الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين، وأن يجمعنا في جنات نعيم، أما بعد:
فهذا الدرس في تفسير سورة الكافرون، وهي سورة مكية بإجماع المفسرين، واشتملت هذه السورة المباركة على ست آيات، وثمانية وعشرين كلمة، وأربعة وتسعين حرفاً.
هذه السورة يقول عنها الإمام الزمخشري في الكشاف، والإمام السيوطي في الإتقان: بأنها تسمى هي وسورة (قل هو الله أحد) المقشقشتين؛ لأنهما أزالتا الشرك، يقال: قشقش إذا أزال.
وتسمى أيضاً هي وسورة (قل هو الله أحد) بـ: سورتي الإخلاص.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بينهما في كثير من المواقف، ففي الحديث في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بالكافرون و(قل هو الله أحد) في ركعتي الطواف).
وفيه أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما في ركعتي الفجر).
وفي مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وعشرين مرة يقرأ بالكافرون والإخلاص في الركعتين قبل الفجر، والركعتين بعد المغرب).
فهاتان السورتان الكريمتان كان يقرأ بهما نبينا عليه الصلاة والسلام في السنة الراتبة قبل صلاة الصبح، وفيها بعد صلاة المغرب، وكان يقرأ بهما في ركعتي الطواف.
أما سبب نزول هذه السورة المباركة؛ فقد قال أهل التفسير: جاء أربعة من صناديد الكفر وذوي الأسنان ممن تقدمت بهم العمر، وهم: الوليد بن المغيرة المخزومي و العاص بن وائل السهمي و أمية بن خلف الجمحي و الأسود بن المطلب ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا له: يا محمد! إنا نعرض عليك أمراً، قال: (وما ذاك؟) قالوا: أن تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة؛ فإن كان الذي عندنا خيراً أصبت منه، وإن كان الذي عندك خيراً أصبنا منه. يعني: نلتقي في منتصف الطريق، والحق نسبي -كما يقول الدجاجلة- قد يكون عندنا نسبة من الحق وعندك نسبة من الحق، فلو أننا عبدنا إلهك سنة وعبدت إلهنا سنة نكون قد أصبنا الحق كله، فأنزل الله عز وجل سورة الكافرون مبرئاً رسوله صلى الله عليه وسلم من أن يميل إلى كفر، أو يتلبس بشرك، أو يشارك في باطل.
افتتحت هذه السورة بفعل الأمر (قل)، وعندنا في القرآن خمس سور افتتحت بـ (قل) وهي: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ[الجن:1]، و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون:1]، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[الإخلاص:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ[الفلق:1]، و قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ[الناس:1].
قوله سبحانه: (قل): هذا الأمر مشعر بالاهتمام بما بعد القول، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغه للناس بوجه خاص، وبتبليغ الدين كله بوجه عام قال الله: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ[المائدة:67]، فالدين كله هو مأمور بتبليغه صلوات الله وسلامه عليه، لكن هذا أمر لابد من العناية به تمام العناية، فقال: (قل -أي: يا محمد-: يا أيها الكافرون)، أي: يا عاص ، ووليد ، و أسود ، و أمية ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ[الكافرون:2].
يقول العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله: وفي الإتيان بهذا الوصف القبيح تحقير لهم، واستخفاف بشأنهم، وإشعار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يهابهم؛ لأنه محفوظ من ربه، فما قال: يا أيها الناس، وما قال: يا من عرفتم هذا العرض، لا، بل: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون:1]، يا من كفرتم بالله، يا من جحدتم بالنبوة، يا من كذبتم بالبعث والمعاد، يا من اتصفتم بالكفر ماضياً وحاضراً لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ[الكافرون:2]، أي: لا أعبد ما تعبدون من آلهة باطلة، وأصنام لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع ولا تغني عني شيئاً.
وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[الكافرون:3] أي: ولا أنتم -أيها المشركون- تعبدون الإله الحق الجليل العظيم الذي أعبده، و(ما) هنا بمعنى من، وهي مثل قول الله عز وجل: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا[الشمس:5] أي: والسماء ومن بناها، وقول الله عز وجل: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ[الليل:1-3] أي: ومَن خلق الذكر والأنثى.
ويرى ابن القيم رحمه الله بأنه جيء بـ (ما) ههنا؛ لأن المقصود الصفة وليس الذات، كما في قول الله عز وجل: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ[النساء:3] فالمعنى: من طاب لكم من النساء، لكن لما كان الأمر منصباً على وصف الطيب جيء بـ (ما)، وهكذا ههنا المشركون يعبدون إلهاً لكن لا يعرفون صفاته جل جلاله وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ينبغي أن يفرد بالعبادة وحده.
قال تعالى: وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[الكافرون:4-5] قال بعض أهل التفسير: هذا تكرار مقصود منه التأكيد، وهذا معروف في كلام العرب، كقول القائل:
يا علقمة يا علقمة يا علقمة خير تميم كلها وأكرمه
أو قول الآخر:
يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع
وقول الثالث:
تالله إنك قد ملأت مسامعي دراً عليه قد انطوت أحشائي
زدني وزدني ثم زدني ولتكن منك الزيادة شافياً للداء
فهذا تكرار يراد منه التأكيد.
وقال بعض أهل التفسير: ليس في الآيات تكرار، بل الله عز وجل يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل للمشركين: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ[الكافرون:2] لا في الحال ولا في المستقبل، ومقابله: وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[الكافرون:3]، لا في الحال ولا في المستقبل، ثم قال: وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ[الكافرون:4]، أي: قبل نزول الوحي علي ما سجدت لأصناكم، ولا تمسحت بأوثانكم، ولا نذرت لآلهتكم، ولا استعملت أزلامكم، ولا تلبست بشيء من أمر جاهليتكم، فقبل نزول الوحي عصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم من ذلك، ومقابلها: وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[الكافرون:3] أي: فيما مضى ما عبدتم الله أصلاً، وهذه براءة تامة له من الشرك.
وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتد بالخليل إبراهيم الذي قال لأبيه وقومه: إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ[الزخرف:26-27]، ولما قال لأبيه وقومه: ما تعبدون؟ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ[الشعراء:71]، فقال لهم: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ[الشعراء:75-77].
وكذلك في الآية الأخرى قال الله عنه: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ[الممتحنة:4].
وكذلك الفتية الطيبون الذين آمنوا بربهم وزادهم هدىً، يقول أحدهم: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ[الكهف:16]، وإبراهيم قال: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا[مريم:48].
فهذه السورة براءة من الشرك وأهله كما هو ظاهر للعيان منها: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ[الكافرون:2-5].
ختمت هذه السورة بهذا التهديد: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ[الكافرون:6].
يقول ابن القيم رحمه الله: وقد أخطأ من ظن أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، فليست الآية منسوخة، وليس فيها إقرار للكفار على دينهم الباطل، وإنما المقصود كما في قول الله عز وجل: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ[يونس:41]، وقوله: قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ[سبأ:25]، وقوله في سورة الكهف: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ[الكهف:29]، أي: تهديد هؤلاء المشركين الذين ما عرفوا الله ولا قدروه حق قدره.
يقول ابن القيم رحمه الله: وفي تقديم اختيارهم على دين الله تهكم واستخفاف بهم، قال الله عز وجل: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ، فهو بمنزلة أن تقول لإنسان: هذا سم وهذا دواء، فتقديمك للسم ليس إعلاءً له وإنما استخفافاً بشأنه.
هذه السورة المباركة -أي: سورة الكافرون- تسمى مع (قل هو الله أحد) سورتي الإخلاص؛ لأن فيها إخلاص العبادة لله عز وجل، وخلع الأنداد وجميع صور الشرك، ونحن محتاجون إليها في زماننا هذا الذي ينشط فيه دعاة وحدة الأديان، والتقريب بينها، وهذا المعني لعلي قد قدمت طرفاً منه في سورة البينة عند قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[البينة:6].
أيها الإخوة الكرام! الآن تنشط دعوة قد يسمونها: التقريب بين الأديان، أو التقارب بين الأديان، أو التعايش بين الأديان، أو الوحدة بين الأديان، ونسمع عن منظمة التضامن الإسلامي المسيحي، ومنظمة الإخاء الإسلامي المسيحي، والديانة الإبراهيمية، والملة الإبراهيمية، والتوحيد بين الأديان، والصداقة الإسلامية المسيحية، وغير ذلك من العناوين البراقة الخداعة الخلابة، وهذه الدعوة لديها مسرب تاريخي، وذلك أنها كانت في زمن النبوة الأولى على أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث بدأ اليهود والنصارى في محاولة إضلال المسلمين كما حكى ربنا في كتابه الكريم في قوله: وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا[البقرة:135]، وفي قوله: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى[البقرة:111]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم موجود، والعلم مبثوث، فما وجدت رواجاً بل قمعت في مهدها، ثم أيضاً في القرون المزكاة القرون الفاضلة بحديث: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، خمدت هذه الدعوة وما سمع لها ذكر، لكن بعد انقراض تلك القرون المفضلة جاءت المرحلة الثانية بدعوى أن الخلاف بين الإسلام والنصرانية واليهودية كالخلاف بين المذاهب الفقهية الأربعة.
وتلقى هذه الدعوة وتلقفها المنحرفون من الملاحدة والغلاة من أمثال الحلاج و ابن سبعين و العفيف التلمساني وغيرهم، فنطقوا بالكفر حتى قال قائلهم:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة
نعوذ بالله من الضلال، فهؤلاء هم دعاة وحدة الوجود، حتى قالوا: إن فرعون نفسه كان مؤمناً، ثم قتل منهم من قتل، وشرد بهم من خلفهم، ثم جاءت المرحلة الثالثة في أعقاب الحرب العالمية الأولى لما نشطت الدعوة الماسونية التي تريد تذويب الفوارق بين الأديان تحت شعار الكلمات الثلاث: إخاء، حرية، مساواة.
ثم نشط الدعاة للتقريب بين الأديان، وقد كتب أحد علماء هذه البلاد في هذا، وهو الشيخ الأمين الحاج محمد أحمد ، ونقل عن الشيخ الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله قوله: كان شيخ من شيوخ الأزهر اسمه الشيخ: حسين الطويل ، وكان رجلاً عالماً فحلاً، وكانت الأمة لا يزال فيها خير كثير، فجاءه أحد المستشرقين الإيطاليين وقت إفطاره، وكان الشيخ يفطر فولاً وبصلاً، يعني: يأكل فطوراً معتاداً، فدخل عليه المستشرق ثم شرع يكلمه بأن الأديان كلها شيء واحد، وأننا نريد التقريب، والخلاف الذي بيننا لا يضر، والشيخ لا يجيبه ويأكل فوله وبصله، واستمر في أكله إلى أن جف ريق ذلك الخبيث، وكان الشيخ قد فرغ من طعامه، فشرب ماءً ثم قال له: يا خواجة ما رأيك في فول بالبصل؟ يعني: كلامك هذا كله دخل من ههنا وخرج، قال: أنت تريد مني أن أكذب القرآن وقول الله: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ[البقرة:217]، والقرآن قال: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ[البقرة:120]، والقرآن قد قرر هذه الحقائق أيضاً في قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً[النساء:89]، وفي قوله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ[البقرة:109]، فكيف أقبل منك هذه الدعوى؟
ثم في ظل ما يسمى بالنظام العالمي الجديد صارت هذه الدعوى جهرية مكشوفة، فيدعى إلى وحدة الأديان صراحة، حتى صدرت دعوة -ونسأل الله العافية- إلى طباعة التوراة والإنجيل والقرآن في غلاف واحد، فيكون الحق والباطل مع بعض!
وكانت هناك فكرة في بعض البلاد بأن يقام ما يسمى بمجمع الأديان أي: معبد وكنيسة ومسجد في مكان واحد، وداخل سور واحد!
ومن المضحكات المبكيات: أنها أقيمت صلاة مشتركة دعا إليها البابا بين أتباع الديانات الثلاث في الفاتيكان في إيطاليا، وأمهم فيها البابا!
يقول الشيخ بكر أبو زيد حفظه الله: هذه أول مرة في تاريخ الإسلام يأتم المسلمون فيها برجل كافر، البابا دعا إلى هذه الصلاة، ودعا بعد إلى صلاة تسمى صلاة روح القدس.
أيها الإخوة الكرام! ما أسباب هذه الدعوى؟ الآن يوجد بعض المسلمين قد يتلبس بهذا الباطل فما السبب؟
هناك عدة أمور أولها: الجهل بالدين، فمثل هذه السورة ما عرفوها ولا عرفوا تفسيرها، فهم ما عرفوا حقائق القرآن وبدهيات العقيدة.
ثانياً: الانهزام النفسي، فالواحد منهم يحاول أن يتقرب إلى الكفار، ويظن أن هذا هو الطريق للدعوة إلى الله.
ثالثاً: الخوف من سطوة الكفار وقهرهم، وذلك أن الكفار الآن هم الأعلون وهم الذين يأمرون وينهون.
رابعاً: المصالح والمنافع الزائلة، فمؤتمرات وتذاكر وسفريات وحوافز وحسابات وما أشبه ذلك، تجعل الحليم حيران، ومن أجلها يبيع الناس دينهم، نسأل الله العافية والسلامة.
ما أهداف هذه الدعوى؟
ما الهدف من وراء الدعوة إلى وحدة الأديان، أو التقريب بينها؟
هناك عدة أهداف رمى القوم إليها وقد حققوها، الهدف الأول: إيجاد مرحلة التشويش على الإسلام، وبلبلة أفكار المسلمين. وهذا قد حصل، فلو سألت جدك: اليهود والنصارى مؤمنون أم كفار؟
لقال: هم كفار قولاً واحداً، لكن الآن صارت هذه القضية محل تعاط ونقاش بين الناس، فيقول قائلهم: يا أخي هم ليسوا كفاراً! إذاً: فأين آيات القرآن كقوله سبحانه: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ[المائدة:73]، وكقوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ[المائدة:17]، وكقوله: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ[التوبة:30]؟ وهناك عشرات الآيات في إثبات كفر القوم، ويكفيهم أنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
يا إخواننا! لو أن معنا إنسان يصلي الآن قال: أنا كافر بعيسى، سنقول له: أنت لست مسلماً، أليس كذلك؟ بلى، ونقوله له: لست مؤمناً، وليس لك في الجنة نصيب، والأمر كذلك لو قال أحد: أنا كافر باليسع أو بإلياس أو بأي نبي من الأنبياء. فهؤلاء الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كيف يكون لهم في الإيمان نصيب؟!
الهدف الثاني: حل الرابطة الإسلامية، وإحلال هذه الرابطة البديلة اللعينة مكانها، الآن نحن ندعوا لإخواننا في فلسطين والعراق، ما الذي بيننا وبينهم؟ هل بيننا وبينهم مصالح؟ نحن في هذا المسجد ندعو لإخواننا في فلسطين وليس بيننا وبينهم لا تجارة ولا نسب ولا شيء، وما بيننا وبينهم إلا إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10].
فهذه الآية لو تركت وصار اليهود والنصارى أيضاً إخوة لنا كما نسمع الآن بكثرة: إخواننا المسيحيين! لما عاد لأمة الإسلام ميزة.
إذاً: فلو شاهدت في التلفزيون حرباً بين شارون وأحمد ياسين نقول: والله هذين أخوين اختلفا، ندعوا ربنا أن يصلحهم، وستكون حينها أنت أهل حياد؛ لأن شارون أخونا وأحمد ياسين أخونا، وكلنا موحدون!
بل من خبثهم يقولون: لابد من التقريب بين الموسوية والعيسوية والمحمدية، فهل نعرف ديانة اسمها المحمدية؟
أنت الآن لو سألتك ما ديانتك؟ هل تقول: أنا محمدي؟! لا. بل تقول: أنا مسلم، كما قال الله: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ[الحج:78]، ولم يقل: هو سماكم المحمديين، لكن هكذا بلبلوا الأفكار.
الهدف الثالث: أرادوا قصر المد الإسلامي واحتوائه، فالآن أكثر الديانات انتشاراً في أوروبا الإسلام فضلاً من الله ونعمة، وهكذا في كثير من بلاد الله عز وجل، فلما وجدوا ذلك وكنائسهم تعصف الريح بأبوابها ولا يتردد عليها أحد، أرادوا خلط الأمور؛ بحيث أن الأوروبي أو الأمريكي إذا أراد أن يدخل في الإسلام يقول: لم الإسلام؟ فهو والنصرانية واليهودية شيء واحد، ومن معين واحد، وفي مصب واحد، لكن الطرق مختلفة. هكذا أرادوا.
الهدف الرابع: أرادوا كف ألسنة المسلمين وأقلامهم عن تكفير من كفره الله ورسوله ونجحوا. فالآن كثير من الناس لا يجرؤ على أن يقول: النصارى كفار، ولا يستطيع أن يكتب هذا، فنجحوا في إرهاب الناس بحيث يعتقدون الحق باطلاً والباطل حقاً.
الهدف الخامس: إبطال أحكام الإسلام في معاملة أهل الكتاب، مثل قول ربنا: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[التوبة:29]، وهذا الكلام لا يذكره أحد، بل صار الشعار المعتبر في كثير من بلاد الله: حق المواطنة، وأن الناس جميعاً سواء في الحقوق والواجبات دون النظر إلى الجنس أو الدين، حتى إن بعض المخرفين وهو صحفي لا له في العير ولا في النفير، ألف كتاباً سماه: مواطنون لا ذميون، وقال: لا حاجة إلى مسمى أهل الذمة.
إذاً: أين نذهب بهذه النصوص؟ هل نلغيها ونشطبها؟ بل تاريخنا كله وما أجمع عليه علماؤنا هل نضيعه؟! هذه الأهداف عملوا للوصول إليها، وقد نجحوا نسأل الله العافية.
الدعوى لتقريب الأديان دعوة بدعية كفرية ضالة، ولا يدعو إليها من يؤمن بالله واليوم الآخر، وهي تنقض أصل الإيمان بالله؛ لأن عقائد اليهود والنصارى عقائد إلحادية، وهذه الدعوة تنقض أصل الإيمان بالرسل؛ لأن النصارى يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم، واليهود يكفرون بعيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم.
ثم هذه الدعوى تنقض أيضاً أصل أن الإسلام ناسخ لما قبله، ومهيمن على ما سواه من الشرائع كما قال الله: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ[المائدة:48]، فتصير هذه الشريعة الحقة والشرائع الباطلة كلها سواء بمقتضى هذه الدعوة الباطلة، وكذا العقيدة القائمة على التوحيد الخالص، والعقائد التي فيها الزلل والدخل والانحراف والإلحاد تصير أيضاً واحدة.
ولذلك اقرءوا هذه السورة المباركة واقرءوا تفسيرها، وعضوا عليها بالنواجذ، ونسأل الله أن يتوفانا مسلمين.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين، وأن يجمعنا في جنات نعيم.
سورة النصر هي سورة مدنية باتفاق أهل التفسير، وقد اشتملت على ست وعشرين كلمة، واثنتين وسبعين حرفاً، وهذه السورة هي آخر سورة من القرآن نزلت كاملة، ويدل على ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة : (أن ابن عباس سأله: ما آخر سورة نزلت من القرآن جميعاً؟ فقال له: هي سورة النصر، فقال: ابن عباس : صدقت).
هذه السورة المباركة قال عنها بعض أهل التفسير: نزلت عقيب حنين، وبعضهم قال: نزلت قبيل الفتح، وبعضهم قال: نزلت في حجة الوداع.
قال الله: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ[النصر:1]، هذه السورة افتتحت بالشرط: إِذَا جَاءَ ... )) هذا هو فعل الشرط، وجوابه: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ[النصر:3].
ومعنى: إِذَا جَاءَ ))، أي: إذا حصل وتحقق، والنصر: هو الإعانة على الأعداء والتغلب عليهم، وأضيف هذا النصر لله عز وجل لتعظيمه، وللإشعار بأنه نصر عزيز خارق للعادة جاء وفق ترتيب إلهي وإعداد رباني.
الفتح: هو الاستيلاء على بلاد الأعداء ودخولها، وسمي فتحاً: لأنه يكون دخولاً من الباب، كما قال الله عز وجل في قصة موسى مع قومه: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ[المائدة:23]، وقد يكون هذا الفتح من خلال اقتحام الثغور وما أشبه ذلك.
قوله سبحانه: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا[النصر:2]، (الناس): اسم جمع يدل على مجموعة من الآدميين.
(ورأيت): الرؤيا ههنا إما أن تكون رؤية علمية، أي: إذا جاءتك الأخبار وتواترت عندك، ويحتمل أن تكون رؤية بصرية لمجيء هؤلاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمراد بقوله سبحانه: فِي دِينِ اللَّهِ ))، أي: في الإسلام، كما قال سبحانه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[آل عمران:19]، وقال سبحانه: وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3].
ومعنى أَفْوَاجًا[النصر:2] أي: جماعات وأمماً فوجاً إثر فوج.
قال تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:3].
(فسبح) أي: نزه ربك جل جلاله عن كل نقص وعيب، وصفه بكل كمال، سبح: قائلاً ذلك بالحمد، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في ثبت من حديث أمنا عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما نزلت هذه السورة: (يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي.. سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن).
ومعنى: وَاسْتَغْفِرْهُ ))، أي: اطلب منه المغفرة.
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: في هذه الآية أربع مؤكدات:
أولاً: حرف التوكيد إن في قوله: (إنه)، ثانياً: الفعل الناسخ (كان)، الذي يدل على الثبوت والدوام، ثالثاً: صيغة المبالغة في قوله: (تواباً) أي: كثير التوبة على عباده، رابعاً: التنوين المشعر بالتعظيم إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:3].
في هذه السورة مسائل نعرض لها إن شاء الله.
المسألة الأولى: نعت هذه السورة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، وأخبرت النبي الأكرم والرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بأنه ميت، وأن أجله قد دنا، ويدل على ذلك ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان عمر رضي الله عنه يدخلني في مجلسه، فوجد بعض الناس من ذلك في نفسه، يعني: بعض كبار الصحابة قالوا: لم يدخل عمر هذا الغلام ولنا أبناء مثله؟ يعني: إذا سمح لصغار السن بالدخول فليسمح للجميع، فتألم عمر رضي الله عنه ولم يعجبه ذلك منهم، فقال لهم: إنه من قد علمتم، يعني: هذا الشاب الصغير الذي أدخله عنده من العلم والفهم والقدرة على تأويل القرآن ما ليس عند كثير من الكبار، ثم أراد أن يريهم ذلك عملياً فدعاه يوماً معهم، ثم قال لهم: ما تقولون في قوله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ[النصر:1]؟ فقال بعضهم: أمرنا ربنا إذا نصرنا وفتح علينا أن نحمده ونستغفره، وسكت آخرون، قال: وأنت يا ابن عباس ما تقول؟ قال: أقول: هذه السورة نعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه.
قال الله عز وجل: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ[النصر:1]، أي: فتح مكة، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا[النصر:2]، فتلك علامة أجلك، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:3].
فقال عمر : والله ما أعلم منها إلا ما تقول، أي: هذا الذي تقوله هو الصواب، ويؤيد ذلك رواية الإمام البيهقي رحمه الله عن أم سلمة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه السورة دعا ابنته فاطمة رضي الله عنها وقال لها: إنه قد نزلت علي سورة، فقرأها عليها، ثم أسر إليها بكلمات فبكت، ثم أسر إليها بكلمات فضحكت، ثم أخبرت رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسر إليها بأنه مقبوض فبكت، ثم أسر إليها بأنها أول أهله لحوقاً به فضحكت رضي الله عنها، وقد لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أربعين يوماً من وفاته صلى الله عليه وسلم، وقد توفاها الله ولما تبلغ الثلاثين من عمرها، فلحقت بأبيها صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين في جنات نعيم ترد عليه حوض الكوثر.
فلذلك يقول محمد إقبال رحمه الله:
نسب المسيح بن مريم سيرة
بقيت على طول المدى ذكراها
والمجد يشرق من ثلاث مطالع
في مهد فاطمة فما أعلاها
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟
من ذا يداني في الفخار أباها
هي ومضة من نور عين المصطفى
هادي الشعوب إذا تروم هداها
صلى الله عليه وسلم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما يؤذيها، ويريبني ما أرابها).
المسألة الثانية: قال الإمام ابن كثير رحمه الله: دلت هذه السورة على مشروعية صلاة الفتح، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح الله له مكة صلى ثمان ركعات في وقت الضحى، فقال بعضهم: هي صلاة الضحى.
ونقول: كيف تكون صلاة الضحى، وما كان صلى الله عليه وسلم يواظب عليها؟ فكيف يصليها وهو في سفر وقد كان خلال تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة ويفطر ومعه عشرة آلاف من أصحابه؟ فدل ذلك على أنها صلاة الفتح.
ثم اختلفوا: هل تكون ثمان ركعات بتسليمة واحدة، أو أنها تكون بتسليمة في كل ركعتين؟ قال: وقد روى أبو داود في سننه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم من كل ركعتين، وكذلك فعل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حين فتح المدائن.
المسألة الثالثة: دلت هذه السورة على أن الناس لا يحترمون إلا من كان عنده حق تحرسه القوة، ومن ظن أن الناس سيحترمونه لأنه حلو اللسان، أو لأنه طيب المعشر، أو نحو ذلك -وأعني بالناس الكفار- فهو واهم، إذ الكفار لا يردعهم إلا حق تحرسه قوة.
ويدل على ذلك: ما قاله الحسن البصري رحمه الله: لما فتح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم مكة، قالت العرب: أما إذ ظفر بأهل الحرم وقد أجارهم الله من أصحاب الفيل فليس لنا به يدان، فجاءوا أفواجاً فوجاً إثر فوج يعلنون إسلامهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فسبب دخولهم في الإسلام هو فتح مكة، قالوا: مكة حمى الله أهلها من أصحاب الفيل وكانوا في جيش قوي من الأحباش، ثم فتحها محمد صلى الله عليه وسلم ودخلها في عشرة آلاف فارس، قالوا: فما لأحد به قوة ولا طاقة، فجاءوا مسلمين.
ويدل على ذلك أيضاً ما رواه البخاري من حديث عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: لما فتحت مكة جاءت أحياء العرب مسلمة، وذلك أنهم كانوا يتلومون بإسلامهم، يتلومون يعني: ينتظرون ويتريثون، يقولون: إذا ظهر على قومه وغلبهم فهو نبي. هذه هي العلامة.
ولذلك جاءت الوفود بعد ذلك حتى سمي العام التاسع عام الوفود، ولا تظنوا أن مجيء الوفود كان أمراً سهلاً هيناً على الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد دخل مع بعضهم في مفاوضات شاقة عسيرة دلت على أن القوم ما فهموا الإسلام بعد.
وأذكر لكم مثلاً لذلك: جاء وفد ثقيف -وهم الذي ذهب إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم ورجموه بالحجارة وأسمعوه كلاماً سيئاً- على رأسهم عبد يا ليل بن عمرو وفيهم عثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنه، فجاءوا فقال المغيرة بن شعبة : يا رسول الله! دعني أكرم قومي، فقال له صلى الله عليه وسلم: ما أمنعك من أن تكرمهم، ولكن أنزلهم حيث يسمعون القرآن، فضربت لهم خيام في المسجد بحيث يسمعون القرآن ويشاهدون الصلاة لعلهم يتأثرون، فمكثوا أياماً، ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: جئناك لتقاضينا، فقال عليه الصلاة والسلام: إذا أسلمتم أقاضيكم، أي: إذا حصل الإسلام بعد ذلك يحصل بيننا مفاوضة، أما لو لم تسلموا فلا مقاضاة ولا صلح، فارتفع القوم، يعني: انفضت جلسة المحادثات وذهبوا يتشاورون، فقال بعضهم لبعض: إنا نخشى يوماً كيوم مكة فلنرجع إلى الرجل، قالوا له: نسلم ولكننا -بدأت الشروط- قوم نغترب ولابد لنا منه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا والله؛ فإن الله تعالى يقول: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا[الإسراء:32].
قالوا: فالخمر فإنها عصير أرضنا، والطائف كلها عنب وتمور، قال: لا والله فإن الله يقول: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ..[المائدة:90]، إلى أن قال: فَاجْتَنِبُوهُ[المائدة:90].
قالوا: فالربا فإنه أموالنا كلها، قال: لا والله لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، فإن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا[البقرة:278]، فارتفعوا، وذهبوا وتشاوروا ثم جاءوا، فقالوا: نسلم ولكن ماذا نصنع بالربة -مؤنث الرب- وكان عندهم اللات صنم يجللونه ويكسونه كما يكسى البيت الحرام، فقالوا: ما نصنع بالربة؟ أي: اللات مؤنث الله، فقال: تهدم، قالوا: هيهات هيهات، والله لو علمت أنها تهدم لأهلكت القوم.
وكان عمر بن الخطاب يسمع فما صبر، وقال: يا ابن عبد يا ليل ما أجهلك! حتى متى لا تعقل؟ إنها حجارة لا تضر ولا تنفع، فقال: ما جئنا لنكلمك يا ابن الخطاب . يعني: خليك في حالك، ثم قالوا: يا رسول الله! تول أنت هدمها فأما نحن فإنا لا نهدمها أبداً، ثم قالوا: يا رسول الله! ائذن لنا قبل رسولك، فنحن أعرف بقومنا، فأمر عليهم عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه لنجابته وحرصه على العلم.
فلما بلغ القوم مشارف بلاد ثقيف تقنعوا على هيئة المكروب المحجول، فقالت ثقيف: ما جاء الوفد بخير، وكان عبد يا ليل رجلاً عاقلاً، فقال لهم: أنا أعرف بالقوم فإنا لو أخبرناهم أنا قد صالحنا الرجل أبو، فجاءوا محجولين مكروبين ونزلوا عند اللات، عند الصنم ذاته، فقال القوم: لعله قد طال العهد بها، جاءوا يسلمون، ثم بعد ذلك قالوا: ما جئتم به؟ قالوا: جئنا من عند رجل فظ غليظ قد دوخ العرب ودان له الناس يقتل بغير حساب، وإنه قد عرض علينا أموراً أبيناها، عرض علينا أن نذر الربا، وأن نترك الزنا، وأن نمنع الخمر؛ فأبينا عليه ذلك كله، قالوا: نعم، والله لا يكون ذلك، قالوا: إذاً تجهزوا للحرب، هيئوا سلاحكم، ورمموا حصنوكم، وتهيأوا لحرب محمد، فذهب القوم ثلاثة أيام يجهزون، ثم ألقى الله في قلوبهم الرعب، فجاءوا قالوا: هلا رجعتم إلى محمد فصالحتموه، فقال: عبد يا ليل قد فعلنا فاقبلوا من الله عافيته. الحمد لله هذا الذي حصل والأمر تم، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم وفداً فيه خالد بن الوليد و المغيرة بن شعبة من أجل أن يهدموا اللات، فخرج القوم جميعاً رجالاً ونساءً وتحصنوا، وقالوا: ستمتنع اللات من هادميها وستطبش بهم، فقال المغيرة -وهو ثقفي- لـخالد بن الوليد ولمن معه: دعوني أضحككم من ثقيف، فأخذ الكردين -الفأس- ثم ضربها، ثم ألقى به وبقى يتلبط في مكانه -يرفس- فقال القوم: أبعد الله المغيرة ، قتلته اللات، هلم من كان منكم جريئاً فليفعل، يعني: يتحدون الباقي، فقام المغيرة رضي الله عنه وقال: يا قوم! حتى متى لا تعقلون؟ سأريكم، وبدل ما كان يضرب قدمه صعد فوق رأسه وبدأ يهشمه من فوق إلى أن أتى عليه كله، ثم تتابعت بعد ذلك وفود العرب كلهم فأسلموا.
المسألة الرابعة: قول الله عز وجل: وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا[النصر:3].
التوبة هي طريق الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ففي القرآن الكريم نقرأ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ[البقرة:37]، ونقرأ قول نوح : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ[نوح:28]، وقول سليمان : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي[ص:35]، قول إبراهيم عليه السلام بعدما بنى البيت: وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ[البقرة:128].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من التوبة والاستغفار رغم أن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
فنسأل الله أن يتوب علينا أجمعين.
الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين، وأن يجمعنا في جنات نعيم.
سورة المسد تسمى في بعض المصاحف سورة أبي لهب ، وهي سورة مكية.
سبب نزولها كما روى البخاري من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أنه لما نزل قول الله عز وجل: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ[الشعراء:214]، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في البطحاء فنادى: واصباحاه، فاجتمع إليه أهل مكة، فقال: أرأيتم لو أخبرتكم أن الجيش مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقام أبو لهب من بين الناس وقال له: تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟) فأنزل الله عز وجل هذه السورة ليحكم على هذا الإنسان بالتباب وبالهلاك والخسار.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : (نزلت هذه السورة لما جاء أبو لهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد! ما لي إن آمنت بك، فقال عليه الصلاة والسلام: ما يعطى المسلمون، قال: ما لي عليهم فضل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأي شيء تبغي؟ فقال الخبيث: تباً لهذا الدين أن أكون وهؤلاء سواء).
وقال عبد الرحمن بن كيسان رحمه الله: نزلت هذه السورة لأن الوفود كانت تأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان أبو لهب ينطلق إليهم أولاً، فيسألونه عن النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون له: أنت أعلم به، فيقول لهم: إنه ساحر كذاب، فلا تأتوه، فيرجع الوفد دون أن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجاء في مرة وفد من الوفود وأصروا على أن يلقوا النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، فادعى أبو لهب دعوى كاذبة خاطئة، فقال لهم: ما زلنا نعالجه تباً له، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتأب، فأنزل الله عز وجل هذه السورة.
خلاصة هذه الروايات وغيرها: أن هذا الإنسان الشقي الذي كتب الله له الشقاوة في الأزل كان يمارس نوعاً فريداً غريباً من العداوة والكراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم أنه كان ابن أخيه إلا أنه كان يبغضه ويمقته وكان ينفر الناس منه، ولا يبالي في ذلك بأن يأتي بالأفعال التي يأنف منها العقلاء.
يروي الإمام أحمد و ابن إسحاق من حديث عباد بن ربيعة الديلي رحمه الله قال: إني لفي سوق ذي المجاز مع أبي إذ أقبل رجل شاب يقول: أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، قولوا: لا إله إلا الله تملكوا بها العرب والعجم، وخلفه رجل وضيء أحول ذو غديرتين يقول: لا تصدقوه فإنه كذاب، لا تصدقوه فإنه صابئ، لا تصدقوه فإنه ساحر، فكان الناس يقولون: ما هذا؟ فكانوا يجابون: بأن هذا محمد بن عبد الله يزعم أن الله أرسله، والرجل خلفه هو عمه أبو لهب .
فكان الناس يقولون: عمه أعرف به، ما دام أن عمه قال: بأنه ساحر، وأنه صابئ، وأنه كذاب فهو كذلك، فكان هذا الرجل من أعظم الصادين عن سبيل الله، ولذلك خصه الله بسورة، وما خص أمثاله ونضراءه في الكفر ممن مضى معنا خبرهم: كـأبي جهل و الوليد بن المغيرة المخزومي و العاص بن وائل السهمي و أمية بن خلف الجمحي و شيبة بن ربيعة ، لكن هذا الإنسان لما كان لصيقاً بالنبي عليه الصلاة والسلام، وكانت هذه الرحم كفيلة بأن تعطفه عليه، وأن تجعله على الأقل كما كان أبو طالب ، فمع أنه ما كان مؤمناً لكنه ما كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان يمدحه ويثني عليه ويدفع عنه ويقول:
ولقد علمت بأن دين محمد
من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة
لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
تالله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفيناً
كان يدافع عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأنزل الله عز وجل هذه السورة في أبي لهب لفرط عداوته، والبلوى أنه ما كان وحده، وإنما كانت تعينه زوجه التي هي مثله في الخبث، وصدق الله إذ يقول: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ[النور:26].
قال الله: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ[المسد:1].
(تبت): من التباب، والتتبيب: هو الخسار والهلاك، كما قال الله عز وجل: وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ[غافر:37]، وكما قال الله عز وجل: وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ[هود:101]، أي: خسار وهلاك.
فمعنى: (تبت): خسرت وهلكت يداه، و أبو لهب كله خاسر هالك، لكن الله عز وجل خص يديه بالذكر؛ لأن اكتساب الأعمال في الغالب يكون بهما، فهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
وقال بعض أهل التفسير: إن الله عز وجل ذكر يديه الخبيثتين لأنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: تباً لك سائر اليوم، ما اكتفى بالكلمة القبيحة وإنما أخذ حجراً يريد أن يرمي به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم الله عز وجل عليه بالخسار.
وتبت الأولى في قوله: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ، دعاء وتب في آخر الآية: خبر، فكأن الله دعا عليه بالهلاك والخسار، ثم قال: وقد هلك وخسر.
أما أبو لهب فهو عبد العزى بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت كنيته أبو عتبة ، وكني بـأبي لهب إما لحسنه وإشراقه كما يقولون، فقد كان حسن الوجه وضيئاً، أو أن الله عز وجل كناه، كما يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: كناه الله بهذه الكنية من باب الدلالة على أنه ملتجئ إلى جهنم، فهو جهنمي، واسمه له نصيب من مصيره.
وقال أهل التفسير: كان النبي صلى الله عليه وسلم له أربعة أعمام: اثنان مسلمان واثنان كافران، أما المسلمان فـحمزة و العباس ، وأما الكافران فـ أبو لهب و أبو طالب، وكلاهما على غير أسماء المسلمين، أما أبو لهب فكان اسمه عبد العزى وأما أبو طالب فكان اسمه عبد مناف.
وأبو لهب هذا كما قال المفسرون: كناه الله عز وجل بذلك لا تكريماً له، وإنما كراهية أن يذكر باسمه؛ لأن اسمه قبيح.
قال الله تعالى: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ[المسد:2].
(ما) نافية، أي: ما دفع عنه ماله التباب ولا منع عنه الهلاك، كما قال الله عز وجل: وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى[الليل:11] ويقول الواحد من أهل جهنم: مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ[الحاقة:28-29]، وقال الله: مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[الجاثية:10].
والمراد بـ(ماله) في قوله: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ[المسد:2] المال التالف القديم الذي ورثه عن أبيه عبد المطلب.
قوله: (وما كسب) أي: ما اكتسبه بكده وعرقه، وقيل: (وما كسب) هنا أي: الأولاد؛ لأن أبا لهب كان يسخر ويقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقاً أن هناك قيامة وناراً فإني سأفتدي من عذاب النار بمالي وولدي، قد قال الله عز وجل: لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ[الممتحنة:3] وقول الله عز وجل: (وما كسب) يمكن أن ينطبق فعلاً على الولد؛ لأن الحديث خرجه أبو داود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
قال الله عز وجل: سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ[المسد:3].
تقدم معنى هذا اللفظ في قول الله عز وجل: تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً[الغاشية:4] وفي قول الله عز وجل: الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى[الأعلى:12] فـ(سيصلى) السين للتحقيق، ومعنى: (سيصلى) سيدخل، ويقاسي حر نار شديدة.
قوله: (سيصلى ناراً) التنوين للتعظيم؛ لأنها نار فوق مدارك العقول، ومعنى: ذَاتَ لَهَبٍ ))[المسد:3] أي: ذات شرر وإحراق شديدين.
قال تعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ[المسد:4].
قوله: (وامرأته) أي: زوجه، كما قال الله عز وجل: قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ[يوسف:51] أي: زوجه، وكما قال الله عز وجل: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ[هود:71] أي: زوجه، وامرأة أبي لهب هي العوراء أم جميل بنت حرب، واسمها أروى، ويقال لها: العوراء ، ، وأم قبيح كما قال ابن العربي رحمه الله، وهي أخت أبي سفيان بن حرب، ولذلك كان معاوية يمزح مرة مع عقيل ، فقال: هذا عقيل بن أبي طالب وعمه أبو لهب، فقال له عقيل وهذا معاوية بن أبي سفيان وعمته حمالة الحطب، يعني: نحن تساوينا، فالله عز وجل ذكر هذه المرأة وكانت شريرة كزوجها بل أشد.
قوله: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ[المسد:4] وصفها الله بقوله: (حمالة الحطب) قيل: لأنها عيرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بفقره وكانت غنية، فعيرها الله عز وجل بأنها مع غناها بخيلة، ومن بخلها أنها تحمل الحطب، يعني: لا تكلف أحداً أن يأتيها بالحطب، بل تذهب له بنفسها لشدة بخلها.
فقوله: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ[المسد:4] هذه لعنة من الله عليها، وذلك لأنها كانت تأخذ شوك السعدان والإبالة وما أشبه ذلك من الأذى وتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من أجل أن تدمي رجليه صلوات الله وسلامه عليه.
وقيل: وصفت بـ (حمالة الحطب)؛ لأنها كانت لمامة أو قتاتة، أي: تسعى بالنميمة بين الناس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (
قال الله تعالى: فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ[المسد:5].
معنى (في جيدها) أي: في عنقها ومعنى (حبل): وهو ما يوصل به بين الأشياء، فقوله: فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ[المسد:5] أي: حبل من ليف اليمن، وهو ليف شديد غليظ، قالوا: ومناسبة الآية: أنها كانت لها قلادة فاخرة غالية، فكانت تقول: واللات والعزى لأنفقنها في حرب محمد، فأبدلها الله عز وجل مكان هذه القلادة في النار حبلاً من ليف تسحب به في نار جهنم حتى تبلغ قمتها، ثم تطلق فتبلغ قعرها وأسفلها، هكذا يفعل بها في النار.
وههنا مسائل:
المسألة الأولى: قال أهل التفسير: هذه السورة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها نزلت و أبو لهب حي، فأخبر الله عز وجل بأنه من أهل النار، وأنه سيصلى ناراً ذات لهب، وفعلاً مات أبو لهب على الكفر، وكان يملك أن يكذب القرآن بأن يقول: من أجل أن أعلمكم بأن محمداً كاذب، هأنذا أشهد أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله، فكيف أذهب إلى النار، لكنه ما استطاع صرف نفسه عما هو عليه من الكفر؛ ليتحقق وعد الله.
المسألة الثانية: دلت هذه السورة على أن النسب لا يغني عن صاحبه من الله شيئاً، وإذا فسد العمل فلا ينفع النسب كما قال بعضهم:
لقد رفع الإسلام سلمان فارس كما حط الكفر الشريف أبا لهب
فـسلمان رضي الله عنه من أبوه؟ من يعرف أباه؟ لا نعرف إلا أنه سلمان الفارسي أبو عبد الله رضي الله عنه، ومع ذلك نحبه ونجله ونترضى عليه، وأبو لهب نعرف نسبه وشرفه وأنه مكي قرشي هاشمي ومن بني عبد المطلب، ومع ذلك إذا ذكرناه قلنا: لعنه الله.
قال الله: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون:101].
فالنسب لن يغني، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (
ولذلك نقول: هذه السورة سيف مصلت على كل رجل وامرأة سلك سلوك أبي لهب وامرأته، وصد عن الإسلام صدودهما، وجحد جحودهما، وعادى الله ورسوله كعداوتهما، فكم في أيامنا من آباء لهب وأمهات لهب، ممن احترفوا عداوة الله ورسوله، وإنما ذلك كما قال الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ[محمد:9].
كم من الناس يدعون إلى مذاهب وضعية، وكم من يعادي شريعة رب البرية، فهؤلاء نقول لهم: لن ينفعكم أنكم شرفاء أو أشراف، أو أنكم تنتسبون إلى بيت معين، فلن يغني عنكم ذلك من الله شيئاً.
المسألة الرابعة: هذا الرجل من إيغاله في العداوة كان قد زوج ابنيه عتبة و عتيبة من بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقية و أم كلثوم، فلما نزلت هذه السورة أمر ولديه بأن يطلقا بنتي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ليثقل كاهله ويزيده هماً وغماً.
ثم بعد ذلك كان الولد شراً من أبيه في العداوة، فأراد أن يخرج مع أبيه في سفر فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل أن يأتي قال لأبيه: لآتين محمداً ولأوذينه في ربه، فجاء فبصق على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا محمد أنا كافر بالذي دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (
فرجع الولد إلى أبيه وقال: يا أبت لقد أتيت محمداً فآذيته في ربه فقال: يا بني وما قال لك؟ قال: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك، قال أبو لهب: فاحذر يا بني، فإني لا آمن عليك دعوة محمد، فلما خرجوا في ذلك السفر، جمع أبو لهب التجار لما جن عليهم الليل وقال لهم: لقد علمتم أن محمداً دعا على ابني دعوة لا آمنها عليه، فلا تدعوه وحده وافرشوا حوله، ففعل القوم ذلك وجعلوه في الوسط، يقول هبار بن الأسود وهو يحكي هذه القصة بعدما أسلم: فلما انتصف الليل جاء سبع فشم وجوهنا جميعاً، طبعاً هم رأوه لكن كل منهم يصور نفسه أنه نائم، قال: فلما لم يجد بغيته وثب في وسطنا، وأخذ عتبة من بيننا ثم هزمه هزمة فسخ فيها رأسه، فجاب رأسه نصين، قال: فلما أخبرنا أبا لهب قال: لقد علمت أن دعوة محمد لا تخطئ، فهكذا كان يقول.
المسألة الأخيرة: كيف كانت خاتمة هذا الخبيث؟ نعوذ بالله من سوء الختام، ومن خزي الدنيا وعذاب الآخرة، هذا الرجل لما خرج المشركون لمعركة بدر ما خرج معهم وإنما بعث مكانه العاص بن هشام، ثم بعد ذلك جلس في مكة ينتظر الأخبار، فجاء من يحمل الأخبار فقال أبو لهب ماذا صنعتم؟ قال: واللات والعزى ما إن لقينا محمداً وأصحابه حتى منحناهم أكتافنا، يقتلونا ويأسرون، وكان معهم رجال ذوو ثياب بيض على خيل بلق ما رأيتهم قبل ذلك أبداً.
وكان هناك واحد اسمه: أبو رافع ، وهو غلام للعباس ، فرفع خباءه وقال وهو فرح: هؤلاء هم الملائكة، فعمد عدو الله أبو لهب إلى هذا الغلام فضربه ضربة حتى شجه شجة منكرة، يقول أبو رافع: فشاورته -يعني: صارعته- لكني كنت شخيصاً ضعيفاً فطرحني أرضاً وقعد على صدري، فعمدت أم الفضل -التي هي زوجة العباس- إلى عمود فسطاطها -أي: عمود خيمتها- فضربته على رأسه فشجته وقالت له: استضعفته أن غاب سيده؟! قال: فقام يلعق جراحه، ولم يعش بعد معركة بدر سوى سبعة أيام.
وابتلاه الله عز وجل بالعدسة، والعدسة: غدة معدية كانت العرب تخاف منها، فهلك بها، فلما هلك تركه أولاده حتى أنتن، فجاءهم بعض رجال قريش، فقال لهم: أما تستحون؟ ألا تسترون أباكم؟ قالوا: قد علمت ما أصابه، وإنا نخشى العدوى، قال: هلم أعينكم عليه، فبدأوا يغسلونه من بعيد، يعني: مثلما تغسل سيارة أو حاجة من بعيد، فشروه بالماء ثم حملوه من أطراف فراشه، فأسندوه إلى جدار وغيبوه بالحجارة: وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى[طه:127].
قال العباس رضي الله عنه: أبا لهب بعدما مات بزمان فقلت: يا أخي ما لقيت بعدنا؟ قال: ما لقيت بعدكم إلا شراً، غير أني أسقى في كل يوم اثنين من نقرة إبهامي، شربة بعتاقتي ثويبة ، يعني: لما بشر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد ففرح بأن عبد الله أخاه الذي مات ولد له مولود ذكر فأعتق الجارية، فرحه هذا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ما ضيعه له الله عز وجل، فيسقى في كل يوم اثنين من نقرة، والنقرة: بين الإبهام والسبابة، فتأتي له كذا نقطة ماء يشربها، لو أعطوها لعطشان فلن تغن عنه شيئاً.
فما بالكم من حمالة الحطب التي مثواها النار، أعوذ بالله من الضلال ومن الخبال، ونسأل الله أن يتوفانا على الإيمان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر