وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
آيات من كتاب الله عز وجل قد سمعناها في الركعة الأولى من صلاة المغرب، وهي الآيات الأخيرة من سورة البقرة، ومطلع هذه الآيات فيها إثبات الملك لله عز وجل، يقول المولى عز وجل: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:284] وكأن أصل السياق ما في السماوات وما في الأرض لله، ولكن الله عز وجل قدم شبه الجملة من الجار والمجرور، ثم أتى بأصل الجملة بعد ذلك ليدل على الحق، فقال: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:284]، ولم يقل: ما في السماوات وما في الأرض لله؛ ليدل على أن المالك الحقيقي هو الله عز وجل، فإذا كان الله هو المالك الحقيقي للسماوات والأرض وما فيهن وما بينهن فهو المستحق للعبادة وحده.
أما ملكية الخلق لما بين أيديهم فهي ملكية ناقصة، وأصل الملك أن يكون تاماً، فالملك التام لله عز وجل يتصرف في ملكه حيث شاء، لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41]، فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]، أما المخلوق فهو مقيد الحرية، إذ ليست مطلقة في إنفاق المال، فلا يتصرف إلا بإرادة المولى عز وجل، أو في أبواب قد أمره الله عز وجل بها، فلا يكون بعد هذا القيد أو هذه القيود حراً.
والمالك الحقيقي حر في أن يتصرف فيما يملك، وأنت لست حراً بل أنت عبد لله عز وجل، كما أن الله تبارك وتعالى استخلفك وجعلك قائماً على بعض ملكه سبحانه وتعالى، وقيد بقيود، وشرط عليك شروطاً لا تتعداها، فإن تعديتها فقد أعد لك عذاباً إليماً.
وهذا السياق الموجود في الآية دل على أن المالك الحقيقي هو الله عز وجل، استفدنا ذلك من الحصر الذي قدم فيه المولى عز وجل الجار والمجرور، وهو قوله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:284].
وهذا كقوله تباك وتعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، ولم يقل: نعبد إياك، ونستعين إياك فهذا السياق ليس فيه نوع من الحصر، فيجوز أن يكون المعنى: نعبد إياك وغيرك، ونستعين بك وبغيرك، أما معنى سياق الآية: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] أي: لا معبود بحق إلا أنت، وقوله: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] أي: لا يستعان بأحد إلا بك، فالاستعانة كلها لله عز وجل وبالله عز وجل، كما أن العبادة لا تصرف إلا لله عز وجل، فمن صرف شيئاً مما يجب صرفه لله عز وجل كان مشركاً بالله عز وجل في الشيء الذي صرفه لغيره سبحانه وتعالى.
ولذلك قال الله عز وجل: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ [الذاريات:22]، ولم يقل: ورزقكم في السماء وما توعدون، ولكنه قدم الجار والمجرور في قوله: وَفِي السَّمَاءِ [الذاريات:22]، لينفي أي شبهة تطرأ على ذهنك أن الرزق في الأرض؛ لأن هذا الرزق في خزائنه تبارك وتعالى، وخزائنه في يده في السماء إن شاء أمسك وإن شاء منع.
فالسياق الذي في أول الآية: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [البقرة:284]، فيه دليل على أن السماوات السبع والأرضين السبع ملك لله عز وجل بما فيها ومن فيها.
ولذلك شق على الصحابة حين نزلت هذه الآية مشقة عظيمة جداً، فقالوا: كيف ذلك؟ فذهبوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وبركوا وجثوا على ركبهم، وقالوا: (يا رسول الله! أنزلت عليك الآيات، وكلفنا من الأعمال ما نطيق من صلاة وقيام وحج وجهاد وكل ذلك في وسعنا وفي طاقتنا، أما هذه الآية ما نطيقها ألبتة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، قولوا: سمعنا وأطعنا، فقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فنزل قول الله عز وجل: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285]، فلما قالوها وذلّت بها ألسنتهم، أنزل الله عز وجل الآية الناسخة لها وهي قوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286]).
ولذلك أهل العلم اختلفوا اختلافاً عظيماً في قول الله عز وجل: أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]، هل هذه الآية منسوخة أو محكمة؟ فذهب جمهرة عظيمة من الصحابة رضي الله عنهم وكثير من أهل العلم منهم: ابن عباس في أحد قوليه، وعبد الله بن عمر ، وعمر بن الخطاب ، وأبو هريرة.. وغيرهم إلى أنها منسوخة بقول الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286]، واستدلوا على ذلك بأدلة منها: قول النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل)، أي: حديث النفس والهم بالشيء، كأن تحدثك نفسك بأن تفعل شراً، ثم الوازع الإيماني في قلبك يمنعك من فعل هذا لشيء أو حتى من التلفظ به، فعلى مذهب جمهور المحدثين أو مذهب جمهور أهل العلم أن الله لا يحاسبك عليه؛ لأن هذه الآية منسوخة، ولأن هذا الهم وحديث النفس ليس في إمكانك أن تدفعه؛ ولذلك لم يحاسبك الله عز وجل عليه، بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم أو تعمل به)، أي: حتى يتجسد هذا الهم وحديث النفس في صورة قول أو فعله.
وفي حديث النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم : (إذا هم عبدي بسيئة فعملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة)، وهذه الدرجة أعظم من الدرجة الأولى، (وإذا هم بحسنة فعملها فاكتبوها عشر حسنات، فإن لم يعملها فاكتبوها له حسنة، والله يضاعف لمن يشاء)، والراجح أن هذه الآية منسوخة، وهو الذي رجحه الشوكاني.. وغيره، وهو الذي أميل إليه.
ومن الوسوسة المعفو عنها ما جاء في الحديث: (أن بعض الصحابة أتوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا: يا رسول الله! إنا تحدثنا أنفسنا بكلام أحب إلينا أن نخر من السماء من أن نتكلم به، قال: أو ذلك قد وجدتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذاك صريح الإيمان).
وعند البخاري من حديث أبي هريرة : (إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله، من خلق الأرض؟ فيقول الله، ثم يعدد له خلقاً من خلقه سبحانه، فيقول: هذا الله خلق كل شيء فمن خلق الله؟ فإذا بلغ الشيطان منكم ذلك المبلغ فاستعيذوا بالله وانتهوا، وقولوا: آمنا بالله ورسوله)، فهذا الوسواس الذي ربما تحدثك نفسك به قد بينه النبي عليه الصلاة والسلام لك، وبين معه العلاج، وكيف تدفع عنك هذا الشيطان وهذه الوسوسة، ولذلك قال: (إذا بلغ الشيطان منكم ذلك المبلغ فاستعيذوا بالله).
إذاً: أول علاج أن تستعيذ بالله، وأن تلجأ إلى الله عز وجل في أن يدفع عنك هذا الشر، ثم قال: (وانتهوا) أي: جاهدوا أنفسكم في دفع هذا الشيطان عنكم، ثم قال بإقرار الإيمان: (قولوا أمنا بالله ورسوله)، فهذه ثلاثة علاجات قد حددها النبي عليه الصلاة والسلام لدفع الوسوسة والشيطان عنك.
والإمام الطبري ذهب إلى أن هذه الآية محكمة، وقال: إن هذه الآية تعني أن الله عز وجل يخبر جميع الخلائق الكافر منهم والمؤمن بما همت به أنفسهم، فيخبر الكافر ويعذبه، ويخبر المؤمن ويغفر له، وهذا معنى قوله: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:284] أي: المؤمنين، وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:284] أي: الكافرين.
واستشهد بما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة (أن
ولكن يعكر هذا الرأي -وهو أن الآية غير منسوخة- قول النبي عليه الصلاة والسلام: (من نوقش الحساب عذب)، فإن مجرد مناقشة المولى عز وجل لك أنت فعلت كذا وقلت كذا في يوم كذا وفي ساعة كذا يعتبر عذاباً أليماً جداً، فلو أنك أعطيت ولدك مالاً وحاسبته عليه فيما أنفقت هذا المال؟ وما الذي اشتريته؟ لكان الولد في موقف لا يحسد عليه بين يديك، ولله المثل الأعلى فلو أن عبداً وقف بين يدي الله عز وجل يحاسبه على عمله وقوله في حياته الدنيا، لكان هذا أشد العذاب على المرء، وربما يصح للإمام الطبري تصحيح هذا الرأي، إلا أنه يعكر عليه قول جماهير الصحابة أن هذه الآية منسوخة، ولذلك فقد جاء عند الإمام مسلم وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن الله عز وجل ألهم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أن يقولوا: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال: نعم)، وفي رواية: (قد فعلت).. إلى آخر الدعاء من آخر السورة، وفي كل دعاء يقول المولى عز وجل: (نعم، قد فعلت) وهذا يدل على أن الصحابة لما رفعوا لواء السمع والطاعة تقبل الله عز وجل منهم ذلك، وغفر لهم، ونسخ ما فرضه عليهم في أول الآيات بقوله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286].
ثم أثنى الله عز وجل على جميع المؤمنين، إلا أنه في الدرجة الأولى موجه للصحابة؛ لأنهم أول من خوطبوا بالقرآن الكريم، فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285] عطفهم على الرسول، أي: آمن الرسول والمؤمنون بما أنزل إليه من ربهم، كما آمنوا بالله وملائكته ورسله، فعطف المؤمنين على الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا فيه مدح وثناء وتفضل من المولى عز وجل أن جعل أهل الإيمان يوافقون الرسل في أركان الإيمان الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، وإن لم يكن جميع أركان الإيمان قد ذكرت في هذه الآية إلا أنها قد ذكرت في آيات أخرى وأحاديث أخرى كثيرة، فهذا العطف عطف تكريم وتشريف للصحابة، بل ولجميع المؤمنين، فقال: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ [البقرة:285]، والذي أنزل إليه من ربه هو الوحي، فالنبي عليه الصلاة والسلام آمن بالوحي من أوله إلى آخره وعمل به، وكان قدوة لجميع الأنام صلى الله عليه وسلم، وتبعه في هذا الإيمان المؤمنون من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة:285].
والله تبارك وتعالى سمى نفسه الله، ووصف نفسه بأنه إله الحق، بمعنى المألوه الذي استحق أن يكون إلهاً واحداً في السماء والأرض، وأما ادعاء الألوهية لغير ذلك من المخلوقات فهي ادعاءات كلها كاذبة، فالله تبارك وتعالى هو الرب لا رباً سواه، وهو الإله لا إلهاً غيره، فإذا كان هو الإله وجب توجيه العبادة كلها إليه، وإذا كان هو الرب وجب الإقرار، والاعتراف، والإذعان بين يديه سبحانه وتعالى أنه الخالق، الرزاق، المدبر، لا خالق غيره، ولا رازق سواه.
فهنا بيان أن الصحابة شاركوا النبي عليه الصلاة والسلام في أصول هذا الإيمان، وأنهم آمنوا بالله كما آمنوا بالملائكة.
ولما خلق الله عز وجل الإنسان فبدرت منه المعصية، فتصور بعض أهل العلم أن الملائكة أفضل من البشر؛ لأن الملائكة جبلوا على الطاعة، وأما بنو آدم فتأتي منهم الطاعة كما تأتي منهم المعصية، فقالوا قياساً: الذي لا يأتي منه إلا الطاعة أفضل من الذي تأتي منه الطاعة والمعصية، ولكن الله عز وجل فضل بني آدم على الملائكة، وهذا الأمر يحتاج إلى تقسيم وتفصيل، فأما الملائكة فهم خير من بني آدم الذين كفروا والذين لا يأتون إلا بالمعاصي، وهذا بإجماع أهل العلم، كما نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ، كما أنهم أفضل ممن أسلم، ولكنه لا يعرف للطاعة طريقاً، أما من أتى بطاعة أو معصية فإنه أفضل من الملائكة إذا تجاوز الله تبارك وتعالى عن أخطائه ومعاصيه وأدخله الجنة، فإن الله جعل الملائكة في الجنة يدخلون عليه ويخدمونه ويسلمون عليه، قال تعالى: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، فمعنى ذلك أن الملائكة خدم في الجنة لبني آدم، مع أن بني آدم أصحاب خطأ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، فابن آدم يأتي بالمعصية ويتوب منها، وفضله الله عز وجل على الملائكة، هذا موقف أهل الإيمان من الملائكة، ولهذا كان المسلم مميزاً بعقيدته بالدرجة الأولى عن أهل الكفر.
ومما يؤيد عداء اليهود للملائكة: أن عمر رضي الله عنه لما هاجر إلى المدينة اشترى أرضاً في المدينة، وكان إذا أراد أن يذهب إليها لابد أن يمر على أحياء اليهود من بني قينقاع وبني النضير، وكانوا يطمعون في ردة عمر بن الخطاب ؛ لأنه كان زعيماً في الجاهلية، فكان من مصلحة اليهود أن يرتد أحد زعماء الإسلام بعد إسلامهم وإيمانهم، فكان إذا ذهب عمر إلى أرضه طمعوا فيه ونادوه وأجلسوه معهم، فيقولون له: يا عمر ! لو أن الذي ينزل على صاحبك غير جبريل لآمنا به، فإنك تعلم أن جبريل عدونا من الملائكة، فقال لهم عمر : قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [البقرة:97] الآيتين.. فقيل: إن هذه الآيات مما وافق فيه عمر كتاب الله عز وجل.
فالشاهد من هذا أن المسلم لابد وأن يؤمن بملائكة الرحمن، وأن الإيمان بالملائكة هو حد فاصل بين الإيمان وبين الكفر، بين أن ترفع لواء الطاعة ولواء المعصية والجحود والنكران، كما أنه لابد أن يكون سمت وهدي المؤمن في الإيمان بالملائكة يخالف سمت وهدي اليهود والنصارى، فإن الواحد منهم يؤمن بما شاء ويكفر بما شاء، أما المؤمن فلا يؤمن إلا بما أمر الله تعالى أن يؤمن به.
ولذلك فسر جماهير العلماء الذكر في الآية: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر:9] بأنه الكتاب والسنة، وقالوا: الذكر منه المتلو ومنه غير المتلو وهو السنة، ولذلك قال عبد الله بن المبارك لما عرضت عليه الأحاديث الضعيفة والموضوعة قال: تعيش لها الجهابذة، أي: هذه الأحاديث سيأتي لها من ينخلها نخلاً ويميز بين صحيحها وسقيمها، فيبقى أصل العمل على ما صح وثبت من سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأما ما كان غير ذلك فلا يلزم، بل ولا يجوز العمل به؛ ولذلك فإننا نرى في كل عصر ومصر من تصدى للسنة بحق، وميز فيها بين الصحيح والدخيل، وهذا أيضاً مظهر من مظاهر حفظ الله عز وجل للوحيين: الكتاب، والسنة، كما أن القرآن قد تعرض للدس فيه من قبل النصارى والملاحدة، ولكن سرعان ما أيد الله عز وجل وسخر له من يبين فساد وعوار هذه الخطط الكفرية، التي أرادت الطعن في كتاب الله عز وجل، وما حدث هذا في بلاد الكفر، بل حدث في مصر وفي بلد الأزهر، فقد سخر الله عز وجل المخلصين من أهل العلم لبيان هذا التحريف وهذا الزيغ قبل أن ينتشر بين أيدي الناس، وهذا مظهر عظيم من مظاهر حفظ الله تبارك وتعالى لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وكلما أُرسل نبي ونزل معه الكتاب نسخ الشريعة التي سبقته، وفيه أن بعض الشرائع كملتها الشريعة التي أتت بعد ذلك كشريعة اليهود لم تنسخ بشريعة عيسى، وإنما كانت متممة ومكملة لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، ولكن الله عز وجل فرض على اليهود أن يؤمنوا بعيسى عليه الصلاة والسلام، فكفروا بعيسى وبشريعته، وأن الله تعالى لما أرسل محمداً نسخ جميع الشرائع السابقة وأبطلها، ولكنه فرض عليك أن تؤمن بها فقط؛ لأنها نزلت من عند الله، أما العمل بها فلا يجوز أبداً، لأن الله تبارك وتعالى قد حباك ومنحك كتاباً لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت:42]، فهذا الكتاب الذي بين يديك دستور ليس هناك أحسن منه ولا أعظم منه دستور؛ لأن الذي وضعه والذي أمرك بالإيمان به هو العليم الخبير، وهو الذي يعلم ما يصلح العباد وما يفسدهم، فأنزل في هذا الكتاب ما يصلحهم وأمرهم به، ونهاهم عما يفسدهم، فلا يجوز لأحد أن ينفك عن أمر الله، كما أنه لا يجوز أن يهجم على مناهي الله؛ لأن الله تبارك وتعالى إذا أمرك بأمر وجب الامتثال، وإذا أخبرك بخبر وجب التصديق، وإذا نهاك بنهي وجب الانتهاء، وكل ذلك في الكتاب، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فلا بد أن تؤمن أن هذا الكتاب الذي بين يديك ناسخ لجميع الكتب السابقة، وحاكم عليها ومسيطر ومهيمن عليها جميعاً، فأنت مطالب بالعمل بهذا الكتاب فقط.
وأهل العلم يقولون: إذا كان ما في الكتب السابقة يوافق القرآن الكريم فهو من الحق الذي أنزله الله ولم ينله التحريف والتبديل، وإذا كان يخالف الذي في كتاب الله عز وجل وهو القرآن الكريم، فاعلم أن هذا من التبديل والتحريف، فأنت مطالب بألا تعمل به، وأما المسكوت عنه في كتب أهل الكتاب وليس في القرآن خبر عنه فلا نصدقه ولا نكذبه، ومعنى ذلك: أننا لا نعمل به كذلك، وشريعة من قبلنا ليست شريعة لنا إلا ما وافق شرعنا، ويجب عليك أن تضع هذا الكتاب فوق رأسك، وأن تعمل به، وتعتقد أنه لا يمكن للأمة أن تستعيد مجدها إلا من خلال الكتاب، ومن خلال هذا النبي عليه الصلاة والسلام، فإن هذه الأمة قد اكتملت لديها مقومات الحياة ومقومات العز والمجد، وليست هناك على وجه الأرض أمة تملك مقومات الحياة من الأرض الشاسعة الواسعة غير هذه الأمة، كما أنها تملك هذا الدستور الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكل الدساتير يأتيها الباطل من كل مكان، بل هي في ذاتها باطلة، فلما كان هذا الكتاب بين أيدينا، وكان النبي عليه الصلاة والسلام موجود بيننا بسنته، وهذه الأرض الواسعة التي لم تستغل إلى وقتنا هذا، وهذه مقومات أي أمة، فنحن نملك المقومات بما لا يمكن لأي أمة أن تقوم على أحسن مما نحن فيه وعليه، ومع هذا فهذه الأمة أخس الأمم، وأضل الأمم؛ لأنها تخلت عن أمر الله وأمر رسوله، فالعيب ليس في الكتاب، وإنما العيب فينا نحن، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبداً)، هذا خبر وجب صدقه وتصديقه، إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن هذه الأمة لا يمكن أن تقوم لها قائمة إلا بالكتاب والسنة، فلابد أن نوقن أننا لو كنا على الكتاب والسنة لحصلنا على النصر والتمكين، أما وإنه لا يوجد نصر ولا تمكين، فلأننا تخلينا عن الكتاب والسنة، ولذلك انظر إلى ما نحن فيه الآن، وانظر إلى ما كان فيه الصحابة من تمكين، وعز، ومجد، وفتوحات، وإذلال للكافرين ودحرهم، كل ذلك بتمسكهم بالكتاب والسنة، فهذا هو السائد، وأما نحن فأهواء، وضلال، وكل واحد على مزاجه، ولا فلاح لنا؛ لأننا تخلينا عن الدستور الأعظم، وكان كل منا متخذاً من هواه وعقله دستوراً لنفسه، فكيف تسلم الأمة من الضلال والحيرة والتيه، وكل واحد قد اتخذ إلهه هواه؟!
ولذلك من ادعى أنه يؤمن بجميع الأنبياء إلا نبياً واحداً فقد كفر بجميع الأنبياء بما فيهم النبي الذي يدعي أنه آمن به، فلو أن رجلاً قال: أنا أؤمن بجميع الأنبياء إلا عيسى، نقول له: أنت والنصارى واليهود شيء واحد، وكذا المجوس الذين يعبدون النار؛ لأنك مكلف بأن تؤمن بجميع الأنبياء لا تستثني منهم نبياً واحداً، والله قد أرسل مائة وأربعة وعشرين ألف نبي، فأنت مطالب بأن تؤمن بجميع الأنبياء والرسل على سبيل الإجمال والتفصيل، فتؤمن بالخمسة والعشرين رسولاً الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى بالاسم، فلا يجوز لأحد أن ينكر نبوة نبي، ولا يجحد رسالة رسول، فمن فعل فهو كافر، وإن كان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، وقال عن عيسى: (إنه سينزل في آخر الزمان يدعو بدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب) رغم أنف النصارى؛ فالأنبياء كلهم دينهم واحد وهو التوحيد والإيمان بالله عز وجل وإن اختلفت شرائعهم، فشريعة موسى غير شريعة عيسى غير شريعة إلياس غير شريعة نوح، وشريعة النبي عليه الصلاة والسلام ناسخة لجميع هذه الشرائع، وأبطلت العمل بهذه الشرائع، وأوجبت على الخلق جميعاً أن يخرجوا من كل الشرائع السابقة، ويدخلوا في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ [البقرة:253]، أما نحن المؤمنون فلا نفرق بين نبي ونبي، ولا بين رسول ورسول، ولكننا نقول: إن محمداً خير البشر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا خير ولد آدم ولا فخر)، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو خير الخلق على الإطلاق صلى الله عليه وسلم.
الأمر الأول: أن يغفر الله تبارك وتعالى له ما تقدم من ذنبه.
الأمر الثاني: أن يعينه في الحال على طاعته.
الأمر الثالث: أن يعصمه في المستقبل من أن يقع في معصيته.
وهذا في قول الله عز وجل مخبراً عن صحابة النبي عليه الصلاة والسلام: وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا [البقرة:285] ثم قالوا: وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285] أي: وإليك المرجع والمآب، وهذه عقيدة قررها الصحابة رضي الله عنهم، وهي اعترافهم وإيمانهم بالبعث والنشور.
فالذي تحدثه نفسه بشيء في ذات الإله لابد وأن ينصرف عنه ويحسن الظن بربه أنه لن يحاسبه عليه، وما جاهد المرء نفسه في دفع هذا الوسواس وهذا الشيطان، فإن الله لن يحاسبه عليه؛ لأن الله تبارك وتعالى وعد بذلك وهو لا يخلف الميعاد، فوعد الله بخلاف وعيده، فإذا وعد الله بشيء فإنه لابد من الوفاء بهذا الوعد، وإذا أوعدك وهددك بشيء فإن هذا الوعيد وهذا التهديد إن شاء الله عز وجل أنفذه وإن شاء عفا عنه، وهذا من فضله ورحمته تبارك وتعالى.
فقول الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] يدل على أن ما تحدثني به نفسي طالما لم أنطق به ولم أتكلم به إذا كان شراً فإن الله لا يحاسبني عليه، وهذه الآية ناسخة للآية الأولى، وهذا تقرير من أول الآيات.
أضرب مثالاً آخر للتوضيح: لو أن مصلياً صلى الظهر ثلاثاً وانصرف من صلاته ظناً منه أنه صلى أربعاً ولم يذكر بعد ذلك أنه صلى ثلاثاً صحت صلاته وأجزأت عنه، وإن كان هذا العمل ناقصاً، وإن كان هذا النقصان مصدره النسيان، ولو أن رجلاً دخل في صلاة الظهر فقام إلى لخامسة متعمداً بطلت الصلاة كلها؛ لأنه تعمد الزيادة على أمر الله ورسوله، فبطلت العبادة من أصلها؛ لأن دين الله عز وجل توقيفي، أي: أنك لا تزيد عليه ولا تنقص منه متعمداً، فإذا زدت فيه أو نقصت منه ناسياً أو مخطئاً فلا حرج عليك، وقد جعل الله عز وجل كفارات للخطأ والنسيان لا عقوبات، فإن قمت من الثانية إلى الثالثة مباشرة دون أن تأتي بتشهد أوسط فقد شرع الشارع أن تسجد سجدتي السهو، ولم يسقط صلاتك كلها؛ لأن هذا على سبيل النسيان، أما من قام إلى الثالثة متعمداً فقد بطلت صلاته مع أن التشهد الأول سنة، لكنه تركه متعمداً.
ولو أن رجلاً يملك عليك الإكراه، وأنت توقن أن هذا الرجل يوقع عليك الجزاء الذي يهددك به، فطلب منك أن تطلق امرأتك فقلت: امرأتي طالق، فهذا الطلاق لا يقع، لأنه استكراه، فهذه الآية تدلنا على أحكام مهمة جداً من أحكام الأعمال إذا وقعت على سبيل الخطأ أو النسيان، أو الاستكراه، فإن العمل إذا وقع على أحد هذه الأوجه الثلاثة، أو مجتمعة، فإن الله تبارك وتعالى لا يحاسب ولا يؤاخذ عليه.
وقوله تعالى: كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] أي: الأمم السابقة كانت في الإصر والأغلال؛ بسبب ظلمهم، قال الله تبارك وتعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160] يعني: بسبب ظلمهم حرم الله عليهم الطيبات مع أنها طيبات ولم تكن خبائث؛ لأن الخبائث محرمة من الأصل، ولكن الله تبارك وتعالى حرم على اليهود طيبات كان قد أحلها لهم في أول الأمر، فلما ظلموا حرمها عليهم من باب إيقاع الإصر والأغلال والعنت عليهم.
قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [النساء:160-161] وهذه الأشياء موجودة عندنا، فنحن قد ظلمنا، وطغينا، وبغينا، وتركنا الكتاب والسنة، وأكلنا أموال الناس بالباطل، وأخذنا الربا أضعافاً مضاعفة، فهناك قوانين تبيح الربا، وفتاوى تقول: إن الربا حلال، مع أن التشريع قد انتهى أمره بوفاة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الحساب ينتظر في يوم الحساب، وحسابنا عند الله عز وجل، وضرب الله علينا الذل والهوان؛ بسبب بعدنا عن الكتاب والسنة، وركوبنا الماديات، فلما ركبنا الصعب والذلول أذلنا الله عز وجل؛ لأنه صار بيننا وبين الكتاب والسنة هوة واسعة جداً، ربما الحبل الذي بيننا وبين الكتاب هو مجرد التلاوة.
ولو أن سارقاً سرق، أو زانياً زنا، يقام عليه الحد؛ لكن الحدود معطلة في هذا الزمان، والباب مقفول إلا باب التوبة، وليس من التوبة إلى الله عز وجل قتل النفس أو رميها من فوق جبل، أو شرب السم، ومن فعل هذا يكون جرماً آخر ومعصية أخرى، والانتحار يحاسب الله عز وجل عليه، وهذا هو العنت الذي فرضه الله على بني إسرائيل على جهة الخصوص، أما أنت فتوبتك أن تلجأ إلى الله عز وجل بقلبك وكليتك، وتندم على ما بدر منك، وتعزم على ألا تعود إليه مرة أخرى، ويتفطر وينصدع قلبك وبدنك حزناً وأسفاً على المعصية التي فعلتها، أما في بني إسرائيل فالذي يعمل المعصية ويريد أن يتوب منها لابد أن يقتل نفسه، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54].
يقول الحافظ ابن كثير : قام بنو إسرائيل في ساعة مظلمة من النهار أظلمها الله عز وجل عليهم، فقاموا على بعضهم بالسيوف حتى قتل بعضهم بعضاً في ساعة واحدة. وكانوا سبعين ألفاً؛ لأن هذه طريقة التوبة التي فرضها الله عز وجل على بني إسرائيل، من أجل أن تعرف أن الله تبارك وتعالى اصطفاك، واختارك، وشرفك وكرمك في البر والبحر، فأخلدت إلى الأرض بالمعصية، وقد كلفك الله عز وجل أن تحلق روحك في السماء السابعة حول العرش، فأبيت إلا النزول فنزلت، والنزول في كل شيء أسهل من الصعود، فالصعود يحتاج إلى مشقة وكلفة، فمن أراد أن ينجح ويتفوق في آخر العام يتكبد السهر، والمذاكرة، والحفظ، والمراجعة، أما من أراد أن يرسب فما عليه إلا أن يدع الكتاب، وهذا يسير، فالنزول يسير، وأما الصعود فمكلف جداً، ولذلك ضرب الله عز وجل بسبب ظلم اليهود والنصارى الإصر والأغلال على أعناقهم، فكلفهم من الأعمال ما لا طاقة لهم به.
وقوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا [النساء:160]، والفاء هنا سببية، أي: بسبب ظلمهم ضرب الله عز وجل الإصر والأغلال، أما أنت فقد كرمك فاشكر لله عز وجل على هذه التكريم، وشكر الله عز وجل يكون بإفراده بالعبادة، وصرفها جميعها إليه سبحانه وتعالى، لا تشرك مع الله تبارك وتعالى إلهاً آخر.
ومن أنواع الإصر في الطهارة التي أوجبها الله عز وجل على بني إسرائيل ما لا يمكن أبداً أن تتخيله، لو أن الله تبارك وتعالى فرضه علينا لما امتثل واحد منا أبداً لهذا الأمر، فالله عز وجل قد فرض على بني إسرائيل الطهارة، فإن من تنجس ثوبه قطع الجزء المتلبس بالنجاسة، أما في الإسلام فشرع لنا تطهير الثوب المتنجس بالماء، فيرش على بول الصبي ويغسل من بول الجارية، فإذا كان الغلام قد أكل لابد من غسل الموضع فقط، لا تغسل (الجلابية) كلها ولا تقرضها ولا تقطعها، أما في بني إسرائيل فكان إذا تنجس ثوب الواحد منهم وجب عليه أن يقصه، وأن يلقي بالمتنجس على الأرض، وهذا من الرحمة بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ومن الفضل، وهذه صورة من صور التكريم في العبادة، ولو أن النجاسة أصابت بدن واحد من بني إسرائيل فإنه يقطع الجزء من لحمه ويلقي به على الأرض، وهذا ليس في شرعنا.
إذاً: نحن أمة مكرمة، ومعززة، لكننا لم نختر هذا التكريم ولم نعمل لأجله، فقد منّ الله عز وجل علينا بنعمه العظيمة، ولكننا تنكرنا لهذه النعم، فعملنا بالمعاصي، ولما أغلق باب التشريع بموت النبي عليه الصلاة والسلام كان لابد أن نتلقى جزاءنا في الآخرة أشد جزاء، لأن الله كرمنا أشد التكريم، فمن قبل هذا التكريم وعمل به كرمه الله في الدنيا وفي الآخرة، ومن تنكر لهذا التكريم ولم يعمل به واقترف النهي وارتكبه فإن له عند الله عز وجل جزاء وعذاباً في الآخرة، ربما لا يعذب به أحداً من الخلق.
وفي الحديث: (أن الصحابة لما قالوا: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] قال الله: قد فعلت، رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة:286] قال: قد فعلت، رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286]، قال: قد فعلت، وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا [البقرة:286].. إلى آخر الآية، قال: قد فعلت).
(أنت ولينا)، أي: أنت مولانا، (فانصرنا) فأنت مصيرنا، وناصرنا، ومعزنا، ومذلنا، فإن الله تبارك وتعالى يعز من يشاء، ويذل من يشاء، يعز أولياءه، ويذل أعداءه، فهنا لابد أن نقبل كرامة الله عز وجل.
هذه الآيات فيها من العبر والمواعظ الشيء الكثير، ولها فضل عظيم جداً قد خص ببيان ذلك في السنة:
ولذلك في حديث أسيد بن حضير رضي الله عنه الذي كان جميل الصوت، فقد جاء عند البخاري : (قام ليلة يقرأ بسورة البقرة فجالت فرسه)، يعني: كلما قرأ ارتعد الفرس واضطرب، وكان مع أسيد بن حضير ولده الصغير يحيى وكان في مؤخرة رحل الفرس، وخشي على ولده أن تصيبه قدم الفرس، فقال: (فأخذت ولدي وأردت الانصراف غير أني نظرت إلى السماء فوجدت مثل الظلة فيها مصابيح، فارتعد
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن مسعود : (اقرءوا البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)، أي: السحرة، فالبيت الذي يقرأ فيه القرآن وخاصة سورة البقرة لا يمكن أن يدخله الشيطان.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الجواب: في الحقيقة أنا رديت عليه من قبل في محاضرتين طويلتين، والكتاب على أية حال فيه خير، وهو في الحقيقة أشبه بكتب أهل الكتاب، وأنا لا أنصح طلاب العلم ولا عامة الناس بقراءة هذا الكتاب أبداً، بل أحذرهم منه؛ لأن الكتاب تعرض لمسألة غيبية استأثر الله تبارك وتعالى بعلمها، وخاض المصنف خوضاً لا يليق بمسلم، فذهب مذهباً غير مرضي في حساب عمر الدنيا، وذهب مذهباً ملتوياً ظناً منه أن أحداً لن يستطيع أن يكتشف لعبته، وقرب ظهور المهدي عليه السلام، فإذا قلنا: إنك تكلمت عن وقت الساعة، قال: لا أنا أتكلم عن عمر الأمة، وهذا يستلزم أمران: إما أن يكون متكلماً عن عمر الدنيا وأنها ستفنى بعد ألف وخمسمائة عام كما قد حدد، أي: بعد سبعين سنة؛ لأنه -على حاسبه- قد مر ألف وأربعمائة وثلاثين سنة هجرية، كأنه أراد أن يقول: هذا عمر الأمة لا عمر الدنيا، قلنا له: ما الفرق بين عمر الدنيا وعمر الأمة؛ لأننا نوقن أن هذه الأمة هي آخر الأمم، فإذا فني عمرها، وانتهى أجلها المؤجل لها عند الله والذي لا يعلمه إلا الله، لابد أن تقوم الساعة مباشرة، فإذا قلنا: فناء الأمة بعد سبعين سنة يلزم من ذلك أن تقول بقيام الساعة، وإذا قال: إنني لا أقول بقيام الساعة، وإنما أتكلم عن أشراط هذه الأمة وفناء هذه الأمة، قلنا له: يلزم من قولك بأن هناك أمة بعد فناء هذه الأمة ستنشأ وتوجد، وبالتالي يلزمك أن تحكم عليهم بأنهم من أهل الفترة وأن الله تبارك وتعالى لا يعذبهم، فكيف تقوم عليهم الساعة؟ مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا: (أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق)، فإما أن تقول بوجود أمة بعد هذه الأمة التي تقوم عليها الساعة، وهذا كلام باطل؛ لأن هذه الأمة آخر الأمم وخير الأمم، وإما أن تنسحب من كلامك، والأمر الذي ذهب إليه أنه احتج بأحاديث في الصحيحين، وليست الحجة في الدليل الذي احتج به إنما الحجة فيمن وافقه على هذا الفهم، كما يقول الشاعر:
وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
وهذا هو بيت القصيد، فلو أن أحداً احتج بحديث أو بآية لا بد أن يوافق فهمه لهذه الآية ولهذا الحديث فهم السلف، فإن وافق كان على الحق، وإن خالف كان على الباطل، فإننا نسحب هذا الكلام وهذه القاعدة على فهم المصنف في كتابه: (عمر الأمة) على الأدلة التي ساقها من البخاري ومسلم ، فإن حديث عبد الله بن عمر وحديث أبي موسى الأشعري في تحديد وقت العصر قد احتج بها البخاري في باب المواقيت تارة، وفي باب الإجارة تارة أخرى، فأين الكلام عن الساعة وأشراطها، وفناء الأمة من كتاب مواقيت الصلاة؟ والحديث إنما أورده الإمام البخاري في باب مواقيت الصلاة ليثبت أن وقت العصر حين أن يكون الظل ضعف المثل، وأنه ينتهي بدخول المغرب، وكذلك أورده في باب الإجارة؛ ليدل على أنك لو استأجرت أجيراً وقلت له: تعمل عندي اليوم وأعطيك ديناراً، وإن لم تتفقا على تحديد الساعة التي ينتهي عندها العمل، فيكون معلوماً سلفاً أن العمل ينتهي في المغرب؛ لأن اللغة تفرق بين ما يسمى باليوم والليلة، فاليوم هو النهار والليلة هي الليل، فلو أنك استأجرت أجيراً وقلت له: تعمل عندي طوال النهار وأعطيك كذا فلا يجوز له أن يأتي الظهر ويقول: قد فرغت من العمل، أو انتهى ما اتفقنا عليه؛ لأنكما قد اتفقتما على العمل في النهار فلا ينتهي إلا بدخول المغرب.
الشاهد من هذا: أن الأحاديث التي احتج بها المصنف قد استنبط منها أهل العلم تسعة استنباطات، وأولوها على تسعة أوجه وأنحاء، ثمانية منها مرضية ليس فيها طعون، أما التاسع وهو اعتبار العدد الحسابي في قيام الساعة ففيه طعن ورد، والعدد الحسابي من فهم اليهود والنصارى لا من فهم المسلمين، ولكن زلة قدم الإمام الكبير محمد بن جرير الطبري -عليه رحمة الله- في اعتبار هذا العدد، وصنف رسالة أو تكلم بكلام طويل في مقدمة كتاب: (التاريخ) في إثبات عمر أمة الإسلام، وأنها لا تتعدى الألف عام، وقد أثبت الواقع والزمن، وقد أخطأ الطبري في تقديره؛ لأن الأمة تعدت ما حدده الإمام الطبري بأربعمائة وثلاثين سنة وزيادة، فأتى من بعده السهيلي ونحا نحواً من نحوه، وقد أثبت الواقع كذلك خطأ الإمام السهيلي ، فأتى الإمام السيوطي -عليه رحمة الله- وصنف رسالة سماها: (الكشف أن هذه الأمة لا تتجاوز الألف)، وقال: ولا بأس أن الله عز وجل يمنحها من عنده نصف يوم، كما في حديث سعد بن أبي وقاص عن أبي داود.. وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (وإني لأرجو الله ألا يعجز هذه الأمة من نصف يوم)، ونصف يوم بخمسمائة عام.
إذاً: خمسمائة عام تضاف إلى الألف سنة فتصبح ألف وخمسمائة عام، مر منها ألف وأربعمائة وثلاثون، والباقي سبعون سنة، ويلزم من هذا أننا نطرق لأهل البدع والإلحاد أن يخرجوا لنا ألسنتهم كما أخرجت روز اليوسف لسانها الطويل الذي هو أطول من لسان الشيطان، وإن شئت فقل من لسان البغلة، إذ قالت: الحق حياتك، فإن القيامة ستقوم بعد سبعين سنة، وجاءت المجلات الإلحادية العلمانية بهذه النكات السخيفة، وهذه الأضحوكات والاستهزاء بكتاب الله عز وجل وبسنة النبي صلى الله عليه وسلم وبتاريخ هذه الأمة؛ لأننا الذين طرقنا لهم أن يتكلموا فينا وفي ديننا.
ولذلك نحذر كل الحذر أن نكون فتنة للذين ظلموا، هم ظلموا أنفسهم، ولكن لا أقل من أن نكون بعيدين عن هذه الفتنة، وألا نكون سبباً لهذه الفتنة، فهم إذا فتنوا الذين ظلموا فعليهم وزرهم أما نحن فلا نكون سبباً لهذا الضلال المبين، فهذا الكتاب فيه خير عظيم؛ لأنه حث الناس على العمل بالطاعة، وقرب لهم أمر القيامة، ولو كان توقف عند هذا الحد كان جميلاً جداً، والعدل خير كله، والله تبارك وتعالى أثنى على أهل الكتاب قبل أن يذمهم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر