وبعد:
فحديثنا في هذه الليلة -أيها الإخوة- عن موضوعٍ فيه شيءٌ من العجب والغرابة ولكنه سمةٌ من سمات المؤمنين، وصفةٌ من صفاتهم ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه واصفاً بها المؤمنين فقال: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75].
والتوسم والفراسة من صفات المؤمن، فأما الفراسة: فإنها النظر والتثبت والتأمل في الشيء والبصر به، يقال: تفرست فيه الخير، أي: تعرفته بالظن الصائب، وتفرس في الشيء: أي: توسمه، فالفراسةُ -أيها الإخوة- ناشئة عن جودة القريحة وحدَّة النظر وصفاء الفكر، والفراسة: هي الظن الصائب الناشئ عن تثبيت النظر في الظاهر لإدراك الباطن، والفراسةُ: هي الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية، وهي أيضاً ما يقع في القلب بغير نظرٍ وحجة، وقد قسمها ابن الأثير رحمه الله إلى قسمين:
الأول: ما دل ظاهر هذا الحديث عليه: (اتقوا فراسة المؤمن) وفي إسناده ضعف ولكن معناه صحيح، إن للمؤمن فراسة، وهو ما يوقعه الله تعالى في قلوب أوليائه فيعلمون أحوال بعض الناس بنوعٍ من الكرامات وإصابة الظن والحدس.
الثاني: نوعٌ يتعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرف به أحوال الناس، وفراسة المؤمن معتبرةٌ شرعاً في الجملة لقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75].
الفراسة: نظر القلب بنورٍ يقع فيه، ويتفرس يعني: يتثبت وينظر، وفي قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75] فيه أن التوسم وهو تفعل من الوسم وهي العلامة التي يستدل بها على مطلوبٍ غيرها، كما قال الشاعر يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
إني توسمت فيك الخير نافلةً والله يعلم أني صادق البصرِ |
الفراسة التي هي الاستدلال بالخلق على الخلق، لقد جاءنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: [أحسن الناس فراسةً ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا، وابنة شعيبٍ حين قالت في موسى: يا أبتي! استأجره، و
فلما رأى الريح تكشف ثوبها وهي ماشية أمامه لتدله على بيت أبيها قال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، أما أبو بكر رضي الله عنه، فقد عرف ولاية عمر بالتجربة في الأعمال والمواظبة على الصحبة وطولها.
ودخل المدينة وفدٌ من اليمن وكان عمر مع الصحابة في المسجد، فأشاروا إلى رجلٍ من الوفد، وقالوا لـعمر : هل تعرف هذا؟ قال: لعله سواد بن قارب ، فكان كذلك، يسمع به ولم يره، لكن لما رأى وجهه بالفراسة عرف أن هذا هو فعلاً فكان كذلك.
وكان عمر رضي الله عنه يطوف في البيت، فسمع امرأةً تنشد في الطواف قائلة:
فمنهن من تُسقى بعذبٍ مبـردٍ نقاخٍ فتلكم عند ذلك قرت |
ومنهن من تسقى بأخضرَ آجن أجاجٍ ولولا خشية الله رنت |
من النساء من تشرب عذباً زلالاً، ومن النساء من تشرب أخضر أجاجاً معفناً، ريحه سيئة، فتفرس عمر رضي الله عنه ما تشكوه، ما هو مدلول كلامها؟ فبعث إلى زوجها فاستنكهه -أي: شم رائحة فيه- فإذا هو أبخر الفم، وبخر الفم مرض: عبارة عن رائحة في الفم كريهة مستمرة تكون في أفواه بعض الناس، لا يكاد يوجد لها علاج؛ لأنها شيء ذاتي جعلها العلماء من العيوب في الرجل التي تبيح للمرأة طلب الطلاق إذا لم تتحملها، كما يباح للمرأة مثلاً طلب الطلاق إذا كان الرجل عقيماً لا ينجب، هناك عيوب يجوز للمرأة بها طلب الطلاق، هذه جاءت تشكو إلى عمر ، وتقول:
فمنهن من تسقى بعذبٍ مبـردٍ نقاخ فتلكم عند ذلك قرت |
ومنهنّ من تسقى بأخضر آجنٍ أجاجٍ ولولا خشية الله رنت |
فلما أتى به عمر واستنكهه عرف القضية أنه أبخر الفم، فأعطاه خمسمائة درهم وجارية على أن يطلقها ففعل.
هذا إياس القاضي رحمه الله له قصص عجيبة في الفراسة ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى، ومن هذه القصص التي ذكروها أن إياساً القاضي جاءه رجلٌ استودع أمانةً من مالٍ عند آخر ثم رجع فطلبه فجحده، فأتى صاحب الحق إياساً فأخبره فقال له إياس : انصرف واكتم أمرك ولا تعلمه أنك أتيتني ثم عد إليّ بعد يومين، فدعا إياس المودع المؤتمن الذي جحد، فقال: قد حضر مالٌ كثيرٌ وأريدُ أن أسلمه إليك أفحصينٌ منزلك؟ قال: نعم. قال: فأعد له موضعاً وحمالين، وعاد الرجل إلى إياس ، فقال: انطلق إلى صاحبك فاطلب المال، فإن أعطاك فذاك، وإن جحدك فقل له: إني سأخبر القاضي.
فأتى الرجل صاحبه، فقال: مالي وإلا أتيتُ القاضي وشكوت إليه وأخبرته بأمري فدفع إليه ماله؛ لأنه الآن لا يريد أن تتشوه سمعته عند القاضي، والقاضي وعده أن يضع عنده مالاً كثيراً وأن يجعله مقرباً منه، فدفع إليه ماله، فرجع الرجل إلى إياس فقال: أعطاني المال، وجاء الرجل الموعود إلى إياس في الموعد فزجره وانتهره وقال: لا تقربني يا خائن.
وتقدم إلى إياس بن معاوية أربع نسوة فقال إياس : أما إحداهنّ فحامل، والثانية مرضع، والثالثة ثيب، والأخيرة بكرٌ. فنظروا فوجدوا الأمر كما قال: قالوا: كيف عرفت؟ قال: أما الحامل فكانت تكلمني وثوبها مرفوعٌ عن بطنها فعرفتُ أنها حامل، وأما المرضع فكانت تضرب ثديها، فعرفتُ أنها مرضع، وأما الثيب فكانت تكلمني وعينها في عيني، فعرفتُ أنها ثيب، وأما البكرُ فكانت تكلمني وعينها في الأرض فعرفتُ أنها بكرٌ.
وكذلك من القصص التي حدثت له: أن شخصاً تحاكم إليه هو ورجلٌ آخر يدعي مالاً قد جحده الآخر، فقال إياس للمودع: أين أودعته؟ قال: عند شجرة في بستان -سلمته المال عند شجرة في بستان- فقال: انطلق إليها فقف عندها لعلك تتذكر، وفي رواية: هل تستطيع أن تذهب إليها فتأتي بورقٍ منها؟ قال: نعم. قال: فانطلقَ وجلسَ الآخر الجاحد عند إياس ، فجعل إياس يحكم بين الناس ويلاحظه ثم استدعاه فجأةً وقال له: أوصل صاحبك بعد إلى المكان؟ فقال: لا بعد أصلحك الله، فقال: قم -يا عدو الله- فأدِّ إليه حقه، وإلا جعلتك نكالاً، فقام فدفع إليه وديعته.
وتحاكم إليه اثنان في جاريةٍ فادعى المشتري أنها ضعيفة العقل، فقال لها إياس : أي رجليك أطول؟ فقالت: هذه، فقال لها: أتذكرين ليلة ما ولدتِ؟ قالت: نعم. فقال للبائع: ردها ردها..
وكذلك قال الثوري عن الأعمش : دعوني إلى إياس فإذا رجلٌ كلما فرغ من حديثٍ أخذ في آخر، وكان ذلك من حاله رحمه الله تعالى.
ومما يذكره العلماء في الفراسة أهمية فراسة العالم مع طلابه، كما ذكر الماوردي رحمه الله في كتاب أدب الدنيا والدين قال: وحكي أن تلميذاً سأل عالماً عن بعض العلوم فلم يفده، فقيل له: لِمَ منعته؟ فقال: لكل تربةٍ غرس، ولكل بناءٍ أس، وقال بعض البلغاء: لكل ثوبٍ لابس، ولكل علمٍ قابس.
وينبغي أن يكون للعالم فراسةٌ يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته، حتى يعرف كم يعطيه من العلم وقدر استحقاقه ليعطيه ما يتحمله بذكائه أو يضعف عنه ببلادته، فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم.
وقد روي إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [إذا أنا لم أعلم ما لم أرَ، فلا علمتُ ما رأيت].
إن فقهاء المذاهب بالجملة لا يرون الحكم بالفراسة، فإن مدارك الأحكام معلومةٌ شرعاً مدركةٌ قطعاً، وليست الفراسة منها؛ لأنها حكم بالظن والحزر والتخمين، وهي تخطئ وتصيب.
هناك مسألةً مهمة نبه عليها ابن القيم رحمه الله في كتابه الطرق الحكمية وفي كلام نفيس ذكر مسألة الحكم بالقرائن، وما يظهر وما يلوح وما يفهمه القاضي وما يستشفه من الأمر، قال: أما بعد:
وسئلت عن الحاكم أو الوالي يحكم بالفراسة والقرائن التي يظهر له فيها الحق، والاستدلال بالأمارات ولا يقف مجرد ظواهر البينات والإقرار حتى إنه ربما يتهدد أحد الخصمين، وربما سأله عن أشياء تدله على صورة الحال، فهذه مسألة كبيرة عظيمة النفع ... إلخ. ثم قال: وإذا تأملت الشرع وجدته يعول على ذلك -أي على القرائن والحكم بها- ومن هذا مستند ذلك قوله تعالى: إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:26-27].
ونقل عن ابن عقيل رحمه الله قوله في مسألة اعتماد القرائن قال: وفي العطار والدباغ إذا اختصما في الجلد أنه لمن؟ للدباغ، العطار ما دخله في الجلد، والنجار والخياط إذا تنازعا في المنشار، للنجار، والطباخ والخباز إذا تنازعا في القدر، للطباخ.. ونحو ذلك، فهل ذلك إلا الاعتماد على الأمارات، وكذلك الحكم بالقافة، القافة: الذين يعرفون الأثر وإذا رأوا أثر شخص على الأرض يعرفون من أي قبيلة، كم عمره، ذكر أو أنثى، وإذا كانت أنثى حاملاً أو ليست بحامل، وربما يعلم من أثر المرأة الحامل في أي شهرٍ هي.
هذه فراسة يرزقها الله من يشاء من الناس، فمن بني مدلج أناس مشهورون بالقيافة كما أن في بني مرة الآن أناس مشهورون بالفراسة، أو بالقيافة، فالقيافة نوع من الفراسة، وكذلك يمكن أيضاً من رؤية الأرجل أن يعرف هذا ولد فلان أو لا.
وكذلك وحشي قاتل حمزة لما أسلم وجاءه رجلان واحد منهم معتجر بعمامته متلثم، ولما رآه وحشي سأله الشخص تعرفني؟ فقال: لا. إلا أن تكون أنت ابن فلانة فقد حملتُكَ وأنتَ رضيع -كم القصة؟ يمكن فيها أربعين سنة- فعرفه، ومع أنه ما رآه إلا وهو رضيع من قبل، وهذه فراسةٌ عظيمة، قيافة عظيمة، فإذاً: للفراسة أشياء يستدل بها كالخلق في التقسيمات في الوجه والأعضاء واللون والهيئة يستدل بها على أمور:
على نسب شخص، وهذه مسألة لها دخل في قضية القضاء إذا ادعى عدة آباء ولداً، كل واحد يقول: هذا ولدي، وليس هناك بينة فيعمل بكلام القافة، فيؤتى بالقائف الخبير الذي جرب من قبل، يجرب يقال له: هذا ولد لم نعرف من أبوه، يقول: ولد فلان ويكون كلامه صحيحاً والثاني والثالث، نختبر القائف فإذا عرفنا خبرته وصدقه فهنا يأخذ كلامه في مثل هذه الحالة، عندما لا يدرى أن هذا ولد من، فيختصم عليه مجموعة أو اثنان أو أكثر فإنه يعمل بقوله.
وكذلك فإن النبي سليمان عليه السلام قد استدل بالمحق من المبطل لما جاءت المرأتان كل واحدة تدعي الولد، فحكم به داود عليه السلام للكبرى، فلقيهما سليمان عندما خرجتا من عنده فسألهما عن القضية فأخبرتاه أنهما اختصمتا في الولد، أختان كل واحد معها ولدها، فخرجت إلى البرية، فجاء الذئب فعدا ببنت إحداهما فأخذه، فاختصمتا في الولد، كل واحدة تقول: هذا ولدي، جاءتا إلى داود فحكم به للكبرى؛ لأن الولد كان مع الكبرى، فلما خرجتا من عنده سألهما سليمان، ثم قال سليمان: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، نصف لها ونصف لك، فقالت الصغرى: هو ولدها يرحمك الله، فقضى به للصغرى، وعرف أن الرحمة ما جاءت إلا من الأم الحقيقية، فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة؟! فاستدل برحمة الصغرى ورضا الكبرى على ذلك وأن الصغرى رفضت ذبح صغيرها بسبب ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله في قلب الأم، وقويت هذه القرينة عنده حتى قدمها على إقرارها، وحكم به لها مع قولها هو ابنها.
وكذلك فإن القرينة الظاهرة التي جعلت الصحابة يحكمون بوجوب الحد برائحة الخمر من في الرجل أو قيئه خمراً، يعد اعتماداً على القرينة الظاهرة، ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه القرينة أقوى من البينة والإقرار.
قال في الأمارات والعلامات: وكذلك إذا رأينا رجلاً مكشوف الرأس وليس ذلك عادته -عادته يلبس عمامة- وآخر هارباً أمامه بيده عمامة وعلى رأسه عمامة، حكمنا بالعمامة للمكشوف، حكمنا له بالعمامة التي بيد الهارب قطعاً ولا نحكم بها لصاحب اليد ولا نقول: وجدت بيده فهي له، من القرينة القوية التي قامت.
فغيبوا اليهود، أخفوا مسكناً فيه مالٌ وحليٌ لـحيي بن أخطب ، كان قد احتمله معه إلى خيبر ، حين أجليت النظير. لجأ حيي بن أخطب من نظير إلى خيبر ، ومعه هذا المال والذهب، فلما أجلي يهود خيبر أخفوا هذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب -وكان حيي قد قتل-: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النظير؟ قال: أذهبته النفقات والحروب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (العهد قريب والمال أكثر) ما مضى مدة طويلة على المال .. العهد قريب والمال كثير، لا يمكن أن يكون قد ذهب بالنفقات فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير، سلم اليهودي إلى الزبير فمسه بعذاب، لما قامت القرينة قال له: اضربه ليعترف، وكان قبل ذلك دخل خربةً فقال -هذا العم لما ضرب- قال: رأيت حيي ابن أخي يطوف في خربةٍ هاهنا، فذهبوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق بالنكث الذي نكثوا.
ففي هذه السنة الصحيحة الاعتماد على شواهد الحال والأمارات الظاهرة، وعقوبة أهل التهم، وجواز الصلح على الشرط وانتقاض العهد الذي خالفوا وإخزاء الله لأعدائه بأيديهم وسعيهم، فهو سبحانه قادرٌ على أن يطلع رسوله على الكنز بالوحي، لكن جعلها تمضي لكي يعرف القضاة من بعد النبي عليه الصلاة والسلام مسألة الأخذ بالقرائن.
وكذلك قال: ومن ذلك أن ابني عفراء لما تداعيا قتل أبي جهل : كل واحد يقول: أنا قتلته، فقال صلى الله عليه وسلم: (هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. قال: فأرياني سيفيكما، فلما نظر فيهما قال لأحدهما: هذا قتله، وقضى له بسلبه) فمن خلال السيوف عرف -بالقرائن- من هو الذي قتله فعلاً، وقضى له بسلبه، وهذا من أحسن الأحكام وأحقها بالاتباع فالدم في النصل شاهدٌ عجيب.
وقد روى ابن ماجة وغيره عن جابر بن عبد الله قال: (أردت السفر إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر ، قال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقاً) الآن جابر كان عليه ديون ويريد النبي عليه الصلاة والسلام أن يعطيه خمسة عشر وسقاً من تمر خيبر ، من قبل وكيل النبي عليه الصلاة والسلام، كيف يعرف الوكيل أن جابراً فعلاً عنده وكالة بأن يأخذ خمسة عشر وسقاً؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـجابر (فإذا طلب منكَ آيةً فضع يدك على ترقوته) قال: وكيلي إذا طلب منك دليلاً فضع يدك على ترقوته، كان يوجد اتفاق سابق بين النبي عليه الصلاة والسلام ووكيله قبل أن يذهب على هذه العلامة وهي: إذا جاءك شخص يدعي شيئاً مني ووضع يده على ترقوتك اعرف أنه محق.
فهذا اعتمادٌ في الدفع إلى الطالب على مجرد العلامة، وإقامة لها مقام الشاهد، فالشارع لم يلغِ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال.
قال ابن القيم: ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة والأمارات، فإذا ظهرت لهم لم يقدموا عليها شهادةً تخالفها، وكذلك فإن الأمارات والفراسة ربما تدفعهم إلى الارتياب في حال المدعي، فيسألونه عن تفاصيل زائدة، وعن صحة ما يقول: وأين كان ونظر الحال، ونحو ذلك من الأشياء والأوصاف التي تقود في النهاية إلى معرفة الحقيقة.
فتق الكيس من أسفله، وأخذ الدنانير وجعل مكانها دراهم -الدنانير ذهب والدراهم فضة قيمتها أقل- وأعاد الخياطة كما كانت، وجاء صاحبها بعد سنوات فطلب وديعته، فدفع إليه الكيس بختمه لم يتغير مختوم من فوق ما تغير الختم ولا انكسر فلما فتحه وشاهد الحالة رجع إليه قال: إني أودعتك دنانير والذي دفعتَ إلي دراهم، فقال: هو كيسك بخاتمك، فاستعدى عليه القاضي فأمر بإحضار المودع، فلما صار بين يديه قال له القاضي: منذُ كم أودعك هذا الكيس؟ -انظر الآن فراسة وحنكة القاضي، قضاة المسلمين كانوا على درجة عالية من الذكاء والخبرة والفراسة والعمل والأمارات والنباهة، ما كانوا مغفلين ولا نائمين ولا جهلة، هذه مسألة دماء وأموال: ما يحكم فيها إلا صاحب خبرة وعلم، القاضي هذا كان إمام البلد له وزنه- قال: منذُ خمس عشرة سنة، فأخذ القاضي تلك الدراهم وقرأ سكتها، مسكوكة في عام كم؟ فإذا فيها ما قد ضرب من سنتين أو ثلاث، فأمره بدفع الدنانير إليه وأسقطه ونادى عليه، أي: شهر فيه وسفهه وعاقبه وحكم عليه بأن يرد الدنانير.
فيقول مكرم : قلت للقاضي: لم أخرت حبسه؟ قال: ويحك، إني أعرف في أكثر الأحوال في وجود الخصوم وجه المحق من المبطل، حتى صارت لي بذلك دراية، وقد وقع إليّ أنا الآن مرتاب، بسبب سماحة هذا بالإقرار، يعني: هذا الحدث بسرعة يقر بالألف! ولعله ينكشف لي من أمرهما ما أكون معه على بصيرة، أما رأيت قلة تقصيهما في الناكرة وقلة اختلافهما وسكون طباعهما مع عظم المال -مع أن المال كثير ما جادل ولا ناقش ولا أحد دافع التهمة- وما جرت عادة الأحداث بفرق التورع -هؤلاء الصغار لا يعترف بسهولة! هذا مسألة فيها شيء- وما جرت عادة الأحداث بفرق التورع حتى يقر مثل هذا طوعاً عجلاً منشرح الصدر يقر على المال، قال: فنحن كذلك نتحدث إذ أتى الآذن يستأذن على القاضي لبعض التجار، فأذن له، فلما دخل التاجر قال: أصلح الله القاضي إني بليتُ بولدٍ حدث يتلف مالي، ويظفر به في القيان عند فلان -في الأغاني واللهو- فإذا منعته -إذا لم أعطه نقوداً يلعب بها ويلهو بها، ويسافر بها أو يشتري سيارات يفحط بها- فإذا منعته احتال بحيلٍ تضطرني إلى التزام الغرم عنه، وقد نصب اليوم صاحب القيان يطالب بألف دينارٍ حالاً وبلغني أنه تقدم إلى القاضي يقر له فيحبسه، فما هي الخطة الآن؟
الجواب: يقول هذا الرجل: الآن الولد متفق مع صاحب الملاهي بأن يذهب عند القاضي والولد يعترف أن لصاحب الملاهي ألف دينار، فماذا يفعل القاضي؟ يحبس الولد، ثم إذا انحبس الولد قامت أمه نكدت عيشتي حتى أقضي الدين عن الولد وأدفع الألف دينار إلى المعترَف له، ويتقاسمانه بعد ذلك.
فلما سمعتُ بذلك بادرت إلى القاضي فتبسم القاضي وقال: كيف رأيته؟ فقلت: هذا من فضل الله على القاضي، فقال: علي بالغلام والشيخ، فأرهب الشيخ ووعظ الغلام فأقرا، فأخذ الرجل ابنه وانصرف، فالمسألة مسألة دراسة عند القاضي؛ ولذلك يعرف بها المحق من المبطل.
وكذلك قال: وقع من الفراسة أن ابن عمر رضي الله عنه لما ودع الحسين قال: [أستودعك الله من قتيل] ومعه كتب أهل العراق فكانت فراسة ابن عمر أصدق من كتبهم، وفعلاً قتل الحسين ، ومن ذلك أيضاً أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما تفرس أنه مقتول ولا بد، أمسك عن القتال وعن الدفاع عن نفسه لئلا يجري بين المسلمين قتال وآخر الأمر يقتل هو. هذه طائفة من الأخبار التي ذكرها ابن القيم رحمه الله في الطرق الحكمية في هذا الموضوع.
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله عز وجل نماذج من فراسة العلماء والقضاة ممن كانوا من قبلنا، ومن هؤلاء إياس رحمه الله تعالى وكان من كبار القضاة، وتقدم الكلام عن فراسة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وكذلك فراسة كعب بن سور رضي الله تعالى عنه، فإنه قد حدث في عهده من القصص التي تبين أن هذه الصفة من صفات المؤمنين.
وقد ساق رحمه الله تعالى في كتابه: الطرق الحكمية نماذج لما كان عليه أهل العلم في هذه المسألة، وتكملةً لما سبق الكلام عنه في هذا أنه قد ادعى عند إياس رحمه الله رجلان في قطيفتين إحداهما حمراء والأخرى خضراء، فقال أحدهما: دخلت الحوض لأغتسل ووضعت قطيفتي ثم جاء هذا فوضع قطيفته تحت قطيفتي ثم دخل فاغتسل فخرج قبلي وأخذ قطيفتي فمضى بها، ثم خرجت فتبعته، فزعم أنها قطيفته، فقال: ألك بينة؟ قال: لا. قال: ائتوني بمشطٍ فأوتي بمشطٍ فسرح رأس هذا ورأس هذا، فخرج من رأس أحدهما صوفٌ أحمر، ومن رأس الآخر صوفٌ أخضر، فقضى بالحمراء للذي خرج من رأسه الصوف الأحمر وبالخضراء للذي خرج من رأسه الصوف الأخضر.
وكذلك فإن مما حدث أيضاً، مما ينسب إليه رحمه الله تعالى أنه كان مرةً ينظر فجاء رجل فجلس على دكانٍ مرتفع للمربد، فجعل يترصد الطريق فبينما هو كذلك إذ نزل فاستقبل رجلاً فنظر في وجهه -أي: هذا الجالس على الدكة والمكان المرتفع- نظر فاستقبل رجلاً فنظر في وجهه ثم رجع إلى موضعه، فقال إياس : قولوا في هذا الرجل، قالوا: ما نقول؟ قال: رجل طالب حاجة وهو معلم صبيان قد أبق له غلامٌ -أي: عبدٌ- أعور فقام إليه بعضنا فسأله عن حاجته، فقال: هو غلامٌ لي آبق، قالوا: ما صفته؟ قال: كذا وكذا وإحدى عينيه ذاهبة، قلنا: وما صنعتك؟ قال: أعلم الصبيان، فقلنا لـإياس : كيف علمت ذلك؟ قال: رأيته جاء فجعل يطلب موضعاً يجلس فيه، فنظر إلى أرفع شيءٍ يقدر عليه فجلس عليه، فنظرت في قدره فإذا ليس قدره قدر الملوك، فنظرتُ فيمن اعتاد في جلوسه جلوس الملوك، فلم أجد إلا المعلمين، فعلمتُ أنه معلم صبيان، فقلنا: كيف علمت أنه أبق له غلام؟ قال: إني رأيته يترصد الطريق ينظر في وجوه الناس، قلنا: كيف علمتَ أنه أعور؟ قال: بينما هو كذلك إذ نزل فاستقبل رجلاً قد ذهبت إحدى عينيه، فعلمت أنه اشتبه عليه بغلامه.
فهذه وأمثالها هي الحيل التي أباحتها الشريعة وهي تحيل الإنسان في فعلٍ مباحٍ على تخلصه من ظلم غيره وإيذائه، لا الاحتيال على إسقاط فرائض الله واستباحة محارمه، وفي المسند والسنن عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في صلاته فلينصرف -يعني: إذا أحدث في الصلاة يقطع الصلاة ويمشي، لا يحتاج إلى سلام؛ لأنه قطعت للحدث- فإن كان في صلاة جماعة، فليأخذ بأنفه ولينصرف).
وإذا كان في وسط الجماعة فإن إحراجاً عليه بين الناس أن يمشي فليأخذ بأنفه كأنه أصابه رعاف، فالناس يقولون: خرج لأجل الرعاف، وفي الحقيقة أنه خرج لأجل الحدث، فقال: هذه دلت عليه السنة لتخليص الإنسان من الحرج دون كذب، فإنه لا يقول: إن بي رعافاً ويأخذ بأنفه وينصرف، وحتى الذي يعرف هذا الحديث من الناس، إذا رأى رجلاً آخذاً بأنفه لا يدري هل أصابه رعاف أم أنه خرج منه حدثٌ أو ريح، قال: وفي السنة كثيرٌ من ذكر المعاريض التي لا تبطل حقاً ولا تحق باطلاً، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم للذي سأله بقوله: ممن أنتم؟ وهو في الغزو ولا يريد أن يخبره من أي مكان كان هذا من أسرار العسكرية للمسلمين، قال: (نحن من ماء) وفعلاً إن الإنسان خلق من ماء مهين، والله عز وجل خلق كل شيءٍ: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ [الأنبياء:30].
وكذلك لما سئل أبو بكر الصديق عن النبي عليه الصلاة والسلام: (قيل له: من هذا بين يديك؟ قال: هادٍ يدلني على الطريق) ما يريد أن يخبر أن هذا النبي عليه الصلاة والسلام، خطأ .. وهو هارب عليه السلام من مكة وكيف لو أصاب الخبر، فقال: هذا هادٍ يدلني على الطريق، وفعلاً النبي عليه الصلاة والسلام هادٍ يدل على طريق الإسلام والحق.
و عبد الرحمن بن أبي ليلى -الفقيه- وقد أقيم على دكانه بعد صلاة الجمعة على مكان مرتفع، فقام على الدكان وقال: إن الأمير أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب ، فالعنوه لعنه الله.
هذا عبد الرحمن بن أبي ليلى قد أتي به مكرهاً من قبل واحد ممن كان يكره علي بن أبي طالب ، وقيل له: نريدك أن تصعد أمام الناس وتلعن علي بن أبي طالب ، فقام على المكان المرتفع، فقال: إن الأمير أمرني أن ألعن علي بن أبي طالب فالعنوه لعنه الله، قصده في (العنوه) على من؟ على الأمير .. ومن ذلك تعريض الحجاج بن علاط بل تصريحه لامرأته بهزيمة الصحابة وقتلهم، حتى أخذ ماله منها وكانت على الشرك وهو على الإسلام.
ومن الفراسة الصادقة؛ فراسة خزيمة بن ثابت حين قدم وشهد على عقد التباين، بين الأعراب ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن حاضراً، تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها هذا يدخل في سرعة الأمر.
فراسة حذيفة بن اليمان وقد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عيناً إلى المشركين، فجلس بينهم، تسلل وجلس بينهم في معركة الخندق، فقال أبو سفيان وكان رئيس المشركين فجأة لينظر كلٌ منكم جليسه، قال: أخشى أن يكون محمداً قد أرسل إلينا عيناً، تجسسوا علينا كل واحد ينظر من بجانبه يتفقده؛ فـحذيفة بادر قبل أن يسأله جاره المشرك، وهو مندس بين المشركين، فقال لجليسة: من أنت؟ قال: فلان بن فلان، فاطمأن ذلك الشخص ولم يسأله.
وكذلك من هذا الباب فراسة المغيرة بن شعبة وقد استعمله عمر على البحرين فكرهه أهلها فعزله عمر عنهم، فخافوا أن يرده عليهم، فقال دهقانهم: إن فعلتم ما آمركم به لم يرده علينا، قالوا: مرنا بأمرك؟ قال: تجمعون مائة ألف درهم حتى أذهب بها إلى عمر ، وأقول: إن المغيرة اختان هذا ودفعه إليه -نتهم المغيرة عند عمر ، نقول: إنه اختلس هذا المبلغ ووضعه عندي، هذا الدهقان الكافر وقومه يخشون أن يرجع عليهم المغيرة أميراً فيقولون: نذهب ونتهمه عند عمر ، فجمعوا المال للدهقان، فأتى الدهقان إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين! إن المغيرة اختان هذا فدفعه إلي! اختلسه ووضعه عندي أمانة، فدعا عمر المغيرة فقال: هذا يقول إنك اختلست ألفاً ووضعتها عنده، قال: كذب أصلحك الله، إنما كانت مائتي ألف، فقال عمر للمغيرة: ما حملك على ذلك؟ قال: العيال والحاجة، فقال عمر للدهقان: ما تقول؟ -يعني: هذا المدعي أيضاً صار مختلساً مائة- فقال: لا والله لأصدقنكم، والله ما دفع إليّ قليلاً ولا كثيراً ولكن كرهناه وخشينا أن ترده علينا، فقال عمر للمغيرة: ما حملك على هذا؟ -يعني: على هذه الكذبة- قال: إن الخبيث كذب علي فأردت أن أخزيه.
تعلق المرأة بذلك الرجل، فيريد أن يحل المشكلة أيضاً .. فقال المنصور للرجل: أرأيت إن رددت عليك المال تحكمني في امرأتك -تقضي لي الحكم فيها- قال: نعم. قال: هذا مالك وقد طلقت المرأة منك؛ لأجل أن أتاحت المجال للآخر بالحلال أن يعود إليها، والرجل صاحب المال راضٍ بهذا.
وكذلك: كان للمعتضد رحمه الله عجائب في هذا، منها: أنه قام ليلةً فإذا غلامٌ قد وثب على ظهر غلام، فاندس بين الغلمان فلم يعرفه، فجعل يضع يده على فؤاد كل واحد، واحداً بعد واحد فيجده ساكناً حتى وضع يده على فؤاد ذلك الغلام فإذا به يخفق خفقاً شديداً فركضه برجله واستقره فأقر فقتله، يعني: على فعل الفاحشة.
وكذلك: رفع إليه أن صياداً ألقى شبكته في دجلة فوقع فيها جراب فيه كفٌ مخضوبةٌ بحناء، كف مقطوعة، وأحضر بين يديه، فهاله ذلك، وأمر الصياد أن يعاود طرح الشبكة هناك، ففعل فأخرج جراباً آخر فيه رجلٌ -كف ورجل- فاغتم المعتضد وقال: معي في البلد من يفعل هذا ولا أعرفه؟!! ثم أحضر ثقةً له وأعطاه الجراب وقال: طف به على كل من يعمل الجرب بـبغداد فإن عرفه أحدٌ منهم فاسأله عمن باعه منهم، فإذا دلك عليه فاسأل المشتري عن ذلك، وانقل عن خبره فغاب الرجل ثلاثة أيام، ثم عاد فقال: ما زلت أسأل عن خبره حتى انتهى إلى فلان الهاشمي اشتراهما مع عشرة جوارب وشكا البائع شره وفساده، ومن جملة ما قال: إنه كان يعشق فلانة المغنية وأنه غيبها، فلا يعرف لها خبر وادعى أنها هربت والجيران يقولون: إنه قتلها، فبعث المعتضد من ذهب إلى منزل الهاشمي وأحضره وأحضر اليد والرجل وأراه إياهما، فلما رآهما انتقع لونه وأيقن بالهلاك واعترف. ثم بعد ذلك أنفذ فيه الحكم.
وكذلك سئل العباس أنت أكبرُ أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو أكبر مني وأنا ولدت قبله.
وكذلك فإن الله سبحانه وتعالى قال للمؤمنين: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53] فينتقي الإنسان الكلمة الطيبة ولا يقول الكلمة الخبيثة حفاظاً على مشاعر أخيه المسلم.
وكان يتنكر ويطوف بالبلد يسمع قراءة الأئمة، فدعا ثقته وقال: خذ هذه الدنانير وأعطها إمام مسجد كذا، فإنه فقيرٌ مشغول القلب، ففعل هذا الرجل وجلس مع الإمام هذا وباسطه فوجد زوجته قد ضربها الطلق وليس معه ما يحتاج إليه من المال، فقال: فالآن تنبه وعرف أنها فطنة الخليفة، ولكن كيف اكتشف أنه محتاج؟
قال: عرفت شغل قلبه في كثرة غلطه في القراءة -قال: صليت وراءه فإذا به يخطئ كثيراً في القراءة فعلمت أن قلبه مشغول، ولذلك صار يغلط في القراءة كثيراً- فلعل شغله فقرٌ فدفع إليه المال.
قال: لأنني رجلٌ قصاب -جزار- خرجت إلى حانوتيٍ في الغلس فذبحت بقرةً وسلختها فبينما أنا أسلخها والسكين في يدي، أخذني البول فأتيت خربة كانت بقربي فدخلتها فقضيت حاجتي وعدت أريد حانوتي فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه فراعني أمره فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي وأخذوني فقال الناس: هذا قتل هذا، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي فاعترفت بما لم أجنه، فقال علي للمقر الثاني: فأنت كيف كانت قصتك؟ قال: أغواني إبليس فقتلت الرجل طمعاً في ماله، ثم سمعت حس العسس فخرجت من الخربة، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصفها، فاستترت منه ببعض الخربة، حتى أتى العسس فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضاً، فاعترفت بالحق.
فإذاً: هذا قتل شخصاً ثم انتهز فرصة خلو الجزار من الدكان فوضعه في دكان الجزار، فلما جاء الجزار بيده سكينه المعتادة وإذ بالناس قد جاءوا إلى هذا المكان وقبضوا عليه.
وكذلك قال رحمه الله تعالى: وعن علقمة بن وائل عن أبيه أن امرأة وقع عليها رجلٌ في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروهٍ على نفسها، فاستغاثت برجلٍ مر عليها وفر صاحبه -الفاعل فر وهذا المستغاث به صار هو في المشهد- فمر أناس فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي استغاثت به فأخذوه وسبقهم الآخر وهرب، فجاءوا بهذا المستغاث به يقودونه فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر، فقالت: كذب هو الذي وقع علي، فقالوا: انطلقوا به فارجموه، فقال رجل: لا ترجموه وارجموني؛ جاء الفاعل واعترف فأنا الذي فعلت هذا الفعل.
ولذلك فإن القاضي عليه ألا يستعجل فإنه ربما ظهر الحق بعد مدة وأن يتأمل في الموضوع، فإنه ربما يظهر بالتأمل حالٌ جديدة، أو يظهر فيها حق ولو استعجل لأزهقت روح بريئة.
وكذلك من هذا القبيل بينما علي رضي الله عنه جالس في مجلسه إذ سمع ضجةً فقال: ما هذا؟ فقالوا: رجلٌ سرق ومعه من يشهد عليه، فأمر بإحضاره فدخلوا، فشهد شاهدان عليه أنه سرق درعاً فجعل الرجل يبكي ويناشد علياً أن يتثبت في أمره، فخرج علي إلى مستمع الناس بالسوق فدعا بالشاهدين، فناشدهما الله وخوفهما فأقاما على شهادتهما، فلما رآهما لا يرجعان، فدعا بالسكين وقال: ليمسك أحدكم يده ويقطع الآخر -أنتما شاهدان عليه بالسرقة، والآن وجب تنفيذ الحد أحدكم يمسك يده والآخر يقطع- فتقدما ليقطعاه فهاج الناس واختلط بعضهم ببعض، وقام علي عن الموضع فأرسل الشاهدان يد الرجل وهربا، فقال علي : من يدلني على الشاهدين الكاذبين؟ فلم يقف لهما على خبر فخلى سبيل الرجل وهذا من أحسن الفراسة، فإنه ولىّ الشاهدين ما توليّا وأمرهما أن يقطعا بأيديهما يد من اتهماه بألسنتهما.
ومن هاهنا قال العلماء: إنه يبدأ الشهود بالرجم، إذا شهدوا بالزنا .. وأما إذا اعترف الرجل الزاني فالذي يبدأ بالرجم القاضي الذي اعترف عنده، احتياطاً بالشريعة وبأرواح العباد، وكذلك قال: وحكم الفراسة على ذلك من الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة، قال الله تعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ [البقرة:273].
وأن الأخذ بالسيماء والعلامة معتمد شرعاً، قال: حتى إذا رأينا ميتاً في دار الإسلام وعليه زنار -وهذا لباس أهل الذمة من النصارى- وهو غير مختون ماذا نحكم؟ أنه نصراني، لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدم ذلك على حكم الدار في قول أكثر العلماء، بأن النصارى: كثيرٌ منهم لا يختتنون، وقال الله تعالى: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ [يوسف:18].
قال عبد المنعم بن الفرس : روي أن إخوة يوسف لما أتوا بقميص يوسف إلى أبيهم يعقوب تأمله فلم يرَ فيه خرقاً ولا أثر نابٍ من النياب المزعوم فاستدل بذلك على كذبهم، وقال لهم: متى كان الذئب حليماً يأكل يوسف ولا يخرق قميصه؟! فلما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة صدقهم، قرن الله تعالى بهذه العلامة علامة تعارضها وهي سلامة القميص من التمزيق، إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس القميص، ويسلم القميص ويجمعوا على أن يعقوب استدل على كذبهم بصحة القميص، فيعقوب جزم: وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً [يوسف:18] عرف ذلك من العلامات.
قال: ومن الحكم بالعلامات أيضاً: ما جاء في قوله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:26-28].
فهذه أمارات قد حكم بها وعرف بها البريء من الظالم، وكانت دليلاً على براءة يوسف عليه السلام، والذي تكلم على الراجح هو رجلٌ كبير ذو لحية كما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، أما كونه صغيراً قد تكلم في المهد فلم يثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي شهد شاهدٌ من أهلها رجلٌ كبيرٌ ذو لحية كان عنده عقلٌ وتمييزٌ وفراسة، فأمره بأن يعمل بهذه العلامة، وألهمه الله ذلك ليقوله فيبرئ يوسف عليه السلام.
والقيافة: هي العلامات التي يعرف بها القائف نسب الشخص من أبيه عندما يتفرس في خلقتهما، ولما لاعن النبي صلى الله عليه وسلم بين عويمر العجلاني وامرأته -وكانت حاملاً- قال عليه الصلاة والسلام: (إن جاءت به أحمر قصيراً كأنه وحرةٌ فلا أراها إلا قد صدقت وكذب عليها -لما رماها بالزنى- وإن جاءت به أسود أعين ذا أليتين فلا أراه إلا قد صدق) فجاءت به على المكروه من ذلك، يعني: أنها قد فعلت الفاحشة وأن زوجها صادقٌ فيما رماها به من الزنى.
وجاء في الروايات في البخاري كان ذلك الرجل مصفراً قليل اللحم سبط الشعر، وكان الذي ادعى عليه أنه وجده عند أهله، خدلج الساقين آدم كثير اللحم جعداً قططاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بين) فجاءت شبيهاً بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها، جاءت على النحو المكروه.
والوحرة: دويبةٌ حمراء تلصق بالأرض، والأعين: واسع العينين، والآدم شديد الأدمة وهي: سمرةٌ بحمرة، والخدلج: كثير لحم الساقين، والقطط: شديد جعودة الشعر، فهذا يعمل به .. ولما جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأل أو تجد المرأة ما يجد الرجل -يعني: من إنزال- والغسل عليها فقال عليه السلام: (تربت يداك ومن أين يكون الشبه؟) يعني: إن مني المرأة ومني الرجل يحدث شبهاً في الولد في الأبوين، فيأتي في الخلقة والأعضاء والمحاسن ما يدل على الأنساب، ويعرف من الشكل أن هذا -مثلاً- ولدي يشبهني فهو مني، هذا من القرائن ومن العلامات.
وقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يومٍ مسروراً فقال: يا
وكذلك فإن في هذا الذي حصل دليلاً على وجود الفراسة لدى بعض الناس يعرفون بها هذا ابن هذا أو لا، ولذلك يكون هناك طريقة لإثبات النسب عند ادعاء الابن لأكثر من شخص، إذا اختلفوا وليس هناك بينة.
هناك علاقة كبيرة بين هذا وذاك، فإن كثيراً ممن يؤول الرؤى تأويلاً صحيحاً لديه نوعٌ من الفراسة، يعرف بها تأويل الرؤى وتفسير المنامات، وقد اتسعت تقيداته وتشعبت تخصيصاته وتنوعت تعريفاته، ولا يمكن الاعتماد على أقوال الناس إلا ما ورد في القرآن العظيم والكتاب والسنة، وأما جعل ضوابط فإنه لا يمكن في تفسير المنامات والأحلام؛ لأنه يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، ومنا من يلقى في قلب مفسر للرؤيا عندما تقص عليه بإلهام يلهمه الله عز وجل فيتكلم بذلك، فلا يجوز الكلام فيما لا يعرفه الإنسان في تأويل الكلام وعده العلماء من الفتيا بغير علم.
الجواب: إن من شروط ذلك: الاستقامة وغض النظر عن المحارم، فإن المرء إذا أطلق نظره تنفس الصعداء في مراءاة قلبه فطمست نورها: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
وقال بعض السلف : من غض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بالمراقبة، وتعود أكل الحلال لم تخطئ فراسته.
فإذاً: إذا أراد الإنسان أن يكون له فراسة، ونظر صائب في الأمور، ويكتشف المحق من المبطل ويعثر على الحق، ويتبين إذا اختلطت الأشياء وتشابهت، فإن عليه أن يقوم بهذه الأشياء وهي:
غض البصر عن المحرمات، وكف النفس عن الشهوات، وتعود أكل الحلال، وأن يكون مراقباً لله عز وجل، فكلما زادت تقوى المؤمن ألهمه الله تعالى التبصر بالأمور وسرعة الفهم، فكانت فراسته أثبت ممن كان أقل تقوى منه، وهذه الفراسة في غض البصر لها علاقة مباشرة بها؛ لأنه يورث نور القلب، وقال عز وجل في قوم لوط: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72]، فهذا تعلق بالصور المحرمة، وسكر القلب بل جنونه، فلا يمكن أن يكون معه فراسة كما قيل:
سكران سكر هوىً وسكر مدامة فمتى إفاقة من به سكرانِ |
وقيل:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين |
أي: العشق أعظم من الجنون:
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين |
وكان شهاب بن شجاع الكرماني لا تخطئ له فراسة، وكان يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة؛ وكف نفسه عن الشهوات، وأكل الحلال لم تخطئ له فراسة.
من غض بصره عن الحرام فأطلق الله تعالى له نور البصيرة وفتح عليه باب العلم والمعرفة فيظهر عليه من الفراسة ما الله به عليم.
هذه بعض ما يورث الفراسة وهذا موضوع جدير بالاهتمام وله علاقة مباشرة في الإيمان وهو مذكورٌ في القرآن في قوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر:75] ويلزم أن يكون من صفات كل من يحكمون بين العباد، نسأل الله عز وجل أن ينور قلوبنا بالإيمان.
هذا وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر