انتهى بنا الدرس إلى وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وقد رغب بعض المستمعين في إعادة ساعة وفاته صلى الله عليه وسلم، ولا مانع من ذلك.
قال: [وبعد أن أذن له أمهات المؤمنين في أن يُمرض في بيت عائشة رضي الله عنها]، هذا عدل رسول الله ومن أعدل منه؛ فقد استأذن وطلب من نسائه أن يسمحن له بأن يمرض في بيت عائشة، وكان له تسع نسوة، ولكل امرأة بيت وحجرة، فاستأذنهن في أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها.
قال: [خرج صلى الله عليه وسلم يمشي بين رجلين من أهله، هما: العباس وعلي رضي الله عنهما] أي: يمشي بينهما كل آخذ بجنبه [وهو عاصب رأسه، تخط قدماه حتى دخل بيت عائشة رضي الله عنها، ثم حُمَّ]، أي: أصابته الحمى ونزلت به [واشتد به الوجع] أي: الألم [فقال صلى الله عليه وسلم: ( هريقوا علي سبع قرب من ماء حتى أخرج إلى الناس )]، أي: صبوا علي سبع قرب، والقربة معروفة من ماء بارد، حتى أخرج إلى الناس في المسجد. [( فأعهد إليهم )] أي: بما ينبغي أن يكون [قالت عائشة : فأقعدناه في مخضب لـحفصة بنت عمر] أي: من بيتها تملكه [ثم صب عليه الماء حتى طفق يقول: ( حسبكم حسبكم )]، أي: يكفي ما صببتم علي [ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم، ثم ازداد مرضه، فقال: ( مروا
قال: [ولما كان يوم الخميس وقبل وفاته صلى الله عليه وسلم بأربع ليال، اجتمع عنده ناس من أصحابه، فقال: ( ائتوني بكتف )]، كتف الشاة عظم أبيض معروف، واسع، يكتب فيه الوثائق [( ودواة )] بها الصبغ أو الحبر [( اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً )] أي: لو أخذتم به [( فتنازعوا عنده )] أي: الأصحاب. بعضهم يقول: دعوا رسول الله لا ترهقوه، لا تتعبوه، وآخر يقول: اكتبوه هكذا [( وأوصاهم بثلاث، فقال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب )] وجزيرة العرب ها نحن فيها، وهي شبه جزيرة، يدخل فيها: عدن، وعمان، والإمارات، والكويت، وقطر، والمملكة، وهي قبة الإسلام وبيضته، ولا يحل أن يوجد فيها مشرك أبداً يعبد غير الله عز وجل، ولا يصح أن تبنى فيها كنيسة أو بيعة من بيع اليهود أو معبد من معابد الهنود؛ لأنها بمثابة المسجد، فهل تبني كنيسة داخل المسجد؟ ما هو معقول، فلهذا امتثل رسول الله أمر ربه تعالى في قوله: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:1-2] هذه المدة التي أعطاهم إياها فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ٌ [التوبة:5]، لماذا يا رسول الله؟ من أجل أن تطهر هذه البقعة في العالم؛ لتبقى منار الإسلام وهداية المسلمين.
وقوله: ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) أما غير المشركين كاليهود والنصارى فلا بأس، لكن المشركين لم يبق مجال لهم في البقاء هناك.
قال: [( وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم )] إذا جاء وفد من أي بلاد أجيزوه بجائزة كما كنت أجيز الوفود، ترغيباً لهم في الإسلام، وتأهيلاً لهم لدعوة الله عز وجل.
قال: [ولما كان يوم الإثنين الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم -والناس في صلاة الصبح وأبو بكر يصلي بالناس- لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يكشف ستر حجرة عائشة ، فينظر إليهم وهم صفوف في الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، وهمَّ الناس أن يفتنوا في صلاتهم فرحاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستار] والحجرة هي هذه التي عن شمالنا.
قال: [وانصرف الناس وهم يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أفاق من وجعه، فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح، ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك] عبد الرحمن بن أبي بكر هو أخو عائشة من أبيها وأمها، فـأبو بكر ذهب إلى أهله، وعبد الرحمن دخل على أخته وحبيبه صلى الله عليه وسلم، وفي يده عود سواك يستاك به، والاستياك معلوم.
قال: [وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري] هي تقول هكذا [فرأيته ينظر إليه] أي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عبد الرحمن والسواك في يده وهو يستاك [وعرفت أنه يحب السواك فقلت: آخذه لك؟] أي: آخذ لك السواك من أخي [فأشار أن نعم] أي: خذيه لي. قالت: [فناولته إياه فاشتد عليه] كان العود قاسياً وليس بهش [فقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته بأمره فاستن به، وهو مستند إلى صدري، وبين يديه ركوة ماء] أي: آنية فيها ماء [فجعل يدخل يده في الماء فيمسح به وجهه ويقول: ( لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات ) وآخر كلمة قالها: ( اللهم الرفيق الأعلى )] يريد معنى قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].
قالت أم المؤمنين عائشة : [ومن سفهي وحداثة سني] لأنها صغيرة، تزوجها وهي ابن سبع، وما عاشت معه أكثر من ثمان سنين [أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي. وكانت تقول رضي الله عنها: إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه؛ أن لينت له السواك فاستاك به] فجمع الله بين ريقه وريقها.
قال: [وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة من الهجرة المباركة، وفي مثل هذا الوقت الذي دخل فيه المدينة. فيوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول ولد فيه، وأوحي إليه فيه، ووصل دار الهجرة فيه، وتوفي فيه، ولذا كان يصومه صلى الله عليه وسلم ويقول: ( يوم الإثنين ولدتُ فيه وأوحي إليَّ فيه )] هذا اليوم ولد فيه، وهاجر فيه ودخل المدينة، وتوفي فيه.
يا أصحاب المولد! كيف اخترتم فقط الفرح ونسيتم الحزن؟
يا شيخ! هذا كله باطل، لو سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة المولد -والله- لتسابقنا إليها ولفزنا إن شاء الله بها، لكن ما سن هذا، ولا أوصى به، ولا أمر به، فهي عادة من عادات النصارى فقط، إذ المولد في الأمة الإسلامية لم يعرف في القرون الثلاثة قط، والله ما سمع به، ولا كان إلا في القرن الرابع، أخذوه عن النصارى جيرانهم فقط، ومع هذا من أراد أن يشكر الله كما كان الحبيب يشكره فليصم يوم الاثنين والخميس شكراً لله على أن أنعم به على رسوله بالولادة والنبوة والهجرة والاثنين، وفوق ذلك ائتساء واقتداءً بالحبيب صلى الله عليه وسلم إذ كان يصوم الاثنين والخميس، أما البقلاوة، والرقص، والبخور، والصياح كل هذا من عادات الجاهلية، ليس من الإسلام في شيء.
قال: [ومن آيات نبوته صلى الله عليه وسلم أنهم اختلفوا، هل يغسلونه كما يغسل الرجال بأن يجرد من ثوبه؟] أي: يبقى عارياً أو ماذا يفعلون؟ هذه المجموعة من الصالحين الذين سمعتم عنهم، اختلفوا كيف نغسله؟ ننزع عنه ثيابه أو نتركه ونغسله فوقها؟ [فأخذهم النوم وهم كذلك، وإذا بهاتف يقول: غسلوا رسول الله وعليه ثيابه، ففعلوا، ولما أرادوا دفنه اختلفوا في موضع دفنه، فجاء أبو بكر رضي الله عنه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض )] كل الأنبياء بالآلاف ما يدفن النبي إلا في مكان موته، وهذه خصوصية خصهم الله بها [فرفع فراشه صلى الله عليه وسلم وحفر في موضعه، وذلك بأن حفر له أبو طلحة الأنصاري لحداً، ثم دخل الناس أرسالاً] أي: جماعات جماعات [يصلون عليه فرادى: الرجال ثم النساء ثم الصبيان ثم العبيد، ولما فرغوا من الصلاة عليه دفن صلى الله عليه وسلم وذلك ليلة الأربعاء، وكان الذي نزل في قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم ابنا العباس وشقران -مولى رسول الله-، وأثناء ذلك قال أوس بن حولي الأنصاري لـعلي : أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: أن تأذن لي في النزول إلى قبر الحبيب صلى الله عليه وسلم، فأذن له بالنزول في القبر معهم فنزل، وسووا عليه التراب، ورفعوه مقدار شبر عن الأرض.
وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمره ثلاث وستون سنة، ولم يخلف من متاع الدنيا ديناراً ولا درهماً، بل مات ودرعه مرهونة في آصع من شعير، فصلى الله عليه وسلم يوم ولد، ويوم مات، ويوم يبعث حياً].
لا أحب أن أثير شجون المؤمنين والمؤمنات، ولا أن أهيج نفسي بالبكاء الذي لا يجدي، بل يجدي، إنه يطفئ نار أحشاء تلتهب، ولكن كيف أواصل الحديث والقلب جريح، والعين تذرف، والدمع منهمر، فلذا نكتفي بتسجيل دالية حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها تعبر عن حزن وألم ودموع كل مؤمن ومؤمنة] إليكم هذه القصيدة التي رثى فيها حسان نبي الله صلى الله عليه وسلم.
قال: [قال رضي الله عنه]، أي: حسان بن ثابت شاعر الإسلام، شاعر النبي صلى الله عليه وسلم، اسمعوه يبكي.
قال: [بطيبة رسم للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
ولا تنمحي الآيات من دار حرمة بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وواضح آثار وباقي معالم ورَبع له فيه مصلى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وعهده وقبراً بها واراه في الترب ملحد
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت عيون ومثلاها من الجفن تسعد
تذكرن آلاء الرسول وما أرى لها محصياً نفسي فنفسي تبلد
مفجعة قد شفها فقد أحمد فظلت لآلاء الرسول تعدد
وما بلغت من كل أمر عُشيره ولكن لنفسي بعد ما قد توجد
أطالت وقوفاً تذرف العين جهدها على طلل القبر الذي فيه أحمد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
وبورك لحد منك ضمن طيباً عليه بناء من صفيح منضد
تهيل عليه الترب أيد وأعين عليه وقد غارت بذلك أسعد
لقد غيبوا حلماً وعلماً ورحمة عشية علوه الثرى لا يوسد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكي السماوات يومه ومن قد بكته الأرض فالناس أكمد
وهل عدلت يوماً رزية هالك رزية يوم مات فيه محمد؟
تقطع فيه منزل الوحي عنهم وقد كان ذا نور يغور وينجد
يدل على الرحمن من يقتدي به وينقذ من هول الخزايا ويرشد
إمام لهم يهديهم الحق جاهداً معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا
عفو عن الزلات يقبل عذرهم وإن يحسنوا فالله بالخير أجود
وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله فمن عنده تيسير ما يتشدد
فبينا هم في نعمة الله بينهم دليل به نهج الطريقة يقصد
عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
عطوف عليهم لا يثني جناحه إلى كتف يحنو عليهم ويمهد
فبينا هم في ذلك النور إذ غدا إلى نورهم سهم من الموت مقصد
فأصبح محموداً إلى الله راجعاً يبكيه حتى المرسلات ويحمد
وأمست بلاد الحرم وحشاً بقاعها لغيبة ما كانت من الوحي تعهد
إلى أن قال:
فبكي رسول الله يا عين عبرة ولا أعرفنك الدهر دمعك يجمد
وما لك لا تبكين ذا النعمة التي على الناس منها سابغ يتغمد
فجودي عليه بالدموع وأعولي لفقد الذي لا مثله الدهر يوجد
وما فقد الماضون مثل محمد ولا مثله حتى القيامة يفقد
إلى أن قال:
أقول ولا يلقى لقولي عائب من الناس إلا عازب العقل مبعد
وليس هوائي نازعاً عن ثنائه لعلي به في جنة الخلد أخلد
مع المصطفى أرجو بذاك جواره وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد]
إن الحبيب صلوات الله وسلامه عليه بشر، إلا أنه أكمل البشر وأفضلهم، وواهب كماله وفضله هو الله جل جلاله، وتعالى جده، وعظم سلطانه.
ومن هنا كان الكمال المحمدي -ذاتاً وصفات- عطاء إلهياً لا يسامى رسول الله فيه، ولا يقوى القلم على رسم حقيقته، ولم يخطئ من قال في هذا الشأن:
وما مثلوا صفاتك للناس إلا كما مثل النجوم الماء
وقد صف الحبيب محمداً صلى الله عليه وسلم بعض من أصحابه ومواليه وآل بيته، وكل واصف لم يعد الحقيقة، بل لم ينته إليها، وذلك لعجزه وعدم قدرته على رسم الصورة الحقة للذات المحمدية.
وبناءً على هذا الذي قلنا؛ فإننا نكتفي بوضع رسم أمام القارئ كان قد رسمه أعلم أصحابه به، وألصقهم بجنابه، لأنه فرع دوحته، وبعل ابنته، وأبو حسنيه؛ هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه إذ يقول ..]
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل ولا القصير، فخم الرأس واللحية، شثن الكفين والقدمين، ضخم الكراديس، مشرباً وجهه حمرة، طويل المسربة] أي: الشعر الذي في الصدر [إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب، لم أر قبله ولا بعده مثله، وكان أدعج العينين، سبط الشعر، سهل الخدين، ذا وفرة، كأن عنقه إبريق فضة، وإذا التفت التفت جميعاً، كأن العرق في وجهه اللؤلؤ الرطب؛ لطيب عرقه وريحه، وخاتم النبوة بين كتفيه، وهو بضعة لحم ناشزة حولها شعر طيب جميل.
كانت تلك صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم رسمها أبلغ أصحابه بياناً وأفصحهم لساناً، ومن أصدقهم لهجة، وأكثرهم تحرياً للحقيقة والصواب، فلو أراد المصورون اليوم -وقد لعنهم الله على لسان رسوله- لو أرادوا أن يرسموا صورة لمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ما قدروا ولو اجتمعوا لذلك، ولكانوا كاذبين] وبلغني وأنا أكتب هذه الرسالة: السيرة المحمدية العطرة: أن منظمة ما في بلد ما -جحدنا اسمها- رسمت صورة في شكل تمثال وقالوا: هذا محمد صلى الله عليه وسلم، فكر عليها رجال سفارة خادم الحرمين الشريفين فهدموها وحطموها، فجزاهم الله خير الجزاء، وحفظ الله خادم الحرمين وحكومته التي تذب عن الإسلام، وتدفع عن حرمات شرائعه أصولاً وفروعاً، آمين.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر