إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء [6]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بدعة القول بالقدر تنقسم إلى قسمين: القدرية الغلاة الذين يزعمون أن الله لم يقدر شيئاً، والقدرية المعتزلة الذين يزعمون أن الله لم يقدر الشر ولا أراده، وقد أبطل علماء السلف هذه الضلالة، ومما أوقع المعتزلة في هذه الضلالة: عدم تفريقهم بين الإرادة الكونية والشرعية، وقد قابل المعتزلة الجبرية فألغوا الإرادة الشرعية وقالوا: كل ما يفعله العبد فهو طاعة! لأنه تنفيذ لإرادة الله! ومن أعظم أسباب انتشار بدعة المعتزلة ثلاثة أمور: اتصال قادتها برجال الحكم، وفصاحة أئمتهم، وتعاون المعتزلة فيما بينهم.

    1.   

    أقسام القدرية

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    لا زلنا في مدارسة الباب الرابع من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي -رحمة لله-، وكنا نتدارس الرجال الذين ذكرهم في أسانيد حديثه في هذا الباب، وكنا نتدارس ترجمة هشام الدستوائي ، وتقدم معنا أنه ثقةٌ ثبت لكنه رمي بالقدر، وقد خرج حديثه أهل الكتب الستة، وهذه البدعة أعني: بدعة القول بالقدر قلت: لا بد من أن نتكلم على أقسامها، وأن نبين حكم كل بدعةٍ وحكم من يقول بكل نوعٍ منها، فإذا انتهينا منها ننتقل بعد ذلك إن شاء الله إلى حكم رواية المبتدع، ومتى تقبل ومتى ترد بعون الله جل وعلا.

    وقد تقدم معنا أن بدعة القول بالقدر تنقسم إلى قسمين:

    القسم الأول قلنا: بدعة القدرية الغلاة، وهم الذين قالوا: إن الله لم يقدر شيئاً، ولا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها، وقلت: إن هذه البدعة جاءت عن طريق النصارى، فأول من دعا إليها في الإسلام نصراني أظهر الإسلام يدعى: سوسن ، ثم انتقلت إلى معبد الجهني ، ثم إلى غيلان الدمشقي ، وبينت أن كل واحدٍ من معبد وغيلان قتل، وبعد مقتل غيلان زالت هذه البدعة من بلاد الإسلام، ولم يبق قائلٌ بهذه المقالة الضالة والحمد لله.

    القسم الثاني: القدرية المعتزلة، وأصلها أن بدعة الغلو في القدر تحولت وتغيرت عن شكلها القديم، فتبنتها المعتزلة، وخلاصة قولهم: أن العباد مستقلون بأفعالهم، وأن الله قدر الخير وأراده، لكنه لم يقدر الشر ولم يرده، فيقع الشر من العباد من غير تقدير من الله! هذا خلاصة قول المعتزلة في القدر، ولذلك قال شيخ الإسلام الإمام ابن حجر في هدي الساري في مقدمة شرحه لصحيح البخاري في صفحة تسعة وخمسين وأربعمائة في بيان بدعة القدرية، قال: هذه الفرقة تزعم أن الشر فعل العبد وحده، أي: بدون تقدير الله جل وعلا، ثم ذكر من رموا بالقدر من رواة الحديث فذكر منهم هشاماً الدستوائي ، الذي وافق المعتزلة في هذه البدعة ولم يكن معتزلياً.

    وتقدم معنا أنه لا يقع شيءٌ إلا بعد مشيئة الله وإرادته وتقديره، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، من خيرٍ أو من شر.

    1.   

    بطلان مذهب المعتزلة القدرية

    كلام المعتزلة لا شك في بطلانه، والفرق بينهم وبين الغلاة أن غلاة القدرية نفوا علم الله بالأشياء، أما هؤلاء فقالوا: الله يعلم كل شيء قبل وقوعه من خيرٍ أو شر، لكنه قدر الخير وأراده وأمر به، ولم يقدر الشر ولم يرده ولم يأمر به، ولو أنكروا علم الله بالأشياء قبل حدوثها لالتحقوا بالفرقة الأولى وكفروا؛ لأن في ذلك إنكاراً لعلم الله جل وعلا! والله بكل شيءٍ عليم.

    قاعدة الشافعي في إبطال مذهب المعتزلة القدرية

    هذه الفرقة قولها باطلٌ قطعاً وجزماً، لكنه مع بطلانه أخف ضلالاً من قول القدرية الغلاة، ولذلك قال إمام المسلمين في زمنه أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي عليه رحمة الله: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، معنى كلامه: إن الخلاف بيننا وبين القدرية المعتزلة يسير، والوصول إلى الحق غير عسير، فنقول لهم: هل تؤمنون بأن الله يعلم الأشياء قبل وقوعها؟ فيقولون: نعم، فنقول: أخبرونا هل يمكن أن يقع في ملك الله خلاف ما علمه الله؟ فإن منعوا وقالوا: لا يمكن أن يقع في ملك الله إلا ما علمه الله، فهذا هو قول أهل السنة، وإن قالوا: يقع في ملكه ما لم يعلمه فقد أنكروا صفة العلم! ولا تطيلوا معهم الكلام، ولكن ناظروهم بصفة العلم، فإن أقروا به خصموا، أي: إذا قالوا: لا يمكن أن يقع شيءٌ في هذه الحياة إلا على حسب علم رب الأرض والسموات، وعليه فإن من عصى الله علم الله منه المعصية، وهذا العلم لا شك يستلزم التقدير، فإذا كان الأمر كذلك فقد بطل قولهم، وقد أسلفنا أنهم يقرون بالعلم، فنقول لهم: هل يمكن أن يقع في ملك الله خلاف ما علمه الله؟ فإن قالوا: لا يمكن، ولا يقع إلا ما علمه الله، نقول: إذاً أفعال العباد مقدرة، وسبق بها تقدير الله جل وعلا، وإن قالوا: يمكن أن يقع خلاف ما علمه الله فقد أنكروا علم الله بما وقع مما لا يعلمه على حسب تعبيرهم الثاني، وهذا هو الكفر، فهذا معنى قول الشافعي: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، وواقع الأمر كذلك.

    مناظرة إبي إسحاق الإسفراييني لعبد الجبار المعتزلي

    ومقالة هذه الفرقة يرد عليها بسهولةٍ ويسر، ولذلك عندما اجتمع شيخ الإسلام في زمنه أبو إسحاق الإسفراييني وهو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم ، توفي سنة ثمان عشرة وأربعمائة للهجرة، عندما اجتمع مع إمام معتزلة زمانه عبد الجبار المعتزلي، توفي سنة خمس عشرة وأربعمائةٍ للهجرة، بين وفاتيهما ثلاث سنواتٍ، والمعتزلة إذا قالوا: قال قاضي القضاة فلا يريدون به إلا عبد الجبار المعتزلي، قال عنه أئمتنا كما ذكر ذلك ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب: عمر دهراً بغير سنة، -نسأل الله العافية والسلامة- أي: عمر وامتدت حياته لكن في بدعةٍ وضلالة، وهو صاحب كتاب المغني في عشرين مجلداً في التفسير والأصول، اجتمع مع إمام أهل السنة أبي إسحاق الإسفراييني فقال عبد الجبار معرضاً بمذهب أهل السنة لا مصرحاً: سبحان من تنزه عن الفحشاء، ويريد بذلك سبحان من تنزه عن تقدير السوء، وعن القضاء به، وعن إرادته! فقال أبو إسحاق : كلمة حقٍ أريد بها باطل، سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء، لسان حاله: أنت تعرض ونحن نعرض، وتعريضنا يدمغ تعريضك، أنت تكلمت بحق، لكن تريد باطلاً، نعم.. الله تنزه عن الفحشاء، لكن ليس في قضائه وقدره فحشاء كما تزعم، سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.

    فقال عبد الجبار : أفيريد ربنا أن يعصى؟ فقال أبو إسحاق : أفيعصى ربنا مكرهاً؟! يعني: أأنت الرب وهو العبد؟ أتفعل المعصية جبراً على ربك دون تقديرٍ منه وإرادةٍ لذلك، فقال عبد الجبار : أرأيت إن قضى عليّ بالردى ومنعني من الهدى، أحسن إليّ أم أساء؟ قال: إن كان الذي منعك ملك لك فقد أساء، وإن كان ملكه فهو الذي يفعل ما يشاء، فبهت عبد الجبار وما استطاع أن يتكلم بعد ذلك.

    بطلان قول المعتزلة عند عوام المسلمين

    إذاً: قول المعتزلة: إن الله لم يقدر الشر ولم يرده، وأفعال العباد تقع بناءً على محض اختيارهم دون تقدير الله عليهم، قول باطل معلوم بطلانه، يعني عند عوام المسلمين فضلاً عن علمائهم.

    فقد روي أنه جاء أعرابي مرةً إلى عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة في زمانه وهو المؤسس الثاني لمذهب الاعتزال، فقال: أبا عثمان! إن حمارتي قد سرقت، فادع الله أن يردها عليّ، فرفع أبو عثمان عمرو بن عبيد يديه وقال: اللهم إن حمارة الأعرابي سرقت وأنت لم ترد سرقتها -على مذهبهم بأن الله لم يقدر الشر ولم يرده- فارددها إليه، فالأعرابي بكل بساطةٍ وسهولةٍ قال: يا شيخ السوء! كف عن دعائك الخبيث، إذا لم يرد سرقتها وقد سرقت فقد يريد ردها ولا ترد! يعني: إذا كان العبد يفعل شيئاً دون تقدير الله فقد يريد الله إعادة الأشياء المسروقة إلى صاحبها والعبد لا يريد فلا تعود، يعني: أن قوة العبد أقوى من قوة الرب، إذاً: لم نلجأ لهذا الإله الذي يقع في ملكه أشياء بغير تقديره.

    قاعدة المحدث الشكلي في إبطال مذهب المعتزلة

    وهذا قول المعتزلة قطعاً باطل، وأنا أعجب لعقول المعتزلة، ولعقول من ضل في هذه المسألة أيضاً من الأئمة ومن رواة الحديث، ولذلك كان بعض أئمتنا وهو أبو الفضل العباس بن يوسف الشِكلي بكسر الشين، وهو من العلماء الربانيين، توفي سنة أربع عشرة وثلاثمائةٍ للهجرة، وهو من شيوخ الإمام الرامهرمزي، ذكره في كتاب المحدث الفاصل، وانظروا ترجمته في تاريخ بغداد في الجزء الثاني عشر صفحة أربعٍ وخمسين ومائة، وكان يقول هذا العبد الصالح: إذا رأيت الرجل مشتغلاً بالله فلا تسأل عن إيمانه، وإذا رأيت الرجل منشغلاً عن الله فلا تسأل عن نفاقه، والأمر كذلك، فالرجل المشتغل بالله في صلاةٍ وصيامٍ وذكرٍ وعبادة، لا داعي أن تسأل عن إيمانه هل هو مؤمن أو لا؟

    جاء مرةً بعض الضالين الزائرين إلى مسجدٍ كنت فيه ولم يصلوا معي، فلما انتهيت قلت: لم لا تصلوا؟ قالوا: لا نعلم أمؤمن أنت أو كافر، قلت: ترون أنني بكنيسة أو في مسجد في بيتٍ من بيوت الله؟ قال عثمان: من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته، وإذا رأيت الرجل مشتغلاً عن الله ومنشغلاً عنه فلا تسل عن نفاقه، فإنه واضح أمره؛ لأنه منهمك في المعاصي والشهوات والضلالات والمنكرات، فماذا تريد بعد هذه البينة من بينة؟ فالشاهد منه وفيه كما يقولون، وهنا شاهده منه وفيه على أنه منافق، والأول شاهده منه وفيه على أنه مؤمن، لأنه مشتغل بالله، وهذا مشتغل عن الله، هذا من كلام أبي الفضل العباس بن يوسف الشكلي .

    يقول هذا الإمام الصالح كما نقل عنه ذلك الإمام الآجري في الشريعة، في صفحة أربعٍ وأربعين ومائتين: أمران يقطع بهما المعتزلي، لا تزد في الكلام معه، قل له: هل قدر الله على هداية الكافر والعاصي فلم يرد، أو أراد فلم يقدر؟ هذا كما قال الشافعي: ناظروا القدرية بالعلم، إن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كفروا، ويقول الإمام الشكلي: قل للمعتزلي: هل قدر الله على هداية فرعون فلم يرد هدايته؟ أو أراد هدايته فلم يقدر؟ أمران لا ثالث لهما، فإن قال: قدر الله على هدايته لكن ما أراد، قل: فمن يهديه من بعد الله، وإن قال: أراد الله هدايته وعجز لم يقدر على هدايته! فقل: لا يشك أحداً أنك كفرت بالله العظيم، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس:99]، قدر فلم يرد أو أراد فلم يقدر حدد الجواب، إن قال: قدر على هداية الكفار، لكن لم يرد هدايتهم كل ذلك لحكمةٍ يعلمها ولا نعلمها سبحانه وتعالى، فقل: فمن يستطيع أن يهدي من لم يرد الله هدايته؟ وإذا قال: أراد فلم يقدر! أعوذ بالله من هذا، فهذا هو الكفر البواح، أراد الله هداية الكفار لكن عجز وهم غلبوه وكفروا، فلا يشك أحدٌ أن قائل هذا كفر بالله العظيم.

    هذا هو قول المعتزلة، وهذا باختصار الرد عليهم وإبطال كلامهم، وإذا أردتم أن تنظروا المناظرة التي جرت بين أبي إسحاق الإسفراييني وبين القاضي عبد الجبار فانظروها في طبقات الشافعية الكبرى، في الجزء الرابع صفحة واحدة وستين ومائتين، وانظروها في مجموع الفتاوى للإمام ابن تيمية في الجزء الثامن عشر صفحة أربعين ومائة، وانظروها في فتح الباري في الجزء الثالث عشر صفحة واحد وخمسين وأربعمائة، وذكرها شيخنا محمد الأمين الشنقيطي عليه رحمة الله في دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب.

    1.   

    موقف المعتزلة من الإرادة

    إن القدرية المعتزلة ضلوا بسبب أمرٍ اشتبه عليهم ألا وهو إرادة الله، وإرادة الله تنقسم إلى قسمين: إرادة دينية شرعية، وإرادة كونية قدرية، فالمعتزلة سووا بينهما، وألغوا الإرادة الكونية القدرية، وجعلوا الإرادتين نوعاً واحداً وهي إرادة شرعية دينية، فقالوا: لا يريد الله إلا ما يحبه ويرضى عن فاعله، وعليه فالمعاصي ما أرادها الله، وإذا لم يردها فهي تقع في استقلال من العباد دون تقديرٍ من الله عليهم، وهذا ضلال؛ لأن الله جل وعلا قد أشار إلى الإرادتين في كتابه، وهكذا الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام تواترت بالأمرين، ولا يلزم من إرادة الله المعاصي أنه يحبها، وأنه أمر بها، كما أنه لا يلزم من إرادة الله الطاعات أن توجد، فقد توجد وقد لا توجد كما سيأتينا، والإرادة الكونية القدرية لا بد من وجودها، لكن لا يلزم منها محبة الله، والإرادة الشرعية الدينية تساوي الأمر والنهي تماماً، لكن لا يلزم كما قلنا وجودها، فقد توجد وقد تتخلف، نعم إذا وجدت أحب الله فاعلها، فالقدرية سووا بين الأمرين: ألغوا الإرادة الكونية القدرية، وجعلوا الإرادتين إرادة واحدة، وهذا باطل، والآن نذكر الإرادتين وتعريفهما، ودليلاً شرعياً على كلٍ منهما باختصار.

    الإرادة الشرعية الدينية

    الأولى: الإرادة الشرعية الدينية التي يحبها الله، ويرضى عن فاعلها، وهي ترادف الأمر والنهي، أي: هي شرع الله الذي أمر به، وقد يوجد مقتضاها وقد يتخلف، فإن وجد المقتضى أحب الله جل وعلا من قام بهذه الإرادة، وإن تخلى العبد عنها عاقبه، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أي: ما خلقتهم إلا لهذه الإرادة، فقد أردت منهم عبادتي، ولكن واقع الأمر أن أكثر الخلق لم يعبدوا الخالق جل وعلا، بل أشركوا به، ولم يعبده إلا واحد من الألف، وتسعمائة وتسعة وتسعون مشركون يصيرون إلى جهنم حطباً كما ثبت ذلك في الصحيحين، فقوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:56-57]، هذه إرادة شرعية دينية يحبها الله، ويرضى عن فاعلها، وأمر بها فإن وجدت حصل الثواب وإلا حصل العقاب، وقد توجد وقد تتخلف، فلا يلزم وجودها؛ لأن الإرادة الدينية تساوي الأمر، إذاً ما خلقتهم إلا ليعبدون، أي: إلا لآمرهم بعبادتي وترك معصيتي فقط، ومثله قول الله في سورة النساء: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64].

    (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي: ما أرسلنا إلا بهذه الإرادة الشرعية الدينية، ولو كانت إرادة كونية قدرية لما وجد مشركٌ على وجه الأرض، وما أرسلنا من رسولٍ إلا إرادة طاعة، أي: أردنا من الناس أن يطيعوه، إرادة دينية، قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]، فهذه إرادة دينية شرعية، قد يوجد مقتضاها وقد يتخلف.

    وقد ثبت في المسند والحديث في الصحيحين من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذاباً يوم القيامة: أرأيت لو كانت لك الدنيا ومثلها معها، أكنت مفتدياً بها نفسك من العذاب في هذا اليوم؟ فيقول هذا العبد الخاسر الذي هو في النار: نعم ربي، لو كنت أملك الدنيا وما عليها ومثلها معها لافتديت نفسي، فيقول الله له: قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، أردت منك ألا تشرك بي وأنت في صلب أبيك آدم فأبيت إلا الشرك )، أي: أردت منك هذا، وأخذت عليك العهد وأنت في صلب أبيك آدم أن توحدني، وأن تعبدني، فأبيت عندما خلقتك في هذه الحياة إلا الشرك، فما المراد من أردت منك؟

    المراد إرادة شرعية، أردتك وأمرتك بذلك لكنك انحرفت وأبيت إلا الشرك، ( أردت منك ما هو أهون من ذلك)، أي: لم أرد منك الدنيا ولا ما عليها، ولا مثلها معها، وإنما أردت منك ألا تشرك بي، وأخذت عليك العهد بهذا، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:172-174]، هذا العهد أخذ علينا، والله أراد منا أن نوحده، وألا نشرك به شيئاً، إرادة شرعية، يحبها الله ويرضى عن فاعلها، وقد يوجد مقتضاها وقد يتخلف.

    الإرادة الكونية القدرية

    الإرادة الثانية: إرادةٌ كونيةٌ قدريةٌ وهي مشيئة الله العامة، وإرادته النافذة، التي لا يتخلف مقتضاها، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، تكون فيما يحبه الله ويرضى، وفيما يسخطه ويبغضه على حدٍ سواء، لا يوجد شيء في الكون إلا بإرادة الله ومشيئته، وقد يكون محبوباً، وقد يكون مكروهاً، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149]، وسيأتينا بعد نهاية هذا النوع من الإرادة أنه لا قصر في ذلك على الإطلاق، بل تكون فيما هو محبوب، وفيما هو مكروه، في الخير وفي الشر، هذه الإرادة الثانية أشار الله إليها في كثيرٍ من الآيات، فلا يصح إلغاؤها، يقول الله جل وعلا في سورة البقرة: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]، (لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم)، (لو شاء الله ما اقتتلوا)، إذاً شاء الله لهم أن يقتتلوا، وهذا الاقتتال مكروه، لكن شاءه الله وقدره وأراده: لا يلزم من وقوعه أنه رضيه وأحبه إنما قدره وقضاه وأراده، فلا يقع شيءٌ في ملك الله إلا بمشيئته وتقديره وتدبيره سبحانه وتعالى، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253].

    إذاً: قدر الله هذا وشاءه، ولكنه يبغضه ويكرهه ويعاقب فاعله، وقد حذره منه ونهاه عنه، وأرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وأعطاه عقلاً، لكنه لا يقع شيءٌ في ملك الله إلا بتقدير الله ومشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، وهكذا قول الله جل وعلا: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، (فمن يرد الله أن يهديه)، الإرادة هنا كونية قدرية، فإذا قدر الله لك الهداية هيأ لك أسباباً وشرح صدرك، (يشرح صدره للإسلام)، يعرض عليك الإسلام فتراه أحب إليك من الماء البارد في اليوم القائظ، اللهم اشرح صدورنا للإسلام، ولاتباع نبيك عليه الصلاة والسلام بفضلك ورحمتك يا ذا الجلال والإكرام.

    (ومن يرد أن يضله)، إرادةً كونيةً قدرية، (يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء)، هذه إرادة لا يجوز إلغاؤها، فجاء المعتزلة وألغوها ولم يعتبروا إلا الإرادة الدينية الشرعية فقط، وقالوا: لا يقع في ملك الله ما لا يحبه الله ولا يرضاه، والآية تدل على بطلان هذا، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، فليست هذه إرادة دينية، بل هي إرادة كونية قدرية فكيف تلغى، وقد دل القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام على تنوع إرادة الرب، منها كونية قدرية، ومنها دينية شرعية، فلا يجوز أن نلغي الكونية القدرية، كما لا يجوز أن نلغي الدينية الشرعية.

    1.   

    مقابلة الجبرية للقدرية والرد عليهم

    وقد قابل المعتزلة فرقة الجبرية فألغوا الإرادة الدينية الشرعية، وقالوا: كل ما يفعله العبد يعتبر طاعةً للرب؛ لأنه ينفذ إرادة الله، وإذا نفذ إرادة الله فهو مطيعٌ له، وعليه فالزاني كالمصلي؛ لأن هذا حقق إرادة الله، وهذا حقق إرادة الله، نعوذ بالله من هذا الضلال! نعم كل منهما بتقدير الله، لكن الله يحب الصلاة وأمر بها، ويكره الزنا ونهى عنه، وإن فعلت هذا وهذا فكل ذلك بقدر الله وتقديره، وعلمه ومشيئته وإرادته سبحانه وتعالى، ولا يقع شيءٌ في ملكه بغير إرادته، ولا يلزم من هذا إجبارٌ ولا إكراه، لا على طاعةٍ ولا على معصية.

    تخيير العبد وتسييره

    أنت في حياتك لك حالتان اثنتان لا تخرج عنهما:

    الحالة الأولى: حالةٌ لا اختيار لك فيها بوجهٍ من الوجوه، وهي ما ليس عليك فيه تكليف، ولا ثواب فيه ولا عقاب، نحو: خلقكَ ذكراً، وخلقك أنثى، هل لأحد اختيار فيه؟ ليس لك ثواب على ذكوريتك، وليس عليها عقوبة على أنوثتها، وكونك جميلاً، وكونك غنياً وكونه فقيراً، وكونك من العرب، وذاك من العجم، هذا كله لا وزن له عند الله، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، والتقوى عملٌ اختياري، إذاً الحالة التي لا اختيار لك فيها بحيث تقع منك أو عليك بغير اختيارك فهذه أنت مجبورٌ فيها ولا ثواب لك فيها ولا عقاب، إلا إن جرى منك فعلٌ اختياري نحو هذه الصفة التي أجبرت عليها بغير اختيارك؛ فتثاب وتعاقب، مثلاً: رجل خلق ذكراً فكره هذا، وقال: رب لو خلقتني أنثى، أنت ما عدلت حين خلقتني ذكراً! يعني: أنا أستحق أن أكون أنثى، ولكنك خلقتني ذكراً! فهذا معترض على قضاء الله فمصيره جهنم، وتلك خلقت أنثى فاعترضت على ربها وقالت: لم جعلت إخوتي ذكوراً وجعلتني أنثى؟! ما عدلت بيني وبين إخوتي. وهذه كذلك مصيرها لجهنم لاعتراضها على قضاء الله، لكن في الأصل لا ثواب ولا عقاب على الذكورة ولا على الأنوثة، فنهينا أن نتمنى ما فضل الله به بعضنا على بعض، ولا يتمنى الرجل أن يكون امرأةً، ولا المرأة أن تكون رجلاً وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32].

    إذاً: هذه حالةٌ لا اختيار لك فيها، بل أنت مجبورٌ فيها ومسير، لا إرادة لك ولا مشيئة، لا لك ولا لغيرك، هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ [آل عمران:6].

    الحالة الثانية: لك فيها اختيار ومشيئة وإرادة، وهي ما أمرت به أو نهيت عنه، وباختصار: هي التكليف الذي كلفت به، فلك فيه اختيار، لكن لا يمكن أن يخرج اختيارك عن تقدير الله فهذا موضوعٌ آخر، لأنك الآن تسأل عن فعلك لا عن فعل ربك، فهل صلاتك وسرقتك لكونك ذكراً؟ إن كونك ذكراً لا اختيار لك فيه، ولا يمكن أن تغير الذكورة، لا أنت ولا أهل الأرض معك، لكن الصلاة بإمكانك أن تصلي وتجاهد نفسك، وبإمكانك أن تترك الزنا وتجاهد نفسك، والزاني عندما زنى هل جاءه أحد إلى بيته وسحبه منه وأخذه إلى امرأةٍ عارية، وألقاه عليها، ثم كبسه عليها بحيث حصل الزنا؟! لو وقع هذا لما كان عليه إثم؛ لأنه لا اختيار له فيه، ولكن واقع الأمر أن الزاني تراه يتجسس ويتلصص ليل نهار حتى يتيسر له الزنا، فقد بذل من الجهد ما يفتت الجبال من أجل وصوله إلى الزنا، هذا اختيار وذاك اختيار، وهذا الذي جاء لشهود صلاة الفجر في المسجد له اختيار وأي اختيار، نفسه تريد منه أن ينام في الفراش الدافئ في الشتاء البارد فقام وجاهد نفسه وتوضأ ثم مشى في الزمهرير -كما يقال- من أجل أن يشهد صلاة الفجر، هذا له اختيار قطعاً، إذاً أنت تثاب وتعاقب على اختيارك، لكن هذا الاختيار علمه الله وأراده وقدره في الأجل وهذا من مقتضى ربوبيته، ولو كان لا يعلم شيئاً إلا بعد وقوعه لما صح أن يكون إلهاً، فأنا أعلم بعد عملك ماذا عملت، إذاً نقول: إن الله قدر الأشياء قبل وقوعها، وليس في ذلك التقدير قسرٌ ولا إكراهٌ ولا إجبار.

    اختيار العبد لا يخرج عن تقدير الله

    فلنا اختيارٌ ولا شك، لكن اختيارنا لا يخرج عن تقدير ربنا جل وعلا، بل ينتهي سعي العالم من أولهم إلى آخرهم في آيتين من كتاب الله، الآية الأولى في سورة الإنسان الدهر: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30]، وفي سورة التكوير في آخرها: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:28-29]، إذاً: هاتان الآيتان سعي العباد عندهما مرتبط بتقدير ومشيئة وإرادة العزيز القهار سبحانه وتعالى، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

    ولذلك قال شيخ الإسلام الإمام الشافعي عليه رحمة الله أبياتاً لطيفةً في هذا الأمر، قال عنها الإمام ابن عبد البر في كتابه الانتقاء في تراجم الأئمة الثلاثة الفقهاء في صفحة ثمانين: هي أثبت ما روي عن الشافعي ، وأصح ما نقل عنه، وهي أثبت شيءٍ في الإيمان بالقدر، ونقل هذه الأبيات الإمام البيهقي في السنن الكبرى في الجزء العاشر صفحة ستٍ ومائتين، كما نقلها في كتابه الاعتقاد في صفحة اثنتين وسبعين، ونقلها أيضاً في كتاب الأسماء والصفات صفحة اثنتين وسبعين ومائة، ونقلها في مناقب الشافعي أيضاً في الجزء الأول صفحة اثنتي عشرة وأربعمائة، فهذه عدة كتب للإمام البيهقي فقط، وهي منقولة في كثيرٍ من كتب أئمتنا، وهذه الأبيات يقول الإمام الشافعي فيها:

    ما شئت كان وإن لم أشأ وما شئت إن لم تشأ لم يكن

    خلقت العباد على ما علمت ففي العلم يجري الفتى والمسن

    على ذا مننت وهذا خذلت وهذا أعنت وذا لم تعن

    فمنهم غنيٌ ومنهم فقيرٌ ومنهم قبيحٌ ومنهم حسن

    ومنهم شقيٌ ومنهم سعيدٌ وكل بأعماله مرتهن

    فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا تكن كحال المغفل السقيم العقيم، الذي خرج ليشتري حمارةً فقال: إلى أين؟ قال: لأشتري الحمارة، قيل له: قل: إن شاء الله، قال: الفلوس في جيبي وسوق الحمير معروف، فلا داعي لقول: إن شاء الله! فذهب إلى السوق وساوم على حمارة، وبعد أن اتفق على شرائها مد يده إلى جيبه فوجد الفلوس قد سرقت، فرجع من غير حمارة، وبينما هو على الطريق قيل له: أين الحمارة؟ قال: ما اشتريتها إن شاء الله، الآن تقولها! لو قلتها من البداية: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [الكهف:23-24].

    1.   

    الأصول الخمسة عند المعتزلة

    لقد وصل الشطط ببعض عتاة المعتزلة وهو ثمامة بن أشرس ، ضالٌ مضل، هلك سنة ثلاثٍ وسبعين ومائتين للهجرة، وله مخازي كثيرة لا أريد أن أذكر شيئاً منها في هذا الشهر الكريم، كان يقول: لا يجوز أن نقول: إن الله خلق الكافر، لأننا إذا قلنا: إن الله خلقه فهذا يعني أن الله قدر الكفر فيعطل مذهب المعتزلة، بل نقول: خلق الله المؤمنين، ونسكت عن الكفار! وانظروا هذه الضلالة وضلالات كثيرة له في ترجمته في لسان الميزان للحافظ ابن حجر .

    نقول لهذا الجاهل: الصحابة كلهم كانوا على ضلالة ثم هداهم الله، فقبل أن يؤمنوا من خلقهم؟ هو يقول: المؤمن خلقه الله؛ لأن هذا حسنٌ يضاف إلى الله، أي: رضيه وأحبه إرادة شرعية دينية يحبها، أما الإرادة الكونية القدرية فهو ينكرها، وهذا ضلالٌ إخوتي الكرام ما بعده ضلال.

    هذه الضلالة -ضلالة القول بالقدر- قال بها المعتزلة وأتوا بضلالات كثيرة غيرها، فركبوا بعد ذلك ضلالة إنكار الأسماء والصفات، وهي التي يسمونها بالتوحيد، وتوحيدهم توحيد تعطيل كما يقول أئمتنا، ثم ركبوا بعد ذلك ضلالة الوعد والوعيد، وهو أنه يجب على الله أن يعاقب العاصي، ولا يجوز أن يغفر له، ثم ركبوا بعد ذلك ضلالة أخرى وسموها المنزلة بين المنزلتين وهي أن من فعل كبيرةً خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر! ولكن مخلدٌ يوم القيامة في النيران، ثم ركبوا ضلالةً أخرى وهي آخر ضلالاتهم التي يسمونها الأصول الخمسة، والتي شرحها عبد الجبار في كتابٍ يزيد على ألف ومائتي صفحة، كلها ضلالات، نقضوا بها أصول الإسلام، وهذه الأخيرة يسمونها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر هو في الحقيقة تفرقةٌ لكلمة المسلمين، وخروج بالسيف على أئمة الجور، ولو أدى ذلك إلى ضياع الأمة من أولها إلى آخرها.

    هذه الضلالات الخمس لم يقل بها كثيرٌ من الأئمة الذين رموا بالقول بالقدر، كـهشام الدستوائي ، فهو لا يقول: إن فاعل الكبيرة مخلد في النار، ولا يقول: ليس بمؤمن ولا كافر، إنما يقول: ما يقع من شر هو باختيار العباد وفعلهم دون تقدير الله عليهم، فهو على زعمهم في هذا الأصل يريدون أن ينزهوا الله عن تقدير السوء كما تقدم معنا في كلام عبد الجبار : سبحان من تنزه عن الفحشاء، وقلت: يترتب على هذا القول من جهة العقل عجز الرب! لأنه وقع في ملكه ما لا يريده، وأن إرادة العبد غلبت إرادة الرب، فدعونا من عقولنا وعقولكم، ولنلجأ إلى النصوص الشرعية التي صرحت بأن الله خالق كل شيء، قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96].

    وأما ما يفعله العباد فإنه مقدر عليهم، وهو مسطورٌ في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقوا، وعندما تنفخ الروح في الإنسان على رأس أربعة أشهر يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيٌ أو سعيد، ولا يلزم -كما قلت- من هذا التقدير قصرٌ وإجبار، فإن لك اختياراً تثاب وتعاقب عليه، وكل واحدٍ يميز بين فعله الاختياري وفعله الاضطراري، وهذا مما فطر الله عليه العباد، فالمرتعش يده تتحرك بغير اختياره، وإذا أراد أن يسكنها لا تسكن فحركتها اضطرارية، وأنت عندما تحرك يدك فباختيارك، وكلٌ منهما بتقدير الله، لكن المرتعش لا اختيار له وهنا لك اختيار، وكذلك عندما خلقت ذكراً فبتقدير الله، وعندما صليت فبتقدير الله، ولكن على ذكورتك لا تثاب ولا تعاقب، وعلى الصلاة تثاب إن فعلت، وإن تركت تعاقب، وكلٌ منهما بتقدير الله، وهذا مما فطر الله عليه الناس مؤمنهم وكافرهم، فأنت لك اختيار في الإرادة الدينية، وليس لك اختيار في الإرادة الكونية، فلا يجوز أن تلغي الإرادة الكونية القدرية، وتجعل الإرادتين إرادة شرعية دينية، كما فعل المعتزلة، كما لا يجوز بالمقابل أن تلغي الإرادة الدينية الشرعية، وتجعل الإرادتين إرادة كونية قدرية كما زعمت الجبرية حيث قالوا: كل ما يقع فهو مما يحبه الله ويرضاه؛ لأنه تنفيذٌ لإرادة الله جل وعلا، وهذا كلامٌ باطل، كما أن ذاك أيضاً كلامٌ باطل.

    1.   

    أسباب انتشار بدعة المعتزلة القدرية

    خلاصة بدعة القدرية المعتزلة أن الشر لم يقدره الله، وأن العباد يستقلون بأفعالهم من غير تقدير الله عليهم، وهذه البدعة تختلف عن بدعة القدرية الغلاة، لا أقول: من حيث الخسة والشناعة، بل من حيث الزوال والبقاء، فتلك تقدم معنا أنها زالت وانتهى أهلها، أما هذه فإنها رسخت، وضربت لها جذوراً إلى هذا اليوم، ونسأل الله أن يستأصلها وأن يزيلها، وأن يريح الأمة منها إنه على كل شيءٍ قدير، فبدعة القدرية المعتزلة ما أكثر من يقول بها! حتى إن مشايخ جاءوا بعض البلاد والجامعات التي لها شأن يقولون بذلك، وعلى تعبيرهم قالوا: ننزه الله عن الظلم، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، يصفون الله بنقيصةٍ وأنه يقع في ملكه ما لا يريده، ويسلبونه بعد ذلك إرادته ثم يقولون: ننزهه عن الظلم! وأي ظلمٍ أشنع من هذا الظلم الذي تعتدون به على الحكم العدل سبحانه وتعالى، وتنفون تقديره وتقولون: ننزهه عن الظلم! هذه البدعة اختلفت عن تلك، فراجت ورسخت لثلاثة أسباب:

    اتصال قادة المعتزلة بالخلفاء والأمراء

    أولها: اتصل قائلوها بالخلفاء والأمراء، واستمالوهم إليهم، والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، بعكس بدعة الغلاة التي قربت من الخلفاء والأمراء فاستؤصلت، وأما هذه فإنها دعمت من قبل الخلفاء والأمراء، وأول من تبناها المخذول المأمون الذي أفضى إلى ما قدم، وكما كان يقول أئمتنا: لم يغفل الله عن المأمون فهو أول من أحدث في هذه الأمة الإسلامية خرق البدعة، وعرض كتب الفلسفة، وتبنى مقالة المعتزلة.

    فهؤلاء اتصلوا بالأمراء والخلفاء واستمالوهم، فـعمرو بن عبيد المؤسس الثاني لمذهب الاعتزال كان صفي وجليس وحميم أبي جعفر المنصور ، وأبو جعفر كان دائماً يمدحه ويثني عليه ويقول: كلكم يمشي رويدا، كلكم يطلب صيدا، غير عمرو بن عبيد ؛ لأنه كان زاهداً، ولكن الزهد من غير التزام لا محمدة فيه ولا كرامة، وبعض الزهاد العبَّاد الذين يقتاتون بالقليل ويقومون برياضات يعجز عنها كثيرٌ من المسلمين لا يدل هذا على مكانتهم عند ربهم، فالالتزام بشريعة الله هو الحكم الفاصل والفيصل، أما زاهد ثم بعد ذلك للشريعة معاند، فأي زهد هذا؟! وأبو الهذيل العلاف كان أستاذاً للمأمون وهو الذي رباه، وهو من أبرز أركان الاعتزال في زمنه.

    وأحمد بن أبي دؤاد كان قاضي القضاة لثلاثةٍ من خلفاء بني العباس أولهم: المعتصم، والثاني: الواثق، والثالث: المتوكل، وفي زمن المتوكل تغير عليه ونكبه وألزمه بيته، عندما ألهمه الله الرشد بسبب مناظرةٍ جرت بين أبي عبد الرحمن الأذرمي وبين أحمد بن أبي دؤاد في مجلس الخلافة، وهي ثابتةٌ، وبعض شيوخ العصر ممن كتبوا في التوحيد لما جاء عليها في شرح لمعة الاعتقاد قال: لم أقف عليها، وهي موجودة في تهذيب التهذيب، والبداية والنهاية للإمام ابن كثير ، وموجودة في تاريخ بغداد، وفي كتبٍ لا تحصى، لكن لا أحدد الآن الصفحات، ولا أستحضرها، على كل حال في ترجمة هذا العبد الصالح أبي عبد الرحمن الأذرمي وهو من شيوخ أبي داود والنسائي ، جيء به من بلاد الشام وهو مكبلٌ مقيد بقيود الحديد قال محمد الواثق بن الخليفة المتوكل : كان والدي إذا أراد أن يقتل رجلاً دعاني -من أجل أن يريه مراسيم القتل وكيفيات القتل؛ لأنه سيكون خليفةً بعده- فجيء بـأبي عبد الرحمن الأذرمي وهو مكبلٌ بالحديد، وقد بسط النطع والسياف قائمٌ وبيده السيف، فدخل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: ولا عليك السلام، فقال أبو عبد الرحمن وهو بقيوده والسياف واقفٌ والسيف بيده والنطع مبسوط لتضرب الرقبة عليه لئلا يتسخ المجلس بدم هذا الإمام الصالح، يعني يشفقون على فرشهم لا على دماء شيوخ أهل السنة، فقال أبو عبد الرحمن : بئس ما أدبك به مؤدبك يا أمير المؤمنين! قال الله تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، والله لا حييتني بأحسن منها ولا رددتها عليّ.

    والإمام أحمد يروى في ترجمته عليه رحمة الله أنه ما أطلق كلمة الكفر إلا على القاضي الخبيث أحمد بن أبي دؤاد .

    نكست الدين يا ابن أبي دؤاد فأصبح من أطاعك في ارتدادِ

    ومن أمسى بذلك مستضيفاً كمن حل الفلاة بغير زادِ

    وكان يقول للمعتصم : يا أمير المؤمنين! اضرب رقبة أحمد ودمه في رقبتي، يفتي بقتل الإمام أحمد ، فقال المتوكل لـأحمد بن أبي دؤاد : الرجل متكلم فناظره، فقال له: القرآن مخلوق أم لا؟ إن قال: لا طارت الرقبة، وإن قال: نعم ظن به السوء، قال: غفر الله لك أيها الشيخ إن السؤال لي وليس لك، فقال: سل، قال: هل علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي هذه المسألة أو جهلوها؟ قال: جهلوها، ما علم الرسول عليه الصلاة والسلام ولا الخلفاء الراشدون القرآن مخلوق أو غير مخلوق، قال: غفر الله لك جهلك، شيءٌ جهله رسول الله عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين، أعلمه أنا وأنت أفلا تستحي؟! فقال: أقلني جوابي والمسألة بحالها، قال: لابد من جواب، قال: سأجيب جواباً آخر، قال: قل ما عندك؟ قال: علم الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفاؤه الجواب لهذه المسألة، هنا لم يتركه، فانظر لمناظرة هذا الشيخ، ولو ألهم الله شيوخ أهل السنة هذه المناظرة من أول الأمر لكفى الله المؤمنين قتلاً، فقال أبو عبد الرحمن: عندما علم رسول الله عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي هذه المسألة سكتوا أم علموا الناس ودعوا إلى ما علموه؟ قال: سكتوا، أي لم ينقل عنهم بأن القرآن مخلوق، قال: ألا يسعني أنا وأنت أن نسكت عما سكت عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، لم لا نسكت عما سكت عنه هؤلاء ونستريح؟ قال: فسكت القاضي أحمد بن أبي دؤاد وما استطاع أن يتكلم، وخيم على المجلس الصمت، يقول محمد ابن الواثق : وأنا أنظر إلى أبي الخليفة المتوكل فنظر إلى أحمد بن أبي دؤاد ثم قام، فذهب إلى حجرةٍ ليس فيها أحد واضطجع على ظهره، وبدأ يعيد كلام الشيخ أبي عبد الرحمن الأذرمي ، كيف شيء لم يعلمه رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي رضي الله عنهم أجمعين يعلمه ابن أبي داؤد ، هذا الاعتراض فيه خلل، وكلام معسول لكن فيه باطل ما انتبهنا له، شيءٌ على الحالة الأولى جهله رسول الله عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر فكيف يعلمه ابن أبي داؤد ؟ الحالة الثانية: شيءٌ علمه رسول الله عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين وسكتوا عنه ألا نسكت عنه؟ يقول: يعيد هذا الكلام مراراً -يعني ليس مرة- يتأمل ما فيه، هل فيه خلل أو هو نمق علينا العبارات وسحرنا، (وإن من البيان لسحراً) كما سيأتينا؟! يقول: وأنا أراقبه ولا يشعر بي، ثم قام مسرعاً فقال: فكوا قيوده وقبل جبهته وأعطاه خمسمائة دينار، وقال: يعاد إلى بلاد الشام مكرماً، ثم التفت إلى أحمد بن أبي دؤاد فقال: قم قبحك الله، وأرسل رسله بعد ذلك ينادون إن المحنة قد رفعت عن الناس في خلق القرآن، وما امتحن بعد ذلك أحد.

    إذاً أحمد بن أبي دؤاد قاضي القضاة لثلاثة من خلفاء بني العباس استمالوهم إلى ضلالة، فأولئك نشروا هذا الضلال بقوة السلطان، والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.

    لكن أهل السنة ماذا كان موقفهم نحو السلطان؟

    أهل السنة منذ ضياع الخلافة الراشدة اعتزلوا السلاطين، ومن خالطهم كان ينصح ولا يداهن، ويقول الحق ويتقي الله، لكن الأصل الاعتزال بمعنى البعد، فهم لا يرونه ولا يراهم، إذا قدر أنه استُدعي واحدٌ منهم نطق بالحق ولو قطعت الرقبة، فليس هناك مداهنة أو ملاينة كحال هؤلاء، وأنا أعجب من قولهم: يجب الخروج على أئمة الجور بالسيف، وهم أول من داهنهم وساروا وراء ذنب بغالهم، وأهل السنة قالوا: لا نداهنهم ولا نخرج عليهم، فأي الفريقين أهدى سبيلاً؟ أهل السنة اعتزلوهم ومن خالط منهم دعا ونصح وتكلم بالحق وجهر ولم يبال ولو قطعت منه الرقبة، ابتعد عنه أسلم لدينك ولدنياك، كما قال أبو سليمان الخطابي في كتابه العزلة: ليت شعري! من الذي يدخل عليهم اليوم فينصحهم، وليت شعري! من الذي يقبل النصح منهم؟! يعني: لا ذاك يقبل، ولا هذا ينصح الناس، فأفضل شيء لك أخي المسلم أن تعتزلهم، فلا تراهم ولا يرونك، والسلامة لا يعدلها شيء.

    قيل للإمام الشعبي عليه رحمة الله: لقد أحييت العلم بكثرة من يأخذه عنك، قال: لا تعجبوا، فثلث يموت قبل الإدراك، وثلث يلزمون السلطان فهم شر خلق الله، وثلثٌ لا يفلح منهم إلا القليل، يعني لم تعجبون؟

    إذاً: أئمتنا أهل السنة اعتزلوا رجال الحكم، فقولهم ما بقي له قوة، فهذا سعيد بن المسيب والحكم في زمانه مع بني أمية ليس كالحكم في زمن بني العباس، فكلما أتى زمن يزداد ما في الحكم من سوءٍ وفساد، ومع ذلك كان يقول في زمانهم: إذا رأيت العالم يغشى أبواب السلاطين فاعلم أنه لص، هذا هو حال أهل السنة والجماعة، لا خروج ولا مداهنة، وبما أن المجالسة ستقتضي المداهنة إذاً العزلة فيها السلامة، هذا الذي حصل، أما هؤلاء المبتدعة فجالسوا وداهنوا وأولئك مالوا إليهم وركنوا فقووا مذهبهم ونشروه -كما قلت- بقوة السيف، هذا الأمر الأول من أسباب انتشارهم.

    فصاحة أئمة المعتزلة

    الأمر الثاني: وجد فيهم جماعة من ذوي الفصاحة والبلاغة فاستطاعوا أن يخدعوا كثيراً من العامة والسذج بمعسول كلامهم، فهذا أبو الهذيل بن العلاف كان يستدل في المجلس الواحد بثلاثمائة بيتٍ من الشعر، وواصل بن عطاء الغزال مؤسس مذهب الاعتزال ما كان في زمانه أفصح منه من ناحية الخطابة، وكان ألثغ، فإذا تكلم بالراء يخرجها غيناً، فكان يخطب الخطب الطوال ويتجنب حرف الراء، ما يذكر في خطبته كلمةً فيها راء، من أجل ألا يعيب عليه الحاضرون نطقه، وهذا لا يستطيع أن يقوم به إلا من تضلع في البيان على وجه التمام، ووجد بعد ذلك الجاحظ وغيره فاستمالوا الناس بمعسول كلامهم وخدعوهم ببريق قولهم، والأمر كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن من البيان لسحراً ).

    والحديث ثابتٌ في المسند وصحيح البخاري وسنن أبي داود والترمذي وموطأ الإمام مالك من رواية ابن عمر رضي الله عنهما، ورواه الإمام أحمد في المسند ومسلمٌ في صحيحه من رواية عمار بن ياسر ، ورواه البخاري في الأدب المفرد، والإمام أحمد في المسند، وأبو داود في السنن، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه من رواية ابن عباس ، ورواه الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن مسعودٍ بإسنادٍ صحيح، ورواه أيضاً من رواية معبد بن يزيد السلمي ، والحديث صحيحٌ صحيح ( إن من البيان لسحراً )، وفي بعض رواياته زيادة: ( وإن من الشعر لحكماً )، وهذا بيانٌ ووصفٌ لمنزلة البيان، وحكمٌ لمنزلة البيان، لا مدحاً ولا ذماً، إنما البيان إذا وجد وفيه جزالةٌ وفخامةٌ في اللفظ وكان في الحق فهو حسن، وإن كان في الشر فهو سيئ، لأنه إن كان في الحق حبب السامعين في الحق بهذه الكلمات المعسولة الواضحة الفخمة الجزلة، وإن كان في الباطل حبب الناس في الباطل بهذه الكلمات الفخمة، فإذا استعمل في الحق فهو ممدوح، وإذا استعمل في الباطل فهو مذموم، ولكن ليس حقٌ بلا بيان كحقٍ مع بيان، فإذا كان الحق يعرضه بصورةٍ هزيلة، والباطل يعرضه بصورةٍ فخمةٍ جزيلة، فإنه يخدع الناس بباطله، يخدعهم لأنه ألحن بحجته من صاحب الحق إذاً: ( إن من البيان لسحراً )، ووجد في المعتزلة أناسٌ يشققون الكلام، وعندهم معسول قول خدعوا به بعض الناس ومالوا إليهم.

    تعاون المعتزلة فيما بينهم

    وآخر الأمور: تعاونهم فيما بينهم، وكان يضرب المثل بمعاونة الشيعي للشيعي كما يضرب المثل بمعاونة المعتزلي للمعتزلي، وكان أئمتنا إذا أرادوا أن يخبروا عن احتفاء وإكرام إنسانٍ لإنسان يقولون: احتفى به كاحتفاء المعتزلي للمعتزلي، والشيعي للشيعي، حقيقةً أن الشيعة يخلصون لبعضهم إخلاصاً عجيباً، وهكذا المعتزلة، أما نحن الذين ننتسب إلى أهل السنة والجماعة فحدث ولا حرج عما بيننا من همزٍ ولمز، ونحن على الحق، وأحق أن نتآلف! لكن ماذا نعمل، يجتمع أحياناً بعض الناس معي ويقول لي: يا شيخ! أنا أرد الكلام عنك، ثم تراه يحاضر ويتكلم ويذكر الكلام، فإذا به يسفهنا، أما يتقي الله، هل عندك يا هذا بينة؟ فإن كنت على حقٍ وعلى هدى وجب على المخطئ أن يتراجع عن خطئه، وإن كنت على ردى فارجع، ولا تسفه برأيك في مراء! هذا هو حالنا، أما حال أهل البدع فهو تآلفٌ وتكاتفٌ وتعاون، والقوى وإن كانت على باطل فاجتماعها على الباطل يزيدها قوة، والحق عندما يتفرق يضعف، أسأل الله أن يؤلف بين قلوب المؤمنين إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اجعل لنا هذا الشهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتقاً لرقابنا من النار، اللهم تقبل منا الصلاة والصيام والقيام، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار، اللهم اجعلنا من عتقاء شهر رمضان، وأدخلنا الجنة من باب الريان بسلام، بفضلك ورحمتك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755985936