الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحابه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
إخوتي الكرام! وصلنا إلى ترجمة الإمام المبارك أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة بن الضحاك البوغي الترمذي ، ووعدت أن نتدارس في هذه الموعظة المباركة ما يتعلق بحياته وترجمته ومكانته، والأمر الثاني فيما يتعلق بكتابه ومنزلته من كتب السنة، وغالب ظني أننا سنقصر حديثنا ومدارستنا في هذه الليلة على الأمر الأول إن شاء الله، وهو على مكانة الإمام الترمذي ورتبته، والدرجة العالية التي كان يتبوؤها في الحياة العلمية، ونسأل الله أن يجمعنا معه في نعيم الجنات مع عباده المقربين، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، ويأتي في نهاية ترجمته شيء من التعليق؛ لذلك قد يطول الوقت فلا نتمكن بعد ذلك من مدارسة منزلة ومكانة كتابه في كتب السنة، وقبل أن أتكلم على ترجمة هذا الإمام المبارك أحب أن أنبه على أمرين اثنين:
أحدهما: سؤال وجه لي من بعض الإخوة الكرام في الليلة الماضية.
وأمر ثانٍ: يتعلق بقصة كنت وهمت وأخطأت فيها، والخطأ كان فيما يتعلق بتسمية الأشخاص وتعيينهم، لا فيما يتعلق بموضوع القصة وواقعها، هذه القصة هي المتعلقة بما جرى مع الإمام يحيى بن معين مع أبي حنيفة ، وكنت ذكرت هذه القصة عند بيان منزلة المحدثين والفقهاء، وقلت: الفقهاء أطباء، والمحدثون صيادلة، ومن جمع الفقه والحديث فهو طبيب وصيدلي، فذكرت قصة أبين فيها منزلة الفقهاء، والأخ يقول لي: أبو حنيفة توفي سنة: ثلاثٍ وستين ومائة، والإمام ابن معين عليهم جميعاً رحمات رب العالمين ولد سنة: ثمانٍ وخمسين ومائة، فقلت له: موت أبي حنيفة عليه رحمة الله سنة: خمسين ومائة بيقين، قال: إذاً: هو من باب أولى؛ إذ كيف يحدثه بهذه القصة التي تقع وهو ولد بعد موته بثمان سنين؟ يعني: ولادة يحيى بن معين سنة: ثمانٍ وخمسين ومائة، ووفاة أبي حنيفة سنة: خمسين ومائة، قلت: هذا وهم وخطأ قطعاً وجزماً، أما أن القصة ثابتة ومروية فوالله لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب، أو أن أقول ما لم أعلمه، لكن إذا أخطأ الإنسان في تسمية الأسماء فهذا موضوع آخر، أما القصة فإنها ثابتة، قال: نعم، أريد فقط التحقق منها، وأقرأ عليكم القصة إخوتي الكرام، وأقرأ لكم ما يشبهها مما جرى مع أبي حنيفة ، لكن ليس مع يحيى بن معين ، إنما أذكر في أول الأمر قصة ابن معين التي ذكرتها، وأن حيضة أمنا عائشة ليست في يدها.
هناك كتاب اسمه: (المحدث الفاصل بين الراوي والواعي) بعض الناس يخطئون في الضبط ويقولون: المحدث الفاضل، وهذا لحن وتصحيف وخطأ، والصواب: المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، للإمام الرامهرمزي ، وقد شاع بين طلبة العلم أنه أول كتاب ألف في علم مصطلح الحديث؛ لأنه توفي سنة: ستين وثلاثمائة للهجرة، وأنا أقول: نعم، إذا كان على سبيل التجريد والاستقلال، فأول كتاب مجرد ومستقل في المصطلح هو كتاب المحدث الفاصل، أما بالنسبة للتنويه بقواعد المصطلح وذكرها لكن ليس على سبيل الاستقلال والتجريد فأول من فعل هذا هو صاحب الترجمة المباركة الذي سنتدارس سيرته العطرة ألا وهو الإمام الترمذي ؛ فكتابه أول ما وصلنا من كتب المصطلح كما سيأتينا، وأول ما وصلنا أيضاً من كتب الفقه المقارن بأقوال العلماء، وهو أيضاً مع ذلك كتاب حديث، فنجمع هذه المزايا عندما سنتدارس منزلة هذا الكتاب من كتب السنة إن شاء الله.
والحديث هذا أخرجه الإمام مسلم وغيره في صحيحه، ولفظ الحديث تاماً: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في المسجد، فقال لأمنا
( ناوليني الخمرة، فقالت: إني حائض )، أي كيف أناولك هذه الخمرة وأنا حائض؟! وعلى حسب ما يتبادر لها أن الحائض كأنها متنجسة، فلا يجوز أن تعطي النبي عليه الصلاة والسلام شيئاً، فقال عليه الصلاة والسلام: ( ألا إن حيضتك ليست في يدك )، هذا هو الضبط الصحيح، وقال بعض أهل اللغة: لحن المحدثون في ضبط هذه اللفظة، وضبطها: (حِضتك) بكسر الحاء، أي: الحالة التي أنتِ فيها، وهذا خطأ؛ إنما المراد من الحيضة المرة التي تخرج والدم الذي يخرج؛ هذا لا تحيضينه في يدك: ( ألا إن حيضتك ليست في يدك )، وهذا ثابت في الصحيحين وهذا القول الأول.
القول الثاني: ( كنت أفرق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء وأنا حائض )، قال أبو ثور : فإذا فرقت رأس الحي بالماء، فالميت أولى به، إذاً يجوز لها أن تفرق رأسه بالماء وأن تغسله، فلما رجعت إليهم وذكرت لهم حديث عائشة قالوا: نعم، رواه فلان، ونعرفه من طريق كذا، وخاضوا في الطرق والروايات، فقالت المرأة: فأين كنتم عندما سألتكم؟ لم ما أجبتم مادمتم تحفظون هذا من طرق وروايات، وكل واحد يسرد من حدثه به من الأئمة، وكم يحفظ لهذا الحديث من طريق؟
جاء في الجزء الثاني صفحة: (131) من جامع بيان العلم وفضله، وما ينبغي في روايته وحمله، بعد أن ساق الحديث بإسناده إلى عبيد الله بن عمرو ، قال: كنت في مجلس الأعمش ، فجاءه رجل فسأله عن مسألة فلم يجبه، ونظر فإذا أبو حنيفة ، فقال: يا نعمان ! قل فيها -والنعمان هو أبو حنيفة - قال: القول فيها كذا وكذا، قال: من أين دليلك؟ قال: من حيث ما حدثتني به، وبدأ يروي له الحديث الذي حدث به الأعمش ، فقال الأعمش : نحن الصيادلة وأنتم الأطباء.
ولذلك قال أئمتنا: إن من يحمل الحديث ولا يعرف فيه التأويل كالصيدلاني، وهذا الكلام الذي قاله الأعمش لـأبي حنيفة : نحن الصيادلة وأنتم الأطباء، قاله الإمام أبو جعفر الطحاوي لمحدث دمشق أبي سليمان الربعي -بإسكان الباء- محمد بن عبد الله بن ربيعة ، قال عنه الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ في الجزء الثالث صفحة: (997): ثقة مأمون، يقول أبو سليمان الربعي : استعار مني أبو جعفر الطحاوي بعض كتبي ومصنفاتي، فنظر فيها ثم أعادها إلي، فقال: أنتم معشر المحدثين صيادلة ونحن الفقهاء، يعني: عندكم هذه الكنوز، وهذه الآثار، لكن استنباطكم منها قليل قليل، وهي عندما تئول إلينا نفتحها بالاستنباط ونبين المراد منها. انتهى من تذكرة الحفاظ.
فـأبو جعفر الطحاوي قال كما قال الأعمش رحمة الله على الجميع.
ومن مناقب هذا العبد الصالح أبي سليمان الربعي محدث دمشق الذي توفي سنة (379هـ): أنه رأى الحق جل وعلا في منامه، ورؤية الله جل وعلا في المنام جائزة، وكل واحدٍ يراه حسب إيمانه، فقيل له: كيف رأيته؟ قال: رأيت نوراً، والقصة ثابتة في تذكرة الحفاظ، في ترجمة هذا العبد الصالح في المكان الذي أشرت إليه آنفاً.
وقد جرى من الإمام الأعمش قصص كثيرة تشبه هذه القصة مع أبي حنيفة أيضاً، انظروها في كتاب الانتقاء في فضائل الأئمة الثلاثة الفقهاء: أبي حنيفة ومالك والشافعي عليهم جميعاً رحمة الله، لحافظ المغرب وإمام الدنيا في زمنه: الإمام ابن عبد البر ، الذي توفي سنة: (463هـ).
فالقصة ثابتة، لكن أخطأت في تعيين من جرت له القصة مع ابن معين ، فهي لم تجر بين ابن معين وأبي حنيفة ، إنما هي بين ابن معين وأبي ثور رحمهم الله جميعاً ورضي عنهم، ونسأل الله أن يعفو عن زللنا وعن تقصيرنا، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
فإذا تعلق طالب علم الحديث بالنبي عليه الصلاة والسلام، وأكثر من الصلاة والسلام عليه عليه صلوات الله وسلامه، سيترتب على هذا خيرات كثيرة، من جملة هذه الخيرات: أنه سيراه في المنام، والإنسان يرى النبي عليه الصلاة والسلام بمقدار تعلقه به على نبينا صلوات الله وسلامه، وقد كان أنس رضي الله عنه كما في المسند يقول: ( قل ليلة تأتي إلا وأنا أرى فيها خليلي عليه صلوات الله وسلامه )، وأنس يقول ذلك وعيناه تذرفان، وكان بعض أئمتنا الكرام يتمنى رؤية النبي عليه الصلاة والسلام فما رآه إلا في آخر حياته، ففرح فرحاً عظيماً ثم مات بعد ذلك بأيام، فأعطاه الله أمنيته لكن جاءه الأجل، نسأل الله حسن الخاتمة.
هذا الأخ الكريم صاحب الهمة العالية يقول: إذا حصل للإنسان هذا التعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام ورآه في المنام، أيشمله قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا تمس النار مسلماً رآني أو رأى من رآني )؟ وهو يدلل على هذا، يقول: لأن من رأى النبي عليه الصلاة والسلام في المنام فقد رآه حقاً، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( فالشيطان لا يتمثل بي )، أو كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: هل الذي يراه في المنام يثبت له شرف الصحبة، وتحرم عليه النار ويحرم عليها؟
الجواب: إن الإنسان لا تثبت له شرف الصحبة برؤية النبي عليه الصلاة والسلام في المنام، ولا يعني أنه ليس له على هذه الرؤية خيرات وأجور حسان عظام، إنما شرف الصحبة هذا خاص بمن رأى النبي عليه الصلاة والسلام وآمن به والنبي عليه الصلاة والسلام حي، وأما إذا لم يحصل هذا للإنسان في حياة النبي عليه الصلاة والسلام فلا يكون صحابياً، ولذلك لو رأى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يؤمن به ثم آمن به بعد موته فليس بصحابي، ويصح تحمله، وهذا كما يقوله أئمتنا في المصطلح: مما يلغز به، فيقال: تابعي يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام وحديثه متصل، كيف هذا؟ يقال: هذا في حق من رأى النبي عليه الصلاة والسلام وهو كافر، ثم آمن به بعد موته، ويمثل له أئمتنا في المصطلح فيقولون: كـالتنوخي رسول كسرى، لما جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام أو رسول هرقل، لا أذكر تماماً، لما جاءه لم يؤمن به، ثم آمن به بعد موته عليه صلوات الله وسلامه.
فما سمعه الإنسان من النبي عليه الصلاة والسلام في حال كفره إذا أداه في حال الإيمان يصح منه، كالصغير إذا سمع في الصغر ثم أدى في الكبر يصح منه التحمل، فإذاً: التابعي الذي يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام وحديثه متصل هو من رأى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يكن مؤمناً به، فلما قبض النبي عليه الصلاة والسلام آمن وشرح الله صدره للإسلام، فعندما يحدث بما سمعه منه قبل أن يؤمن به يكون حديثه متصلاً، لكن الراوي تابعي، وهنا إذا رأى الإنسان النبي عليه الصلاة والسلام في المنام لا يثبت له شرف ومنزلة الصحابة الكرام؛ نعم له أجر كبير، وهذا يدل -إن شاء الله- على تعلقه بالنبي عليه الصلاة والسلام وعلى حبه له.
فإن قيل: إن رؤيته للنبي عليه الصلاة والسلام حق، والشيطان لا يتمثل به، نقول: نعم، لكن ذلك الفضل وشرف الصحبة لا يناله الإنسان إلا إذا رأى النبي عليه الصلاة والسلام حياً وهو يؤمن به، أما الرؤيا التي تكون في المنام ونبينا عليه الصلاة والسلام في عالم البرزخ لا يتعلق بها حكم الصحبة، ولا يثبت بها شرف الصحبة، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة )، زاد الإمام البخاري في روايته: ( ومن رآني فقد رآني )، أي: قد رآني حقاً، ( فإن الشيطان لا يتمثل بي )، وفي رواية مسلم ، لكن عن جابر : ( ومن رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي ).
يقول أئمتنا الكرام: مدة الرؤيا الصالحة استمرت بنبينا عليه الصلاة والسلام ستة أشهر، يوحى إليه عن طريق المنام، وكان إذا رأى الشيء في منامه يتحقق في يقظته، فتأتي كفلق الصبح ولا يتخلف منها شيء، فكان يوحي إليه بهذا الأمر في روعه عند نومه فيتحقق في يقظته، هكذا ستة أشهر، ونسبتها إلى مدة بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام من أولها إلى آخرها والتي كانت ثلاثاً وعشرين سنة، نسبتها واحد من ستة وأربعين؛ لأن ثلاثاً وعشرين سنة لو قسمتها قسمين تصبح: ستاً وأربعين جزءاً؛ لأن السنة ستة أشهر وستة أشهر، فستة أشهر إذاً: جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، أي: كأن ما حصل لك إذا كانت الرؤيا صالحة صادقة، يشبه مرحلة من مراحل النبوة كانت حاصلة لنبينا عليه الصلاة والسلام، وهي الوحي عن طريق المنام في أول أمره مدة ستة أشهر، وليس معنى هذا أنها صارت جزءاً من النبوة، والعلم عند الله جل وعلا.
قيل هذا في حق من كان في عصر النبي عليه الصلاة والسلام ولم يره، فرآه في المنام، فهذه بشارة له أنه لن يموت حتى يجتمع بالنبي عليه الصلاة والسلام ويراه، والاجتماع به ممكن، افرض أن رجلاً من الأعراب بلغته دعوة النبي عليه الصلاة والسلام فآمن، ثم استيقظ وقال: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام في المنام، نقول: أبشر! ستراه في اليقظة عما قريب فتهاجر إليه، وترى نور وجهه عليه الصلاة والسلام، وهذا التأويل حق وصدق ولا إشكال فيه، لكن لا يمنع التأويل الثاني، وهو حق وصدق إن شاء الله، ولعله أظهر المعنيين وأقواهما، وإن كنت لا أرد المعنى الأول، وهو معتبر؛ أن هذه بشارة إلى أن من رأى النبي عليه الصلاة والسلام في المنام سيراه في اليقظة حتماً وجزماً، وإذا ما أمكن أن يراه في هذه الحياة في اليقظة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قد قبض وأصبح في الرفيق الأعلى في عالم البرزخ، فسيراه في جنات النعيم، فإذاً: هنا بشارة له بدخول الجنة إن شاء الله، وقد ثبت عن ابن سيرين في مسند الدارمي : (أن من رأى ربه، أي: في الرؤيا، دخل الجنة)، يعني: تأويلها أنه سيدخل الجنة؛ ووجه ذلك: أن رؤية الله يقظة في هذه الحياة لا يمكن أن تقع، فهي ممتنعة من جهة الشرع لا من جهة العقل، فإذا استحالت من جهة الشرع، وأننا لا نرى ربنا حتى نموت، فالذي يرى الله في الرؤيا ما تأويل رؤياه؟ تأويلها: أنه سيدخل الجنة ويراه هناك حقيقة.
قال البخاري عقب سرد رواية رؤية النبي صلى الله عليه وسلم: قال ابن سيرين : هذا فيمن رآه حقاً، يعني: على الصفة التي هو عليها، وأما إذا لم ير النبي عليه الصلاة والسلام بالصورة التي كان عليها فيدل على أنه ما حصلت له رؤيا للنبي عليه الصلاة والسلام على وجه التمام والكمال، وقد يحصل تلاعب بعد ذلك من الشيطان به عندما لا يرى النبي عليه الصلاة والسلام بالصورة التامة التي كان عليها، فإذا رأيت النبي عليه الصلاة والسلام -نسأل الله العافية- وهو أعور فهذه ليست برؤيا للنبي عليه الصلاة والسلام، وإنما هذا مثال لنقص دين الرائي، فجدد إيمانك وتب إلى ربك، وعندك بدعة وزيغ وضلال، وليست هذه الصورة للنبي عليه الصلاة والسلام، فالشيطان لا يتمثل بصورته الحقة الكاملة التامة، ولذلك ثبت في المستدرك بإسناد صحيح عن عاصم بن كليب ، قال: قلت لـابن عباس رضي الله عنهما: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام في المنام، قال: صفه لي، يقول عاصم بن كليب : فتذكرت الحسن بن علي ، فقلت: يشبه الحسن بن علي ، أشبهه به، قال: لقد رأيت حقاً، نعم كان النبي عليه الصلاة والسلام يشبه الحسن بن علي ، رضي الله عن الحسن وعن علي ، وعلى نبينا وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين صلوات الله وسلامه، وثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري وأبي قتادة رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من رآني في المنام فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتمثل بي ).
إذاً: الحديث صحيح في أن من رأى النبي عليه الصلاة والسلام في منامه فقد رآه حقاً؛ لأن الشيطان لا يتمثل به إذا كانت الرؤيا صادقة لنعت النبي عليه الصلاة والسلام ولصفته التي كان عليها عليه صلوات الله وسلامه، وإن ثبت لك هذا فهو يدل -إن شاء الله- على أنك صاحب خير وعلى خير وعلى هدى، وأسأل الله أن يحرم بدنك وأبداننا جميعاً على النار، إنه أرحم الرحمين وأكرم الأكرمين، لكن لا يثبت لك شرف الصحبة ولا منزلة الصحابة، ولا يثبت لك شرف التابعين ولا منزلتهم، وإن كانت هذه الرؤيا تدل على حالة حسنة إن شاء الله.
الأخ الكريم يسأل عن الجماعات المتعددة في بلاد الإسلام، أيها أفضل وأقرب إلى الصدق والسنة؟ فإذا لم يكن هناك جماعة فماذا تنصحني به وإخواني المستمعين؟
تعددت الجماعات واختلفت طريقتهم في الدعوة، وهذا أدى إلى كثرة الخلافات بينهم، واضطراب الناس بينهم، وحقيقة الأمة الإسلامية تعيش هذه المشكلة في هذه الأيام، ولا أريد أن أقول: جماعة فلان على حق، وجماعة فلان على هدى، لكني أريد أن أقول للأخ الكريم:
ينبغي أن تكون كل جماعة على هدي السنة والجماعة، فإذا لم تكن كذلك فاحذرها، وانصحها وحذرها مما فيها من ضلالات، فإذا قال قائل: أهل السنة والجماعة عندهم جماعات متعددة فماذا نعمل؟
أقول: نشارك كل مسلم فيما عنده من الحق ونوافقه، ونبتعد عن كل من عنده باطل؛ فإذا كانت هذه الجماعات كلها على هدى، وتسير على مسلك أهل السنة والجماعة، فنحن نشاركها جميعاً، وأما أننا نلتزم بواحدة، ثم بعد ذلك نتخلى عن إخواننا المسلمين فلا ثم لا.
أولهما: كل من يقول: طائفتنا هي المهتدية ومن عداها ضال ويضلل أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فهذا على خطأ مبين فانصحه، ووافقه على ما عنده من حق، وحذره عما عنده من ضلالة، إنما لو قدر أنه من أهل السنة وقال: نحن اجتهدنا في طاعة الله ونرى أن هذا الطريق -إن شاء الله- ينقذ المسلمين مما هم فيه، وإخواننا الآخرون على خير وهدى ورشد، لهم طريقة أخرى في الدعوة والاجتهاد؛ يرون أنهم على خير ينقذون المسلمين مما هم فيه، ففرقة -مثلاً- اعتنت بالحديث صدقاً، وفرقة اعتنت بالدعوة والتطواف على الناس، وفرقة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفرقة اعتنت بتصحيح عقائد الناس مما فيها من دنس وشوائب، وهكذا، وكل واحد يقول: جهودنا يكمل بعضها بعضاً، نحن اجتهدنا ورأينا أن الأمة فيها ثغرة من هذه الجهة فأردنا أن نسد، وأنتم رأيتم أن الأمة فيها ثغرة من جهة أخرى فتسدون، ونتعاون فيما بيننا على البر والتقوى، فهذا لا بأس به، أما إذا كانت طائفة تقول: نحن.. نحن، ومن عدانا فليس بشيء. فهذا ضلال، إنما نحن مجتهدون في طاعة الله وغيرنا كذلك، وطريق الآخرة يسعنا، ونسأل الله أن يتقبل منا.
لا تكن ممن يقبل الحق إذا وافق هواه، ويرده إذا خالف هواه، فإنك تعاقب في الحالتين، أي: تعاقب عند قبوله وتعاقب عند رده، ما قبلته لله وما رددته أيضاً لله، فانتبه لهذا، فإذاً: نحن نقبل الحق سواء وافق هوانا أم لا، ونرد الباطل سواء وافق هوانا أم لا، أما حق وافق هوانا قبلناه، وإذا خالف هوانا رددناه، هذا من جماعتنا أحببناه، وإذا كان من جماعة أخرى فارقناه، فهذا ضلال نعوذ بالله منه، وهذا حال الأمة الآن: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [الأنعام:159]. وهذا موجود ولا ينجو منه إلا قلة في هذه الأيام، ونسأل الله حسن الختام، ترى أناساً أحياناً يطوفون البلدان، يذهب أحدهم إلى آخر الدنيا من أجل أن يحضر مجلس وعظ هناك، تراه يأتي من هناك ويقول: حصل وحصل وخير لا يوصف، وفي بلاده توجد مجالس وعظ لا يحضرها، لم لم يحضر هنا مجالس الذكر والعبادة والعلم والتعليم؟ صاحب هوى، لقد ذهب إلى هناك لكونهم من جماعته، أما هؤلاء فليسوا من جماعته فلم يحضر عندهم، أوليست سنة النبي عليه الصلاة والسلام؟ لم التطواف من جميع الجهات إلى ذلك المكان، وهنا سنة النبي عليه الصلاة والسلام تدرس وتعلم فلا تأتي؟ نعم إذا كنت تذهب إلى هناك لتشارك في خير فشارك في الخير الذي هنا وأنت على هدى.
أذكر لكم قصتين أنا على علم بهما في بلاد الشام: أعرف بعض المخرفين، كان يذهب من البلدة التي أنا فيها تبعد عن حلب تسعين كيلو متراً، يذهب كل أسبوع ليحضر حلقة الذكر، وهي حلقة رقص في الحقيقة في بيت الله باسم الذكر، يدفع أجرة السيارة هو وزوجته ويذهب كل أسبوع ويعود، والنقل كان فيه صعوبة شديدة، لاسيما في هذه الأيام إذا لم يكن عند الإنسان سيارة ويركب في سيارات أجرة، ودروس الذكر الشرعية ومجالس العلم في بلده ما يحضر شيئاً منها.
أعرف واحداً آخر من الصالحين لا تفوته موعظة في تلك البلدة، ويوجد في يوم من أيام الأسبوع وهو يوم الجمعة بعد العصر وعظ لبعض المشايخ الصالحين في حلب، فكان هذا يذهب كل أسبوع إلى ذلك المكان.
انظر للفارق بينهما، هذا حضر المواعظ التي في بلده وما فاته شيء منها وانتفع، وهناك موعظة أخرى أيضاً إن يحصلها فذهب إليها فهو مأجور في الحالتين، وأما ذاك فعليه وزر في الحالتين؛ لأنه فرط في مجالس العلم التي في بلده وما حضر شيئاً منها، ثم شد الرحل ما بين الحين والحين من أجل أن يحضر ذلك الاجتماع وذلك اللقاء وذلك الذكر، فإذا سألته: يا عبد الله! لم؟ قال: أولئك من جماعتي أو من طريقتي، وأما هؤلاء فليسوا من جماعتي، عجباً، هل هم يهود أو نصارى؟! أليسوا من أهل السنة يفسرون كلام الله ويقرءون حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام؟
فهذا الأمر ينبغي أن ننتبه له؛ لقد صار حبنا وبغضنا الآن من أجل مصالح شخصية نكسوها بعد ذلك ثوب الشرع، ونجعل الشرع مطية ذلولاً لنا لكل شهوة وحاجة وأربٍ، وبعد ذلك ندعي أننا نطيع ربنا.
إخوتي الكرام! هذا الأمر ينبغي أن نحذره، فمن يقول: نحن نحن ومن عدانا فليس بشيء يحذر، ومن يقول: نحن على هدى ومن عدانا على هدى، وحصل فيما بينهم التئام ووئام، وفيما عداهم فرقة وانقسام، فاحذرهم أيضاً.
فرق بين أهل الإسلام وغيرهم، والذي سينبغي أن نقوله لبعضنا: نحن على هدى وأنتم على هدى، وبيننا وبينكم تواصي بالحق وتواصي بالصبر؛ نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، لا يمنع أن يكون لنا لقاء خاص فيما بيننا، لكن ليس معنى هذا أنني لا أحضر عند أولئك وإذا التقيت بهم أعرض عنهم، ولا يمنع أنني إذا كنت مسئولاً وجاء شخص من جماعتي نسبة الصلاح فيه -كما قلت-: سبعين وذاك ثمانين أقدم ذاك عليه، وكون هذا من جماعتك موضوع آخر، نعم إذا كان بيننا لقاء خاص نجتمع فيه، ونجتمع مع المسلمين في أمور الخير، لكن لما يأتي بعد ذلك أمر الشرع فيقدم على رأي كل أحد وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة:62].
أنصحك أخي الكريم! بتعلم العلم النافع بالطريقة الشرعية؛ فهذا أعظم ما يقوم به المسلم في هذا الوقت، بل في كل وقت، وإذا تسلحت بهذا فهنيئاً لك.
ينقل الإمام الذهبي عليه رحمة الله في سير أعلام النبلاء في الجزء العاشر صفحة ثمانِ عشرة وخمسمائة عن العبد الصالح يحيى بن معين أبي زكريا -الذي تقدم معنا حاله وأمره- أنه قال: الذب عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52]، فقيل: يا أبا زكريا ! المجاهد ينفق ماله ويقتل نفسه، والذي يتعلم الحديث والعلم أفضل منه؟ قال: أفضل منه بكثير، هذا أعظم الجهاد: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52].
وينقل العبد الصالح الذهبي في الجزء العاشر صفحة: (619) عن الحميدي شيخ الإمام البخاري -عليهم جميعاً رحمة الله- واسمه هو أول اسم في صحيح البخاري ؛ لأنه راوي حديث: ( إنما الأعمال بالنيات )، وهو من تلاميذ الإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله، يقول هذا العبد الصالح: لأن أغزو الذين يردون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أن أغزو عدتهم من الكفار، فهذا الإمام يقول: غزو من يردون حديث النبي المختار عليه الصلاة والسلام وتطهير الأرض منهم أحب إليه من غزو الكفار، وحقيقة عندما يأتيك مسلم ضال مضل، صاحب بدعة وضلالة يرد حديث النبي عليه الصلاة والسلام من أوله إلى آخره برأيه، ويخدع بعد ذلك المسلمين بأنه يؤمن بالقرآن والسنة، وإذا أتيته بالقرآن أوله، وإذا أتيته بالسنة طرحها وردها، وقال: أحاديث آحاد لا يؤخذ بها، والله غزو هذا أفضل من غزو الكفار؛ لأن الكافر كافر، وأما هذا فإنه يستطيل علينا ويقول: أنتم على ضلال ونحن على هدى، أنتم حشوية وأما نحن ففرقة مرضية، لا إله إلا الله!
رحمة الله على الإمام أبي حاتم الإمام العلم، كان يقول: علامة الزنادقة أنهم يصفون المحدثين بأنهم حشوية، إن علامة الزنديق الكافر العاتي المارد أنه يأتي إلى المحدثين ويقول: هؤلاء حشوية، رذالة الناس وحثالتهم، يتعلقون بالمأثور، ما عندهم عقول، لقد كان أول من قال هذا القول المبتور، هو الضال المضل: عمرو بن عبيد ، وفيمن قاله؟ قاله في الصحابي الجليل العابد الزاهد عبد الله بن عمر ، قال ابن عبيد هذا: كان ابن عمر حشوياً، يعني: من رذالة الناس، وأما عمرو بن عبيد هذا الضال المضل فإنه من خيرة الناس! وانظروا الآن لكلام أهل البدع، ما عندهم إلا حشوية، والحق أنك إذا أردت أن تمدح قلت: هذا متمسك بالسنة، وإن أردت أن تذم قلت: هذا لا يأخذ بالسنة، حتى يظهر من الذي يستحق المدح ومن الذي يذم، أما حشوية، ما حشوية؟ قل: أنتم لا تأخذون بالسنة، قلنا لكم: حديث الرؤية متواترة، لا خلاف بين المحدثين في هذا الأمر، فرددتموها وقلتم: الذين يقولون بالرؤية حشوية، إن أردتم أن تذموا فقولوا: أنتم تردون سنة النبي عليه الصلاة والسلام، هذه هي المذمة، أما لقب حشوية فكل واحد سيخترع من الألقاب ما شاء وينبز بها أهل الألباب، وهذا فعل التباب، أما أن ترموا كل واحد بالحشوية، ففلان حشوي، وفلان حشوي، وبعضهم يجعجع في شريط له ويقول: ابن تيمية إمام الحشوية، يا عبد الله! بين ماذا تقصد بالحشوي؟ إذا كنت تقصد أهل الحديث فأنت من أهل لهو الحديث، وكفى الله المؤمنين القتال، قل: هذا يأخذ بالسنة أو لا يأخذ، وأنت تأخذ أو لا تأخذ، هنا المدح وهنا الذم.
فأوصيك أخي الكريم وأوصي نفسي بأن تتعلم العلم النافع بشروطه لتتسلح به في هذه الأيام التي تموج بالفتن ونسأل الله حسن الختام.
ثم ماذا تقصد بتنوع وتضاد؟ هل تعني أن هذه تعادي هذه؟ هذا هو البلاء، وهذا الضلال، لو قدرنا أن في قطر في هذا الوقت عشرين من حلق الذكر ومجالس العلم، هل نقول: هل هذه اختلاف تنوع أو تضاد؟ نقول: كلها مشروعة، وكلهم على هدى، وأنت احضر أينما شئت، ونسأل الله أن يتقبل، ولا داعي لأحد أن يقول: احضر عندنا وفارق المجالس الأخر، وإذا أمكن أن تشارك في الجميع فهذا خير عظيم، فلابد أن نحدد مدلول التنوع والتضاد، فالوقوف عند مصطلحات لا يحدد مدلولها غلط.
للإمام ابن حجر كتاب اسمه: التقريب، وقد طبع في مجلدين، وطبع في مجلد واحد أيضاً، وهذا الكتاب ينبغي أن تقتنوه؛ بل هذا ضروري جداً، وإذا أمكنكم أن تحضروه عند مدارستنا لسنن الترمذي فهذا حسن؛ لأنه لا يوجد رجل من رجال سنن الترمذي ، إلا وله ترجمة في هذا الكتاب، وليس من رجال الترمذي فقط، بل من رجال الكتب الستة، لا يوجد رجل من رجال الكتب الستة له رواية، سواء المصنفون للكتب الستة: البخاري ومسلم وأهل السنن، أو رجالهم الذين رووا عنهم إلا وله ترجمة فيه، وفيه بيان الوفيات، وبيان منزلة الراوي، وبيان من روى له من أهل الكتب الستة برموز مختصرة، وهذا الكتاب عصارة عصارة عصارة عصارة كتاب متقدم، فالإمام المقدسي ألف كتابه: الكمال في أسماء الرجال، ولعله لو عثر عليه وطبع يزيد على خمسين مجلداً، وقد اختصره الإمام المزي شيخ الإمام ابن كثير ووالد زوجته، وهو من تلاميذ الإمام ابن تيمية رحمهم الله جميعاً، اختصره في كتاب سماه: تهذيب الكمال، فجاء الحافظ ابن حجر فاختصر المختصر في تهذيب التهذيب، وهو الموجود بين أيدينا في اثني عشر مجلداً، فهذا مختصر المختصر؛ لأنه اختصار لتهذيب الكمال للمزي الذي هو اختصار للكمال الذي ألفه المقدسي ، ثم اختصره الحافظ في مجلد طبع حديثاً، وفي مجلدين في الطبعات القديمة، فجمع فيه رجال الكتب الستة.
وهذا الترتيب والعناية بأسماء الرواة من معجزات نبينا عليه الصلاة والسلام، وصدق الله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. وإذا حفظ الذكر فستحفظ السنة؛ فهذا التبويب وهذا التصنيف لرجال كتب السنة الستة حيث رتبوا على حسب حروف المعجم، بحيث يبدأ بالاسم الذي أوله همزة وينتهي بالياء، ثم يأتي بالاسم فيرتب الأسماء على حسب اسم الأب، فمثلاً: إبراهيم ابن أحمد، يقدم على إبراهيم بن محمد؛ لأنه يراعي الترتيب في اسم الراوي واسم أبيه، ثم يشير إلى من روى عن هذا من أهل الكتب الستة برموز معينة، لقد كان هذا في وقت كانوا يكتبون فيه على الجلود، وعلى صفائح الحجارة، ولا يوجد ورق أملس، ومن باب أولى لا طابعات ولا كمبيوترات، فسبحان ربي العظيم عندما حفظ دينه بجهد أئمته ومحدثيه!
إذاً: صاحب الجامع، أحد الأئمة، هذا كلام الحافظ ابن حجر عليهم جميعاً رحمة الله باختصار في ترجمة هذا العبد الصالح، ولا داعي للإسهاب في ترجمته، لو نظرنا مثلاً إلى إمام آخر من الأئمة فماذا سيقول الحافظ ، إنه يقول في ترجمة شيخ المحدثين: محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة الجعفي أبو عبد الله البخاري ، جبل الفقه وإمام الدنيا في فقه الحديث، من الحادي عشرة، أي: بعد المائتين، مات سنة: (256هـ) وله اثنتان وستون سنة، ت س، أي: حديثه مروي في سنن الترمذي ، وسيأتينا أن الترمذي روى عن شيخه البخاري في السنن، وسين للنسائي ، يعني: روى النسائي عن البخاري في سننه أيضاً، فترجمته للبخاري أعلى من ترجمة الترمذي ؛ إذ قال: جبل الحفظ، وسيأتينا أن البخاري كان شيخاً للإمام الترمذي ، وروى عنه لكن في غير الجامع، وقال البخاري لتلميذه: ما انتفعت بك أكثر مما انتفعت بي، يعني: ما حصلته منك وما استفدته منك أكثر مما انتفعت بي، وهذا من تواضعه رحمه الله ورضي عنه، وإلا فالإمام البخاري جبل الحفظ وإمام الدنيا في الحديث والفقه أيضاً، وإذا كان أئمتنا يقولون: لولا البخاري لما راح مسلم ولا جاء، فمن باب أولى أن يقال هذا في الترمذي ، لكن أئمة الهدى يتواضع بعضهم لبعض، وقد روى البخاري عن تلميذه الترمذي لكن في غير الصحيح.
السمعاني هو صاحب كتاب الأنساب الذي هذبه ابن الأثير في كتاب اللباب في تهذيب الأنساب، وكتاب الأنساب هذا اثنا عشر مجلداً وهو مطبوع، وللسمعاني منقبة لعلها لم توجد لغيره من الشيوخ، يقول أئمتنا: بلغ عدد شيوخه الذين تلقى عنهم وروى عنهم سبعة آلاف شيخ، وكلما كثر شيوخ الإنسان كلما ازداد علمه وتفتح عقله، ورؤية العلماء ولقاء العلماء تنقيح للألباب، والذي يقتصر على عالم واحد يأخذ إيجابيات وسلبيات ما في هذا العالم، والذي يعدد يأخذ إيجابيات متعددة في هؤلاء العلماء ويحذر السلبيات، ولذلك كلما كثرت شيوخ الإنسان كلما صقل عقله وتفتح ذهنه، وإذا تحجر على واحد فإن ظل ذاك الواحد يبقى معه، وهذا خلاف ما يقوله المخرفون في هذه الأيام من الصوفية وغيرهم، حيث يقولون: لا ينبغي أن يعدد الإنسان الشيوخ، وأن التلميذ بين شيخين كالمرأة بين زوجين، قياس ليس مع الفارق فحسب بل مع أبعد الفارق، ما علاقة هذا بهذا، إن حال طالب العلم كحال النحلة: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [النحل:68-69] لا تقتصر على ثمرة واحدة، بل من كل الثمرات، وأما الأبضاع فلا يصلح فيها المشاركة لاختلاف الأنساب، فشتان شتان! يقولون: التلميذ بين شيخين كالإنسان بين سيفين، وهذا لا يصلح، وأن واحداً يكفي ليتلاعب فيه كما يريد، نعوذ بالله من الضلال والهوى، وهذا ما تفعله الجماعات الموجودة في هذه الأيام، تلتزم بها ولا تخرج عنها، وإذا حضرت حلقة علم تركت وفصلت، نعوذ بالله من هذا الضلال.
يقول هذا العبد الصالح -السمعاني - في الإمام الترمذي وفي بيان مكانته: إمام عصره بلا مدافعة، أي: كان الترمذي إمام عصره بلا مدافعة، صاحب التصانيف، ألف الجامع، وألف العلل، وألف في شمائل النبي عليه الصلاة والسلام، وكلها إن شاء الله سنتدارسها: الجامع والشمائل والعلل مع سنن الترمذي ، أحد الأئمة الذين يقتدى بهم في الحديث.
إليكم هذه القصة المختصرة التي ذكرها الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ والسير، وذكرها الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب، وهي في غير ذلك من الكتب التي ترجمت للإمام الترمذي عليه رحمة الله، يقول الإمام الترمذي : كتبت جزأين عن شيخ من المحدثين لم أره، شيخ من الشيوخ له حديث نشره على طلبة العلم، فالتقيت بطالب علم فكتبت جزأين عنه ما رأيته ولا سمعت منه هذه الأحاديث، إنما كتبتها عمن رواها عنه من التلاميذ ومن طلبة العلم، يقول: وكانت هذه الأجزاء معي في سفري، فالتقيت بذلك الإمام، فأخذت الجزأين لأسمعهما منه، يقرأ علي الأحاديث وأنا أضبط ما في هذين الجزأين من أحاديث، يقول: فبتقدير الله أخذت جزأين ليس فيهما أحاديث من الأجزاء البيضاء التي يكتب فيها، بقي أوراقاً بيضاء، يقول: فجئت وقلت: سمعت جزأين عنك أريد أن تحدثني بهما، قال: نعم، يقول: فبدأ يحدث، وفتحت الجزأين ليس فيهما أحاديث الشيخ، يقول: فبدأت أتابع مع الشيخ وهو يحدث، فنظر في الجزء الذي معي، فرآه أبيض، ليس فيه كلامه، قال: أما تستحي مني؟ قلت: يا إمام! إني أحفظ الجزأين، وكل ما ذكرته حفظته، فقال: أسمعني، يقول: فأعدت عليه الحديث على ولاء، يعني على حسب ترتيبه، الأول والثاني والثالث، قال: لعلك حفظت هذا قبل أن تلقاني، قلت: يا إمام حدثني غيرها قال: فحدثني بأربعين حديثاً بالأسانيد مع المتن، فأعدتها عليه في نفس المجلس، فقال: سبحان الله! ما رأيت مثلك! يعني: ما في الجزأين عندما حدثتك بما فيهما ضبطته وحفظته، فأردت أن أتحقق فحدثتك بأربعين حديثاً متتابعاً رويتها لك بالأسانيد، ثم ترويها لي مما لم أحدث به سابقاً؟ ما رأيت مثلك! ولذلك يقول أبو سعد الإدريسي : كان يضرب به المثل في الحفظ، إذا أردت أن تثني على إنسان في الحفظ، وأن تبين ضبط حافظته، وقوة ذاكرته، تقول: هذا كـأبي عيسى الترمذي ، يعني: يحفظ مائة حديث في المجلس بأسانيدها ومتونها ولا يخطئ في حرف، هذا حقيقة من توفيق الله لهم، وهؤلاء اتقوا الله فأعانهم الله سبحانه وتعالى.
وانتهت المحاضرة ولا فائدة، وخرج بعد ذلك ينفخ كالتنين، كأننا نحن من نتهجم على السنة ونخالفها، قلت: يا عبد الله! الحديث مروي في المسند وسنن أبي داود وسنن الترمذي ، يعني أنه مدون في أصول الإسلام، ومبوب عليه أبواب، ويستنبط منه أحكام، الإمام الترمذي يقول: لا يوجد في كتاب الجامع حديث إلا وعمل به الفقهاء غير حديثين كما سيأتينا، الإمام أحمد عليه رحمة الله عندما دون المسند قال لولده عبد الله : إذا اختلفتم في حديث ونظرتم فيه، فإذا كان في المسند فهو مما عمل به المسلمون، إذاً: له أصل وأنت تقول: لا يقبل، ولا فائدة، والله -يا أخي- إن كان كذلك فأنا أتوقع لو نزل جبريل الآن من السماء، وقال هذا الحديث معتمد في الشريعة فاقبلوه، ستقول: لا، قال: يا شيخ! معنى هذا أنك تكفرني، قلت: يا أخي! لا أكفرك ولا تكفرني، لكن لا فائدة من الكلام، يعني إذا أنت على رأي، لمَ أنا أحضرت الكتب وأنا على يقين أن حديث معاذ لو فتحنا الكلام فيه سنقضي عشر جلسات هنا لم ينته الكلام عليه، وانتهينا دون فائدة. ولذلك كل سؤال يأتي حول حديث معاذ لا أجيب عليه؛ لأني لا أريد الجدال وقيل وقال، وأئمتنا كانوا يقولون: من تعلم العلم لله كسره، فالعلم يكسرك، ووالله إن الواجبات التي ستقوم بها على حسب علمك لا تستطيعها، ومن تعلم بعد ذلك العلم للقيل والقال، أضاع وقته وعمره فيه.
مثل هذه المناظرات لو فتحت متى ستنتهي؟ كل واحد سيتكلم، وكل واحد سيقوم بعد ذلك ويعطي محاضرة بأن الأمة بحاجة إلى طهارة، أو أننا نتكلم في أشياء مثالية، دعونا من هذا ونسأل الله حسن الختام.
وقد ترجم شيخ الإسلام الإمام الذهبي في كتابه: ميزان الاعتدال، للإمام الترمذي ، وميزان الاعتدال ألفه الإمام الذهبي في الأصل ليتكلم فيه على من تُكلم فيه من أئمة الحديث سواء بحق أو بباطل، فيحقق الإمام الذهبي هذا الكلام، هل هو معتبر أو لا؟ والذي ليس حوله كلام لا يورده في كتابه، فجاء الحافظ ابن حجر بعده فألف على الميزان كتاباً سماه: لسان الميزان، فاستبعد منه التراجم التي في الميزان ممن لهم رواية في الكتب الستة، لأنها موجودة في تهذيب التهذيب، فلا داعي لإعادتها، وترك تراجم الرواة الذين ليس لهم رواية في كتب الستة؛ ولذلك لا يوجد في لسان الميزان رجل له رواية في الكتب الستة، أما الميزان فيوجد فيه من له رواية في الكتب الستة أو ليس له رواية.
إذاً: لماذا أورد الذهبي ترجمة الترمذي في الميزان؟ هل جرى حوله كلام؟ هل طعن فيه أحد؟ لأنك عندما تراه في الميزان ينبغي أن يكون حوله كلام ولابد.
هذه الجهالة التي وصم بها ابن حزم هذا الإمام المبارك تحتمل أمرين:
الأمر الأول هو الذي ذهب إليه الإمام الذهبي حيث قال: ولا التفات إلى قول أبي محمد بن حزم : إنه مجهول، فإنه ما عرفه، ولا درى بوجود الجامع والعلل له، يعني: ما رأى هذين الكتابين ولا علم بهما، فسمع به فقال: مجهول، ولم يتحقق، وهذا قاله في الميزان، وقال في السير: كتاب الترمذي ، وكتاب سنن ابن ماجه ما دخلا إلى بلاد الأندلس إلا بعد موت ابن حزم ، فما عرف ابن حزم الترمذي ولا ابن ماجه ، فإذا تكلم فيهما فهذا لعدم معرفته، لا لأنه يوجد في هذا الإمام كلام.
فإن قال قائل: فلم أورده الذهبي في الميزان؟ قال: بما أن حوله كلام لابد من ذكره رغم أنه ثقة مجمع عليه.
هذا الذي ذهب إليه الإمام الذهبي في التعليل، وخالفه الإمام ابن حجر ، والإمام ابن كثير عليهم جميعاً رحمات ربنا الجليل، فالإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب بعد أن نقل كلام الإمام ابن حزم في الترمذي قال: ولا يقال: إنه ما عرفه، فقد أطلق مثل هذه الكلمة -يعني: التجهيل- على بعض أئمتنا، فقد أطلقها في أبي القاسم البغوي ، وأبو القاسم البغوي توفي سنة: (317هـ)، وهو عبد الله بن محمد ، طلب العلم وعمره عشر سنين، سئل عنه الإمام الدارقطني فقال: ثقة جبل إمام ثبت مسند الدنيا، أبو القاسم البغوي صاحب كتاب: تراجم أصحاب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وعُمِّر مائة وثلاث سنين، فلما توفي سنة: (317هـ) كان طالب العلم إذا روى عنه يقول: أرجو أن أروي عنك سنة: (325هـ)، فكان يتضايق، يقول: هلا قلت: ثلاثمائة وخمسين، فالراوي يقول: أروي عنك إن شاء الله سنة: (325هـ) فيقول: لا، قل: (350هـ) زد، يريد أن يعيش قرابة المائتين ليزيد عمره في طاعة الله جل وعلا، فهذا الإمام يقول عنه ابن حزم أيضاً: إنه مجهول، وعليه فالجهالة ليس لأنه ما عرفه، إنما من باب تعنته وتنقيصه للعلماء. وقال الإمام ابن كثير : إن تجهيل ابن حزم للإمام الترمذي وحكمه عليه بالجهالة لا تضع من قدر الترمذي عند أهل الحديث، بل وضعت من قدر ابن حزم عند الحفاظ، ثم قال:
وكيف يصح في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهار إلى دليل
يعني: أن ابن حزم عندما طعن في الترمذي عاد هذا الطعن إليه، وأنقص من قدره دون أن يؤثر على الترمذي .
وكتاب الإيصال الإمام الذهبي يقول عنه: المحلى في ثمانِ مجلدات، رآه، وهذا في أربعة وعشرون مجلداً، ونحن عندنا الآن المحلى طبع في أحد عشر، فهذا لو طبع سيكون في ثلاث وثلاثين مجلداً.
تنبيه: في تهذيب التهذيب إذا رجعتم إليه يوجد تصحيف في الكلام، بدل إيصال الياء المنقوطة من تحت جعلوها منقوطة من فوق: الاتصال، وهذا غلط، فهو: الإيصال بالياء، فصححوا طبعة التهذيب، وما قاله الإمام ابن كثير في البداية والنهاية: ما ذكره ابن حزم في محلاه: بأن الترمذي مجهول، هذا خطأ، فـابن حزم لم يذكره في محلاه، إنما ذكره في كتاب الإيصال الذي هو أربعة وعشرون مجلداً كما ذكرت، فليس هو في المحلى، وليس الكتاب بكتاب الاتصال.
أما الإمام ابن حزم حقيقة سأقف معه وقفة أذكر فيها ما في هذا العبد الصالح من إيجابيات، وبعد ذلك من زلل وقع فيه لنحذره، والكلام قد لا يأخذ قرابة نصف ساعة أو أكثر، فنترك هذا إن شاء الله إلى الموعظة الآتية إن شاء الله، وبعد أن ننتهي من هذا ننتقل إلى بيان منزلة كتاب الإمام الترمذي بعد أن بينا منزلته، وأنه إمام بلا مدافعة، مجمع على ثقته رحمه الله ورضي عنه.
أسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يغفر ذنوبنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يفرج كروبنا، وأن يغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأن يرحمهم كما ربونا صغاراً، ونسأله أن يغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، ونسأله أن يحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر