الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! كنا نتدارس العلامة الأولى من العلامات التي يعرف بها صدق النبي وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا العلامة الأولى تقدم معنا الكلام على شيء منها، وهي النظر إلى حال النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه في خَلقه وخُلقه، وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالقسم الأول من هذين القسمين، فيما يتعلق بخلق النبي صلى الله عليه وسلم، ثم شرعنا نتدارس ما يتعلق بالقسم الثاني في خلق النبي صلى الله عليه وسلم.
وقلت -إخوتي الكرام-: إن الله منح أنبياءه ورسله الكمال في الأمرين: في الخَلق وفي الخُلق، فأعطاهم الجمال والجلال على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا ما يتعلق بالقسم الثاني من هذين القسمين، أعني خلق النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: لا يمكن لإنسان أن يحيط على وجه التمام بخلق نبينا عليه الصلاة والسلام، فخلقه القرآن عليه صلوات الله وسلامه، وليس في وسع إنسان أن يقف على معاني القرآن على وجه التمام، إنما نبحث في معاني القرآن وهكذا عن خلق نبينا عليه الصلاة والسلام حسب ما في وسعنا، وحسب استطاعتنا، ولا يمكن أن نحيط بخلق نبينا عليه صلوات الله وسلامه.
ولذلك قلت -إخوتي الكرام-: إذا أردنا أن نقف على صورة مختصرة لخلق نبينا عليه الصلاة والسلام لنستنتج بعد ذلك من هذا الصورة المختصرة أنه رسول الله عليه الصلاة والسلام حقاً وصدقا، فينبغي أن نبحث في سبعة أمور من أخلاق نبينا عليه الصلاة والسلام:
أولها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أهله وأسرته، وثانيها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع أصحابه وأمته، وثالثها: خلقه عليه الصلاة والسلام مع الملائكة الكرام على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، ورابعها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الإنس. وخامسها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أعدائه من شياطين الجن، وسادسها: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع الحيوانات العجماوات، وسابعها: وهي آخر الأمور: خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع الجمادات الصامتات.
وكنا نتدارس الأمر الأول من هذه الأمور السبعة ألا وهو خلق النبي عليه الصلاة والسلام مع أهله وأسرته عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقلت: هذا الجانب أيضاً ينبغي أن نتدارسه ضمن أربع مراحل، مضى الكلام على ثلاث منها: فيما يتعلق بمسكن نبينا عليه الصلاة والسلام، وفيما يتعلق بأثاث نبينا عليه الصلاة والسلام في ذلك المسكن وفي تلك الحجر الشريفة المباركة المتواضعة، وثالثها: ما كان يقدم في تلك الحجر من طعام وغذاء يأكله خير الأنبياء مع آله عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.
هذه الأمور الثلاثة تقدم الكلام عليها، وبقي أن نتدارس معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لأهله في تلك الحجر، بعد أن عرفنا المسكن والأثاث والطعام، وقبل أن ندخل في الأمر الرابع الذي هو محل الشاهد والعلامة: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام ومعاملته لأهله الكرام، قبل هذا وعدتكم -إخوتي الكرام- أن أتكلم على ما يتعلق بالأمور الثلاثة المتقدمة وعلى وجه الخصوص فيما ذكرته آخراً من الأمور الثلاثة وهو غذاء النبي عليه الصلاة والسلام وطعامه، وسيكون موضوع هذه الموعظة هو ما يتعلق بما تقدم من هذه الأمور الثلاثة وعلى وجه الخصوص الأمر الثالث، لأني على يقين أنه حصل في الذهن استفسارات وأسئلة متعددة حول ما تقدم، لذلك لابد من بيان ذلك إن شاء الله.
وأما ما يتعلق بمعاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لنسائه وأهل بيته فسيأتي الكلام على ذلك في الموعظة الآتية إن أحيانا الله.
إخوتي الكرام! تقدم معنا أن سكن نبينا عليه الصلاة والسلام وأثاثه وطعامه كان يقوم على الأمر الضروري بمقدار البلغة، فالسكن بمقدار الحاجة، وهكذا الأثاث والطعام معنا، وما كان يترفه عليه الصلاة والسلام ولا يتوسع لا في السكن ولا في الأثاث ولا في الطعام عليه صلوات الله وسلامه، فغالب أيامه فيما يتعلق بالأمر الثالث جوع، وعندما يشبع يشبع من خشن الطعام، وقد خرج من هذه الحياة الفانية إلى دار الآخرة الباقية وما شبع من خبز الشعير فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه.
لكن كعباً رضي الله عنه وأرضاه لم يمت في ذلك المرض فكتب الله له العافية والشفاء، وامتدت حياته بعد نبينا عليه الصلاة والسلام فتوفي سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين، وقيل: ثلاث وخمسين للهجرة عن عمر بلغ سبعة وسبعين سنة أو خمسة وسبعين سنة حسب الخلاف في تاريخ وفاته رضي الله عنه وأرضاه.
إذاً: قوله: ( إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى معادنه، وإنه سيصيبك بلاء فأعد له تِجفافاً )، أي: إذا كنت تحبني فاستعد للبلاء وللفاقة وللشدة وللعناء، فهذا هو حال خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وهو حال أحبابه غالباً.
وهذا الحديث -إخوتي الكرام- يخلع القلب، وإسناده -كما قلت- جيد كما نص على ذلك شيخ الإسلام الإمام الهيثمي، فـكعب يحب النبي عليه الصلاة والسلام وهو من الصحابة الكرام، والنبي عليه الصلاة والسلام جعل له أمارة على حبه -وقد حصلت فيه- أنه سيصيبك بلاء فأعد له تِجفافاً، فنزل به البلاء مباشرة فقد أصيب بالمرض، ومع ذلك لما قالت أمه: هنيئاً لك الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: ( من المتألية على الله؟ وما يدريك لعله قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه )، سبحان ربي العظيم! معنى ذلك أن الإنسان إذا تكلم فيما لا يعنيه سيحجب عن الجنة لا شك، وأكثر ما يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم حصائد ألسنتهم، الثرثرة والقيل والقال، والهذيان الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فكيف لو تكلم الإنسان بالغيبة والنميمة والقذف والفحش وغير ذلك!
إخوتي الكرام! الجملة الأخيرة في الحديث -كما قلت- وردت من عدة طرق عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليه أجمعين، رواه الإمام ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت، وألف كتاباً كاملاً في حدود ثلاثمائة صفحة كله في الصمت من أوله إلى آخره، الصمت وحفظ اللسان، والإمام ابن أبي الدنيا من أئمة أهل السنة والخير والصلاح والفلاح، له كتاب الصمت، ورحم الله امرأً قال خيراً فغنم أو سكت عن شر فسلم، وإذا وجدت في الكلام فائدة فتكلم وإلا فاسكت، والسكوت غنيمة.
رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت، وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام زار كعب بن عجرة ، لكن ليس فيه صدر الحديث وبدايته وهو أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام متغير اللون وذهب وسقى ليهودي وأتى بتمرات إلى النبي عليه الصلاة والسلام، إنما فيه: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام جاء إلى
والحديث رواه الترمذي أيضاً، وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حادثة أخرى وقعت مع غير كعب بن عجرة ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام نفس هذه المقولة، ورد أن ذاك صحابي قيلت له تلك المقولة في مرضه وصحابي آخر قيلت له تلك المقولة بعد استشهاده في موقعة أحد، فمع أنه شهيد قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه كما سيأتينا في رواية الحديث: ( لعله كان يتكلم بما لا يعنيه أو يبخل ويمنع ما لا يغنيه ).
والرواية رواها أيضاً أبو يعلى في مسنده كما في مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة ثلاث وثلاثمائة، فرواية الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( توفي رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ) وهو غير كعب قطعاً لأن كعباً تقدم معنا أن حياته امتدت بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، ( فقال رجل: أبشر بالجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو لا تدري، فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا يُنقصه )، يعني شيء لا ينقصه بخل به.
وأما رواية أبي يعلى ورواية ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: استشهد غلام منا يوم أُحد وهو من الأنصار الأبرار، فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، وتقدم معنا أن هذا الوصف كان ديدن النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة الكرام، لكن إذا ربطوا حجراً كان يربط على بطنه الشريف حجرين فداه أنفسنا وآباؤنا وأمهاتنا عليه صلوات الله وسلامه، قال: استشهد غلام منا يوم أُحد فوجد على بطنه صخرة مربوطة من الجوع، فمسحت أمه التراب عن وجه، وقالت: هنيئاً لك يا بني الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وما يدريك، لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه، ويمنع ما لا يضره ) يعني يمنع ما لا يضره إنفاقه، لو أنفقه ما ضره، وادخره عند الله جل وعلا.
أما رواية ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت ورواية الإمام أبي يعلى في مسنده، ففي إسناد الحديث يحيى بن يعلى الأسلمي وهو ضعيف كما قال الهيثمي، وبذلك حكم عليه الإمام ابن حجر أيضاً في التقريب، وأشار إلى أن حديثه في سنن الترمذي ، أي: أنه من رجال الترمذي ، وأخرج له البخاري في الأدب المفرد، لكنه ضعيف، وهو الراوي عن أنس ، يحيى بن يعلى الأسلمي وهو من التابعين لكن في روايته ضعف، أما رواية الترمذي فهي من غير طريق يحيى بن يعلى الأسلمي ، فهي تشهد له، والحديث حسن إن شاء الله، رواه الإمام الترمذي من طريق عمر بن حفص بن غياث الكوفي عن أبيه حفص بن غياث عن أنس بن مالك ، وتلك الرواية عن يحيى بن يعلى الأسلمي عن سليمان بن مهران الأعمش عن أنس ، وهنا عن عمر بن حفص بن غياث عن أبيه حفص بن غياث عن سليمان بن مهران الأعمش عن أنس ، فـيحيى بن يعلى روى الحديث عن الأعمش عن أنس ، وقلت: هو ضعيف، وهنا روي من غير طريقه فهذه متابعة له تشهد لحديثه.
أما عمر بن حفص فهو ثقة كما قال أئمتنا، وحديثه مخرج في الكتب الستة إلا سنن ابن ماجه ، وأما ولده حفص بن غياث فهو ثقة فقيه كما قال الحافظ ابن حجر ، وحديث مخرج في الكتب الستة، توفي سنة اثنتين وعشرين ومائتين، ووالده حفص بن غياث توفي سنة خمس وتسعين ومائة للهجرة، رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، والحديث من رواية الأعمش عن أنس ، والأعمش هو سيد المسلمين، ولذلك نعته الحافظ بأنه: ثقة حافظ عارف بالقراءات ورع حديثه مخرج في الكتب الستة، وقد روى عن أنس وغيره، لكن الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في الجزء الرابع صفحة اثنتين وعشرين ومائتين قال: روى عن أنس ولم يسمع منه، وعليه فالحديث منقطع، وعلى جميع الأحوال يشهد له ما تقدم: حديث كعب بن عجرة وتعدد طرقه، وحديث يحيى بن يعلى الأسلمي عن الأعمش ، ومن طريق عمر بن حفص بن غياث عن الأعمش عن أنس ، وهناك طريق آخر من رواية كعب بن عجرة كما في معجم الطبراني الأوسط كما تقدم معنا، ولذلك نص أئمتنا على أن هذا الحديث في درجة الحسن والعلم عند الله جل وعلا.
وقد ورد حديث ثالث بمعنى حديث كعب وحديث أنس رضي الله عنهم أجمعين، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وفي إسناده شيء من الضعف لكنه يتقوى بالروايات المتقدمة، والحديث رواه أبو يعلى في مسنده ورواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان، كما في مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة ثمانين وثلاثمائة، وانظروا الحديث أيضاً في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة إحدى وأربعين وخمسمائة، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: ( قتل رجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم شهيداً، فبكت عليه باكية فقالت: وا شهيداه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أنه شهيد؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يبخل بما لا ينقصه ).
قال الهيثمي في المجمع: في إسناده عصام بن طليق الطفاوي بفتح الطاء (طَليق) وهو ضعيف من السابعة، وقد نص الإمام ابن حجر في التقريب على أنه لم يخرج حديثه في الكتب الستة، إنما روى له الإمام أبو داود في كتاب فضائل الأنصار، ولذلك ترجمه الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب: عصام بن طليق الطفاوي ضعيف من السابعة، لكن الحديث -كما قلت- يشهد له ما تقدم والعلم عند الله جل وعلا.
هذا من باب التعليق والتنبيه على ضبط اللسان، فهذا يستشهد، وذاك صحابي يحب النبي عليه الصلاة والسلام وعندما يزوره نبينا عليه الصلاة والسلام يقول له: (أبشر)، فأمه تتحرك همتها فتقول: هنيئاً لك الجنة، فيقول لها: قفي عند حدك، فهو يبشره بالخير، أما أن يجزم له بذلك فلا ندري: ( لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يمنع ما لا يغنيه )، كما تقدم معنا الحديث برواياته المختلفة.
ومثل هذا كثير سأختمه بأثر واحد وأرجع بعد ذلك إلى بحثنا إن شاء الله، هذا الأثر رواه الإمام البيهقي أيضاً كما في الترغيب والترهيب في المكان المتقدم، من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن : أن امرأة كانت تدخل على أم المؤمنين أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، ومعها نسوة، فقالت امرأة منهن وهن عند أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين: والله لأدخلن الجنة، فقد أسلمت وما سرقت ولا زنيت. فما أنكر عليها أحد من الحاضرات، وذهبت ونامت، فرأت في نومها قائلاً يقول لها: أنت المتألية على الله لتدخلن الجنة، كيف وأنت تبخلين بما لا يغنيك وتتكلمين فيما لا يعنيك؟ أنتِ فيك هذان الوصفان ثم تقولين ستدخلين الجنة! فاستيقظت رضي الله عنها وأرضاها وهي في غاية الروع، فذهبت إلى أمنا عائشة رضي الله عنها فأخبرتها فقالت: اجمعي النسوة اللاتي كنّ حاضرات، من أجل أن يعلمن ما حصل لك في الرؤيا، فجمعتهن وحدثتهن بما رأت في منامها.
إخوتي الكرام! التعليل لذلك ينبغي أن نعيه ضمن أربعة معالم ينبغي أن ترسخ في ذهننا:
المعلم الأول: الناس ينقسمون من حيث المال إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: غني، وهو من يملك ما زاد عن حاجته، والغنى أيضاً درجات يتفاوتون فيه، لكن كل من ملك ما زاد عن حاجته فقد حصل وصف الغنى، وقد وجد كثير من الأخيار الأبرار عباد الله الصالحين فيهم ذلك الوصف، فمن أنبياء الله على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه الذين حصلوا ذلك الوصف: نبي الله أيوب، ونبي الله داود، ونبي الله سليمان على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، كان فيهم وصف الغنى، ووجد أيضاً من فيه هذا الوصف من الصالحين في هذه الأمة كما هو الحال في الزبير بن العوام وفي عبد الرحمن بن عوف وفي عثمان بن عفان وغيرهم كثير.
يقابل هذا -وهو القسم الثاني: الفقير- وهو من لا يقدر على تمام كفايته، ما يحصله لا يفي بحاجته، والفقر أيضاً درجات، وقد حصل هذا الوصف ووجد في كثير من عباد الله الصالحين، من المتقدمين على هذه الأمة وفي هذه الأمة، فمن أنبياء الله الذين كان هذا وصفهم ولا يجدون مقدار كفايتهم: نبي الله عيسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ونبي الله زكريا، ومن الصالحين في هذا الأمة علي وأبو ذر ومصعب بن عمير رضوان الله عليهم أجمعين، كانوا لا يحصلون مقدار الكفاية، فهذا يقابل ما تقدم من الغنى.
القسم الثالث: من يملك مقدار كفايته، وهذا الوصف هو الغالب على نبينا صلى الله عليه وسلم، وتقدم معنا أنه سأل ربه أن يجعل قوته وقوت آله على نبينا وآله صلوات الله وسلامه كفافاً قوتاً، وهو ما كف عن السؤال وكفى بمقدار الحاجة عليه صلوات الله وسلامه.
فهذا هو الغالب على وصف نبينا عليه الصلاة والسلام، وعلى وصف الشيخين المباركين أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين، مع أن الله جل وعلا أعطى نبينا عليه الصلاة والسلام حالة الغنى أحياناً، وتقدم معنا أنه عندما جاءته الأموال شكر ذا العزة والجلال وآثر غيره على نفسه، فشكر وآثر، وأصيب أحياناً بالفقر الذي لا يحصل فيه مقدار الكفاية والحاجة، فتحمل وصبر، فحصل له وصف الفقر ووصف الغنى، لكن الغالب على أحواله عليه صلوات الله وسلامه هو الكفاف.
هذه الأحوال كلها كما قال أئمتنا -الغنى والفقر والكفاف- حالات عارضة للإنسان، وهي مطايا له في سفره إلى ذي الجلال والإكرام، وقد تكون باختياره فهو يختار واحدة منها: الفقر، أو الكفاف، ولا يتوسع ولا يحصل الغنى، وإذا جاءه صرفه عنه، وقد يكون بغير اختياره فهو يريد الغنى لكن ما يأتيه إما في كفاف أو في فقر. وهذه الأحوال كما قال أئمتنا: هي كالمقام والسفر بالنسبة للإنسان، وكالصحة والمرض، وكالإمارة والائتمار، وكالإمامة والائتمام، فلا يصح إطلاق القول بتفضيل حالة من هذه الحالات على ما عداها، فلا يقال: الإقامة أحسن للإنسان من السفر، ولا يقال: السفر أحسن، ولا الصحة أحسن، ولا المرض أحسن، ولا الغنى أحسن، ولا الفقر أحسن، لا يطلق الحكم لواحدة من هذه الأحوال بالتفضيل المطلق، فقد يستوي من يتصفون بهذه الأحوال في فضيلة على حسب طاعتهم لله جل وعلا، وقد يتفاوتون على حسب عبوديتهم للحي القيوم، لكن الغنى بنفسه ليس له فضيلة، والفقر بنفسه ليس له فضيلة، والكفاف بنفسه ليس له فضيلة.
فما كان الناس يتفاوتون عند النبي عليه الصلاة والسلام -ولا اعتبار لهذا في الإسلام- من أجل غنى أو فقر أو كفاف، فما كان يقال: هذا غني يتقدم وهذا فقير يتأخر، ولا يقال العكس: هذا فقير يتقدم وهذا غني يتأخر، بل يقال: هذا صالح تقي فهو المقدم، وهذا فاسق شقي فهو المؤخر، دون النظر إلى هذه الاعتبارات العارضة من غنى، أو فقر، أو كفاف، كما أنه لا اعتبار لكونه مسافراً أو مقيماً أو نحو ذلك من الصفات العارضة، إنما الصفات المعتبرة هي: صلاح تقى, معصية شقاوة، هذه هي التي يتقدم بها الإنسان أو يتأخر.
فينبغي -إخوتي الكرام- أن نعي هذا: أن الناس نحو المال ثلاثة أقسام: غني، وفقير، ومن عنده بمقدار كفايته، لا يزيد ما عنده على حاجته ولا ينقص، وليس لحالة من هذه الحالات بنفسها فضيلة، إنما الفضيلة تكون على حسب تكيفك ومعاملتك نحو هذه الحالة من عبوديتك لربك جل وعلا، فقد يكون هناك غني تقي، ويكون هناك فقير شقي مختال متكبر لا ينظر الله إليه مع أنه فقير، وليس في جيبه ريال واحد، وقد يكون هناك غني متواضع ينفق آناء الليل وأطراف النهار.
أما حالة الغنى فقد تحمل على الأشر والبطر إلا ما رحم ربك، وكثرة الحطام -كما قال أئمتنا الكرام- تولد الطغيان، وإذا فاض المال نتج عن ذلك الانحراف والضلال، وقد أشار إلى هذا ذو العزة والجلال فقال جل وعلا: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، وقال جل وعلا: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27].
إذاً: إخوتي الكرام! أسلم شيء لغالب بني الإنسان هو الكفاف، وإذا أصيب بالفقر فهذا أسلم له من أن يحصل الغنى؛ لأن الفقر كالمرض، والإنسان إذا مرض بدنه فما في المرض من محاذير فهي أقل مما لو كان عنده صحة وعنده فجور، نعوذ بالله من ذلك! فإن الإنسان إذا أصيب بمرض فإنه يكون عنده استكانة وذل وتواضع ويرجى منه الإنابة، أما الصحيح إذا كان عنده انحراف فانحراف المريض مهما كثر أقل من انحراف الصحيح، فالفقر مع غصصه أسلم من طغيان الغنى، وأسلم الأحوال للإنسان هو مقدار الكفاية أن يحصل قوته، فلا يكون عنده شيء زائد يلهيه ويطغيه، وإذا ما حصل قوته فقد يتشوش الذهن والبال.
إذاً: أحسن الأحوال الكفاف، والسلامة -كما قال أئمتنا- لا يعدلها شيء، ومن عصمة الله لك أن لا تجد ما يحملك على الطغيان، وكان من أدعية أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه، كما في حلية الأولياء في الجزء الأول صفحة تسعة عشرة ومائتين أنه كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من تفرقة القلب، قالوا: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يكون لي في كل وادٍ مال، القلب يتفرق يتشتت في هموم وحسابات وغموم بعد ذلك وما يطرأ على ذلك من مصائب ونكبات.
فالكفاف هو خير أحوال الإنسان.
إخوتي الكرام! وشر هذه الحالات هو الغنى، وقد كان الصحابة الكرام يخبرون عن أنفسهم في حال الفقر والغنى، فانظر لمن حصل الفقر وحصل الغنى بعد ذلك وهو عبد الرحمن بن عوف؛ لتعلم ما أشار إليه ربنا جل وعلى وما قرره أئمتنا، والأثر ثابت عنه في سنن الترمذي بإسناد حسن.
يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه: ابتلينا مع النبي عليه الصلاة والسلام بالضراء فصبرنا وابتلينا بعده بالسراء فلم نصبر. ابتلينا مع النبي عليه الصلاة والسلام بالضراء بالشدائد بفقر بنكبات بمصائب فصبرنا، وابتلينا بعده بالسراء وفتحت علينا الدنيا من كل جهة فلم نصبر، ولذلك كان أئمتنا يقولون: البلاء يصبر عليه المؤمن والعافية لا يصبر عليها إلا الصديق، المؤمن يصبر على البلاء ويتحمله، لكن الصبر على العافية وأن توجه شبابك وقوتك وغناك فيما يرضي مولاك هذا لا يفعله إلا صديق، ولذلك فإن أكثر الناس عندما تأتيهم الخيرات يحاربون رب الأرض والسماوات.
إخوتي الكرام! إن الغنى في الغالب إذا جاء للإنسان وما عنده إيمان بالرحمن على وجه التمام سيطغيه، وهذا هو الحاصل في أكثر الأغنياء، ونسأل الله أن يلهمنا رشدنا إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
ثبت في معجم الطبراني الكبير ومسند البزار والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان، وأبو نعيم في حلية الأولياء، من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وإسناد الأثر جيد كما قال الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد انظروه في المجلد العاشر صفحة سبع وثلاثين ومائتين، والأثر رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير والأوسط بسند حسن، من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين، فهو من رواية عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما أهلك من كان قبلكم الدرهم والدينار، وهما مهلكاكم ).
إذاً: هذا المعلم الثاني ينبغي أن يرسخ في ذهننا: أن الأسلم للإنسان من تلك الأحوال أن يحصل حالة الكفاف، وإذا حصل حالة الغنى واتقى الله فهذا من وصف الصديقين، فإن قيل: لم اختار نبينا عليه الصلاة والسلام الكفاف؟ ولو جاءه الغنى -كما تقدم- لما نقص من درجته عند الله ولما أطغاه أن يكون قدوة لأمته عليه الصلاة والسلام، من أجل أن يسيروا على مسلكه عليه صلوات الله وسلامه، وأن لا يختاروا ذلك الأمر الذي يحمل على الطغيان، وإذا قدر الله لهم حالة الكفاف فليحمدوا الله عليها، ولا يتطلعوا إلى شيء آخر.
وقد ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه ، والحديث رواه الإمام الدارمي وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، والحديث رواه الإمام المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، وإسناد الحديث صحيح كالشمس، من رواية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه من البلاء، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة )، فأشد الناس بلاءً هم الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، ولذلك يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتابه الفوائد في صفحة اثنتين وثلاثين: من خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، ومن خلقه الله للنار لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات، فالجنة محفوفة بالمكاره، والنار بالشهوات.
والشدة والفقر والعناء والضر والمصائب هذه من المكاره التي تكرهها النفس البشرية، فمن خلقه الله للجنة لم تزل هداياها تأتيه من المكاره، ومن خلقه الله للنار لم تزل هداياها تأتيه من الشهوات، والمحفوظ من حفظه الله، والمعصوم من عصمه الله، لكن في الغالب أن من جاءته الشهوات ووصلت إليه سيتفلت ويتحلل وينحرف عن شريعة الله عز وجل، هذا في الغالب، لكن قد يمسك الإنسان نفسه، فهذا إن شاء الله برهان على قوة إيمانه ويقينه بربه جل وعلا، ومن العصمة -كما تقدم معنا- ألا تجده.
إخوتي الكرام! البلاء مع ما فيه من غصص يتحمله المؤمن ويقوم به، والبلاء يطيب المؤمن وينقيه من خطاياه، ولذلك كان العبد الصالح ذو النون المصري المتوفى سنة خمس وأربعين ومائتين للهجرة، من عباد الله الطيبين، كان يقول: البلاء ملح المؤمن، وإذا عدم المؤمن البلاء فسد حاله. يعني لا يصلح حاله إلا بهدايا تأتيه من المكاره من أجل أن يذل ويستكين ويخشع لله جل وعلا، لا يأشر ولا يتكبر، فإن الصحة الدائمة والخيرات المتتابعة تحمل على الأشر في الغالب، ولذلك فإن البلاء ملح المؤمن والطعام بلا ملح لا يطيب، وإذا عدم المؤمن البلاء فسد حاله، يحمله حاله على الأشر والبطر والعتو والاستكبار.
ثبت في المسند ومستدرك الحاكم ، وقال الحاكم : إسناده صحيح على شرط مسلم ، وأقره عليه الذهبي ، والحديث رواه أبو يعلى والإمام الطبراني في معجمه الأوسط والكبير، ورواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان، وابن سعد في الطبقات، وانظروا الحديث في المستدرك في الجزء الثاني صفحة اثنتين وأعاده في صفحة ست وثلاثين ومائتين، وانظروا رواية أبي يعلى والطبراني في الأوسط والكبير في مجمع الزوائد في الجزء الرابع صفحة أربع وستين، والحديث صحيح كالشمس صححه الحاكم وأقره الذهبي وصححه الإمام الهيثمي، وهكذا شيخ الإسلام أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم الأثري في تخريج أحاديث الإحياء في الجزء الثالث صفحة ثمان وعشرين ومائتين.
ولفظ الحديث: عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ( أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن آتيه، فأتيته فقال لي: خذ عليك ثيابك وسلاحك، يقول: فرجعت ولبست سلاحي وحملت وأتيت به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فرأيته يتوضأ، فصعد إليّ النظر ثم طأطأ رأسه فقال: يا
ولذلك -إخوتي الكرام- من كان عنده مال واتقى ربه فلا لوم عليه ولا شؤم فيه، يقول العبد الصالح أحمد بن أبي الحواري وهو أحمد بن عبد الله بن ميمون بن أبي الحواري الذي يقال له: ريحانة أهل الشام، وكان الإمام يحيى بن معين عليه وعلى أئمتنا رحمات رب العالمين يقول: إني لأحسب أن الله جل وعلا يسقي أهل الشام بـأحمد بن أبي الحواري، وقد توفي هذا العبد الصالح سنة ست وأربعين ومائتين للهجرة، وهو من الثقات الأثبات، وحديثه مخرج في سنن أبي داود وسنن الإمام ابن ماجه ، وهو من العباد الصالحين في هذه الأمة، قام ليلة بكاملها بآية من الفاتحة حتى طلع الفجر: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]. يقول أحمد بن أبي الحواري كما في الإحياء في الجزء الثاني صفحة خمس وعشرين، وانظروا شرح الكلام أيضاً في إتحاف السادة المتقين في الجزء الخامس صفحة اثنتين وتسعين ومائتين، يقول هذا العبد الصالح: اجتمع جماعة من الصالحين فتناظروا وبحثوا في كلام الحسن البصري عندما قال: إذا أراد الله بعبد خيراً لم يشغله بأهل ولا مال، اجتمع الصالحون فبحثوا في كلام الحسن البصري ما معناه، قال: فأجمع رأيهم واستقر على أن كلام الحسن البصري ليس معناه أن لا يكونا له، يعني ليس عنده أهل ولا مال، بل أن يكونا له ولا يشغلانه.
إذا أراد الله بعبد خيراً لم يشغله بأهل ولا مال، ليس معنى هذا أن لا يكون عنده مال ولا أهل، إنما عنده أهل وعيال وعنده مال ومع ذلك لا يشغلانه عن الله عز وجل، هذا هو معنى كلام الحسن البصري ، يقول: وهذا هو الذي استقر عليه رأي الصالحين في بيان كلام هذا العبد الصالح عليهم جميعاً رحمة الله.
قال أحمد بن أبي الحواري : وهذا إشارة إلى قول أبي سليمان الداراني .. وهو من العلماء الربانيين في هذه الأمة، توفي سنة خمس ومائتين وقيل: خمسة عشرة ومائتين، وهو شيخ الإمام أحمد بن أبي الحواري ، وهو من العلماء الصالحين الربانيين، وكان يقول عليه رحمة الله: لولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا. يحب الليل لأنه يتهجد فيه ويناجي فيه حبيبه جل وعلا، وكان يقول: لكل شيء علم وعلم الخذلان عدم البكاء من خشية الرحمن، نسأل الله العافية والسلام، يقول: وهذا إشارة إلى قول أبي سليمان الداراني : كل ما شغلك عن الله من مال وأهل فهو مشئوم عليك، فليس معنى هذا أن لا يكونا لك، بل أن لا تشغل بهما عندما يكونان عندك، فعندك الزوجة وعندك أولاد وعندك أموال، لكنك تتقي ربك وتراقب نفسك فلا يشغلك ذلك عن الله جل علا.
هذا المعلم الرابع مع ما قبله ينبغي أن نعيه ضمن هذا الأمر، لكن بما أن الأسلم لغالب الناس هو الكفاف بل والفقر، فهو أخف من الغنى؛ كان الكفاف والفقر للمؤمن خيراً له من الغنى؛ لأن الغالب في الإنسان إذا استغنى أنه يطغى إلا ما رحم ربك، ولذلك إذا اختار الله لعبده فسيختار له الكفاف والفقر من أجل أن لا يطغى، وإذا قدر أن أعطاه الغنى وثبته فزيادة منة ونعمة من الله عليه، وإذا جاءته الأموال وجاءه الغنى وتخلت عنه العناية الإلهية -نسأل الله أن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين- فهو شقاء ثم شقاء له.
إخوتي الكرام! لابد من ضبط هذا: ( إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من صلاة، وكان غالب غامضاً بين الناس لا يشار إليه بالأصابع )، ثم ضرب النبي عليه الصلاة والسلام بيده مشيراً إلى إعجابه بهذا الولي الذي يقول الله عنه ما قال، قال عليه الصلاة والسلام: ( عجلت منيته، قلت بواكيه، قل تراثه )، أي: جاءته المنية وعجل الله له الموت من أجل أن يريحه من دار العناء والبلاء، وقل من يبكي عليه لأنه خفيف الحال، وقل تراثه هو قليل المال، هذا أغبط الأولياء؛ لأنه لا يتعرض للفتن، وهذا هو الأسلم والأصلح للأغلب، وإذا جاءه الغنى واتقى الله فلا يقال: إنه مذموم، وإذا جاءه الفقر وما اتقى الله فلا يقال: إنه محمود، فلابد من وضع الأمر في موضعه الشرعي.
هذا الحديث ينبغي أن نفهمه على حسب التوجيه المتقدم، أن الأسلم للأكثر هو الكفاف، ولذلك إذا كثرت الأموال دعت إلى الضلال، فمن لم يؤمن بالله ولم يشهد للنبي عليه الصلاة والسلام بالنبوة والرسالة، يدعو عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، مع أنه في الظاهر قد يكون دعاء له، لكن في الحقيقة هو دعاء عليه، أن يكثر الله له من الدنيا، وأن لا يحبب إليه لقاء الله، أن يركن إلى هذه الحياة، أن يتمنى البقاء فيها، وأن لا يسهل عليه القضاء الذي يقع عليه، فالمؤمن دعا له: (وأقلل له من الدنيا)، وغير المؤمن: (وكثر له من الدنيا)، سبحان الله! يدعى للمؤمن بقلة المال من قبل حبيبنا عليه الصلاة والسلام، ويدعى للكافر بكثرة المال من قبل حبيبنا عليه الصلاة والسلام.. لم؟ قلنا: هذا ينبغي أن نفهمه على حسب التوجيه المتقدم، فأكثر الناس إذا جاءتهم الأموال وقعوا في الضلال، أما قال الله جل وعلا وهذا من رحمته بنا في سورة الزخرف: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35]، الله جل وعلا من هوان الدنيا عليه يعطي الكافر فيها هذه النعم، لكن خشية أن يكفر المؤمن إذا أعطى الله لمن كفر به هذه النعم قال الله: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ [الزخرف:33]: وهي الدرج، عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا [الزخرف:33-35]: من ذهب، هذه لمن كفر بالرحمن يجعل له هذه الزينة في هذه الحياة، سقف من فضة ودرج من فضة، وأبواب من فضة وذهب، وبيوت من ذهب، كل من كفر بالله يعطيه الله هذا لهوان الدنيا على الله عز وجل فلا تساوي جناح بعوضة، يقول الله: لو كل من كفر بي أعطيته هذا لكفر المؤمنون، فرحمة بالمؤمنين ما أعطيت للكافرين هذا، وإلا كان ينبغي أن أعطي لكل من كفر بي هذا النعيم في هذه الحياة لأنها لا وزن لها ولا اعتبار عند رب الأرض والسماوات.
لو كان الإنسان فقيراً يبقى هو وزوجته فقط، وإذا مرضت هو يكنس البيت ويغسل الثياب، أحسن من أن يخسر دينه وعرضه وعفته وأسرته وأولاده، إذا كان المال سيجرنا إلى ذلك الضلال فوالله إن الفقر أسلم بكثير.
إخوتي الكرام! لابد من وعي هذا، فالمال لا يذم لذاته، لكن يذم استعماله عند أكثر الناس، أكثر الناس لا يحسنون التصرف فيما يأتيهم من خيرات وبركات، ولذلك إذا قل المال عندهم في هذه الدنيا فهذا أسلم لدينهم، وأهدأ لبدنهم، يعمل في النهار ثم يأتي في الليل وهو مستريح وانتهى الأمر، كان الناس قبل وجود وسائل الإفساد التي عمت البيوت في هذه الأيام، بعد العشاء ما ترى أحداً يمشي في الشارع، كل واحد جلس في بيته ذكر الله ثم نام مع أهله في منتهى الهناء والصفاء، هي تعاشره وهو يعاشرها عن طريق ما أحل الله، أما الآن فقد جلس الزوجان والأولاد يتابعون المسلسلات التي ستلقيهم في أسفل الدركات إلى آخر الليل، فلا هي تمتعت به ولا هو تمتع بها، كل واحد جلس يتمتع بهذه الصور المحرمة.
وانظر الآن لمن يأتي إلى المساجد، تأملهم في صلاة الفجر خاصة، تسعون بالمائة على أقل تقدير يأتون وحالهم كما قال الله: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، قال الضحاك : من سكر النوم لا من سكر الشراب. وقوله مردود كما قال أئمتنا، لكن المعنى صحيح، الضحاك انفرد به وقال: وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، أي: من سكر النوم، يعني يأتي وهو نعسان، تراه عندما يصلي السنة يتثاءب أربعين مرة، ثم لا يعي ما قرأ الإمام وهو في تثاقل، لكن ماذا يعمل، فلا زال العرف يجبره أن يحضر صلاة الفجر، وإذا تغيب ستقع مشكلة، ثم انظر للشباب الهابط، عندما يدخل مباشرة يتكئ على درج المصاحف أو على غيره وينام، ولا يصلي السنة، وأحياناً يسمع منه صوت الحدث وهو نائم، وقد سمعت ذلك مراراً بأذني.
وهو حقيقة معذور -إخوتي الكرام- لأن الذي سهر إلى الساعة الواحدة كيف سيستيقظ الساعة الثالثة ليؤدي صلاة الفجر؟ هذا لا يمكن إلا إذا خرق الله له العادة وجعله صاحب كرامة، فكان الناس ينامون في هناء وفي صفاء وكل واحد مع زوجته في منتهى السرور، هو يشعر بها وهي تشعر به، كل هذا فقد بواسطة المال.
حقيقة لو بقينا على فقرنا لكان أحسن لنا.
والحديث رجاله ثقات أثبات من أئمة الهدى والخير والرشاد، لكن اختلف فقط في عمرو بن غيلان هل هو صحابي أو لم ير النبي عليه الصلاة والسلام؟ ولذلك قال أئمتنا: هو مختلف في صحبته، له حديث في سنن ابن ماجه وهو هذا، وقال الإمام السيوطي في الحاوي في الجزء الأول صفحة خمس وسبعين وثلاثمائة: سنده صحيح إن صحت صحبة غيلان ، وإذا لم تصح فهو مرسل. وتقدم حديث فضالة وهو يشهد له، والحديث المرسل تقدم معنا عند الجمهور أنه حجة بنفسه، يقول: سنده صحيح إن صحت صحبة عمرو بن غيلان . فهو إذن متصل وليس هناك كلام على راوي من الرواة.
ثم قال الإمام السيوطي في الحاوي: وقد روى الديلمي ما يشهد له من رواية فضالة ، وقد تقدم معنا، ومن رواية معاذ ، وسأذكره، وهو الحديث الثالث إن شاء الله، وقال الإمام ابن حجر في الإصابة: وابن الأثير في أسد الغابة ذكره -أي: عمرو بن غيلان - من الصحابة، وأخرج هذا الحديث في ترجمته البغوي والعسكري وابن أبي عاصم رضوان الله عليهم أجمعين، وخلاصة الكلام: إن كان عمرو بن غيلان صحابياً فالحديث صحيح متصل، وإذا كان من التابعين فالحديث مرسل، ويشهد له حديث فضالة ، وعلى الحالتين فهو حديث صحيح.
الحديث الثالث: الذي بمعناه: هو حديث معاذ ، وأشار إليه السيوطي رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير، وابن عدي والإمام البيهقي في شعب الإيمان وانظروا مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة خمس وثمانين ومائتين من رواية معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( اللهم من آمن بي وصدقني وعلم أن ما جئت به هو الحق فأقلل له ماله وولده وعجل قبضه، من لم يؤمن بي ولم يشهد أني رسولك ولم يعلم أنما جئت به هو الحق من عندك فأكثر له ماله وولده وأطل عمره )، والحديث كما قلت: في معجم الطبراني وغيره، لكن فيه عمرو بن واقد ، قال الإمام الهيثمي في المجمع: متروك، وكذلك قال الإمام ابن حجر في التقريب: وهو من رجال الترمذي وسنن ابن ماجه ، ويغني عنه حديث فضالة وحديث عمرو بن غيلان كما تقدم معنا.
وبمعنى هذه الأحاديث وردت عدة أحاديث أخرى نذكرها أخوتي الكرام إن شاء الله على وجه الاختصار في أول الموعظة الآتية بعون الله، ثم أنتقل إلى بيان كيفية معاملة نبينا عليه الصلاة والسلام لأهله الكرام في تلك الحجر المتواضعة على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيراً.
اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب الأرض والسماوات.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر