إسلام ويب

كتاب الصيام - مقدمة كتاب الصيام [4]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن مما يشرع للصائم في صومه تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من لوازم بقاء الخير في هذه الأمة حرص أفرادها على هذا الأمر.

    1.   

    شرح حديث: (فإني إذاً صائم)

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    وبعد:

    قال المصنف رحمه الله: [ وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا: لا. قال: فإني إذاً صائم. ثم أتانا يوماً آخر فقلنا: أهدي لنا حيس. فقال: أرنيه، فلقد أصبحت صائماً، فأكل) رواه مسلم ].

    بعدما قدم لنا المؤلف رحمه الله تعالى وجوب تبييت النية في الفرض، جاء بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها الذي يخصص ذاك العموم، ويتعلق بنية النافلة، فتقول رضي الله تعالى عنها: (دخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال: هل عندكم شيء؟ قالت: قلنا: لا. قال: فإني إذاً صائم) .

    قبل الحديث عن النية، وعن نوافل الصيام، وعن أحكام الفطر، ننظر إلى هذا الحديث في مدلوله، سيد الخلق صلى الله عليه وسلم الذي عرض عليه أن تكون جبال الدنيا ذهباً في يده، يسأل أهله: هل عندكم طعام؟ فيقولون: لا، ليس عندنا! هل ذلك لهوانه على الله؟ هل ذلك لنقصان ما عند الله؟ لا والله! بل هو ابتلاء وامتحان لآل بيت النبوة، وقد تحلوا بالصبر والعفة والرضا والقناعة بما لا يقوى عليه أحد في الدنيا.

    قد يقول قائل: هذه عائشة ليس عندها شيء، وقد يكون عند بعض زوجاته طعام، فيأتي حديث ضيف رسول الله، عندما أرسل إلى جميع زوجاته يسألهن: هل عندكن ما تعشين به الضيف؟ وكل واحدة تعتذر: ليس عندي. فيقول صلى الله عليه وسلم: (من يستضيف هذا الليلة وله الجنة؟) يا سبحان الله! الجنة بعشاء ضيف ليلة! ليس لهوان الجنة، ولكن لعظم قري الضيف، بيوت رسول الله التسعة ليس فيها ما يعشي به الضيف؛ وذلك لندرة الطعام وقلته، ولماذا صار الذهب غالياً؟ لقلته وندرته، فيذهب به الرجل إلى بيته، فيقول لزوجه: أكرمي ضيف رسول الله. فتقول: والله ما عندي إلا عشاء عيالك! فيقول لها: علليهم حتى يناموا، ثم قدمي الطعام لي وللضيف، ثم اعمدي إلى السراج، كأنك تصلحينه فأطفئيه، فإني سأمد يدي في القصعة لتلتقي بيد الضيف فيظن أني آكل معه وأرفعها خالية؛ لأوفر الطعام لضيف رسول الله! وبات العيال والرجل والمرأة خماصاً، وشبع ضيف رسول الله وهو لا يعلم، فما كان لهذا الرجل الذي احتال على الضيف طاعة لله ومرضاة لرسول الله إلا أن استقبله رسول الله في صلاة الصبح قائلاً: (لقد ضحك ربنا من صنيعكما البارحة!) .

    فهذا رجل من عامة الناس، والطعام الذي عنده إن عشّا به عياله لا يعشي الضيف، وإن عشا به الضيف لا يجد ما يعشي عياله وأمهم ونفسه.

    أيها الإخوة الكرام! إن أوجب ما يجب على المسلم وعلى العاقل -لو لم يكن مسلماً- أن يحفظ نعمة الله عليه، وإن أعظم أسباب حفظ النعم الشكر لله سبحانه، فهذا الرجل ليس عنده إلا عشاؤه وعشاء عياله، وكم الذين يتجاوزون الحد في إهمال شكر النعمة، ولا يضعونها في مواضعها! فنسأل الله تعالى أن يردهم إلى الصواب، ونوصيهم أن يفيضوا بما أفاض الله عليهم على أولئك الذين يبيتون طاويين لا طعام لهم.

    يقول: (هل عندكم من شيء؟ قالت: قلت: لا) !!

    بل تقول رضي الله تعالى عنها: كان يمر بنا شهران هلال وهلال وهلال، ولم يوقد في بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار. فقيل لها: فما كان طعامكم حينئذ يا أماه؟! قالت: الأسودان: الماء والتمر. يا سبحان الله العظيم!

    لما أراد أمير المدينة عمر بن عبد العزيز أن يدخل الحجرات في المسجد النبوي، وكان لإدخالها سبب سياسي ومنافسة، بكى أهل المدينة، وقام سعيد بن المسيب يعارض ذلك، فقال عمر : والله! ما هي إلا عزمة أمير المؤمنين -أي: لا أستطيع أن أخالف ذلك- فقال سعيد : وددت لو بقيت حتى يأتي الناس من كل مكان فيروا كيف كانت حالة رسول الله، وكيف كان يعيش، وكيف كان يبيت، وكيف كان يسكن، يقول أنس : إذا مددت يدي نلت سقفها! (هل عندكم من شيء؟ قالت: لا. قال: إني إذاً صائم) ، أعتقد أن هذا الموقف لا يمكن أن تترجم عنه الكلمات، ولا يمكن أن يدركه إلا ذو حس رهيف، وحساسية شفافة يستطيع أن يقايس بين حياة الناس وحياة سيد الناس صلى الله عليه وسلم.

    يذكر العلماء خلافاً ضعيفاً، وهو: أن النفل والفرض يستويان في وجوب تبييت النية، ولكن الجمهور على أن النافلة تغاير الفرض، ويجوز للإنسان إن لم يأكل أن ينشئ نية صوم من ضحى النهار، وبعضهم يقول: إلى زوال الشمس، وابن عبد البر يذكر في "الاستذكار" عن البعض: ولو إلى قبل الغروب.

    ثم البعض يقول: هذا الذي أخر تبييت الصيام وأنشأه من النهار له ثواب من وقت إنشاء النية إلى غروب الشمس، والجمهور يقولون: له ثواب اليوم كله.

    وبعضهم يستدل بما وقع عملياً حينما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء من ينادي: (من كان أكل فليمسك، ومن لم يكن أكل فليصم) فقالوا: هذا إعلام وإلزام بالصيام في وضح النهار، ولم يعلمهم بالليل، ولم يبيتوا الصوم بالليل، وإنما أنشئوه نهاراً، وبعضهم يقيس الفرض على عاشوراء، وبعضهم يجعل ذلك للنافلة فقط، فالذين يقيسون يقولون: صوم عاشوراء في بادئ الأمر كان فرضاً، ولكنه نسخ لما جاء ما هو أهم منه وهو رمضان.

    وبعض العلماء يناقش في كلمة (إني إذاً)، (إذاً) ظرف، فهل معنى (إذاً) يعني: الآن أنشأت نية الصوم أو أني كنت قد بيت النية لصوم، وإذا وجدت شيئاً أكلت، فلما لم أجد شيئاً فأعلمكم أني صائم، يعني: مبيت للصوم من الليل؟

    كل هذه أشياء فيها تكلف، وإذا ثبتت لفظة (إذاً) فهي تدل على إنشاء النية نهاراً، وعلى هذا يكون سياق المؤلف رحمه الله تعالى لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها إنما هو بيان لما يستثنى من عموم (لا صيام لمن لم يبيته بليل) ، فيخصص هذا العموم بصحة صيام النافلة لمن لم يبيته بليل.

    حكم الفطر في صيام التطوع

    جاء في حديث عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام جاءها في يوم وسأل: (هل عندكم من شيء؟ قالت: بلى، أهدي إلينا -تعني: ليس من عندنا، الله أكبر!- حيس) والحيس من الحوسة: الدقيق مع التمر مع الأقط مع السمن، الكل يخلط ويعرك ويصير طعاماً، وهو طعام جيد، والنسوة يصنعن ذلك للنفساء؛ لأنه ينفعها لما فيه من التمر والسمن، فقال: (أرنيه، فأكل) ، وأخبر أنه كان صائماً، فقالت: كنت صائماً وتأكل؟! قال: (يا عائشة ! إنما صاحب التطوع كرجل أخرج من ماله جزءاً ليتصدق به، فإن شاء أمضاه وتصدق به كله، وإن شاء أمضى البعض وأمسك البعض) ، وفي الحديث الآخر: (الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام، وإن شاء أفطر) .

    ولكن المالكية ينصون عن مالك رحمه الله أنه لا ينبغي للمتطوع أن يفسد تطوعه، والمالكية يشددون في هذا، وينقلون عن مالك : أن من أفطر في التطوع قضى يوماً مكانه. ويذكرون حديثاً عن عائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما فيه: (كلا، وصوما يوماً مكانه) ، والجمهور على أن النوافل لا تقضى، والقضاء للفرائض.

    1.   

    شرح حديث: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)

    قال رحمه الله: [ وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) متفق عليه، وللترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) ].

    في الحديث السابق: (إني إذاً صائم)، جاء عن أبي أيوب وأبي طلحة أنهما كانا يفعلان ذلك، يصبح أحدهم فيسأل أهل البيت: عندكم شيء؟ فإن وجد أكل، وإلا صام، وذلك بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يفيدنا أن إنشاء النية في النهار ليس خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو تشريع عام، بدليل فعل بعض أصحابه رضوان الله تعالى عليهم.

    انتهينا من مسألة تبييت النية، وما بعد النية إلا الصوم، وما بعد الصوم إلا الإفطار، فجاءنا المؤلف رحمه الله بآداب الإفطار، فذكر حديث: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر) ، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً) .

    إذا صمنا اليوم، واستقبلنا المغرب، هل نبادر بالفطر أو نتأخر عنه احتياطاً؟

    جاءنا المؤلف رحمه الله بهذا الحديث القدسي عن الله سبحانه: (أحب...) (أحب) أفعل تفضيل، أصلها: أحبب، وأدغم المتماثلين: (أحب عبادي إلي -يعني: عبادي كلهم محبوبون عندي، لكن أشدهم حباً إلي، وخاصة من الصائمين - أعجلهم فطراً) الذي يتأخر ويقول: أنتظر بعد غروب الشمس قليلاً حتى أتأكد زيادة، وزاد في صومه نصف ساعة من الليل، فصام النهار، وزاد نصف ساعة، فهل هذا أحب إلى الله أم الذي وقف عند نقطة الصفر؟ تأملوا في أصول التشريع، وسيأتي الحديث الآخر: (لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر) ، ما الفرق بين تعجيله وتأخيره؟ وما المشكلة لو جاع الرجل ساعة أو ساعتين زيادة على الوقت المحدد، ففعله هذا على نفسه؟

    نقول: لا، قدمنا سابقاً تنبيه العلماء على ضرورة الوقوف عند حد المفروض، ولما سئل مالك رحمه الله: هل يجوز أن يعطي في زكاة الفطر صاعاً وزيادة؟ قال: لا، احص الصاع أولاً وحده، ثم زد ما شئت في غير هذا الحال. لماذا؟ حتى لا يضيع حد الصاع، ويبقى المشروع محدوداً منتظماً، فإن كان هذا يزيد، وهذا يزيد، وهذا يزيد؛ ضاع الأصل، وهكذا هنا، الله تعالى يقول: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] ، وبمجرد اكتمال غروب الشمس تحقق الليل، إذاً: هذا حدك، فعجل الفطر بعد ثبوت دخول الليل لا أن تتعجل قبل الغروب، فإذا حافظ الإنسان وحافظت الأمة على هذا، ووقفت عند حد الله في هذا العمل؛ ظل هذا العمل محفوظاً بدون زيادة ولا نقص؛ لأنه لا يقبل الزيادة ولا يقبل النقص، ولهذا قال: (أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً)، وجاء في الحديث: (إذا أدبر النهار من هاهنا، وأقبل الليل من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم) ، وبعض العلماء يقولون: أكل أو لم يأكل، وبعضهم يقول: وجب عليه الفطر، كقوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ [البقرة:233] يعني: أرضعن، وهنا قال: (أفطر الصائم) ، وفي بعض الروايات: (ولو لم تجد إلا لحا شجرة فامضغه) ، حتى لا تحسب نفسك على إمساك وصيام؛ لأن الليل ليس وقتاً للصيام ولا يصلح له، إذاً: إمساكك جزءاً من الليل مع النهار ليس إلا زيادة جوع وعطش وليس لك فيه أجر.

    فحفظ النهار يكون من أوله من حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ويكون من آخره إذا غربت الشمس.

    وجاء في بعض الأخبار والروايات: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر؛ لأن اليهود تؤخر الفطر حتى تشابك النجوم في السماء) .

    في وقت الفطور يتوجه للصائم أمران: فطره من صومه وصلاته المغرب، فأيهما يقدم؟ هل يقدم الفطر ثم يصلي أو يقدم الصلاة ثم يفطر؟

    يذكر العلماء رحمهم الله عن عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما أنهما كانا يصليان المغرب ثم يفطران، ولا يكون ذلك تأخيراً للفطر لاشتغاله بالركن.

    ويذكر ابن عبد البر رحمه الله أن الجمهور على الفطر ثم صلاة المغرب، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم : (أنه كان يأكل ثلاث تمرات ثم يصلي المغرب) ، ولعل هذا أقرب؛ لأن صلاته للمغرب إذا لم يفطر ستكون وهو في صيام، وهذا ليس مشروعاً، وفعل عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما يخالف فعل الجمهور، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم مقدم على كل فعل، فهو (كان يتناول ثلاث تمرات ثم يقوم ويصلي المغرب) ، فهذه السنة، ثم العشاء بعد صلاة المغرب.

    1.   

    شرح حديث: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر)

    قال رحمه الله: [ وعن سليمان بن عامر الضبي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر) ].

    يقول صلى الله عليه وسلم : (إذا أفطر أحدكم فليفطر على -سبحان الله! الإرشاد حتى في نوع الفطور رطبات، فإن لم يجد فتمرات، فإن لم يجد فليحسو حسوات من ماء) ، وجاء عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه يحسن أن يفطر الإنسان على شيء لم تمسه النار، وبعض الناس أول ما يفطرون على (السمبوسة)، وهي مما مسته النار، ويقول العلماء: هذا تفاؤل بأن يجنبه الله النار.

    أرشد صلى الله عليه وسلم أن يفطر الصائم على رطبات، يعني: إذا كان الرطب موجوداً، وإلا فعلى تمرات، والله لا أدري أيهما أقوى مادة غذائية: الرطب أم التمر؟ يختلفون في هذا، الرطب فيه رطوبة زيادة، والتمر تخلص من كل الرطوبات، وفيه جميع المواد الغذائية، والعرب كانت تعتقد أنه خال من الدهونات، فكانوا يضيفون إلى التمرة الزبدة، والآن اكتشف بأن التمر فيه المادة الدهنية أيضاً، ولا يوجد ثمر يمكن لإنسان أن يعيش عليه المدى الطويل مثل التمر، وتقدم حديث عائشة : هلال فهلال فهلال، شهران طعامكم التمر والماء، وهو كما قالوا: زاد المسافر، وفاكهة المقيم.

    وهنا يتكلم علماء الطب النبوي، وسبحان الله! يا إخوان: كان السلف يدرسون الطب والفلك كما يدرسون الصيام والزكاة، وكان غالب العلماء أطباء، جاءنا حافظ من باكستان، كان صاحب مصحة في كراتشي، وصحيح البخاري عنده كصورة في مرآة، حينما تسأله: الحديث الفلاني في البخاري؟ إن غيرت حرفاً قال لك: ليس هذا في البخاري، تزيد هذا الحرف يقول: هذا نعم موجود! فكانوا يدرسون الطب، وانظر كتاب الطب النبوي لـابن القيم ، والطب للسيوطي ، والطب للذهبي ، وهو ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في الطب، وتأملوا قصة مريم عليها وعلى نبينا الصلاة والسلام، كانت في ذلك الموقف الحرج فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:23]، أجاءها غصباً عنها، إلى أن أرشدها الله: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:25]، امرأة في النفاس هل عندها القوة لكي تهز الجذع؟! لكن تهز بقدر ما تستطيع تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم:25]، ولم يذكر تمراً، إذاً: الرطب أحسن في تلك الحالة؛ لأنه أبرد من التمر، ويتفق الأطباء على أن الرطب في تلك الحالة أحسن ما يمكن أن تستقبله المعدة الخالية، وأشد ما يستفيد من حواس الإنسان البصر؛ لأن الجوع يضعف قوة الإبصار، فإذا ما تناول الحلو -وخاصة الرطب- استفاد البصر أكثر من جميع أعضاء الجسم.

    ويقول الأطباء: حينما يكون الإنسان جائعاً ظامئاً فهو في لهفة إلى أن يأكل ويشرب كثيراً، وهذا على المعدة الخالية مضر، فإذا أكل الحلو -مطلق الحلو عندهم- فإنه يكسر شهوة النهم، ويجعل الإنسان يكتفي بالقليل من الطعام، فإذا كان جائعاً عطشاناً وأكل الرطبات انكسرت حدة الجوع، واكتفى بما تيسر، فيكون أنفع له.

    إذاً: هذا إرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير الإنسان عند فطره أحد هذه الأنواع.

    قد يقول إنسان: هناك مناطق باردة لا توجد فيها النخل، ولا يوجد فيها رطب ولا تمر، وعندنا فواكه متنوعة من حمضيات وحلويات... إلخ، فنقول: إن لم تجد هذا، فلتأخذ أقرب ما يكون إليه، إن وجدت الزبيب، إن وجدت التين، إن وجدت البرتقال، إن وجدت التفاح، إن وجدت هذه فهو أولى من أن تذهب إلى الماء.

    وهنا لفتة بسيطة: أولاً: ينبغي للإنسان ألا ينسى نفسه عند الإفطار من دعوة خير؛ لأن الدعاء عند الإفطار مستجاب.

    ثانياً: لا ينسى أن يفطر أخاً له، غنياً كان أو فقيراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من فطر صائماً فله كأجره، ولا ينقص من أجره شيء. قالوا: يا رسول الله! ليس كل واحد منا يجد ما يفطر الصائم. قال: يؤتي الله ذلك على تمرات أو على قبضة سويق أو على جرعة لبن أو على جرعة ماء) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، يا سبحان الله! أجر إنسان صائم طول النهار تحصل مثله على تمرات تقدمها له: شيء من سويق، جرعة ماء، جرعة لبن؟! هذا فضل الله.

    وجاء عنه صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليدخل باللقمة ثلاثة الجنة -لقمة واحدة يدخل الله بها ثلاثة-: صاحبها -الذي يمتلكها-، وطاهيها -الذي طبخها-، ومناولها للمسكين) ، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله الذي لم ينسَ خدمنا) ، الخادم يناول اللقمة للمسكين على الباب فيدخل الجنة، هذا إذا احتسب ذلك لوجه الله.

    إذاً: إذا أفطر أحدكم فليفطر على رطبات أو تمرات أو حسيات من ماء.

    1.   

    شرح حديث: (تسحروا فإن في السحور بركة)

    قال رحمه الله: [ وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا فإن في السحور بركة) متفق عليه ].

    إذا فطرنا، وأكلنا طوال الليل أو نمنا، فبقي السحور، هل أقول: أنا شبعان، أو ما عندي غرض في الأكل؟ لا، لابد من السحور، وليس بلازم أن تمد الموائد، وتعرض الأصناف، بل ولو تمرات، المهم أن تعمل بهذه السنة، وجاء في الحديث أيضاً: (فرق ما بين صيامنا وصيامهم: أكلة السحر) .

    إذاً: (تسحروا فإن في السحور بركة) ، ومن الذي لا يريد هذه البركة؟ الكل يريدها، والبركة تحصل ولو بتمرات وجرعة ماء.

    ثم من مباحث السحور: تأخيره وعدم تعجيله، هل تعجيله تورع وتحفظ؟ لا، بعض الناس يقول: أنا أكلت ونويت، وبقي على الأذان ساعة، ثم يعرض عليه الماء، فيقول: لا، لا، أنا نويت، ماذا يعني هذا؟! هل سيبطل نيتك؟! هل سيبطل صومك؟! مادام الوقت باقياً، ولم يتبين الفجر إلى الآن، فكل واشرب ما شئت، وقد يبيت النية للشهر كله من أول يوم، وكل يوم يأكل ويشرب.

    إذاً: عقد النية لصوم الغد لا يمنع الإنسان من أكل ولا شرب ما دام الخيط الأبيض لم يتبين.

    سئل بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم: كم كان بين سحوركم والصلاة؟ قال: قدر خمسين آية، أي: بقدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية كنا نمسك عن الطعام والشراب، ويأتي وقت الصلاة، لا كما يفعل بعض الناس: يؤخر شرب الماء إلى أن يسمع طقطقة الميكرفون للأذان فيبادر إلى الماء، وبعضهم إلى أن يسمع المؤذن يقول: الله أكبر!! لماذا؟! الله جعل حداً لا تتعداه.

    ويؤسفني أن البعض يحتج على ذلك الخطأ بحديث أبي داود رحمه الله : (إذا كان القدح على كف أحدكم فسمع النداء فلا يضعه حتى يقضي حاجته) ، والجمهور على أنه لابد أن يمسك جزءاً من الليل ليضمن إمساكه كامل النهار، على قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فمثلاً: قال الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6] ، وحد الوجه: منابت الشعر من الجبهة، ولكن قالوا: يزيد قليلاً فوق منابت الشعر؛ ليتأكد أنه قد استوعب الوجه، فكذلك قالوا: يمسك قبل تبين الخيط الأبيض ولو بدقائق، ويفطر بعد أن يكتمل غياب قرص الشمس ولو بدقيقة واحدة، لا أن يكون فطره مع نقطة الصفر أول سقوط القرص، لا، هذا مشترك، ولا يصلح.

    وقد ناقش البعض هذه المسألة ليلة طويلة مع أفاضل العلماء في المدينة جزاهم الله خيراً، وتمادى الحديث بهم، وأطالوا الأمر، وقال بعضهم: لو كان يأكل والمائدة موجودة وسمع النداء، فلا يقوم عن المائدة حتى يشبع. فقال لهم شيخ ذاك المجلس: الله يقول: حَتَّى يَتَبَيَّنَ [البقرة:187] ، والحديث يقول كذا، فقلت: لو سمحتم! إذا أخذنا بنص الحديث فهو يقول: (والقدح على كفه) ، لا والمائدة بين يديه، وروح اللغة العربية وجمالها في ألفاظها وتعبيرها؛ لأنه قال: (والقدح على كفه) ولم يقل: في الأرض يتناوله، أو في الثلاجة، أو في الترامس يذهب يبحث عنها، بل قال: (والقدح على كفه) ، وهل وضع القدح على كفه ليراه؟! وهل وضعه على كفه ليرى كم ثقله؟! إنما تناول القدح من الأرض ليشرب، وفي منتصف المسافة ما بين الأرض وفمه فاجأه الأذان، فلا ترده، خذ غرضك منه؛ لأن تبين الخيط الأبيض فيه من النسبية ما يحتمل شرب الماء الذي في القدح، ولو كنا جميعاً في الصحراء نترقب الفجر، فهل كلنا في لحظة واحدة سنقول: طلع الفجر؟ لا يمكن، سيطلع الفجر ونختلف فيما بيننا؛ فطلوع الفجر وتبين الخيط الأبيض ليس كطلوع الشمس، وليس كغروبها؛ لأن الشمس جرم أمامنا، يبتدئ الطلوع ويبتدئ بالنزول، لكن الفجر خيط، ورؤية الخيط دقيقة، وليس كل الناس يرون هذا الخيط رؤية كاملة.

    إذاً: إلى أن نقول ظهر أو لم يظهر يكون هذا قد شرب القدح كله، ولا يضر ذلك صومه.

    إذاً: هذا الحديث في حالة ضرورية: رجل رفع القدح من الأرض ليشرب ليصوم غداً، فالرسول قال: لا بأس، خذ حاجتك، فلا ينبغي أن نمطط فيها ونزيد حتى نأتي بالمائدة ونأتي بأنواع الطعام، حتى قال له شيخ ذلك المجلس: يمتد إلى متى؟ قال: إلى أن يشبع، قال: حتى تطلع الشمس؟! قال: ولو! هذه -يا جماعة- هفوة، ونصف العقل لا يقبل ذلك.

    فنصيحتي للإخوان: كل شخص بيده ساعة، والجدران معلقة بالساعات والإمساكيات، ومعلن متى يكون الإمساك، ومعلن متى أذان الفجر، ولا يعذر في هذا أحد بجهالة، فليحتط المرء لدينه، وليمسك قبل طلوع الفجر بزمن احتياطاً للنهار.

    قد يأتي واحد يقول: هذا الاحتياط من الذي أتى به؟ ابن أم مكتوم وبلال ما كان بين أذان هذا وهذا إلا أن يصعد هذا وينزل ذاك.

    فنقول: أنت جعلت وقتاً للصعود والنزول، فاجعل فرقاً بين أكلك وإمساكك، فكفيف البصر عندما يطلع إلى السطح، ويستقبل القبلة، ثم يؤذن؛ سيأخذ دقائق.

    يا إخوان: السنة ما كان عليه سلف الأمة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وما كان أحد منهم يفعل مثل هذه الفعلات، وينبغي أن يكون مع تأخير السحور احتياط لأول النهار؛ حفظاً للصوم.

    وبالله تعالى التوفيق.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767345644