الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، سبحانك ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا, إنك أنت العليم الحكيم.
أما بعد:
يا معشر الإخوة الكرام! إن الموضوع الذي سنتدارسه في هذه الليلة المباركة بإذن الرحمن هو حول موقف المكلف من أعمال الدنيا ومن أعمال الآخرة. فهذا الموضوع جميع دعوات الرسل الكرام عليهم صلوات الله وسلامه دارت عليه، ولذلك كل مكلف بحاجة إليه، والذي دعانا للكلام على هذا الموضوع أمران اثنان:
الدار الثانية: هي دار البرزخ، وهي المرحلة التي تكون بعد خروجه من الدنيا حتى يوم القيامة.
والدار الثالثة: هي الدار الآخرة، وهي آخر الدور.
وقد قرر علماؤنا الكرام في كتب التوحيد أن الأحكام في الحياة الدنيا تنصب على ظاهر البدن، البدن هو الذي ينعم، وهو الذي يعذب، وتشعر الروح بالنعيم والعذاب الذي يصب على هذا البدن. فالروح هي الأصل والبدن تبع. وأما الدار الثالثة وهي أكمل الدور على الإطلاق الحياة الآخرة فكل من البدن والروح هناك يشعران بالعذاب والنعيم شعوراً أصلياً دون تبعية واحد منهما للآخر, ولذلك كانت الدار الآخرة هي أكمل الدور على الإطلاق.
إخوتي الكرام! إذا كان الإنسان سيمر بهذه الدور الثلاثة فإذا كان عاقلاً ينبغي أن يتزود لكل دار بما يناسبها. أما الحياة الدنيا فستتركك رغم أنفك وإن لم تشأ تركها, لذلك إذا كنت عاقلاً اتركها قبل أن تتركك.
وأما الدار الثانية -وهي البرزخ- فاعمره يا عبد الله! قبل أن تسكنه وقبل أن تنتقل إليه، وأما الدار الثالثة -وهي الدار الآخرة التي يتولى فيها رب العالمين الفصل بين مخلوقاته أجمعين- فأرض الله في هذه الحياة الدنيا قبل أن تلقاه، إذا كنت عاقلاً اترك الدنيا قبل أن تتركك، وعمر قبرك قبل أن تسكنه، وأرض الله جل وعلا قبل أن تلقاه.
إخوتي الكرام! وهذا الأمر -أعني الإعداد لكل دار كما ذكرت- وهو ما دلت عليه شريعة الله المطهرة، وهو ما تقتضيه العقول الصريحة الصحيحة السليمة السديدة، لكن من ألقى نظرة إلى حياة الناس رأى ما يفطر الأكباد ويشيب الولدان, فالحياة التي سيتركونها والحياة التي ستتركهم انهمكوا فيها واستغرقوا فيها، وأعدوا العدة لها، وكأنها هي الدار الأولى والدار الآخرة، والدار التي سينتقلون إليها ليست على بالهم، ولذلك يقولون في حال انتقالهم: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100], فيقال لهم: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100].
إخوتي الكرام! وهذا الأمر كما فشا في العامة في الناس فشا فيمن يعدون من الخاصة، فقد ركنوا إلى الحياة الدنيا، وأعرضوا عن الحياة الآخرة. وقد أخبرني بعض الإخوة الطيبين من أهل هذه البلاد من قريب: أن بعض طلبة العلم الصالحين كان يحضر رسالة في التخصص في الماجستير في بلاد انجلترا -في بلاد الإنجليز- وكنت أشرت في محاضرة قريبة إلى خطر الخروج إلى تلك البلاد لطلب العلم، يقول لي هذا الأخ نقلاً عن ذاك الذي كان يعد الرسالة في حياة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: بعد أن انتهى الطالب من إعداد الرسالة وعرضها على المشرف القسيس النصراني الصليبي الملعون قال: هذه الرسالة من أولها إلى آخرها مرفوضة، ولا يمكن أن تأخذ الرسالة إلا إذا قلت في عمر بن عبد العزيز ما نقوله، ماذا تقولون يا إخوان القردة والخنازير في عمر بن عبد العزيز؟! فقال له: عمر بن عبد العزيز عندنا لا يخرج عن رجلين، وأمره يدور بين حالتين لا ثالث لهما، إذا لم تقيد هذا فاحمل رسالتك وانصرف إلى بلادك.
الأمر الأول: عمر بن عبد العزيز أبله مغفل، لا يعرف قيمة الحياة الدنيا, حول الخلافة الأموية -على زعمهم- إلى شعارات كهنوتية .. إلى عبادة .. إلى خشية .. إلى إنابة .. إلى رجوع إلى الله جل وعلا. فاكتب هذا، أنه ساذج مغفل، لا يدرك الأمور الدنيوية، وليس هو بصيراً بما يتعلق بأحوال الناس.
والأمر الثاني: هو مخادع خبيث ماكر يريد الشهرة بهذا الأمر الذي أحدثه في الخلافة الأموية. فإذا كتبت هذين الرأيين فالرسالة تجاب وتقبل، وتمنح الدرجة. فالرجل صار بين أمرين الآن: إما أن يغضب الله، وإما أن يغضب الإنجليز، تصوروا إخوتي الكرام! آثر غضب الله على غضب الإنجليز، وهو رجل من الصالحين، فقيد هذا في رسالته عن عمر بن عبد العزيز , لكن ناقل قال لي: إنه احتفظ برسالته ولا يريد أن ينشرها، فقلت له: نسأل الله أن يفرج عنا كروبنا، وأن يصلح أحوالنا. إذا تلبس الصالحون فينا بهذه الدرجة من الركون إلى الدنيا والخلود إليها، فماذا ينتظر من العامة؟! الخلود إلى الدنيا لأجل درجة علمية أو لأجل وظيفة شهرية أو غير ذلك صار هذا هو المعبود الأول فينا يا عباد الله! فاتقوا الله في أنفسكم، وأسأل الله أن يلهمني وإياكم الرشد والسداد.
إن الذي يصل به الحال إلى أن يكتب هذين الأمرين الخبيثين عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ماذا ينتظر منه؟ وكيف ستكون أحوال الأمة بعد ذلك؟
إخوتي الكرام! قرر علماؤنا أن العالم إذا ترخص وانهمك في المباح انهمكت العامة في المكروه، وإذا توسع في المكروه توسعت الأمة في الحرام، وإذا وقع العالم في الحرام وقعت الأمة في الكفر. العالم سفينة، طالب العلم سفينة هلاكه هلاك العالم. ومما يفطر الأكباد أن بعضاً ممن يعدون من الدعاة نصحهم بعض الإخوة الطيبين، ونقل لي هذا عنه علم رب العالمين، فقال له: اتق الله في نفسك، فعندك شغالة، وأنت كنت تحذر من هذا، وتنصح الناس وتمنعهم عن ذلك، هلا بلغك ما يقول فلان عن الشغالات وعن حكمها؟ فقال هذا الحاكم وليس الداعية قال: إن الشغالة الحرام إذا استعملناها في الحرام، أي: إذا فعلنا بها الفاحشة، وأما ما عدا ذلك فلا حرج ولا غضاضة في ذلك. فإذا كان هؤلاء المعدون في صنف الدعاة فعلى الأمة السلام.
عباد الله! لا بد من طلبة علم ينظرون إلى الدنيا كما نظر إليها الله أنها لا تسوى جناح بعوضة، وينظرون بعد ذلك إلى الآخرة إلى أنها الكل في الكل. عمر بن عبد العزيز يقول عنه الإمام الشافعي وسفيان الثوري كما روى هذا ابن أبي حاتم في مناقب الإمام الشافعي قال هذان الرجلان الشافعي والثوري : الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز، وسائرهم بعد ذلك مبتزون, أي: مغتصبون لسلطان الأمة. عمر بن عبد العزيز ينظر إليه على أنه إما مغفل ساذج صبي سفيه، وإما مخادع ماكر! وطالب علم صالح يقيد هذا. أين الاتباع لخاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه القائل: ( والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ).
إخوتي الكرام! ويخبرني بعض إخواننا الصالحين عن طالب علم آثر الدنيا على الدين، وبدأ يكتب الحجب، ويستعمل السحر والشعوذة مع النساء والرجال، فلما خوطب في ذلك، قال له: لا تكثر من الكلام، فكلنا نعرف الحلال والحرام، وأنا على يقين -يقول له- بأن السحر من كبائر الآثام، قال: إذاً كيف تزاوله؟ قال له: لكننا نريد الفلوس، ثم قال له بالحرف الواحد: هات جنيهاً وخذ زوجتي!! سبحان ربي العظيم! سبحان ربي العظيم! وصل به الانحطاط إلى هذا الحد! جعلنا الدنيا المعبود الأول، وجعلنا أهواءنا الغاية الأولى.
رحمة الله على الإمام الشبلي عندما يخاطب الوزير علي بن عيسى حينما كان وزيراً للخليفة المقتدر ، والقصة في الحلية في ترجمة أبي بكر الشبلي , عندما مرض وزاره الوزير علي بن عيسى فقال له الشبلي : كيف ربك؟ قال: ربي في السماء, يفعل ما يشاء، يقضي ويمضي، قال: لا أسألك عن ربك الذي لم تعبده، إنما أسألك عن ربك الذي تعبده، قال: من الرب الذي أعبده؟ قال: الخليفة، الخليفة الذي جعلته نداً لله، اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] من أجل دريهمات، ومن أجل عرض من الدنيا قليل. ما أسألك عن الرب الذي لم تعبده، هذا معروف, الله في السماء يفعل ما يشاء، إنما كيف حال هذا الرب الذي جعلته نداً لله.
إخوتي الكرام! ونحن طلبة العلم إذا لم نقتد بهذا المسلك ولم نجعل الدنيا في اعتبارنا كأنها لا تسوى جناح بعوضة أو أقل فلا خير فينا ولا خير في الأمة. هذا الأمر الأول الذي دعاني للحديث عن هذا الموضوع، موقف المكلف من عمل الدنيا وعمل الآخرة.
إخوتي الكرام! وهذا الأمر -أعني الوصول إلى الدنيا والإعراض عن الآخرة- عدا عن كونه خروجاً عن المهمة الأصلية التي خلقنا من أجلها، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58]. يعتبر هذا الأمر -أعني إيثار الدنيا على الآخرة- حماقة ما بعدها حماقة، وجنوناً ليس بعده جنون، ووالله إن جنون الذين فقدوا عقولهم ووضعوا في المستشفيات أقل من جنون العقلاء الذين يؤثرون الدنيا على الآخرة، ورحمة الله على الإمام سفيان الثوري عندما كان كثيراً ما ينشد:
باعوا جديداً جميلاً باقياً أبداً بدارسٍ خلقٍ يا بئس ما اتجروا
وقد عاتب الله جل وعلا خير هذه الأمة وأفضلها وهم الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم عتاباً شديداً، ولولا ما أتبعه بالعفو والمغفرة لتفطرت قلوبهم؛ لأنهم ركنوا إلى الدنيا عن طريق اجتهاد خاطئ، لا عن طريق قصد، فعاتبهم الله جل وعلا عتاباً تتفطر منه الأكباد، يقول جل وعلا في سورة آل عمران: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ [آل عمران:152]، في موقعة أحد تقتلونهم قتلاً ذريعاً؛ لأن الله كتب النصر لرسوله وللمؤمنين. حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]. سبحان ربي العظيم! يقال هذا لخير هذه الأمة: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152]، النصر بعد أن صار لكم صار عليكم. وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152]. فلولا هذا العفو لاستأصلكم الكفار عن بكرة أبيكم، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:152].
وهذه الآية نزلت في الرماة، كما ثبت هذا في تفسير ابن جرير عن ابن عباس والضحاك رضي الله عنهم أجمعين، عندما وضعهم النبي صلى الله عليه وسلم على الجبل وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال لهم: ( لا تبرحوا مكانكم ولو تخطفنا الطير ). فلما تم النصر للمؤمنين فقتلوا من قتلوا من المشركين، قال الذين هم على الجبل: تم النصر فلننزل لنجمع الغنائم، فنهاهم أميرهم عن النزول وعن مفارقة المكان، فأبوا إلا النزول, فلما نزلوا جاء جيش المشركين بعد ذلك من وراء الجبل وارتقوه ورشقوا المسلمين بنبالٍ كالمطر: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153], إلى آخر الآيات.
ثبت في معجم الطبراني الأوسط وشعب الإيمان لـلبيهقي وتفسير ابن جرير بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل قول الله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]. وهم إنما فعلوا هذا تقرباً وابتهاجاً في جمع الغنائم التي أحلها الله للمجاهدين, فعاتبهم ربنا أبلغ عتابٍ وأعظمه، ولولا أنه أتبعه بالعفو، وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ [آل عمران:152] لتفطرت قلوبهم.
هذا هو السبب الأول.
يطغى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وإذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يقضي عليه اجتهاده
قال الحسن البصري عليه رحمة الله: والله لقد عبد بنو إسرائيل الأصنام بعد عبادتهم للرحمن بحبهم للدنيا. وهكذا نحن انحرفنا عن عبادة الله بسبب حبنا للدنيا.
إخوتي الكرام! ومع هذه الحالة يزيدنا الله في النعم ويغدق علينا الخيرات من كل مكان، ويستدرجنا من حيث لا نعلم، ولا ندري متى ستقع بنا عقوبة الله. ربنا لا تعاقبنا بما فعل السفهاء منا، وعافنا واعف عنا يا أرحم الراحمين!
روى الإمام أحمد في المسند والطبراني في المعجم الأوسط وابن أبي حاتم في تفسيره وهكذا ابن المنذر والبيهقي في شعب الإيمان بسند ضعيف له شواهد كثيرة، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا رأيت الله يعطي الرجل ما يحب وهو مقيم على معصيته فاعلم أن ذلك استدراج, ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44] ). روى ابن أبي حاتم في تفسيره عن قتادة قال: ترك القوم أمر الله، فما أخذ الله قوماً إلا في حالة سكرتهم في الحياة الدنيا، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]. وروى أيضاً عن الإمام الحسن البصري عليه رحمة الله أنه قال: من وسع له في الدنيا فلم ير أنه قد مكر به إلا كان قد نقص عقله، ومن قدر عليه في الدنيا فلم ير أنه خير له، أي: واختير له ما هو الأنسب والأصلح, فلا عقل له، ثم تلا قول الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]. فقال الحسن البصري: أتم الله عليهم نعمه ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وهذه الآية كقول الله جل وعلا في سورة الجن على أحد التفسيرين: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن:16-17]. وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ أي: على طريقة الضلال والكفر والزيغ والانحراف عن شرع الله؛ لفتحنا عليهم النعم من كل جانب، كما قال جل وعلا: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:44].
والتفسير الثاني يقابل هذا تماماً: وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ الحقة المستقيمة وهي الإسلام؛ لأنعمنا عليهم، كما قال جل وعلا: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]. ولا تعارض بين التفسيرين مع تقابلهما، فأهل القرية والناس إذا استقاموا يغدق الله عليهم النعم إكراماً لهم؛ ليشكروا الله جل وعلا، فسيزدادوا درجات, وأهل القرية إذا أشروا وبطروا وكفروا أغدق الله عليهم النعم؛ ليزدادوا طغياناً، وليقطع الله لهم كل عذر، ويزيل لهم كل شبهة، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
إخوتي الكرام! فهذا الأمر -كما قلت- يغوص فيه أكثر الناس، والأمر كما قال مالك بن دينار عليه رحمة العزيز الغفار: اصطلحنا في حب الدنيا، والقوم عندما يفتضحون يصطلحون. اصطلحنا في حب الدنيا، فلا يأمر بعضنا بعضاً، ولا ينهى بعضنا بعضاً، ولن يدعنا الله على هذه الحالة, ليت شعري أي عقوبة ستنزل علينا؟! وهذا الموضوع الذي سنتدارسه الآن ما أعلم أحداً من الخلق أكثر تخويفاً وتشويقاً فيه مني، والويل لي إن لم يعف ربي عني.
الأمر الأول: سأقارن مقارنة وجيزة مركزة بين الدنيا والآخرة.
والأمر الثاني: بعد تلك المقارنة الواضحة ماذا ينبغي أن نفعله نحو الدنيا والآخرة، وكل من الأمرين يتفرع عنه خمسة أمور، فتلك عشرة كاملة، ثم أختم الموضوع بخاتمة حسنة. أسأل الله أن يختم لنا بالحسنى, إنه سميع مجيب.
الأمور التي يتبين لنا بها التفاوت بين الدارين خمسة أمور, هي أعظم الأمور التي يظهر بها التفاوت العظيم بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة:
أول أمر من هذه الأمور: أن الحياة الدنيا فانية، وأن الآخرة باقية، وهذا أعظم نقص وذم في الدنيا, كما أن البقاء والدوام أعظم وصف ومدح في الحياة الآخرة، ولذلك قال الإمام السفاريني عليه رحمة الله في غذاء الألباب: أعظم ما عيبت به الدنيا فناؤها وهلاك أهلها. ورحمة الله على الإمام الفضيل بن عياض سيد المسلمين في زمنه حيث يقول: لو كانت الدنيا ذهباً يفنى، والآخرة خزفاً يبقى - فخار- لكان ينبغي على العاقل أن يؤثر الآخرة على الدنيا؛ لأن الخزف باقٍ، والذهب فانٍ، فكيف والآخرة ذهب يبقى، والدنيا خزف يفنى؟ فكيف ينبغي أن يكون الحرص على الدار الآخرة وكيف ينبغي أن يكون الإعراض عن متاع الغرور، وهي الحياة الدنيا!
وكان الحسن البصري عليه رحمة الله ينشد كثيراً في مجالسه ويقول هذا البيت ليذكر نفسه وغيره بحقيقة الدنيا:
أحلام نومٍ أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع
فالدنيا مثل أحلام النوم، يرى الإنسان في نومه ما يرى، ثم يستيقظ فيزول عنه ما رآه، وأنت ترى هنا ما ترى ثم بعد ذلك تصل إلى الحياة الحقيقية فيقال لك: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ [ق:22]. كنت في نوم، في سبات، فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22].
ورحمة الله على من قال:
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا
ولما حض الله على الجهاد وأمر به وتخلف من تخلف من المنافقين وبخهم ربنا جل وعلا بأعظم توبيخ فقال جل وعلا في سورة النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [التوبة:38]، خلدتم إليها ولزمتموها وبقيتم فيها وما أردتم الخروج والنفير: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة:38]. أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ (من) هنا بمعنى: بدل، أي: أرضيتم بالحياة الدنيا بدل الآخرة؟ وقد جاءت (من) بمعنى بدل في القرآن في آيات كثيرة، وهو أحد التفسيرين لقوله الله في سورة الأنبياء: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ [الأنبياء:42]. قال الإمام ابن كثير : أي: بدل الرحمن، من يحفظكم ويحرسكم ويكلؤكم ويقوم على رعايتكم آناء الليل وأطراف النهار غير الله؟
هذا أحد التفسيرين لهذه الآية. والتفسير الثاني: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ أي: من يمنعكم ويحفظكم من عذاب الرحمن، كما قال الله جل وعلا: فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ [هود:63] أي: من عذاب الله، فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ [هود:63].
وقد أخبرنا الله جل وعلا عن وضع الحياة الدنيا، فقال جل وعلا في سورة آل عمران: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]. متاع خداع .. متاع لا حقيقة له، ولولا أن فيه هذه الخديعة والشهوات والزينة لما ركن إليه أحد.
دارا خلود للسعيد والشقي معذب منعم مهما بقي
وما نسب لبعض العلماء من أن النار تفنى بعد حين فهو كلام باطل، وهذا القول ضلال، ومخالف للإجماع ولا دليل يدل عليه, وننزه أئمتنا الكرام عن أن يقولوا به، ونسبة هذا القول للإمام ابن تيمية عليه رحمة الله شيخ الإسلام نسبة باطلة فاحذروها، قال الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الثاني عشر في الصفحة 307: أجمع سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة أن من الأشياء ما لا يفنى ولا يهلك بالكلية، ثم ذكر ثلاثة أمور، فقال مبيناً ذلك: هذه الأمور الثلاثة: النار والجنة والعرش وغير ذلك. فهذا كلام الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: أجمع سلف الأمة وأئمتها وجميع أهل السنة على أن من الأشياء ما لا يفنى ولا يهلك بالكلية، الجنة والنار والعرش وغير ذلك. وقد نص إمام أهل السنة نضر الله وجهه الإمام أحمد في كتابه السنة على أن المسلمين أجمعوا على أبدية الجنة وأبدية النار، وعدم فناء كل منهما. وهذا القول حكاه الإمام ابن حزم في كتابه مراتب الإجماع، وذكر أن الأمة أجمعت على ذلك، والإمام ابن تيمية علق على كتاب ابن حزم وسمى كتابه نقد مراتب الإجماع، تعقب فيها المسائل التي ذكرها الإمام ابن حزم على أنه مجمع عليها ولا إجماع فيها، فلم يتعقب ابن حزم في هذه المسألة، وسلم الإمام ابن تيمية في تعليقه على هذا الكتاب بأن المسلمين أجمعوا على أبدية الجنة وأبدية النار. وقد قرر الإمام أبو الحسن الأشعري عليه رحمة الله في كتابه مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: أن المسلمين أجمعوا على أبدية الجنة والنار, ولم يخالف في ذلك إلا الضال الجهم بن صفوان ، إمام الجهمية الفرقة الردية. فهذا الأمر ينبغي أن نعيه؛ لحديث: ( يا أهل الجنة! خلود بلا موت، ويا أهل النار! خلود بلا موت ).
إخوتي الكرام! ولا يتعارض هذا مع قول ربنا الرحمن: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88]؛ لأن الآية تخرج على أمرين كما ذكر أئمة التفسير، والبحث أيضاً مقرر في كتب التوحيد، الأول: أن تكون من باب العموم المخصوص، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ، وخص من ذلك الجنة والنار والعرش والكرسي، وقد ذكر العلماء ثمانية أشياء لا تفنى ولا تهلك، قال الناظم:
ثمانية حكم البقاء يعمها من الخلق والباقين في حيز العدم
هي العرش والكرسي نار وجنة وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم
(وعجب) أي: عجب الذنب الذي خلق منه الإنسان ومنه يركب, كل شيء من بدن الإنسان يبلى إلا هذا، وهو عظمة صغيرة في نهاية فقرات الظهر في آخر العصعص، فعجب الذنب لا يبلى، وهذا ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم في الصحيح. فهذه الأشياء الثمانية لا يعتريها فناء ولا هلاك ولا زوال.
وإما أن تكون الآية من باب العام الذي يراد به الخصوص، فقول الله: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88], أي: كل شيء كتب الله عليه الهلاك، وكل شيء حكم عليه بالهلاك. فكل ما عدا هذه الأشياء الثمانية حكم الله بهلاكها فتفنى، وهذه أبدية باقية لا تفنى ولا تزول بإذن الله سبحانه وتعالى ومشيئته.
هذا الأمر الأول: أن الدار الآخرة باقية، والدار الدنيوية الدار الأولى فانية زائلة.
وقال قتادة: في الآية تقديم وتأخير. وهو قول مرجوح، ورده الإمام ابن جرير وابن كثير عليهم جميعاً رحمة ربنا الجليل. فقال: تأويل الآية: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا, إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وفي هذا التفسير بعد كبير، ولا يتناسب مع حال المنافقين والكافرين في الحياة الدنيا، الذين يجمعونها ويتعبون في جمعها وفي إنفاقها وفي حراستها وفي المحافظة عليها .. نصب ونكد .. تشتيت للهم .. تفريق للذهن.. فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].
ولذلك فإن العاقل يقتصر على ما قل وكفاه ولا يتكثر؛ لأنه إذا تكثر سيلهيه ذلك ويؤذيه، فما قل وكفى خير مما كثر وألهى. ثبت في كتاب الحلية وغيره في ترجمة أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان يدعو فيقول: اللهم إني أعوذ بك من تفرقة القلب, فقيل له: وما تفرقة القلب؟ كيف يتفرق قلب الإنسان؟ قال: أن يوضع لي في كل واد مال، فيتشتت ذهني ويتعب خاطري وجسمي. وقد حدثنا نبينا صلى الله عليه وسلم بالغنى الحقيقي وبينه, ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس الغنى عن كثرة العرض )، حاجات الدنيا ومتاعها، ( ولكن الغنى غنى النفس ). ولذلك قال علماؤنا والقول مأثور عن نبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أنه قال: (مثل محب الدنيا كمثل الشارب من البحر، كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً)، والمتعلق بالدنيا كلما ازداد غنى يزداد فقراً وحرصاً وتعباً في جمعها والتكالب عليها. وفي الحديث: ( منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا ).
ويقول جل وعلا في سورة فاطر: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:32-34]. الحزن .. فساد الذمم .. تعب الفتن .. إعياء البدن، كل ذلك ذهب وزال.. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:34-35]. واللغوب: هو النصب، وهو بمعنى: التعب. وقد كرر النصب للتأكيد، وقيل: إن النصب الأول تعب البدن، واللغوب: تعب النفس المترتب على تعب البدن، فقد يتعب بدن الإنسان ولا يهتم ولا تتعب نفسه، وقد يتعب بدنه وتتعب نفسه، فأهل الجنة منفي عنهم هذا وهذا، لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر:35].
إخوتي الكرام! هذه الآية آية جليلة عظيمة، وقد كان شيخنا المبارك عليه رحمة الله الشيخ محمد بن الأمين الشنقيطي في كتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن يقول: إن هذه الآية أرجى آية في القرآن، وأذكر تقريره لذلك، ثم أؤيد هذا بحديث وارد عن نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول الشيخ عند قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:32-33]: والواو في (يدخلونها) شاملة للظالم والمقتصد والسابق على التحقيق. ولذا قال بعض أهل العلم: حق لهذه الواو أن تكتب بماء العينين، فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أصناف هذه الأمة الثلاثة.
وإنما بدأ الله بالظالم لنفسه وقدمه لئلا يقنط, وأخر الله السابق بالخيرات لئلا عجب بعمله فيحبط.
وهذا المعنى الذي قرره شيخنا المبارك عليه رحمة الله ورد عن نبينا صلى الله عليه وسلم ما يؤيده، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح إن ثبت سماع علي بن عبد الله من أبي بن كعب رضي الله عنه, وهو راوي الحديث، والحديث عن أبي بن كعب قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، يرفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام: ( السابق في الخيرات لا حساب عليه، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً، والظالم لنفسه يحبس في عرصات الموقف، ويطول عليه ليعتريه هم وحزن، ثم بعد ذلك يؤذن له بدخول الجنة ). وعلى هذا القول فالضمير في (يدخلونها) يعود على الجميع.
وقوله: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر:34]. الذي يظهر لي والعلم عند الله: أن الظالم لنفسه الذي حبس في عرصات الموقف بعد أن يدخل الجنة يقول: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، والسابق والمقتصد يقولون بعد دخول الجنة: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن الذي كنا نصاب به في الحياة الدنيا. كل بحسبه. إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34]. ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خطب يوماً فقال: سابقنا مقرب, ومقتصدنا ناج, وظالمنا مغفور له.
يقول هذا الأخ: لكنك قلت كلاماً لا يقوله عاقل فضلاً عن عالم، وأسأل الله أن يتوب علينا جميعاً. ما هو الكلام يا أخي! المعترض؟ قال: قلت: وأفعال الله إذا دارت بين الفضل والعدل فالمغلب في حق الله وكرمه جانب الفضل. وعندك شك في هذا أيها الإنسان؟! أيها الإنسان! والله لو حاسبك الله بعدله لأكبك على وجهك في نار جهنم. هل عندك شك في ذلك؟ ومن منا يدخل الجنة إلا برحمة الله وفضله. إذا دارت أفعال الله بين الفضل والعدل فالمغلب في كرمه هو الفضل، كما أخبرنا هو عن نفسه أن رحمته سبقت عذابه، وأن حلمه سبق غضبه. هذا وصف الله جل وعلا، كما أخبر به عن نفسه.
ثم رتب على ذلك كلاماً في قرابة نصف صفحة، وقال: أنت تفتح باب المعاصي أمام الناس, يتجرءون على حرمات الله ويقولون: نحن تشملنا هذه الآية. وأين أخبار الوعيد يا عبد الله! والله الذي لا إله إلا هو لو كان الواحد منا يأتيه صك بأنه سيختم له على كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله فما عليه حرج ولو كان عليه من الذنوب أمثال الجبال، ولكن يا عبد الله! ما الذي يدريك أنه إذا وقعت الذنوب في الحياة الدنيا أن تلقى الله على الإيمان عند الموت؟
ولما احتضر سفيان الثوري بدأ يبكي, فطفقوا يرجونه ويخبرونه بأخبار الرجاء والوعد، وأنك وأنك، فقال: يا قوم! والله إني أخشى أن أسلب إيماني، ثم أخذ قشة من الأرض وقال: المعاصي أهون عندي من هذه، لا أبالي بالمعاصي الآن، ليست ساعة المعاصي، إنما ساعة الإيمان والكفر، أين الكلام -يا عبد الله- الذي لا يقوله عاقل فضلاً عن عالم؟ اتق الله في نفسك أيها الرجل!
وهذا القول منقول عن علي وحفيده، ولا تبرير له ولا تقرير ولا توجيه إلا هذا: أفعال الله إذا دارت بين الفضل والعدل فالمغلب هو الفضل في كرمه سبحانه وتعالى، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. وإذا أطلعنا الله بأنه سيغفر لنا فهو عند حسن ظن عبده به، فليظن به ما شاء، وأخشى أن تكون -أيها المعترض- من الطائفة العدلية, من الطائفة الغبية, وهم المعتزلة الذين يقولون: يجب على الله أن يعاقب العاصي, ولا يجوز أن يغفر له. سبحان ربي العظيم! سبحان ربي العظيم! أمر وسعه ربنا علينا لماذا تضيقونه؟ أفعال الله إذا دارت بين الفضل والعدل فالمغلب في كرمه هو الفضل, فرحمته واسعة سبحانه وتعالى.
وقد قال لي بعض الإخوة الكرام أن أتحدث في محاضرة عن أخبار الرجاء، وقال لي: إن الغالب على محاضراتي تدور حول أمور الخوف, فقلت: لك ذلك إن شاء الله. وأسأل الله جل وعلا إن مد في أعمارنا أن يوفقنا إلى الكلام عن هذا الموضوع، وأن نستعرض أكثر الآيات رجاءً وأكثرها خوفاً في محاضرة أخرى إنه على كل شيء عزيز.
ولذلك كان المؤمنون في سائر العصور يسلون أنفسهم بما ينزل عليهم من المصائب من قبل أعداء الله بحقارة الدنيا وفنائها وزوالها، فهؤلاء السحرة سحرة فرعون عندما آمنوا وتهددهم فرعون بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وتصليبهم في جذوع النخل قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72]. هذه الحياة الحقيرة المهينة التي لا شأن لها ولا وزن ولا اعتبار. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:73].
ولما أمر الله جل وعلا ببر الوالدين وأخبر أن برهما ينبغي أن يحصل من الولد ولو كانا مشركين قال: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]. قال المفسرون: وإنما قال: (في الدنيا) ولم يقل: وصاحبهما معروفاً لأمرين:
الأمر الأول: للإشارة إلى تهوين الصحبة وتقليل أمرها وشأنها، فأنت وإن ابتليت بأبوين مشركين وأمرت ببرهما وتتضايق من ذلك فصحبتهما ليست ضربة لازب لا تزول ولا تنقطع ولا تنقضي، هي مدة يسيرة، فاصبر على المرارات التي تتجرعها في حال برهما وهما على الشرك، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
والدلالة الثانية: للإشارة إلى أن صحبتهما قاصرة على الأمور الدنيوية، وأما في أمور الدين: ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ).
وقيل: إن اللام هنا للتوكيد، يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24]، أي: وقت حياتي الدنيوية عملاً صالحاً ينفعني في هذا الوقت. وكل من التفسيرين معتبر: يا ليتني قدمت لحياتي التامة في هذا اليوم العصيب الرهيب، حياة لا تزول ولا تنقطع. أو: يا ليتني قدمت عملاً صالحاً وقت حياتي. وهذا كقولك: قدمت لعشر ذي الحجة، أي: وقت عشر ذي الحجة. فاللام إما للتوكيد، وأما للمعنى الأول الذي ذكرته: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:24] أي: وقت حياتي عملاً صالحاً لحياتي التي سأعيشها في هذا اليوم الشديد، فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:25-26].
وثبت في معجم الطبراني الكبير بسند صحيح عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: ( أن قوماً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ألكم طعام؟ قالوا: نعم، فقال: ألكم شراب؟ قالوا: نعم، قال: فتصفونه؟ قالوا: نعم، قال: وتبردونه؟ قالوا: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جعل طعام ابن آدم وشرابه مثلاً للدنيا )، أي: تصير الدنيا إلى ما يصير إليه الطعام والشراب، ( يقوم أحدكم خلف حائطه ليقضي حاجته, فيضع يده على أنفه من نتنه ). هذا مثل الدنيا وحقارتها وهوانها ووضاعتها.
ولذلك لما جاء رجل للحسن البصري عليه رحمة الله قال له: إن أكلت كثيراً اتخمت، وإن أكلت قليلاً جعت، فقال له الحسن : أيها الرجل! هذه الدار لا تصلح لك، فالتمس داراً غيرها. هذه الدار إن أكلت كثيراً تشتكي من ثقل الطعام، وإن أكلت قليلاً اشتكيت من الجوع وشدته, فهي دار حقارة ونذالة، وليست داراً شريفة كريمة عظيمة, فلا يركن إليها إلا المجنون، فالتمس داراً غيرها.
ولذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن قدر هذه الدار -الجنة- وعن شأنها ورفعة مكانها، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. قال
ولذلك قال يحيى بن معاذ، وهو من الأئمة الصالحين عليه رحمة رب العالمين، قال: في طلب الدنيا ذل النفوس، وفي طلب الآخرة عز النفوس، فواعجباً لمن يختار الذل في طلب ما يفنى على العز في طلب ما يبقى! ذل وفانٍ، وهناك عز وباقٍ، وقد أبى أكثر الناس إلا إيثار الذل مع فنائه، فواعجباً ممن يؤثر الذل فيما يفنى على العز فيما يبقى!
والأمر كما قال نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه، والحديث في سنن الترمذي وصحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ). يشاركك فيها هؤلاء، يشاركك في النعيم هنا هذا الصنف اللعين، وأما في الدار الآخرة فهناك عباد الله الطيبون المقربون، هؤلاء هم الذين يشاركونك، وهذا مما يدعو العاقل للإعراض عن الانهماك في لذات الدنيا والخلود إليها، ورحمة الله على الإمام أبي حازم سلمة بن دينار عندما يقول: اشتدت مؤنة الدنيا ومؤنة الآخرة، أما مؤنة الدنيا فلا تكاد تضرب بدك في مجال من مجالاتها إلا ووجدت فاجراً قد سبقك إليه. أي عمل ترى الفجار يسبقونك إليه. وأما مؤنة الآخرة فإنك لا تجد عليها أعواناً. ورحمة الله على من قال:
كفى حزناً أن المروءة ضيعت وأن ذوي الألباب في الناس ضُيعُ
وأن ملوكاً ليس يحظى لديهم من الناس إلا من يغني ويصفع
هذا حال الحياة الدنيا، الذي ينال الحظوة والمنزلة فيها الرقاص الذي يصفع ويغني.
وأن ملوكاً ليس يحضى عندهم من الناس إلا من يغني ويصفع
أهذه دار تتعلق بها همة كريمة؟ أهذه دار يخلد إليها عاقل؟ لا والله.
وروى ابن أبي الدنيا بسند جيد كما قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب، ونقل ذلك ابن حجر في الفتح وأقره عليه، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ما يصيب عبد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجته عند الله وإن كان عليه كريماً). والأثر موقوف على هذا الصحابي البار. والأثر له حكم الرفع، وكنت قد ذكرت شواهد لهذا الأثر في محاضرة ماضية.
ولذلك كان سلفنا يحذرون من التوسع في الملذات والشهوات في هذه الحياة، ثبت في صحيح البخاري عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما قال: كان أبي صائماً، فلما حان الإفطار وغروب الشمس أتي بالطعام، فلما وضع بين يديه - وهو عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة- قال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، وكان عليه بردة إن غطينا رأسه بدت رجلاه، وإن غطينا رجليه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني, ثم بسطت لنا الدنيا فأعطينا فيها ما أعطينا، أخشى أن تكون طيباتنا قد عجلت لنا، فجعل يبكي, ثم قال: ارفعوا عني الطعام. قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، قتل حمزة وهو خير مني، وما حصلوا من الدنيا نعيماً ولا لذة ولا شهوة، كان الكفن الذي عليه لا يكفي لبدنه، وأما نحن فقد بسطت لنا الدنيا, وأعطينا فيها ما أعطينا, فنخشى أن تكون طيباتنا قد عجلت لنا.
وورد في المستدرك ومسند البزار بسند صحيح عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: استسقى أبو بكر رضي الله عنه أي: طلب ماء ليشرب ونحن معه فأتي بماء مشيب بعسل، فلما أدلاه إلى فيه نحاه ثم بكى وبكى حتى أبكى من حوله، فسكتوا وما سكت، ثم أعاد القدح إلى فيه، فبكى وبكى حتى أبكى من حوله, فسكتوا ثم سكت، فقالوا: ما الذي أباك يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: ( كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول بيده: إليك عني إليك عني، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! من تخاطب وليس هاهنا أحد؟ قال: هذه الدنيا تمثلت لي فقلت: إليك عني إليك عني، فقالت: إن نجوت مني فلن ينجو مني من بعدك, فهذا الذي أبكاني ). لا يصيب أحد من الدنيا شيئاً إلا نقص من درجته عند الله وإن كان عليه كريماً.
ثبت في مسند الإمام أحمد بسند صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له ). ورحمة الله على الإمام الشبلي عندما يقول: من أراد أن ينظر إلى الدنيا بحذافيرها فلينظر إلى مزبلة من المزابل، ومن أراد أن ينظر إلى نفسه فليأخذ حفنة من تراب فلينظر إليها، فإنه خلق من التراب وسيعود إليه وسيبعث منه: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، ومن أراد أن ينظر إلى شأنه ومنزلته فلينظر إلى ما يخرج منه عند الخلاء. هذه حياتك وهذه هي الحياة الدنيا، إن أردت النظر إلى الدنيا فانظر إلى مزبلة، وإن أردت النظر إلى نفسك فانظر إلى التراب, وإن أردت النظر إلى جاهك ومنزلتك وحالك فانظر إلى ما يخرج منك. هذا حال الإنسان، وهذه هي حال الدنيا.
والآخرة على الضد من ذلك، دار كريمة عظيمة بجوار رب البرية. هذه الأمور الخمسة تتقابل فيها الدنيا والآخرة، الحياة الدنيوية والحياة الأخروية.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر