وعن عامر بن ربيعة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على
هذا ما أشرنا إليه سابقاً من المشاركة في الدفن، من أن النبي صلى الله عليه وسلم، صلى على عثمان بن مظعون ، وأتى القبر ثم حثا عليه ثلاث حثيات، والحثية: الغرفة بالكف، ولكن هنا بيديه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم شارك في الدفن بأن أخذ ثلاث حثيات من تراب القبر ووضعها عليه، كأنه شارك فيمن يهيل التراب عليه بالمسحاة ونحوها.
ولكن هنا لفتة في التثليث، يقولون: لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]؛ فيقول النووي : في كل حثوة يحثوها يقول كلمة من الثلاث:
الأولى: منها خلقناكم.
الثانية: وفيها نعيدكم.
الثالثة: ومنها نخرجكم تارة أخرى.
وهكذا الإنسان إن استطاع أن يشارك في إهالة التراب، أو كان العدد قليلاً فيتراوحون فيما بينهم ويساعد في ذلك، وإذا كان العدد كثيراً، وأراد أن يشارك، فقد جاء أن في كل ذرة منها حسنة، فكم في الحثية هذه من ذرة رمل أو غير ذلك، فله أجر في هذه المشاركة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وعن عثمان رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل) رواه أبو داود وصححه الحاكم .
في هذا الحديث يبين لنا المؤلف رحمه الله حقَّ الميت علينا من الاستغفار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك؛ لأن كلمة (كان) تدل على التكرار والكثرة، لم يقل: (وقف) بل قال: (كان).
فإذا فرغ الناس من دفن الميت، وأهالوا عليه التراب، ولم يبق إلا أن ينصرفوا؛ وقف وقال للحاضرين: (استغفروا لأخيكم). وهذا من أدلة انتفاع الميت بعمل الحي؛ لأن استغفارهم هو طلب المغفرة من الله للميت، وليس للميت في ذلك عمل، ثم يقول صلى الله عليه وسلم، مع طلب المغفرة له (سلوا الله له التثبت) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27] وهذه في الآخرة.
فهنا: (واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل) وهذا من أقوى أدلة وجود عذاب القبر ونعيمه، وسؤاله، وقد جاء تفصيل هذه المسألة في حديث، وأنه إذا انصرف الناس عن ميتهم أتاه ملكان، وذكر من صورتهما الشيء الكثير، يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير، فيجلسانه فيسألانه: من ربك؟ ما دينك؟ من هذا الرجل الذي بعث فيكم؟
فالمؤمن يلهمه الله سبحانه وتعالى الجواب، فلا يفزع منهم، ويجيب على ما كان عليه، فإذا قالوا: من ربك؟ يقول: ربي الله رب السماوات والأرض، ما دينك؟ يقول: ديني الإسلام، ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هذا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان: نم نومة العروس، ويرى منزله من الجنة ومن رياضها، ونعيمها، ويفسح له في قبره، ثم يفتح له بابٌ أو نافذة على النار، ويقال له: كان هذا مصيرك، لو لم تكن مؤمناً.
أما غير المؤمن -نسأل الله السلامة والعافية- فإذا سئل من ربك؟ يقول: هاه .. هاه لا أدري! فيقول الملكان: لا دريت ولا تليت. ما دينك؟ فيقول: هاه .. هاه لا أدري! يقولان: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب ويعذب، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وهذا الحديث يستدل به بعض العلماء على ما ينبغي أن يقال ويذكَّر به الميت، وبعضهم يذكر صيغاً لذلك كما ذكرها النووي في المجموع وذكرها ابن قدامة في المغني، وذكرها غيرهما، منها: يا عبد الله، فإنه يسمع: يا فلان بن فلان فإنه يجلس، أو إلى الثالثة يجلس، فيقول له: تذكر ما فارقتنا عليه من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وعلى دين الإسلام، وملة محمد صلى الله عليه وسلم...إلخ، ويذكرون ألفاظاً يذكرون بها الميت، وجواب الملكين، حينما يسألانه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأن موضوع السؤال: من ربك؟ ما دينك؟ ما نبيك؟ فهذه الثلاثة الأصول التي يسأل عنها الإنسان أول ما يسأل في قبره. والله تعالى أعلم.
وعن ضمرة بن حبيب رضي الله عنه أحد التابعين قال: [كانوا يستحبون إذا سوي على الميت قبره وانصرف الناس عنه، أن يقال عند قبره: يا فلان! قل لا إله إلا الله.. ثلاث مرات، يا فلان! قل ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد] رواه سعيد بن منصور موقوفاً.
بعض العلماء يجعل هذا الحديث من باب تلقين الميت بهذه الأصول الثلاثة، وبعضهم يجعله من باب التذكير فقط والتلقين، وربما زاد عليه بعض الألفاظ، وأعتقد أن هذه المسألة بطولها قد تعرضنا لها، وجئنا فيها بأقوال الإمام ابن تيمية رحمه الله، وذكر الأثر الوارد عن أبي أمامة ، وما كان يفعله السلف من تلقين الميت بعد موته عند القبر كما في حديث: (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) مما يغني عن إعادته هنا، والجمهور على تلقين الميت هذه الألفاظ، وقد يضاف إليها غيرها، والله تعالى أعلم.
وعن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) رواه مسلم ، زاد الترمذي : (فإنها تذكر الآخرة)
هذه المسألة طويلة الذيل كما يقال، وهي قديمة تتجدد، ويكثر النزاع فيها من آونة لأخرى، ألا وهي زيارة النسوة للقبور، فهل يجوز ذلك أم لا؟ ونجد في هذه المسألة فريقين، يقول: لا تزور، وفريقاً يقول: بل تزور، فهي دائرة بين الجواز والمنع.
وإذا زارت هل تكون الزيارة مكروهة أم محرمة؟ فمنهم من يقول بالكراهية، ومنهم من يقول بالتحريم، وأصل هذه المسألة كما سمعنا الإشارة إليها: (كنت نهيتكم) كانت زيارة القبور ممنوعة على الرجال والنساء سواء، وما كان لأحد حق أن يزور قبراً.
قال المجيزون: كان ذلك في أول الأمر، إبعاداً عن الإمعان في تعظيم الموتى؛ لأن تعظيم الموتى كان هو الخطوة الأولى للمسيرة الطويلة في عبادة الأصنام، في مثل قضية يغوث ويعوق ونسر، وكانوا رجالاً صالحين. كما هو معلوم في قصة هؤلاء الرجال في زمن نوح عليه السلام.
نهى الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين عن زيارة القبور سداً للذريعة، من أن يقعوا في تعظيم الأموات، فيطول الزمن، فيئول الأمر إلى عبادتهم.
فلما استقرت العقيدة عند المسلمين، وكان في زيارة القبور مصلحة، جاء الإذن، ولكن لمن كان ذلك الإذن؟ هنا وقع الخلاف فقوله: (ألا فزوروها)الخطاب هنا لواو الجماعة الذكور، فهل يدخل النسوة تبعاً للذكور في: (زوروها)، ويكون الإذن عاماً للطرفين، أم أن الإذن هنا خاصٌ بواو الجماعة وبقي النسوة على المنع الأول؟
فقومٌ قالوا: إن الإذن هنا لواو الجماعة، ونون النسوة لم تأت، واستدلوا لقولهم هذا بحديث آخر، وهو: (لعن الله زوّارات القبور) وهذا الحديث جاء بلفظين، لفظ صيغة المبالغة: زوارات، ولفظ اسم الفاعل: زائرات. فزائرات تدل على وجود الزيارة، ولا تدل على الكثرة؛ لكن (زوارات) تدل على كثرة التردد للزيارة، فالمانعون قالوا: الإذن جاء للرجال دون النساء، والوعيد جاء للنسوة في الزيارة.
وقال المجيزون: أما واو الجماعة، فإن القاعدة في اللغة العربية تقول: إنه إذا وجدت مائة امرأة ورجلٌ واحد فإنه يخاطب المائة والواحد بواو الجماعة للمذكر، ويدخلن النسوة معه تبعاً، وأيضاً قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) فإن الواو هنا واو الجماعة، فيدخلن النسوة قطعاً في إقامة الصلاة.
ومثل ذلك مثل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ [البقرة:183] فقوله: (آمنوا) دخلت مع واو الجماعة نون النسوة في الصيام، قالوا: فلا دليل للمانعين في ذلك.
ثم إن حديث: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها) جاء فيه التعليل للإذن بالزيارة في قوله: (فإنها -أي: الزيارة للموتى- تذكر الآخرة، وتزهد في الدنيا، أو تذكر بالموت) إذاً: الإذن بالزيارة معللٌ بعلة، وهي أن يتذكر الزائر الموت، ويزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، وليست تلك العلة خاصة بالرجال، بل إن النسوة أيضاً في حاجة إليها، والحكم إذا كان معللاً بعلة، فإنه يدور معها وجوداً وعدماً، والعلة موجودة في النساء، بل إن المرأة أحوج إلى هذا التذكير.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله زوارات القبور) فنقول: نعم، الحديث جاء بصيغة المبالغة؛ لأن المرأة تكثر الزيارة، فيكون هناك بعض المحظورات؛ لأنها قد لا تتحفظ في الذهاب، ولا تؤدي واجب بيتها، وقد تهمل البيت بكثرة الخروج، وقد تتكلم بكلام لا يرضي الله.
وجاء في الحديث السابق: (ألا فزوروها، ولا تقولوا هجراً) يعني: إذا زرت المقابر فلا تقل: يا حبيبي، يا سندي، ونحو ذلك.
فيكون النهي لزوارات القبور لعدم صبرهن عند المجيء إلى القبر، وتكلمهن بأشياء لا ترضي الله عز وجل.
قال المجيزون: كانت هذه المرأة في المقبرة عند القبر تبكي، فلم يبدأ بنهيها، ولم يقل: أنت ملعونةٌ في زيارتكِ، ولم يقل لها: أنت منهية عن الزيارة، ولكن أرشدها إلى ما هو الأفضل: (اتقي الله واصبري) فقد أقرها على زيارتها ومجيئها إلى القبر.
قال المانعون: وما يدرينا، لعلها ذهبت مع المشيعين وجلست هناك؟ وقد أجاب المجيزون عن ذلك بحديث: (نُهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا)
وجاء حديث عن عائشة رضي الله عنها وفيه: (... ثم انطلقتُ على إثره حتى جاء البقيع فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت، فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: مالكِ يا
فهنا أم المؤمنين تسأل: ماذا أقول إن أنا زرت؟ فلم يقل لها: لعن الله زوارات القبور ولم يقل لها: أنتِ منهية عن زيارة القبور، بل أقرها على سؤالها، وعلمها ماذا تقول إن هي زارت القبور، ولهذا يذكر النووي -وإن كان مذهب الشافعي الكراهة- أن مذهب الجمهور الجواز بشرط الأمن من محظورٍ شرعي: مثل أن تتكلم بكلمات لا ينبغي أن تتكلم بها، كأن تقول: يا سندي .. يا حبيبـي .. أو أنها تخرج من غير تحفظ بتزين أو بغيره، أو تعطل مصالح بيتها من زوجها وأولادها .. إلى غير ذلك، وكذلك حالة الإكثار.
وعلى هذا استدل المانعون بما ذكرنا، واستدل المجيزون بما ذكرنا، وكلٌ رد على الآخر في رأيه، والأخير ما ذكره النووي : بأن الأكثر على جواز ذلك مع أمن المخالفة الشرعية، في قولها، وفي صورة خروجها.
وعن أم عطية رضي الله تعالى عنها قالت: (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ننوح) متفق عليه.
هذا الخبر جزء من حديث طويل، تقول أم عطية رضي الله تعالى عنها في أوله (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، جمع النسوة في بيت، ثم أرسل إليهن
فالبيعة تكون من الرجال بالمصافحة، أما النسوة فتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (ما صافح رسول الله امرأة قط) حتى في البيعة لما بايع النسوة في مكة، وقصة هند مشهورة، فقد كان عمر يتكلم عن رسول الله للنسوة، ولم يصافح الرسول صلى الله عليه وسلم النسوة في بيعة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة:10] إلى آخره.
فهنا قال لهن عمر: (أنا رسول رسول الله إليكن، يقول لكن رسول الله: قد بايعتكن) أي: اقعدن في محلكن، ولا حاجة إلى أن تحضرن إلى رسول الله لتبايعنه، فأنا نيابة عنه أبلغكن بيعة رسول الله إياكن على الإسلام.
وأخذ العهد عليهن، بأن لا ينحن، وذكر أشياء من صدق الحديث، وعدم السرقة، وألا يأتين ببهتان يفترينه ... إلى آخره ما يقال في بيعة النساء.
فهنا أم عطية تقول: وأن لا ننوح، أي: على ميت، وكذلك: أن لا نتبع جنازة، وأشياء عديدة ذكرها عمر رضي الله تعالى عنه.
المهم عندنا قول أم عطية رضي الله تعالى عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ عليهن العهد، أخذه بواسطة عمر رضي الله تعالى عنه حينما أرسله إليهن بالبيعة، وبأوامر بينها صلى الله عليه وسلم، ومنها: أن لا ينحن على ميت.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة) أخرجه أبو داود .
النائحة: هي التي تنوح، أي: تبكي وتندب الميت، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن النياحة على الميت، وعن شق الجيب، وعن لطم الخد، وعن أشياء كثيرة كان العرب يصنعونها في الجاهلية، ولا زال بعض الجهلة يفعلون ذلك، حتى كانت تذهب المرأة وتأتي بالطين وتجعله على رأسها، وذلك زيادة في الاستساءة، والفزع بموت من مات من عزيز عليها.
وكل ذلك من عدم الرضا بالقضاء والقدر، وعدم التسليم لقضاء الله سبحانه وتعالى، وفرق بعيد جداً بين هذا العمل، وبين فعل أم سليم زوجة أبي طلحة رضي الله تعالى عنهما؛ حيث: (كان لـ ثم بعد ذلك قالت له: يا أبا طلحة ! أرأيت لو أن أحداً أودع أحداً وديعة، ثم جاء في وقت وطلبها منه، أكان يقدمها إليه أم يمتنع من رد الوديعة؟ قال: لا، بل إنه يرد الوديعة لصاحبها، قالت: فإن الله قد استودعك الغلام، وقد أخذ وديعته، فقم فواره؛ فغضب غضباً شديداً، وقال: تركتني حتى فعلت ما فعلت، ثم أخبرتني بهذا. ثم لما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشتكى إليه ما فعلت المرأة، فقال: بارك الله لكما في ليلتكما
فهذه امرأة ولدها الصغير تعتريه الوفاة، ثم تتحمل وتستطيع أن تخفي آثار ذلك، لا تظهر علاماته على قسمات وجهها، ولا فلتات لسانها، بل تعد الطعام للزوج، ويتعشى، ثم تتهيأ في نفسها، وذلك لقوة الإيمان والقدرة على التحمل، والتسليم لقضاء الله.
ثم إذا بها تتلطف في إخبار الزوج بقضية مسلّمة: (وديعة طلبها صاحبها)، ثم نقارن بينها وبين أولئك النسوة اللاتي ينحن، ويلطمن الخد، ويشققن الجيب؛ فالفرق كبير جداً، فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن النعي، وعن النياحة، وضرب الخد، وشق الجيب، بل قال: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)
والحديث الذي ذكره المؤلف يشمل النائحة والمستمعة، أي: والمستمع أيضاً، ولكن خصص المستمعة بالذكر، لأنها تأتي معها؛ لأنه كان من عادتهن أن يجتمعن في جانب، وينصبن مناحة -كما يقولون- وبعض النسوة تتكلم بعض الكلمات، ومجموعة من النسوة يرددن كلامها، فيكون عملاً مستقلاً خاصاً بالنساء، لا يشارك فيه الرجال، فإذا جاءت النساء مع النائحة ليفعلن ذلك الفعل، فالنائحة والمستمعة في هذا سواء.
وكذلك يقال: لو أن رجلاً يتسمع لذلك؛ فهو تابع في هذا، ما لم ينه عنه، أو يخرج من عهدة الإنكار لهذا المنكر.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الميت يعذب في قبره بما نيح عليه) متفق عليه.
هذا الحديث كثير من علماء الحديث يجعله موضع إشكال، لأن الميت ما ناح، والذي ناح إنما هو غيره من الأحياء، فلماذا يعذب الميت، وقد قال الله تعالى: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى [النجم:39]، وقال: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]؟
قال بعضهم: إن الميت يعرف طبيعة أهله وذويه، فإذا كان من طبيعة أهله النياحة على الميت، وقد حضرته الوفاة، فإن كان راضياً بما يفعل أهله من النياحة ولم ينههنَّ، فيكون كأنه أمرهنَّ.
أي: أن الساكت عن المنكر مشارك، كما قيل: السامع للذم شريك لقائله، ومطعم المأكول شريك للآكل، فقالوا: إما أن يوصي بأن يناح عليه كما فعل طرفه
إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يابنة معبد
فأوصى زوجته أن تندبه بعد موته، وهذا أمر جاهلي.
فإذا كان الميت يعرف من طبيعة أهله النياحة، فعليه -براءة لذمته وخروجاً من العهدة- أن يمنعهن وينهاهن، ويوصي بعدم النياحة، فإن فعل ذلك زال عنه الحرج والإثم ولو خالفن وصيته، وهن يتحملن إثمهن، ولا يصيبه من فعلهن شيء، أما إذا سكت وهو يعلم أنه سيقع هذا المنكر؛ فإنه يكون مشاركاً، ويعذب بذلك.
وجاء في ترجمة عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، أنه مرض وأغمي عليه، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وقال: (اللهم إن كنت أبقيته من العمر فعافه ...، ثم أفاق فقال: يا رسول الله! لقد عوتبت فيما تقوله أمي، كانت تقول: واسنداه! قال: فكلما قالت شيئاً أتى ملك يقول: أأنت كذلك..؟ أأنت كذلك..)
إذاً: إن علم الإنسان من أهله تلك الحالة فعليه أن يوصي بمنعها، فإن فعلن بعد الوصية وبعد النهي، فلا شيء عليه، وإن عرف وسكت، فكأنه راض ومقر على ما يعلم، فيلحقه من ذلك شيء، والله تعالى أعلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: (شهدت بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدفن، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند القبر، فرأيت عينيه تدمعان) رواه البخاري .
من فقه المؤلف رحمه الله في ترتيب الأحاديث، أنه ذكر حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النائحة والمستمعة، ثم أعقبه بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على حافة قبر ابنته فدمعت عيناه.
فكيف يلعن النائحة وعينه تدمع؟ فكأن المؤلف يقول: دمعة العين وبكاء الإنسان على الميت ليس من اليناحة، فإن النياحة قول باللسان.
وبعض النسوة قد تأتي مجاملة، لا هي حزينة ولا أصيبت بشيء، ولكن زوجة الميت صديقة لها أو قريبة لها.. فتأتي لتنوح مع تلك المرأة مجاملة، أو لأجل أن تقضيها تلك النياحة عند فقد قريب لها.
هذه عادات، ولكن الإنسان من حيث هو بشر يتأثر بالعاطفة، فهذا سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وابنته تدفن، وهو على حافة القبر، فتدمع عينه، وكذلك عن موت ولده إبراهيم عليه السلام، لما بكى ودمعت عينه، قيل له: (أتبكي؟ قال: نعم. إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على فراقك يا
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مثل هذا الموقف، قالوا: أتبكي؟ قال: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43] بمعنى: أن الضحك ليس باختيارك، فإنك إذا رأيت شيئاً يضحك وأردت أن تكتم الضحك فإنك لا تستطيع، وكذلك البكاء، لو وجدت منظراً مؤلماً حساساً، فتدمع العين، ويحزن القلب، فإذا أردت أن تدفع هذا عنك لم تستطع؛ لأنها غريزة متمكنة في الإنسان.
إذاً: ما كان بالجبلة وبالغريزة من الحزن في القلب، ومن الدمعة في العين؛ فهذا لا يلام الإنسان عليه؛ لأنه فوق طاقته، المهم فيما يتكلم به وكان يمكن أن يمسك عنه ويتكلم بغيره.
إذاً: المؤلف رحمه الله جاء بهذا الحديث عقب الحديث الذي قبله، ليبين أن التوجع والألم والبكاء ليس من النعي في شيء .. والله تعالى أعلم.
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا) أخرجه ابن ماجة وأصله في مسلم ، لكن قال: (زجر أن يقبر الرجل في الليل حتى يصلى عليه)
هذا الحديث يمكن أن نضيفه إلى ما تقدم في بيان أوقات الصلاة والأوقات المنهي عنها.
ونعلم أن الأوقات المنهي عن الصلاة فيها سبعة، منها ثلاثة منهي عن الصلاة فيها، وأن نقبر فيهن موتانا:
1- عند طلوع الشمس بازغة حتى ترتفع.
2- وعند قيام قائم الظهيرة حتى تتحول.
3- وعند أن تضيف الشمس للمغيب حتى تغرب.
هذه الأوقات الثلاثة نهى صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها مع بقية الأوقات السبعة، ونهى عن دفن الموتى فيها.
وهنا نُهي عن دفن الميت ليلاً حتى يصلى عليه.
يقول العلماء في هذا الحديث: النهي معلل؛ وذلك أن دفن الميت ليلاً كان من الصعوبة بمكان، فلم يكن هناك وسائل إضاءة تمكن الذين يدفنون الميت من أداء الواجب على الوجه المطلوب، وقد تقدم: (أن قوماً مروا على المقبرة فوجدوا ناراً، فيمموها، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر يقول: ناولوني ميتكم... الحديث) وكانوا يشعلون السعف، فكانت وسائل الإضاءة كما هي اليوم في الأرياف والبوادي نار الحطب، فربما يكون الدفن ليلاً مدعاة إلى التقصير في حق الميت.
إذاً: لا ينبغي التعجل بالدفن ليلاً، وإذا كان ممكناً بدون أن يلحق الميت شيء؛ فإنه يؤجل إلى الصباح ليتمكن الناس من تجهيزه كاملاً، ومن دفنه على ما ينبغي.
ويجوز أيضاً تأخير دفنه لانتظار حضور من يعز عليه من أقاربه أو من الصالحين الذين يحضرون ليصلوا عليه، ويدعوا له ويشيعوه ويحضروا دفنه.
هذا وقد دفن الصديق رضي الله تعالى عنه ليلاً، ودفن عمر رضي الله تعالى عنه ليلاً.
إذاً: إن تمت إجراءات التجهيز كاملة، ولم يبق إلا مجرد ظرف الزمن من ليل أو نهار، فليس هناك مانع من الدفن، ولكن قوله: (إلا أن تضطروا): الاضطرار يكون إما لخوف، وهذا يكون في الأحوال السياسية الاضطرارية، حيث يكون الميت له أعداء، فيريد أهله أن يواروه قبل أن يشعر به خصمه أو عدوه، أو أن يكون الوقت حاراً، ويكون الميت قد توفي -مثلاً- في الظهيرة وتأخر تجهيزه، ولا يمكن أن ينتظر به إلى النهار لحرارة الجو، وعدم احتمال الجثة الانتظار.
فإن لم يكن هناك اضطرار، ولم يفرغوا من تجهيز الميت تجهيزاً يليق به، فلا يدفن ليلاً وينتظر به إلى النهار، وكذلك إذا كانت هناك عوامل أخرى للتأخير، ولكن في حدود عدم مضرة الميت.
ومن دواعي الانتظار كما أشرنا إلى ذلك، حضور أقاربه، أبنائه، وأصدقائه الصالحين وغيرهم من معارفه الذين: يحضرون فيكاثرون الصلاة عليه، ويدعون له، ويشيعونه ويدفنونه...، والله تعالى أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر