، وأمه من عظماء القرية الأخرى، وكان الناس يأتون إلى أبيه، يقولون له: إن بنيك قد فعل كذا وكذا، وأبوه رجل صالح، فيسأل ولده: يا بني لم فعلت؟ فيحلف بالله الذي لا إله غيره أنه ما فعل، فبناءً على قسمه يقسم أبوه والله الذي لا إله غيره ما فعل؛ لأنه يظن أن ولده بريء، وأن ولده على صلاح، قالوا: ومن أجل هذا قتله الخضر . لكن جمهور العلماء قالوا: هذا الغلام لم يكن بالغاً؛ ولذلك موسى عليه السلام قال له: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً [الكهف:74]، يعني: طاهرة لم تذنب، ولم تتلوث بالمعاصي، قالوا: وهو الذي يقتضيه لفظ الغلام، فإنه إذا أطلق لا يخطر بالبال إلا صبي يافع، وهو مأخوذ من الاغتلام، وهو: الشهوة، يعني: بدأ يشتهي لكن لم يبلغ كالرجال.

    نقول: اللغة تطلق لفظة الغلام على هذا وذاك، ومنه قول صفوان رضي الله عنه لما تكلم حسان رضي الله عنه في قصة الإفك، فضربه صفوان بالسيف على رأسه فشجه شجةً منكرة، وقال له:

    تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت ليس بشاعر

    يعني: أنا شعرك هذا لا أعرفه، فقد شتمتني وأنا ليس عندي إلا السيف، فهنا صفوان وصف نفسه بأنه غلام، مع أنه كان رجلاً، لكن الذي يظهر رجحانه والعلم عند الله تعالى أنه كان غلاماً لم يبلغ مبلغ الرجال، وهو قول جمهور العلماء، ويؤيده قول موسى عليه السلام: نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فوجد غلاماً يلعب مع الغلمان )، وأن هذا هو الذي يفهم عند الإطلاق.

    الأسباب المبيحة للقتل وسبب تخصيص موسى لأحد هذه الأسباب

    يقول الله عز وجل: قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74]، (أقتلت نفساً زكيةً) قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو و أبو جعفر : (أقتلت نفساً زاكيةً) و (زكيةً) من الزكاء بالزاي، ليس الذكاء الذي هو: حدة الفهم، وإنما الزكاء بمعنى: الطهارة، ومنه سميت الزكاة زكاةً؛ لأنها تطهر المال، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].

    أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74]، أي: أنها ما قتلت نفساً، ولو أنها قتلت نفساً لاستحقت القتل، أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74]، وقتل النفس لا يحل إذا قتلت نفساً فقط؛ بل يحل بأسباب أخرى، يعني: يحل قتل النفس بواحد من عدة أسباب، النفس بالنفس، ومن زنى بعدما أحصن، ومن ارتد عن دينه فكفر بعد إيمان، ومن عمل عمل قوم لوط، ومن وقع على ذات محرم، ومن سرق في المرة الخامسة، في قول بعض أهل العلم، ومن شرب في المرة الرابعة في قول بعض أهل العلم، ومن أخاف السبيل، وقطع الطريق، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المائدة:33]، إلى أن قال سبحانه: أَنْ يُقَتَّلُوا [المائدة:33]، فكذلك، وقتل النفس أحياناً يكون تعزيراً، كمن كان ساعياً بفتنة أو فساد في الأرض، وعلم أنه يروج للفواحش، ويحرض على المنكرات.

    إذا اتضح هذا، فلماذا خص موسى عليه السلام مبيحاً واحداً وهو قوله: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74]؟ قال أبو السعود رحمه الله في تفسيره: خص موسى عليه السلام هذا المبيح للدم بالذكر من بين سائر المبيحات، كالكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان؛ لأنه الأقرب إلى الوقوع بالنظر إلى حال الغلام، يعني: هذا الغلام لا يتصور منه زناً بعد إحصان، ولا يتصور في حقه كفر بعد إيمان، لكن يتصور في حق الغلام الذي لم يبلغ أن يقتل نفساً، وهذا متصور، فمن أجل هذا خصه موسى عليه السلام بالذكر.

    الفرق بين التعبير في خرق السفينة بقوله: (إمراً) وفي قتل الغلام بقوله: (نكراً)

    يقول الله عز وجل: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً [الكهف:74]، أي: نفساً طاهرةً لم تذنب قط، بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74]، في المرة الأولى قال: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً [الكهف:71]، وفي هذه قال: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74]، قال بعض المفسرين: (نكراً) أشد من (إمراً)؛ لأن في خرق السفينة توقع الهلاك، أما هنا فتيقن بهلاك، يعني: هذا قتل نفساً حقيقة ويقيناً، لكن هناك احتمال أنه يحصل غرق، واحتمال أن الجماعة كلهم يكونون عوامين مثلاً فينجون، وقال بعض المفسرين: بل (إمراً) أشد من (نكراً)؛ لأنه هنا قتل نفساً واحدة، وهناك جماعة من الناس.

    لكن الذي يظهر من اللفظ أن (نكراً) أشد من (إمراً)؛ لأن النكر أو المنكر لم يأت الشرع بتحريمه، وقضى العقل بقبحه، يقول الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً [الكهف:74].

    دلالة لفظ (لك) في قوله: (ألم أقل لك)

    هنا الخضر قال: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:75]، (ألم أقل لك) هذا تشديد في النكير، وتخصيص، كما تقول: لك أقول وإياك أعني، وأقصدك أنت، فهذه كلها مؤكدات، أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:75]، فهنا موسى عليه السلام لا يستطيع أن يقول للخضر : لا تؤاخذني بما نسيت، هنا موسى عليه السلام لأنه عبد كريم، عنده كرامة، وعنده خلق، أخذ على نفسه شرطاً، قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي [الكهف:76]، فالمرة هذه سامحني، وفي المرة الثانية لو سألتك اتركني، إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي [الكهف:76]، (تصاحبني) من المصاحبة، مفاعلة، والمعنى: فلا تتركني أصحبك، اطردني، أبعدني، قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً [الكهف:76]، أي: بلغت مبلغاً تعذر به في ترك مصاحبتي، يعني: لا لوم عليك، ولا مؤاخذة، فأنت قد حذرتني وأنذرتني، لكنني ما استمعت، وهنا في قوله: قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً [الكهف:76]، قرأ نافع و أبو جعفر : (قد بلغت من لدني عذراً) بالتخفيف، وقراءة الجمهور بالتشديد: قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً [الكهف:76].

    رؤية موسى عليه السلام فعال الخضر دون غيره ممن معه

    قال الله عز وجل: فَانطَلَقَا [الكهف:77]، أي: بعدما قتل الغلام انطلقا، يقول المفسرون: وفي هذه الفعال لم يراه أحد إلا موسى، يعني: لما خرق السفينة ما رأوه الجماعة، ولما قتل الغلام أيضاً ما رأوه الغلمان الذين يلعبون، لم يره إلا موسى عليه السلام، وهذا متصور في حق الأنبياء، وقد ذكرت فيما مضى لما ( جاءت العوراء أم جميل بعدما نزلت سورة (تبت) جاءت معها فهر من حجارة، والرسول صلى الله عليه وسلم و أبو بكر عند الكعبة، قالت: يا أبا بكر ! أين صاحبك؟ بلغني أنه قد هجاني، قال: لا والله ما هجاك -فالكلام هذا غير صحيح ولم يحصل- فقالت له: أما لو رأيته لصككت فاه بهذا الفهر -أي: لو قابلته سأضربه بهذا الحجر- فانصرفت وهي تقول: مذمماً أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، تشتم الرسول عليه الصلاة والسلام، فـأبو بكر التفت للرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! أما رأتك؟ صحيح أن هذه المرأة عوراء، لكن لها عين ثانية، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد أخذ الله بصرها عني )، فهذا متصور في حق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية ...) إلى قوله: (... سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً)

    وصول موسى والخضر إلى القرية واستطعام أهلها

    يقول الله عز وجل: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ [الكهف:77].

    هذه القرية هل كانت أُبُلّة في أرض العراق، أو أنطاكيا، أو جزيرةً في الأندلس، أو ناحية في أذربيجان؟ هذا كله ليس له عندنا شأن، وقد مضى كلام كثير من المفسرين في اسم الغلام، والقاعدة: كل ما أبهمه القرآن فلا فائدة في تعيينه ولا البحث عنه.

    حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ [الكهف:77]، قرية من القرى الله أعلم بها، وفي قراءة ابن عباس وهي قراءة تفسيرية ليست قراءة متواترة: (حتى إذا أتيا أهل قرية لئام)، أي: كانوا ناساً لؤمة، ومن علامة اللؤم -عافانا الله جميعاً- ترك إطعام الضيف خاصةً إذا كان ابن سبيل، يعني: لو ضيف جاءك في العمران في البلد الذي تكثر فيه النزل والفنادق فلا حرج عليك ألا تؤويه، لكن لو كان ابن سبيل مر بقرية ليس فيها فنادق، ولا فيها مطاعم، وهذا متصور في بعض القرى، فلم يكرم، فهذا دليل على اللؤم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )، فهم لئام، وقوله: اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا [الكهف:77]، أي: طلبا من أهلها طعاماً، لجأا إلى آخر وسيلة للتكسب، يعني: الإنسان يتكسب بعمل يده إما زراعةً، أو احتشاشاً، أو رعياً، أو تصنيعاً أو ما أشبه ذلك، وقد يتكسب بأن يؤجر نفسه لغيره، وقد يتكسب بالاتجار، ثم آخر وسيلة للتكسب السؤال، (استطعما أهلها)، ولا حرج على من سأل وهو محتاج جائع، اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77]، يقول بعض المفسرين: كان موسى عليه السلام حين سقى لبنتي شعيب أحوج منه حين أتى القرية مع الخضر ، ولم يسأل قوتاً، بل سقى ابتداءً، وفي القرية سأل القوت ابتداءً، وفي ذلك للعلماء كما يقول الألوسي انفصالات منها: أن موسى كان في حديث مدين منفرداً، وفي قصة الخضر تبعاً لغيره، قال القرطبي رحمه الله: وعلى هذا المعنى يتمشى قوله في أول الآية لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا [الكهف:62]، ومعنى هذا الكلام: أن موسى عليه السلام لما خرج من مصر لم يخرج ومعه الزاد بل خرج منها خائفاً يترقب، فهو ليس في وضع الإنسان الذي تهيأ للسفر، ومشى عليه السلام جائعاً حتى بلغ مدين، وورد ماء مدين، قال أهل التفسير: وكانت الخضرة ترى من وراء جلده لطول ما أكل من أوراق الشجر، فما عنده زاد، ومع ذلك لما وجد الفتاتين سقى لهما ابتداءً ولم يشترط عليهما أجراً، فَسَقَى لَهُمَا [القصص:24]، فلما عرف السبب قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا [القصص:23-24]، ما انتظر منهما جزاءً ولا شكوراً، وبعد ذلك أوى إلى الظل ودعا ربه، رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24] فجاءه الفرج.

    لكن هنا قبل أن يفعل شيئاً (استطعما أهلها)، قال المفسرون: هناك موسى عليه السلام كانت معه معية الله؛ لأنه في حال ضعف وحاجة، فالله معه يثبته ويقويه، وهنا كان تبعاً للخضر عليه السلام؛ ولذلك من بداية القصة بدأ يشكو، ويقول لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً [الكهف:62]، وقيل: لما كان هذا السفر سفر تأديب وكل إلى تكلف المشقة، وأما ذلك السفر فكان سفر هجرة فوكل إلى عون الله.

    إرادة الجدار في قوله: (يريد أن ينقض) بين الحقيقة والمجاز

    يقول الله عز وجل: فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف:77]، وعندنا إشكال هنا في قوله: (جداراً يريد أن ينقض) مع أن الجدار ليس عنده إرادة، ولذلك قال جمهور المفسرين: هذه استعارة، وبعضهم عبر فقال: هذا مجاز، بمعنى: ألهم هذا الجدار فأوشك أن ينقض، أي: كاد أن ينقض وليس للجدار إرادة. لكن علامة العلماء وشيخ الفقهاء المعاصرين وخاتمة المحققين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان، قال: وقد دلت آيات من القرآن على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقةً، وأن الله عز وجل خلق في ذلك الجدار إرادة، قال: لأن الله تعالى يعلم للجمادات إرادات وأفعالاً وأقوالاً لا يدركها الخلق، بدليل قوله سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فالحصى يسبح ( الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ كفاً من حصى يقول أنس : فسمعنا تسبيحهن في يديه، فصبهن في يدي أبي بكر فسبحن، فصبهن في يدي عمر فسبحن، فصبهن في أيدينا فما سبحن ).

    يقول الصحابة: ( كنا نأكل الطعام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نسمع تسبيحه )، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني لأعرف حجراً كان يسلم علي بمكة )، الحجر يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا رسول الله! وفي القرآن: وَإِنَّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، والكلام هذا حقيقةً نقف أمامه متعجبين.

    أيضاً استدل بقول الله عز وجل: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا [الأحزاب:72]، قال الشيخ رحمه الله: فتصريحه جل وعلا بأن السموات والأرض والجبال أبت وأشفقت أي: خافت، دليل على أن ذلك واقع بإرادة وإدراك بعمله، فهو يعلمه جل وعلا ونحن لا نعلمه، فعلى كل حال نقول: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، والله على كل شيء قدير.

    إقامة الخضر للجدار ونقد موسى عليهما السلام

    وقوله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف:77]، الانقضاض: السقوط بسرعة، يقال: انقض الطائر على فريسته، أي: هوى بسرعة، أو يقال: انقض الحائط: إذا وقع بسرعة، فَأَقَامَهُ [الكهف:77]، قال أهل التفسير: مسحه بيده فسواه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث في صحيح البخاري وقد مضى معنا ذكره: ( فَأَقَامَهُ [الكهف:77]، قال الخضر بيده فأقامه ) (قال الخضر بيده) أي: فعل بيده فأقامه، قال له موسى عليه السلام: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً [الكهف:77]، أي: لو شئت لطلبت من هؤلاء اللئام أجراً، يعني أنت تحسن إليهم وهم لا يستحقون إحساناً، قال أهل التفسير: والحجة على موسى في الأفعال الثلاثة؛ لما أنكر خرق السفينة قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا [الكهف:71]، أوحى الله إليه: ( يا موسى! أين كان تدبيرك لما ألقتك أمك في اليم؟ ) ولما أنكر قتل الغلام قال له الله عز وجل: ( يا موسى! فأين أنت من قتل القبطي؟ )، ولما أنكر إقامة هذا الجدار قال الله عز وجل: ( يا موسى! أين أنت من سقيك لبنتي العبد الصالح ولم تطلب أجراً؟ )، يعني: أن الأفعال الثلاثة من الخضر تقابلها أفعال ثلاثة من موسى مشابهة.

    مفارقة الخضر لموسى عليه السلام

    فلما قال موسى: لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً [الكهف:77] قال له الخضر : هَذَا فِرَاقُ [الكهف:78]، فالموضوع قد انتهى، ولكن مع ذلك سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:78].

    قال الله عز وجل: قَالَ )) أي: العبد الصالح هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف:78]، قال الزمخشري : الأصل في (فراق بيني وبينك) نصب (بين) على الظرفية، (هذا فراق بيني وبينك) فأضيف المصدر إلى الظرف، (هذا فراق بيني وبينك)، وكان يكفي أن يقول الخضر : هذا فراق بيننا، لكنه كرر الظرف للتأكيد، كما تقول: أخزى الله الكاذب منا ومنكم، أو مني ومنك، وكان يكفي أن تقول: أخزى الله الكاذب منا، أي: أنا وأنت، لكن هذا من باب التأكيد.

    سَأُنَبِّئُكَ [الكهف:78] أي: أخبرك، بِتَأْوِيلِ [الكهف:78]، التأويل هو: العلم بمآل الشيء.

    ثم شرع الخضر عليه السلام في البيان والتفصيل بما سيأتي معنا إن شاء الله في الدرس القادم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767450145