إخواني: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحييكم في هذه الليلة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على عبادته وذكره وشكره، وأن يعفو عنا فيما قصرنا وأذنبنا في حقه سبحانه وتعالى.
الحمد لله الذي جعل نجوم السماء هداية للحيارى في البر والبحر من الظلماء، وجعل نجوم الأرض -وهم العلماء- هداية من ظلمات الجهل والعمى، وفضل بعضهم على بعض في الفهم والذكاء، كما فضَّل بعض النجوم على بعض في الزينة والضياء، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء، وعلى آله وصحبه الأتقياء، صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين.
وبعد..
أيها الإخوة! فإن موضوعنا في هذه الليلة عن شيء من العبر والعظات من حياة الإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله تعالى، ومن حق سلفنا علينا أن نتعرف على سيرهم، وأن نقف مع أحداث حياتهم، وخصوصاً إذا كنا نريد طلب العلم، فإن القراءة في حياة أهل العلم لاشك أنها من الأمور التي تكسب طالب العلم أدباً وفقهاً وخشوعاً وإعجاباً بهؤلاء، والخير في هذه الأمة لا ينقطع ولله الحمد، ولكنه كان كثيراً في أولها.
إن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وفتنة، والمطلوب منا هو الصبر على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، والتفقه في هذا الدين؛ لأن التفقه في الدين من الواجبات.
إن حياة هذا الإمام -رحمه الله تعالى- حياة حافلة، ولاشك أنه من المجددين، وهو من الأئمة الذين كانوا يهدون بأمر الله وصبروا على ذلك، ولاشك أنه كان للمتقين إماماً ولا يزال، وقد عدَّه كثير من أهل العلم من المجددين، ولاشك أنه أول من كتب في أصول الفقه في كتابه الرسالة ، وكانت حياته -رحمه الله تعالى- مليئة بالعبر والعظات.
وأما حياته، فإنه رحمه الله تعالى- كما هو معلوم لكثير من الإخوان- كان قد توفي في مصر ، كما ذكر أهل العلم عنه في مسألة نسبه ومولده، فإنه قد ولد بـغزة في سنة (150هـ) وحمل إلى مكة وهو ابن سنتين، وكان في أول عمره في عسقلان وبها ولد، وغزة وعسقلان شيء واحد، ولما بلغ سنتين حولته أمه إلى الحجاز ، ودخلت به إلى قومها وهم من أهل اليمن ؛ لأن أمه كانت أزدية من الأزد، فنزلت عندهم، فلما بلغ عشراً خافت على نسبه الشريف أن ينسى ويضيع، فحولته إلى مكة.
وقد اتفق أهل العلم على أن الشافعي رحمه الله ولد سنة (150هـ) وهي السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة النعمان رحمه الله تعالى، وقال الشافعي عن نفسه: قدمت مكة وأنا ابن عشر أو شبهها، فصرت إلى نسيب لي ... إلى آخر القصة.
إذاً: الشافعي قرشي، وهو ينسب إلى جده شافع بن السائب ، وهو لاشك أنه مطلبي، وبما أنه قرشي فنحن نعلم ميزة قريش التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أن الله قد اصطفاهم من قبائل العرب) ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال أيضاً: (تعلموا من قريش ولا تعلموها، وقدموا قريشاً ولا تؤخروها، فإن للقرشي قوة الرجلين من غير قريش) أي: في الرأي، وهذا من الأشياء التي تدل على نباهة هذا الإمام القرشي الشافعي، وأن عقله كان فيه من الكمال أمر عظيم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تعلموا من قريش ولا تعلموها ).
ولأن القرشي فيه من رجاحة العقل أكثر من غيره ولذلك كان الأئمة من قريش، فالشرط في الخليفة شرعاً أن يكون قرشياً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قدموا قريشاً ولا تؤخروها، وتعلموا من قريش ولا تعلموها، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها مال لخيارها عند الله تعالى) وقد رواه الطبراني رحمه الله، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (من أهان قريشاً، أهانه الله).
وقريش أول الناس من العرب موتاً، وأسرعهم فناءً وزوالاً، فـالشافعي رحمه الله إذاً هو إمام قرشي، وأمه من الأزد، والأزد من اليمن وهم أصل العرب، ولاشك أن أهل اليمن كثير منهم قد أقام في بلاد الشام وفي أرض فلسطين وغيرها.
ومن طريف ما يحكى عن أم الشافعي من الحذاقة: أنها شهدت عند قاضي مكة هي وامرأة أخرى، فأراد القاضي أن يفرق بين المرأتين ليختبر صدق كل واحدة -يفرق بينهما فيسمع من هذه على حدة ومن الأخرى على حدة- فقالت له أم الشافعي : ليس لك ذلك؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [البقرة:282] إذاً لا يكون لك أن تفرق بيننا، قال ابن حجر رحمه الله: "وهذا فرع غريب واستنباط قوي".
وبالنسبة لكنيته فإن الشافعي رحمه الله تعالى يكنى بـأبي عبد الله، وقد تزوج، وله أولاد، واستدل عدد من أهل العلم بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) بأن الشافعي هو المجدد في المائة الثانية، وعمر بن عبد العزيز هو المجدد في رأس المائة الأولى.
والبحث في موضوع التجديد طويل، والتجديد الصحيح أنه يتجزأ، فمن الناس من يبعثهم الله ليجددوا للأمة في الحديث، ومنهم من يجدد في الفقه، ومنهم من يجدد في أصوله، ومنهم من يجدد في الجهاد.. وهكذا، وقد تجتمع نواحي التجديد كلها في شخص واحد كما حصل في عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه.
ومن الرؤى التي رؤيت ما جاء عن ابن عبد الحكم ، وهو من مشاهير تلاميذه، قال: لما حملت أم الشافعي رأت كأن المشتري خرج منها حتى انقض بـمصر ، ثم وقع في كل بلد منه شظية، وهذا فيه إشارة إلى انتشار علم الشافعي رحمه الله تعالى في أرجاء المعمورة، وأن علمه سيدخل البلدان.
وكان من أمر الشافعي رحمه الله تعالى في بداية أمره أنه دخل في الصحراء وجلس إلى العرب يستمع منهم ومن أخبارهم، حتى بلغ عشرين سنة، وهذا كان من الأسباب التي جعلت لغته قوية جداً، وحفظ من الشواهد المهمة في تفسير النصوص ومعرفة التنزيل شيئاً كثيراً، حتى أنه كان يحفظ نحواً من عشرين ألفاً من الشواهد، ولاشك أن هذا قد ساعده كثيراً في مسألة فهم الكتاب والسنة.
ولاشك أن طفولة الشخص من الأشياء التي تؤدي إلى نبوغه وبراعته، فنحن نأخذ من هنا درساً وفائدة، وهي أن الإنسان المسلم إذا أراد أن يعد ولده لأن يكون طالب علم، فلابد أن يعتني بنشأته، وأن يبذل من الأسباب ما يجعل هذا الولد من المتفوقين في هذا الجانب، ولاشك فإن طلب العلم الشرعي من أعظم الأمور.
وكان الشافعي رحمه الله تعالى قد رزق فطنة كبيرة، وقد رزق أيضاً ذكاءً وحفظاً، حتى أنه قال عن نفسه: كنت أنا في الكُتاب أسمع المعلم يلقن الصبي الآية فأحفظها، ولقد كنت أسمع وهم يكتبون، فما أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم إلا وقد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: ما يحل لي أن آخذ منك شيئاً- لا أخذ منك أجرة، وأنت بهذا النبوغ والحفظ- ثم لما خرجت من الكُتاب كنت أتلقط الخزف -وهو الآجر؛ الطين المشوي الذي يشوى لكي يكون صلباً- والدفوف وكرب النخل -أصول السعف الغلاظ من النخل -وأكتاف الجمال- وهي: العظام العريضة خلف المنكب وكانت تستعمل للكتابة- أكتب فيها الحديث، وأجيء إلى الدواوين فأستوهب منها الظهور -وهي الأوراق- وأكتب فيها، حتى كانت لأمي حباب فملأتها أكتافاً -والحباب: الجرار جمع جرة، كان عندها جرار فملأها من هذه الأشياء المكتوبة- ثم إني خرجت عن مكة، فلزمت هذيلاً في البادية أتعلم كلامها وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبع عشرة سنة، مع السنتين التي قضاها في مكة قارب العشرين، فرجع إلى مكة وقد حفظ شيئاً عظيماً.
كان السبب في اتجاه الشافعي من الشعر والأدب إلى الفقه أنه كان ذات مرة يسير على دابة، فتمثل ببيتٍ من الشعر، فقال له كاتب كان لوالد مصعب بن عبد الله الزبيري : مثلك يذهب بمروءته في هذا! أين أنت من الفقه؟ -قال له: إن هذا يذهب بمروءتك، تعلم الفقه -فهزته هذه الكلمات- وبعدها قصد الشافعي رحمه الله مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة فلازمه، ثم قدم المدينة على الإمام مالك رحمه الله تعالى، ودرس الموطأ عنده.
إذاً توفيق الله عز وجل يكون من الأشياء التي تؤدي بطالب العلم إلى الاتجاه في طلب العلم، وقد يكون له اتجاهات أخرى.
بعض الناس لهم اشتغال بعلوم دنيوية، أو بأدب وشعر، أو بتجارة وأمور من الوظائف ونحوها، فيقدر الله سبحانه وتعالى حادثة تجعل الشخص يتجه إلى الاهتمام بطلب العلم، ولذلك لابد أن يطلب الإنسان من الله عز وجل التوفيق دائماً.
فقال لها: قولي له: إن معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة، قال: فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي، فوضعته، ثم إذا أنا بـمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار، وهو شيخ طويل مسنون اللحية -أي: طويل اللحية- فجلس وهو متطلس -لابس الطيلسان: كساء مدور لا أسفل له- فرفع إليه الوالي كتاباً، فبلغ إلى هذا: إن هذا رجلٌ من أمره وحاله، فتُحدثه وتفعل وتصنع، توصية للشافعي مكتوبة، فرمى مالك الكتاب من يده، ثم قال: سبحان الله! أو صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالوسائل؟! -أي: الوساطات- قال: فرأيت الوالي وقد تهيبه أن يكلمه، فتقدمت إليه وقلت: أصلحك الله، إني رجل مطلبي، ومن حالي وقصتي، وأخبره، فلما سمع كلامي نظر إليّ ساعة، وكان عند مالك فراسة، فقال لي: ما اسمك؟ قلت: محمد، قال لي: يا محمد! اتق الله واجتنب المعاصي، فإنه سيكون لك شأن من الشأن، هذه من فراسة مالك رحمه الله تعالى، وفي رواية أنه قال له: إن الله عز وجل قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعاصي.
وطلب الشافعي من مالك أن يقرأ عليه، قال له: لابد لك من مقرئ، لا تقرأ مباشرة على الشيخ، تقرأ على تلميذ الشيخ الذي ضبط كتاب الشيخ، فقال الشافعي -التمس من مالك - قال: اسمع مني ولو صفحة، فإن أعجبتك أواصل، وإلا فلا، فأمره أن يقرأ، قال: فبدأت أقرأ كتاب مالك رحمة الله عليه، فكلما تهيبت مالكاً وأردت أن أقطع القراءة وأقف، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي، فيقول: يا فتى! زد، حتى قرأته في أيام يسيره، ثم أقمت بـالمدينة حتى توفي مالك بن أنس .
ثم ذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إلى اليمن.
إذاً: جلس الإمام الشافعي إلى الإمام مالك ، وسمع منه الموطأ ، وهذا فيه فائدة وهي:
1- الحرص على التلقي من الأكابر، طلب ما أمكن من أهل العلم الكبار، فإن لم يكن، فطلبة العلم الآخذين عن العلماء، وهذا أمر مهم جداً.
2- عدم إذلال العلم، وإنما يعز:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم |
ولكن للأسف! فإن كثيراً من حملته لا يقدرون العلم حق قدره، فيضعونه عند الأسافل، ويكونون مطية لغيرهم من الفسقة والفجرة.
3- أن من الأمور المهمة لطالب العلم الاعتناء بالإعراب، فإنه إذا قرأ على الشيخ ونحوه، وكان يلحن في قراءته، يرفع المنصوب، ويخفض المرفوع.. ونحو ذلك، كان ذلك منفراً للشيخ، حتى لا يريد أن يسمع منه شيئاً.
ثم انظروا -أيها الإخوة- إلى قدر الله سبحانه وتعالى الذي جعل الإمام الشافعي ينصرف من الشعر إلى الفقه، من جراء تلك الكلمة التي سمعها، فرضي من دينه ودنياه أن يكون معلماً، وأن تكون القضية قضية شعر، فوقر في قلبه ذلك الكلام، فالإنسان إذا وجد من يعظه ويوجهه فعليه أن يتوجه، ولاشك أن من صفات المسلم أن يقبل النصيحة.
وكان مسلم بن خالد الزنجي يقول للشافعي: "أفتي يا أبا عبد الله ، فقد آن لك والله أن تفتي"، وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان قد لقي مالكاً وعمره ثلاث عشرة سنة.
وقال إبراهيم بن محمد بن عباس: كنت في مجلس ابن عيينة والشافعي حاضر، فحدث ابن عيينة عن الزهري بحديث صفية والرجلين، وفيه: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) فقال ابن عيينة للشافعي : ما فقه هذا الحديث يا أبا عبد الله؟ وكان إذا جاءه شيء من التفسير أو الفتوى يسأل عنها التفت إلى الشافعي ، فقال: سلوا هذا.
وقد أثنى العلماء عليه ثناءً عظيماً، وأثنى عليه من الأئمة الكبار يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، حتى قال يحيى بن سعيد القطان: "إني لأدعو الله للشافعي في كل صلاة، لما فتح الله عليه في العلم ووفقه للسداد فيه".
ويعتبر الشافعي رحمه الله هو أول من كتب في هذا العلم، فكان جواب الشافعي لـعبد الرحمن بن مهدي هو كتاب الرسالة المجلد المعروف المطبوع الموجود، فلما وصل الكتاب إلى عبد الرحمن بن مهدي -وكان من كبار الأئمة- قال: "ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو للشافعي فيها".
وقال: "لما نظرت الرسالة للشافعي أذهلتني؛ لأنني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح، فإني لأكثر الدعاء له".
يقول عبد الله بن أحمد : جاء الشافعي إلى أبي زائراً وهو عليل يعوده - الشافعي يعود أحمد مع أن أحمد من تلاميذ الشافعي ، لكن الشافعي رحمه الله كان يعود تلاميذه- فوثب أبي إليه، فقبل ما بين عينيه، وأجلسه في مكانه وجلس بين يديه، مع أن أحمد كان مريضاً، فلما قام ليركب، راح أبي فأخذ بركابه ومشى معه.
وكان أحمد رحمه الله حريصاً على مجلس الشافعي كثيراً، وعلى الجلوس إليه، وكان ربما يفوت مجالس علماء ومحدثين كبار كـابن عيينة من أجل أن يجلس عند الشافعي ، حتى قال بعض أهل العلم: حججت مع أحمد بن حنبل فنزلت في مكان واحد معه، فخرج باكراً وخرجت بعده، فدرت المسجد فلم أجده في مجلس ابن عيينة ولا غيره، حتى وجدته جالساً مع أعرابي، فقلت: يا أبا عبد الله ! تركت ابن عيينة وجئت إلى هذا؟ فقال لي: اسكت، إنك إن فاتك حديث بعلو وجدته بنزول، لو فاتك ابن عيينة -تأخذ حديث ابن عيينة من تلاميذ ابن عيينة - وإن فاتك عقل هذا -أي: الشافعي- أخافك ألا تجده، ما رأيت أحداً أفقه في كتاب الله من هذا الفتى، قلت: من هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي .
وقال أحمد رحمه الله: كان الفقه قفلاً على أهله، حتى فتحه الله بـالشافعي ، وقال أحمد أيضاً: ما أحدٌ مس محبرة ولا قلماً إلا وللشافعي في عنقه منة، وقال أحمد أيضاً: لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث، فـالشافعي له فضل على أهل الحديث بتبيان معاني الحديث، والناسخ والمنسوخ، والجمع بين الأحاديث المتعارضة، وكان بعض العلماء مثل يحيى بن معين يستغربون من إقبال أحمد على الشافعي، حتى أن يحيى بن معين -مرةً- بلغه أن الإمام أحمد مشى مع بغلة الشافعي فأرسل إليه يعاتبه، فأرسل أحمد رداً يقول لـيحيى : لو مشيت من الجانب الآخر كان أنفع لك.
أي: لو مشيت أنت من الجانب الآخر من البغلة كان أنفع لك.
فـالشافعي رحمه الله رزق منهجاً سليماً، وفكراً ثاقباً، وحصافة وفطنة، وكانت أصوله في غاية الجودة، فسهَّل على أهل الحديث كثيراً فهم الأحاديث، صحيح أنه ما كان واسعاً جداً في طلب الحديث وجمعه، ولكن إذا بلغه يعرف وجهه، وكثيراً ما كان يقول: إذا صح الحديث هذا فأنا أمشي عليه؛ لأنه لم يكن يعرف صحته في بعض الأحيان، ولكن من تجرده وإنصافه- كما سيأتي- أنه كان يتبع الحديث.
وكان الشافعي رحمه الله سبباً في توجيه بعض طلبة العلم المشتغلين بعلم الكلام إلى اتباع السنة، منهم الأئمة الكبار، مثل: أبي ثور رحمه الله تعالى، والحسين بن علي الكرابيسي، أبو ثور من كبار الفقهاء، وكذلك الحسين بن علي الكرابيسي كان أول ما اشتغل هؤلاء بعلم الكلام، وكانوا ينبزون بأهل الحديث.
ولما جاء الشافعي إلى العراق ، قال أبو ثور للحسين بن علي الكرابيسي -وكانا من أهل الرأي، وربما تهكما بأهل الحديث، واعتبرا أن الرأي الذي عندهما هو القوي، وهو العلم- قال أبو ثور للكرابيسي: ورد رجلٌ من أهل الحديث يتفقه، فقم بنا نسخر منه -لأنهم يقولون: هؤلاء حملة آثار لا يفهمون شيئاً، فقط يحملون النصوص لكن لا يفهمونها- فذهبنا إليه، فسأله الحسين عن مسألة، فلم يزل يقل: قال الله، قال رسول الله، حتى أظلم عليهم البيت، فتركا ما كانا عليه واتبعاه. تركا قضية الرأي واشتغلا بالنصوص والآثار، فكان له فضل على مثل هؤلاء.
وكان بليغاً جداً في المناظرة، حتى قال بعضهم: لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة بأنه من ذهب لأقنعه بأنه من ذهب، وستأتي بعض قصص مناظراته.
وكان عابداً، وكان يختم القرآن ختمات كثيرة، وكان يقسم الليل ثلاثة أقسام: الثلث الأول للاشتغال بالعلم، والثلث الثاني للصلاة، والثلث الثالث للنوم، ويقوم إلى صلاة الفجر نشيطاً.
ومسألة أن يكون طالب العلم مشتغلاً بالعبادة مسألة مهمة جداً، وهذا درس عظيم وفائدة بليغة، فإن بعض الناس إذا اشتغلوا بطلب العلم نسوا العبادة، فصارت عبادتهم عادية جداً، كعبادة العوام أو أقل، بل إن بعض العوام في العبادة أحسن من بعض الذين يشتغلون بالقراءة أو تحصيل العلم، وهذا راجع إلى خلل في المنهج، ولذلك لابد أن يكون طالب العلم له حظ كبير من العبادة.
و الشافعي رحمه الله وفقه الله لأمورٍ كثيرة، حتى قال بعض أهل العلم: اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره، فأول ذلك:
1- شرف نسبه، وأنه من رهط النبي صلى الله عليه وسلم.
2- صحة دينه وسلامة معتقده من الأهواء، وسخاوة نفسه.
3- معرفته بصحيح الحديث من سقيمه، وبالناسخ والمنسوخ.
4- حفظه لكتاب الله تعالى ولأخبار النبي صلى الله عليه وسلم، ومعرفته لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء، وتأليف الكتب.
5- وأنه اتفق له من الأصحاب ما لم يحصل لغيره.
1- أحمد بن حنبل رحمه الله.
قال الإمام أحمد فيه: "يصلح للخلافة"، أي: في العلم والتقوى والورع والنسب يصلح للخلافة.
3- الحميدي.
4- الكرابيسي.
5- البويطي.
6- حرملة.
7- ابن عبد الحكم وكان من مشاهير تلاميذه، فيوفق الله بإخلاص صاحب العلم بتلاميذ أقوياء يحفظون علمه وينشرونه، فيزداد أجره.
قارنوا -الآن- بين طريقة السلف في طلب العلم، وبين الطريقة الحديثة التي تجعل الواحد يتخصص في فرع دقيق ولا يدري عن الأشياء الأخرى، فترى الواحد يتخصص في (الطب) مثلاً، ثم إنه لا يدري عن بقية العلوم حتى الدنيوية، وأكثرها عيباً أن يكون جاهلاً بالأمور الشرعية، وإذا تخصص تخصصاً دقيقاً في شيء نسي الأشياء الأخرى، فالطريقة الحديثة في التخصص من سلبياتها أنها تمنع الشخص عن الإسهام والقراءة في المجالات الأخرى، ويقول: هذا تخصصي ليس لي علاقة بغيره، الهمم ضعفت؛ ولذلك صار الاتجاه العام أن يكون الإنسان موسوعياً في الطلب صعباً، إلا على من وفقه الله عز وجل، فقد تجد الشخص مبرزاً في الحديث لكنه جاهل في التفسير والفقه، وقد تجد آخر عنده علم بالفقه ومتوسع فيه، ولكن عنده جهل عجيب بالحديث، وقد يستشهد بالأحاديث الضعيفة والموضوعة.
لكن طريقة السلف في طلب العلم كانت طريقة موسوعية، فلم يكن عندهم تخصص ينسيهم بقية مجالات العلم وفروعه، حتى أن بعض أهل العلم كانوا يرون بعض اللغويين في مجلس الشافعي ، يقولون لهم: أنتم لستم بطلبة علم ولا بأهل علم فلماذا تأتون؟
يقولون: نتعلم منه اللغة؛ لأن الشافعي رحمه الله كان يجلس المجالس الطويلة جداً، لا يسمع منه لحن واحد أو خطأ.
قال الشافعي عن نفسه: أسمع بالحرف مما لم أسمعه -أي: تعلمت فائدة جديدة أو شيئاً جديداً ما هو وقع الفائدة عليك إذا سمعت شيئاً جديداً، وتعلمت مسألة ما كنت تعلمها من قبل؟ كيف تشتاق لهذه الفائدة؟- قال الشافعي: فتود أعضائي -اليد والرجل وغيرها- أن لها أسماعاً تتنعم به مثلما تنعمت به الأذنان، فقيل له: كيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع.
مثل الذي يهتم بالمال يجمع ويمنع، إذا دخل الشيء لا يخرج ودائماً يدخل، لا يذهب منه شيء، فكان الشافعي في العلم جموعاً منوعاً، يجمع ولا يخرج منه شيئاً، بمعنى: لا ينساه ويذهب عنه.
فقيل له: كيف طلبك للعلم؟ قال: كطلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره. أي: كيف تبحث عنه؟
هل العلم الكثير الذي جمعه أدى به إلى الكبر كما يحدث عند البعض إذا اجتمع له شيء من أطراف العلم، أحس بأنه قد وصل، ويتعالى على الناس ويريد أن ينسب إليه العلم، ويقال: هذا كلام فلان، أما الشافعي رحمه الله، فإنه سُمع وهو مريض، وقد ذكر ما جمع من الكتب، فقال: وددت لو أن الخلق تعلموه ولا ينسب إليّ منه شيء، وقال: وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس أؤجر عليه ولا يحمدونني.
لم يكن علمه الواسع سبباً في غروره بمؤلفاته وكتبه؛ بل كان يقول: لقد ألفت هذه الكتب، ولم آلو فيها، أي: اعتنيت واجتهدت، ولابد أن يوجد فيها الخطأ؛ لأن الله تعالى يقول: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] يقول: لابد أن هناك أخطاء، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة، فقد رجعت عنه.
وقال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول صلى الله عليه وسلم فقولوا بها ودعوا ما قلته.
وكان يقول: كل ما قلت فكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح، فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى.
انظروا الآن -أيها الإخوة- إلى متعصبة المذاهب، يقول أحدهم للآخر: إلى أين؟ قال: أسافر. قال: ما هو مذهبك؟ قال: أبي حنفي وأمي شافعية، قال: سلم لي على أمك فقط، أصبح تعصب الناس للمذاهب شيئاً عجيباً، أين كلام الشافعي رحمه الله ومبادئه ومنهجه من المتعصبة الذين كانوا يقولون: نزوج فلاناً؛ لأنه على مذهبنا ولا نزوج فلاناً؟ لا يمكن أن تكون ابنتنا من مذهبنا تحت رجل آخر مذهبه مختلف، لا يمكن أن نعطي حنفية لشافعي، لكن العكس، يقولون: يمكن تنزيلاً لهم منزلة أهل الكتاب، نأخذ من نسائهم؟ لكن لا نعطيهم من نسائنا، أين هذا التعصب من كلام الأئمة الذين كانوا يربطون الناس بالكتاب والسنة؟ وهذه من الفوائد العظيمة: أن طالب العلم يربط الناس بالكتاب والسنة، لا بقول فلان وعلان، وإنما بالأدلة الشرعية.
يقول: إذا وجدتم سنة صحيحة فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى قول أحد.
وكان يقول: كل مسألة تكلمت فيها، وصح الخبر فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي.
وسأل رجل الشافعي عن مسألة فأفتاه، وقال الشافعي : قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟
قال: يا هذا! أرأيت في وسطي زناراً -والزنار كان من لباس أهل الذمة، مشروط عليهم لبس الزنار، ولا يلبسوا عمائم المسلمين- أرأيتني خارجاً من كنيسة؟ أقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول لي: أتقول بهذا؟ أي: واعجباً لك! هل أسأل أنا آخذ بالحديث أو لا، الحديث حجة بنفسه.
وكان يقول: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم أقل به.
وكان يقول هذا الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي.
وكان يقول: إذا صح الحديث فقل لي أذهب إليه.
يقول الشافعي لـأحمد ؛ لأن الشافعي يعرف أن أحمد أكثر اشتغالاً منه بجمع الحديث: "إذا صح الحديث فقل لي أذهب إليه حجازياً كان أو عراقياً أو شامياً أو مصرياً؛ لأن الصحابة تفرقوا في الأمصار، فصار بعضهم في العراق ، وبعضهم في الشام ، وبعضهم في مصر ، وبعضهم في اليمن ، وبعضهم في الحجاز ، وصارت الأحاديث موجودة.
يقول لـأحمد : الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني عنه وأنا أتبعه، أياً كان مصدره، سواءً مصدره الصحابة الذين في الحجاز، أو الشام، أو غيرهم.
وكان رحمه الله تعالى يعلق القول في كثير من الأحيان على ثبوت الحديث، فكان يقول مثلاً: إن صح الحديث في الغسل من غسل الميت قلت به.
وكان يقول: إن صح حديث ضباعة في الاشتراط في الحج، قلت به، ضباعة رضي الله عنها خافت أن تحتبس، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تشترط، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراط، أي: إذا وصل الإنسان إلى الميقات ينوي الإحرام، ويقول: فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، وإذا حبسه الحابس هذا، فإنه يجوز له أن يحل دون أن يكون عليه دم، ولا يلزمه شيء، فكان الشافعي رحمه الله لم يثبت عنده حديث ضباعة هذا، ولكن لإنصافه قال: إن صح حديث ضباعة في الاشتراط قلت به.
حتى أن بعض العلماء ألف كتاباً سماه: المنحة فيما علق الشافعي القول فيه على الصحة ، والمؤلف هو ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى.
كان الشافعي يوصي بالحديث وبأصحاب الحديث، يقول: "عليكم بأصحاب الحديث، فإنهم أكثر صواباً من غيرهم".
ويقول: "ما ناظرت أحداً قط على الغلبة -ما دخلت في مناظرة مع أحد لكي أتغلب عليه- وإنما لكي يتبين الحق".
وكان يقول: "ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ".
وهذه مرتبة لا يصل إليها الإنسان بالسهولة مطلقاً.
وقال: "ما ناظرت أحداً قط إلا على النصيحة".
كثير من الشباب -الآن- الذين يدخلون في نقاشات فقهية، يكون قصد الواحد منهم أن يتغلب على الآخر، وأن يظهر خطأ الآخر، وأن يظهر صوابه وفضله، فأين هؤلاء من أخلاق الشافعي رحمه الله؟
يجب علينا أننا إذا دخلنا في مناقشات علمية أن يكون قصد الواحد منا ظهور الحق، ولا فرق أن يكون ظهر الحق منه أو من الآخر، هذا ما ينبغي أن تكون عليه أخلاق طلبة العلم، يقولالشافعي رحمه الله: "ما ناظرت أحداً قط إلا أحببت أن يوفق ويسدد، وما ناظرت أحداً إلا ولم أبالِ بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه.
قال: فقلت له: أرأيت إن قال: أطعمنا بقلاً وقثاءً وفوماً وعدساً وبصلاً، ما هو الحكم؟ قال: تفسد صلاته، قال: أنت تقول بفسادها، وأنت تقول: يجوز أن تدعو بما في القرآن، قال الآخر: فماذا تقول أنت؟
قال الشافعي: ما يجوز أن يدعو به المرء في غير الصلاة جاز أن يدعو به في الصلاة؛ لأن المخاطب في ذلك ليست إلى الآدميين- المصلي إذا دعا لا يتكلم مع الآدميين وإنما يدعو ربه- وإنما الخبر أنه لا يصلح في الصلاة شيء من كلام الناس، هذا الذي يفسدها؛ أن يكلم الناس بعضهم بعضاً، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لقوم وسماهم بأسمائهم.
النبي صلى الله عليه وسلم قنت ودعا على أناس وسماهم بأسمائهم، وعلى عصية ورعل وذكوان، ودعا وقال: اللهم أنجي الوليد بن الوليد وغيره ممن دعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسماهم بأسمائهم، ونسبهم إلى قبائلهم.
وهذا كله يدل على أن المحرم من الكلام إنما هو كلام الناس بعضهم بعضاً في حوائجهم، فأما ما دعا به المرء ربه تبارك وتعالى وسأله إياه، فهذا لا أعلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من اختلف فيه.
والصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء، فإنه قمن- أي: حري- أن يستجاب لكم) ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم دعاء دون دعاء، وكلما كان يجوز أن يسأل الرجل ربه في غير الصلاة، فهو جائز في الصلاة.
قال: وما تنكر من قائل قال لك: إنما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو فيهم، فلما زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت تلك الصلاة: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ قال: فقلت: وكذلك قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] فلما أن زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت عنهم الصدقة؟- لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم تذهب الزكاة- فقال: لا. قلت: وما الفرق بينهما، والنبي صلى الله عليه وسلم هو المأمور بهما جميعاً؟ قال: فسكت. أي: الرشيد.
فكانت فتوى الشافعي الجواز، إسحاق بن راهويه يسأله، الشافعي يفتي بالجواز، فقلت: إي يرحمك الله، وجعلت أذكر له الحديث عن عائشة وعبد الرحمن وعمر وأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن كري بيوت مكة، وهو ساكت يسمع وأنا أسرد عليه، فلما فرغت سكت ساعة، وقال: يرحمك الله -الآن إسحاق يحتج بكلام بعض الصحابة على عدم جواز ذلك في مكة وهذه مسألة خلافية عند أهل العلم على أية حال- فقال الشافعي : يرحمك الله، أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هل ترك لنا
فقال الشافعي رحمه الله: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: عطاء وطاوس وإبراهيم والحسن، هل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟
ثم قال الشافعي مناظراً إسحاق: يقول الله عز وجل: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ [الحشر:8] المهاجرون من أين أخرجوا؟ من مكة ، نسب الدار إلى المالكين أو إلى غير المالكين؟
قال إسحاق: إلى المالكين، قال الشافعي : فقوله عز وجل أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دخل دار
قال إسحاق: نسبها إلى مالكها.
فقال الشافعي : وقد اشترى عمر بن الخطاب دار الحجامين فأسكنها، وأيضاً عمر بن الخطاب اشترى دار صفوان ليجعلها سجناً بـمكة فكونه اشترى دار صفوان فهذا يعني أن شراء بيوت مكة جائز، وذكر له جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اشتروا دوراً في مكة وجماعة باعوها.
فقال إسحاق: يقول الله عز وجل: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ أي: أنهم كلهم لهم حق العاكف والباد، فقال الشافعي : اقرأ أول الآية: وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25] قال الشافعي : والعكوف يكون في المسجد، ألا ترى إلى قوله: طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ [البقرة:125]؟ والعاكفون يكونون في المساجد، ألا ترى إلى قوله: وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]؟ فدل ذلك أن قوله عز وجل: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ في المسجد خاص، فأما من ملك شيئاً فله أن يكري وأن يبيع.
هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، فبعضهم رأى جواز بيع بيوت مكة وشرائها وإجارتها، وبعضهم رأى منع ذلك كله، وتوسط الإمام أحمد فقال بجواز شراء وبيع البيوت في مكة ، وعدم جواز الإجارة.
والمسألة من المسائل التي فيها مبررات من قال بالمنع، مثل: إن مكة يفد إليها الناس من جميع الأنحاء، فالأصل أن الذي يسبق إلى مكان هو أحق به، لا نجيز التملك فيها؛ لأننا إذا أجزنا التملك ضيق الناس على الحجاج والعمار، فإذاً الذي يسبق إلى مكان هو أحق به، وليس هناك أجرة ولا تأجير، فإذا انتهت حاجته من مكة ذهب، وجاء غيره فخلفه فيه، وبالنسبة لـمنى ليس هناك خلاف، منى مناخ من سبق، فـمنى الذي يأتي أولاً يأخذ المكان لا شك في ذلك، لكنهم اختلفوا في مكة ، هل يجوز البيع والشراء والتأجير فيها أم لا؟ هذه مسألة طويلة، وذكر ابن كثير رحمه الله في كتابه في ترجمة الشافعي توسط أحمد رحمه الله بين الشافعي وإسحاق.
وأيضاً مما يدل على فقهه رحمه الله، ما قال له عبد الله بن محمد بن هارون الفريالي ، قال: وقفت بـمكة على حلقة عظيمة وفيها رجل، فسألت عنه، فقيل: هذا محمد بن إدريس الشافعي ، فسمعته يقول: سلوني عما شئتم، أخبركم بآية من كتاب الله، وسنةٍ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول صحابي، فقلت في نفسي: إن هذا الرجل جريء، ثم قلت له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ -الزنبور الذي يلسع، من أين تأتي للزنبور بآية وحديث؟- فقال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي:
فأولاً أتى بالآية وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ . ما هو الذي أتى من الرسول؟ (اقتدوا باللذين من بعدي:
هذه بعض الأشياء التي بعض الناس يتناقش فيها في أمور تتعلق بالتوحيد مما ليس عندنا دليل عليه، أمور من أمور الغيب، لأن قضايا الغيب يجب أن نمسك فيها، حتى أن الشافعي رحمه الله من الحكم التي قالها: "إن للعقل حداً ينتهي إليه". أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسؤال عن ذلك؟
قلت: لا. قال: هل تكلم فيه أحد من الصحابة؟
قلت: لا. قال: تدري كم نجماً في السماء؟ قلت: لا.
قال: فكوكب منها تعرف جنسه.. طلوعه.. أفوله.. مم خلق؟ قلت: لا. قال: فشيء تراه بعينك من الخلق لست تعرفه تتكلم في علم خالقه!
أي: الآن بعض المخلوقات العقل عاجز عن إدراكها، تتكلم في أمور تتعلق بالخالق مما لم يأت في الكتاب والسنة، ثم سألني عن مسألة في الوضوء، فأخطأت فيها، ففرعها على أربعة أوجه، فلم أصب في شيء منها، فقال لي: شيء تحتاج إليه في اليوم خمس مرات، تدع علمه، وتتكلف علم الخالق، إذا هجس في ضميرك ذلك فارجع إلى الله، وإلى قوله تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... الآية [البقرة:163-164].
وكذلك من الأشياء التي حصلت للشافعي رحمه الله تعالى أنه كان يوصي طلابه بالفقه، ويقول لـيونس بن عبد الأعلى : يا أبا موسى ! عليك بالفقه فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه.
بعض النباتات إذا زرعت -الآن- لا تثمر إلا بعد أعوام، قال: عليك بالفقه فإنه كالتفاح الشامي يحمل من عامه، أي: أنه من النباتات التي ثمرتها عجلة تخرج بسرعة وهكذا الفقه، وكان يقول: "طلب العلم أفضل من صلاة النافلة".
وكان من تأديبه للناس أيضاً ما حصل مرة، قال محمد بن عبد الله بن الحكم : دخل رجل من الحرس يوماً على الشافعي وأنا آكل معه خبزاً فدخل وجلس يأكل معنا- بدون استئذان- فلما فرغ، قال الحارس: يا أبا عبد الله ! ما تقول في طعام الفجاءة؟- يسأل الشيخ الآن عن حكم إذا دخل على أناس أن يأكل معهم بدون استئذان- فقال الشافعي سراً: هلاّ كان هذا منه قبل الأكل.
وكذلك فإنه رحمه الله كان ذكياً فطناً، وكان ذكاؤه ينعكس على فقهه وفتاويه.
سئل الشافعي في رجل قال لامرأته وفي فيها تمرة: إن أكلتيها فأنتِ طالق، وإن طرحتيها فأنتِ طالق؟ يقول: ربما هذا إنسان يريد أن يطلق زوجته بأسلوب ابتكاري، ويمكن أنه ضاق بها ذرعاً وانتهز فرصة أنها وضعت التمرة في فمها، فسئل الشافعي رحمه الله عن هذا ماذا يفعل؟ فأجاب مباشرة، تأكل نصفها إذا طرحت النصف الآخر؛ لأنه إذا أكلت نصفها ما أكلتها، وتطرح النصف الثاني فما تكون قد طرحتها.
وكذلك فإنه من حسن خلقه -أيضاً- ما روى المزني ، قال: كنت عند الشافعي يوماً ودخل عليه جار له خياط، فأمره الشافعي بإصلاح أزراره فأصلحها، فأعطاه الشافعي ديناراً ذهباً، فنظر إليه الخياط وضحك، فقال له الشافعي : خذه، فلو أحضرنا أكثر منه ما رضينا لك به، فقال له: إنما دخلت عليك لأسلِّم عليك، لم أدخل لأعمل عملاً، قال الشافعي : فأنت إذاً ضيف زائر، وليس من المروءة استخدام بالضيف الزائر، فإذاً لابد من إعطائك الأجرة.
وكذلك وردت قصة أخرى حملها ابن حجر رحمه الله، والقصتان على التعدد؛ لأن هذه شبيهة بتلك، عن محمد بن الحسن والشافعي أنهما كانا قاعدين بفناء الكعبة، فمر رجل فقال أحدهما لصاحبه: تعال حتى نزكن على هذا الرجل الآتي أي حرفة معه، فقال أحدهما: خياط، وقال الآخر: نجار، فبعثنا إليه فسألاه، فقال: كنت خياطاً وأنا اليوم نجار، فتحمل على أنها قصة أخرى.
وكذلك قال الربيع : مر أخي في صحن الجامع، فدعاني الشافعي ، فقال: يا ربيع ! هذا المار الذي يمشي أخوك؟ قلت: نعم. ولم يكن رآه قبل ذلك.
وقال المزني : كنت مع الشافعي في الجامع، إذ دخل رجل يدور على النيام الذين ينامون في المسجد، فقال الشافعي للربيع : قم فقل له: ذهب لك عبد أسود مصاب بإحدى عينيه؟
قال الربيع : فقمت إليه فقلت له، فقال: نعم. فقلت: تعال، فجاء إلى الشافعي ، فقال: أين عبدي؟ فقال الشافعي : تجده في الحبس، فذهب الرجل فوجده في الحبس.
قال المزني : فقلت للشافعي : أخبرنا فقد حيرتنا، قال: نعم. رأيت رجلاً دخل من باب المسجد يدور بين النيام، فقلت: يطلب هارباً، ورأيته يجيء إلى السود دون البيض، فقلت: هرب له عبد أسود، ورأيته يجيء ليرى العين اليسرى، فقلت: مصاب بإحدى عينيه، قلنا: فما يدريك أنه في الحبس، فقال: هذا هو الغالب، أي: أنهم إذا جاعوا سرقوا، وإذا شبعوا أفسدوا، فتأولت أنه قد فعل شيئاً في ذلك، مادام أنه هارب يبحث عن شيء، فقد سرق وأنه في السجن.
لم يكن الشافعي رحمه الله يعجبه أبداً أن يكون اليهود والنصارى متفوقين في الطب؛ لأن مجال الطب مجال مهم جداً، وكان اليهود والنصارى بارعين فيه، والمسلمون عندهم شيء من القصور فيه، فكان الشافعي رحمه الله متحسساً جداً من هذه النقطة، وهذا يدل على أنه يدرك خطورة أن يكون بعض غير المسلمين عندهم احتكار أو شبه تفوق في هذا الجانب بحيث يحتاج إليهم المسلمون، ولاشك أن مهنة الطب فيها اطلاع على الأسرار، ولذلك قال الشافعي: "ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى" وله أقوال في الطب لعلنا نأتي على بعضها.
ومن مهارات الشافعي رحمه الله: إحسان الرمي، قال: كان همتي في شيئين: العلم والرمي، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من عشرة عشرة، ومر برجل يرمي، فقال له: أحسنت، وبرك عليه -دعا له بالبركة- ثم قال لغلامه: ما معك؟ قال: ثلاثة دنانير، قال: أعطها إياه، لهذا الرامي تشجيعاً على الرمي.
كان الشافعي كريماً ينفق أمواله، فمرة قدم من اليمن ومعه عشرون ألف دينار إلى مكة ، فضربت له خيمة خارج مكة ، فما دخل مكة حتى كان قد فرق كل الدنانير على من حضره وعلى أصحابه، وعندما يكون العالم وطالب العلم عنده سخاوة نفس، وعنده كرم يحبه الناس ويحترمونه، وهذه من الأشياء المهمة، ليست القضية قضية علم، وإنما لابد أن يكون مع العلم أخلاق.
وكان للشافعي رحمه الله أقوال من الحكم المأثورة، فمن الأقوال التي تنسب إليه:
1- يقول: "ليس العاقل الذي يميز بين الشر والخير فيختار الخير، لا. إنما العاقل الذي يقع بين الشرين فيختار أيسرهما. فمعرفة أدنى المفسدتين هي فعلاً الدليل على قوة العقل.
2- وقال محمد بن عبد الله بن الحكم : رآني الشافعي ، وأنا أستمد من دواة على اليسار، الدواة على اليسار المحبرة، فقال لي: أشعرت أنه يقال: إن من الحماقة أن يضع الرجل دواته على يساره.
3- وكان يقول: لا ينبغي لأحد أن يسكن بلدة ليس فيها عالم ولا طبيب.
4- وقال: عجبت لمن يحتجم ثم يأكل من ساعته، كيف يعيش؟! أي: أنه لا ينصح بالأكل بعد الحجامة.
5- وقال أيضاً في الأشياء التي فيها دواء: العنب ولبن اللقاح وقصب السكر.
6- وكان يقول: عجباً لمن تعشى البيض المسلوق ثم نام كيف لا يموت؟! ففعلاً فإن من النصيحة ألا يتعشى أحد على البيض المسلوق.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب |
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عنه يغيب |
غفلنا لعمر الله حتى تداركـت علينا ذنوب بعدهن ذنوب |
فيا ليت أن الله يغفر مـا مضى ويأذن في توباتنا فنتوب |
ومن أشعاره أيضاً:
لا خير في حشو الكلا م إذا اهتديت إلى عيـونه |
والصمت أجمل للفتى من منطق في غير حلمه |
وعلى الفتى لطباعه سمـ ـة تلوح على جبينه |
ومما قاله أيضاً رحمه الله تعالى:
المرء إن عاقلاً ورعـاً يشغله عن عيوبه الورع |
كما العليل السقيم يشغله عن وجع الناس كلهم وجع |
وقال:
ومنزلة السفيه من الفقيه كمنزلة الفقيه من السفيه |
فهذا زاهد في قرب هذا وهذا فيه أزهد منه فيه |
إذا غلب الشقاء على سفيه تنطع في مخالفة الفقيه |
وهو الذي قال:
شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي |
وأخبرني بأن العلم نورٌ ونور الله لا يهدى لعاصي |
وهو القائل أيضاً:
تعصي الإله وأنت تزعم حبـه هذا محال في القياس بديع |
لو كان حبك صادقاً لأطعتـه إن المحب لمن يحب مطيع |
في كل يوم يبتديك بنعمـة منه وأنت لشكر ذاك مضيع |
وهو الذي قال:
نعيب زماننا والعيب فينا وليس لزماننا عيب سوانا |
ونهجو ذا الزمان بغير ذنـبٍ ولو نطق الزمان لنا هجانا |
وليس الذئب يأكل لحم ذئـبٍ ويأكل بعضنا بعضاً عيانا |
وهو الذي قال:
إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا |
ونظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا |
جعلوها لجة واتخـذوا صالح الأعمال فيها سفنا |
وهو الذي قال:
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفساً إذا حكم القضاء |
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقاء |
وكن رجلاً على الأهوال جلداً وشيمتك السماحة والوفاء |
ورزقك ليس ينقصه التأني وليس يزيد في الرزق العناء |
وقال:
وأرض الله واسعة ولكن إذا نزل القضاء ضاق الفضاء |
ولما مات الشافعي رحمه الله نعاه كثيرٌ من أهل العلم، وفقدت الأمة بوفاته علماً رائعاً، ولكن نعيمه المدون والمنقول من طريق تلاميذه الذين وفقهم الله له لاشك أنه من الأشياء الكثيرة التي نحسب أن الرجل قد كسب بها طرقاً للخير توصل الثواب إليه وهو في قبره.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمه، وأن يجزيه خير الجزاء، عما قدم للإسلام وأهل الإسلام، ونسأله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بعلمه وما ترك وخلف. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر