الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد:
نتكلم في هذا المجلس على قول الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77] , لما ذكر الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بالتعامل مع أهل الكتاب ذكر الله عز وجل تغليظ عهده وميثاقه وتغليظ الأيمان التي تكون بين المتعاقدين, سواء كان المتعاقدان من المسلمين أو من غيرهما, والسياق إنما جاء في حال غير المسلمين, في حال المسلم في تعامله مع غير المسلم, سواء كان كتابياً أو ليس بكتابي.
وهنا ذكر الله سبحانه وتعالى الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم, لما ذكر الله عز وجل حال أهل الكتاب من جهة التعامل في الأموال سواء كان ذلك في البيوع أو كان ذلك في القيراط, وأن الله سبحانه وتعالى في ظاهر السياق قد أجاز للمسلمين أن يتعاملوا مع أهل الكتاب.
وهذه الآية فيها إشارة إلى شيء من الخصومة التي تكون بين المتنازعين، سواءً كان المتنازعان من المسلمين أو كانا من غير المسلمين, أن عهد الله عز وجل يجب على الإنسان أن يفي به.
وفي هذا إشارة إلى أن الخصومة التي تقع مع المسلم وغيره, وبين المشركين أن الحكم فيها على حكم الله سبحانه وتعالى, يقضى بذلك بقضاء الله عز وجل, وهذا ظاهر في غير هذا الموضع، كما في قول الله سبحانه وتعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:49].
يعني: فيما يقع بينهم من خصومات, ونزاع أو دماء أو حدود مما يرتكبونه، فإن القضاء والحكم في ذلك يكون بينهم بما أنزل الله جل وعلا.
هذه الآية في قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77], نزلت في الأشعث بن قيس كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عبد الله بن مسعود : ( أن الأشعث بن قيس تخاصم هو ويهودي في مال, فلم يكن للأشعث بينة, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو يمينه -يعني: يحلف- فقال الأشعث عليه رضوان الله: إذاً يحلف ويضيع حقي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس لك إلا هذا ).
في هذه المناسبة في سبب النزول فيه جملة من المسائل, منها ما يتعلق باستحلاف أهل الكتاب, واستحلاف الكافرين في الخصومات, ويأتي الكلام عليها بإذن الله تعالى.
هنا في قوله جل وعلا: يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77] , العهد واليمين هنا هي يمين غموس, ومعلوم أن الأيمان على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: هي لغو اليمين.
النوع الثاني: هي اليمين المنعقدة.
النوع الثالث: هي اليمين الغموس الكاذبة.
والفرق بين اليمين الغموس واليمين المنعقدة: أن اليمين الغموس تكون على شيء ماضٍ, فيحلف الإنسان أنه اشترى السلعة بعشرة, وأنه يريد فيها ربحاً ديناراً واحداً أو درهماً واحداً, وهذا إذا كان كاذباً فيمينه يمين غموس, فهو يريد أن ينفق سلعته بالحلف الكاذب.
وكذلك أن يحلف الإنسان أنه فعل شيئاً ولم يفعله, فبعظم الأثر في اليمين يعظم الإثم في ذلك.
وأما الكفارة عليها في مسألة كفارة اليمين في اليمين الغموس, فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
ذهب جمهور العلماء إلى أن اليمين الغموس لا كفارة فيها, قالوا: لأن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأيمان ذكرها على نوعين وما ذكر اليمين الغموس, ذكر لغو اليمين وذلك أنه عفو من الله ولا كفارة فيه: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ [البقرة:225] , وتقدم معنا الكلام على هذا الحكم.
وأما اليمين الثانية: وهي اليمين المنعقدة, فالله عز وجل قال: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ [المائدة:89] , إذا حلفتم, فإن حلفوا وانعقدت اليمين وحنث الإنسان فيجب عليه أن يكفر عن يمينه.
فعلى هذا ذكر الله عز وجل كفارة اليمين في اليمين المنعقدة, وما ذكرها الله سبحانه وتعالى في غير انعقاد اليمين, فحينما ذكر الله عز وجل اليمين الغموس في هذه الآية ذكرها في سياق الوعيد والتشديد فيها, وما ذكر الكفارة, إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا [آل عمران:77], هذا إشارة إلى الوعيد الذي يلحقهم يوم القيامة.
وجاء في ذلك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التغليظ فيها، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( من حلف على منبري هذا بيمين هو فيها كاذب فليتبوأ مقعده من النار ) كما جاء في حديث أبي ذر.
وجاء في حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى فيمن حلف ليقتطع مال امرئ مسلم, جاء في ذلك من حديث عبد الله بن مسعود وعمران بن حصين , و أبي هريرة في اليمين الغموس, في بيان الوعيد من غير بيان الكفارة.
وهذا القول الذي ذهب إليه جمهور العلماء وهو قول الإمام مالك و أبي حنيفة و سفيان الثوري وأحمد، وصح ذلك عن عبد الله بن عباس كما رواه ابن جرير الطبري في كتابه التفسير, عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس.
وكذلك جاء من حديث أبي العالية رفيع بن مهران عن ابن مسعود أنه قال: اليمين الغموس لا كفارة فيها.
وقال بذلك حماد بن سلمة وجماعة من السلف, وهذا القول هو القول الأرجح: أن اليمين الغموس لا كفارة فيها.
القول الثاني: قالوا بالكفارة, وهذا قول الإمام الشافعي رحمه الله, وذهب إلى هذا بعض الفقهاء كبعض فقهاء الشام كــــالأوزاعي , وذهب إلى هذا معمر بن راشد الأزدي , وهو مروي عن بعض الفقهاء من السلف, كـالحكم بن عتيبة .
ولكن عامة الصحابة عليهم رضوان الله وأكثر التابعين يذهبون إلى عدم وجوب الكفارة في اليمين الغموس, وهذا هو الأرجح والأصوب, لأن الله سبحانه وتعالى على ما تقدم ذكر اليمين الغموس في سياق الوعيد, يعني: أن ذنبها أعظم من أن يكفر بإطعام عشرة مساكين, بل يجب على الإنسان أن يتوب وأن يستغفر وأن يستحضر عاقبة فعله فيخاف ويوجل, ويكثر من الطاعات التي تمحو السيئات.
وكذلك أيضاً فإن من قال بأن اليمين الغموس يجب فيها الكفارة, قال: إن الكفارة ولو تعمد الإنسان فإنها متعلقة بذات اليمين, والتعمد لا يسقطها, ويعللون ذلك أن الشريعة قد جعلت الكفارات فيما هو أغلظ من اليمين, كالقتل, فمن قتل متعمداً فيجب عليه الكفارة, والدم أعظم من اليمين الغموس.
وقالوا أيضاً في الصلاة: إذا تركها الإنسان متعمداً حتى خرج وقتها فإنه يجب عليه أن يقضيها ولو كان متعمداً.
ومعلوم أن ترك الصلاة حتى يخرج وقتها أعظم عند الله عز وجل من اليمين الغموس, لكونها ركناً من أركان الإسلام.
وهذا القول في اطرادهم ما اطرد فيه الحنابلة, فإن الحنابلة يطردون في قاعدتهم على عكس قاعدة الشافعية, فإنهم يقولون: إن من قتل مؤمناً متعمداً فإنه يجب عليه حكم الله سبحانه وتعالى في ذلك, وذلك بالقود أو الدية. أما الكفارة فليست إلا في الخطأ.
ويطردون كذلك في اليمين الغموس, لكنهم يخرجون الصلاة من هذا الحكم, فيقولون: إن الإنسان إذا ترك الصلاة حتى خرج وقتها، فإنه يجب عليه القضاء, ويخرجون ذلك بالدليل, ويجعلون ذلك استثناءً.
وهذه المسألة هي من مسائل الخلاف, وإن كان ذهب الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله في من ترك الصلاة متعمداً حتى خرج وقتها أنه يجب عليه القضاء, وحكي الاتفاق على هذا, وقد حكى بعضهم التشديد في هذه المسألة، أنه يجب عليه في هذا القضاء.
هناك بعض السلف وبعض المحققين من الخلف، قالوا: إن الصلاة إذا تركها الإنسان متعمداً فلا يقضيها جرياً على تلك القاعدة؛ لأن الإثم فيها أعظم, وذهب إلى هذا القول ابن تيمية رحمه الله, و ابن رجب كما ذكره في ذيل طبقات الحنابلة, وكذلك ذكره في الفتح, ذكره عن ابن تيمية رحمه الله في ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة عن ابن تيمية , ورجحه كذلك في فتح الباري بشرح صحيح البخاري إلى أن الصلاة إذا تركها الإنسان متعمداً حتى يخرج وقتها إن أثمه أعظم من أن يقضى, فيطردون في هذه القاعدة في قتل العمد واليمين الغموس وترك الصلاة متعمداً.
بعض العلماء يشدد في هذا حتى بلغ في بعضهم أنه كفر من قال بهذا القول, وهذا قد جاء عن عبد القاهر البغدادي في كتابه: الفرق في الملل والنحل, وشدد في المقدمة على من قال بهذا القول, وقال: إن هذا تشريع لترك الصلاة حتى في حال خروج الوقت, والعلماء الذين يقولون في هذا الباب في الصلاة يطردون حتى في الصيام, يقولون: من ترك الصيام متعمداً -صيام رمضان- فترك صيام رمضان حتى خرج وقته, يعني: فترك رمضان كله حتى جاء شوال, لما جاء شوال يقول: أريد أن أصوم رمضان, ولم يكن من أهل الأعذار, قال: لا يجب عليه القضاء ولا يشرع له؛ لأنه تعمد هذا الفعل, وتعمده في ذلك تنكيس وإبطال للشريعة كحال الإنسان المتعمد يرقب الشمس ويراها وهو جالس, فإذا غربت الشمس أتى ليصلي الظهر والعصر, هذا مدعاة إلى تبديل الشريعة, فتأثيمه مع قوله بالقضاء يرون أن هذا فيه تعارض.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها, لا كفارة لها إلا ذلك ) , أي: إذا ترك الصلاة متعمداً ثم أداها بعد وقتها ما حكمه: هل هي كفارة أم ليست بكفارة؟
إذا قلنا بأنها كفارة، إذاً ما قيمة الوقت الأصلي؟ لأن الأداء الذي يؤدي بها الإنسان ابتداءً في الصلاة في وقتها هو أداء لهذه العبادة يسقط عنه التكليف ويحقق له الأجر, وإذا أداها بعد وقتها أسقط عنه التكليف كذلك, ما قيمة الوقت من جهة الأصل.
ولهذا المترجح عندي والله أعلم أن من ترك الصلاة متعمداً والصيام متعمداً وأراد أن يأتي به بعد ذلك أن هذا لا يشرع, وهذا لا يعني أنه لا يستغفر من ذنبه, لا, بل التوبة عليه أغلظ, فإنه يجب عليه أن يكثر من التوبة والاستغفار والصدقة والإتيان بالصالحات التي تمحو تلك السيئة وذلك الجرم الذي وقع فيه الإنسان.
وهذا على ما تقدم هو الذي ذهب إليه غير واحد من المحققين.
وأما من يقول: إن هذه المسألة هي إجماع الصحابة أو إجماع التابعين فهذا الإطلاق فيه نظر, لأن الصحابة عليهم رضوان الله لم يرد عنهم القول بالقضاء إلا في حال النسيان أو الاضطرار, كحال اضطرار النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب حينما ترك صلاة العصر، كما تقدم معنا في تفسير قول الله عز وجل: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238] .
تقدم معنا الكلام على تأخير النبي عليه الصلاة والسلام لها وهو مدرك لها، فقال: ( شغلونا ) , ما قال: أنسونا, وأخطأنا في هذا, بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( شغلونا عن الصلاة الوسطى, ملأ الله قبورهم وأفواههم ناراً ).
وهذا إشارة إلى أن ما جاء عن السلف إنما هو في قضاء الصلاة فيمن تركها ناسياً أو نائماً عنها أو كان مضطراً إلى ذلك، كالإنسان الذي يكون مشغولاً بإنقاذ غريق أو حريق, أو كان في غزو, أو يطلب فاراً بمال أو غير ذلك, فإن هذا من الذين ينشغلون عن أداء الصلاة بعذر، فيؤديها بعد ذلك وهو متعمد لكنه بعذر.
أما الذي يتعمد تركها بلا عذر فيقال: إن الإثم أعظم من أن يقضى, ومن حكى الإجماع عن السلف من الصحابة والتابعين فهذا يفتقر إلى نص ونقل, وإن ادعوا الإجماع فقد يدعى عليهم بعكس ذلك، أن الصحابة يقولون بخلاف هذا, فلا دليل على الإثبات ولا دليل على النفي, ويرجع في ذلك إلى الأصل, أن الصلاة في عملها إما أن تكون أداءً وإما قضاء وإما تكراراً وإما إعادة. وكل هذه المسائل لا بد فيها من دليل.
فالأداء: هو الذي يكون في الوقت.
والتكرار: هو إعادة الصلاة بلا سبب في وقتها.
وأما بالنسبة للقضاء: فهو الذي يأتي بعد الوقت, وهذا مرتبط بالعذر.
وأما الإعادة: فهو إعادة الصلاة لموجب دل الدليل على بطلانها به كالذي تبطل صلاته بناقض, كالذي صلى وقد انتقض وضوءه, أو صلى إلى غير القبلة ولم يتحر فيوجب عليه الإعادة, فقد أعادها بدليل ولعلة بينة.
أما إتيان الإنسان للصلاة خارج وقتها ليست بتكرار ولا بأداء ولا بإعادة, وإنما هي قضاء لذلك الوقت, والقضاء مقيد بالعذر. وكل واحدة إنما دل عليها الدليل, وليس هذا محل بسطها, وإنما الكلام هنا على من تعمد اليمين الغموس كاذباً, فقال: إني اشتريت هذه السلعة بكذا, ابتعتها بكذا, دخلي فيها كذا, ولا أريد فيها إلا كذا. أو أنني أبيعها لك وأنا خسران بها لك, وأريد أن يكون الحظ لك بذلك لينفق سلعته، هذا يمين غموس, وإنما هو إخبار للماضي.
اليمين المنعقدة هي للمستقبل, وإنما ذكر الله عز وجل هنا: يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ [آل عمران:77] , لأن الإنسان يأكل باليمين الغموس, والأكل باليمين الغموس هو من أعظم السحت, وهو شبيه بالربا والرشوة؛ لأنه استهان بحرمة المحلوف به وهو الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا قال الله عز وجل: بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ [آل عمران:77] , أخذ بعهد الله لا بعهد غيره, بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ [آل عمران:77].
وفي قوله جل وعلا: بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ [آل عمران:77] , إشارة إلى أن اليمين الغموس تختلف عن اليمين؛ ولهذا قال: بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ [آل عمران:77], فعهد الله عز وجل أغلظ؛ ولهذا كان السلف ينهون عن الحلف بعهد الله لعظم أمره لو لم يف به الإنسان, كما جاء ذلك عن إبراهيم النخعي قال: كانوا ينهوننا عن الحلف بالعهد, وذلك لعظم أثره على الإنسان.
وفي قوله سبحانه وتعالى: وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ [آل عمران:77] , إنما ذكر القلة في الثمن, يعني: أنها مهما بلغت من العطاء, ومهما بلغ مما يكسبه الإنسان إلا أنه يعد قليلاً بالنسبة لما يجده الإنسان من عذاب يوم القيامة؛ لعظم الجرم والأثر والتبعة عليه, فإن أثره عليه يكون عظيماً.
وقوله سبحانه وتعالى: أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ [آل عمران:77] , (لا خلاق لهم) يعني: لا نصيب لهم كما جاء تفسير ذلك عن غير واحد من السلف.
وقوله هنا: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران:77] , تكليم الله عز وجل لا يكلمهم الله سبحانه وتعالى, ولا ينظر إليهم, وذلك لغضبه جل وعلا على ما فعلوا.
وكذلك نفي التزكية هنا يعني: التطهير, وفي هذا وعيد على أن اليمين الغموس لا تدخل تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى, والتزكية هي التطهير, وتطهير الإنسان من ذنوبه هو تكفيرها لهم.
وهل لا تدخل اليمين الغموس تحت المكفرات؟
نقول: تدخل تحت المكفرات بلا ريب ولا خلاف عند العلماء في ذلك, وإنما الخلاف في نوع المكفر, وعلى ما تقدم في كفارة اليمين، فجمهور العلماء يرون أن اليمين الغموس لا كفارة فيها كفارة يمين, وإنما كفارتها بالتوبة والاستغفار والإتيان بالطاعات والإكثار منها؛ لأنها تكفر الحسنات.
وأما ببقية الكفارات مما يكون من المصائب والهموم والأحزان ونحو ذلك، فهذا من الله عز وجل وعيد لا وعد, وعيد لهم بألا يكلمهم الله عز وجل, وأن لا خلاق لهم, وكذلك لا يزكيهم من ذنوبهم التي هم فيها, ولهذا يقال: إن صاحب اليمين الغموس أبعد في دخوله تحت مشيئة الله عز وجل من غيره, أبعد من غيره ما لم يتب من نفسه.
وقوله جل وعلا: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77] , هذا الوعيد المتكرر بذكر: لا خَلاقَ لَهُمْ [آل عمران:77] , وكذلك: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77] , وعيد متكرر الواحد منها كافٍ في بيان غلظ ذلك, ولكن الله سبحانه وتعالى أراد التأكيد على عظم وبشاعة الفعل, وحرمة أموال الناس ودمائهم, فمن أخذ شيئاً منها بغير حق فإنه من أعظم السحت, وهو شبيه بالربا أو قرين له, وكذلك بالرشوة.
وفي هذه الآية يؤخذ أيضاً جملة من المسائل: من هذه المسائل: أن حكم الحاكم لا يغير الحق الباطن, وإنما يغير الحق الظاهر, ويفصل بين النزاعات, كما جاء في الصحيح من حديث أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لعل بعضكم ألحن بالحجة من بعض, وإنما أقضي بنحو ما أسمع, فمن قضيت له بغير حقه، فإنما أقضي له قطعة من النار, فليأخذ أو ليدع ).
وفي هذا وعيد شديد لمن قضي له في الظاهر بالأدلة على خلاف الباطن أنه لا يجوز له ذلك, وهذا محل اتفاق عند العلماء، أن حكم الحاكم يفصل النزاع الظاهر, ولكنه لا يغير الحقيقة الباطنة, وهذا بلا خلاف عند العلماء، وقد حكى الإجماع على هذا جماعة من العلماء، كـابن المنذر و ابن عبد البر وغيرهم من العلماء.
وهذا في باب الدماء وفي باب الأموال, وأما أبواب النكاح فقد وقع خلاف عند العلماء في حكم الحاكم إذا حكم بخلاف الأمر الباطن, هل للإنسان أن يستحل فرجاً يعلم أن الحاكم قد قضى بخلاف الحق, فهل له أن يستبيح ذلك أم لا؟
هذه مسألة قد اختلف فيها العلماء على قولين:
ذهب جمهور العلماء إلى أن حكم النكاح كحكم الدماء والأموال.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن عقود الأنكحة تختلف عن عقود الأموال وعن الدماء, والسبب في ذلك, قال: لأنا لو قلنا بأنها تحرم من جهة الحقيقة الباطنة لقلنا بإبطال اللعان؛ لأن القاضي إنما قضى على حكم ظاهر، ومعلوم أن أحدهما كاذب, فهو فرق بينهما بأدلة ظاهرة تخالف الحقيقة الباطنة, فأمر الله سبحانه وتعالى بها, ففرق بين المتلاعنين, وأحل الله عز وجل المرأة أن يتزوجها رجل من غير زوجها بناءً على حكمه الذي يخالف الباطن.
ونظير هذا مسألة: لو أن رجلاً شهد على رجل أنه طلق زوجته, وهذا الرجل كاذب, وتعلم المرأة أنه كاذب, فأمضت شهادته عليها الباطلة, ثم علم رجل بعد ذلك أن هذه اليمين كاذبة, وفسخ القاضي بينها وبين زوجها بدليل ظاهر يخالف الحق الباطن؛ هل للزوج الذي يعلم بطلان شهادة الشاهد أن يتزوج هذه المرأة وقد فسخت في ظاهر الأمر على حق, وفي باطنه على باطل؟
يقول أبو حنيفة رحمه الله: يجوز له, لأن اللعان أغلظ وأمضاه الله سبحانه وتعالى وأجاز لها أن تنكح زوجاً غير زوجها.
ولكن نقول: إن الله عز وجل إنما ذكر ذلك في أمر اللعان بدليل خاص يخرجه عن الأصل.
وهنا مسألة: وهي المرأة إذا شهد عليها بيمين أن زوجها طلقها, وهو ينفي, وجاء الشهود أنهم طلقوها, هؤلاء شهود زور, فماذا تفعل؟ هل نقول: إن المرأة إذا شهد عليها شاهدان بالكذب أنها لا تتزوج من نفسها وهي تعلم بهذا الأمر, هل تحرم على كل أحد أم لا؟
نقول: إن فسخ القاضي لها كافٍ ولو لم يكن ثمة شهود, ولهذا لم تنفك هي بشهادة الشهود فقط, ولهذا لو شهد الشهود أنه طلق ثم نفى وبقي مع زوجته, هل شهادة الشهود هي التي فصلت أم حكم القاضي؟
حكم القاضي.
ولهذا نقول بحكم القاضي جرى ذلك لا بمجرد ورود تلك البينة, ولهذا نقول: إن ما جاء في أمر اللعان إنما خصه الدليل بحكم بين ولا يجري عليه ما عداه, وجمهور العلماء يرون أن الدماء والأموال والفروج أنها في الحكم سواء في حكم القاضي، أن حكمه لا يغير الحق الباطن, وإنما يغير الأمر الظاهر ويدفع بين الخصومات.
وهذا ظاهر فيما تقدم معنا في قول الله عز وجل: لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188] , يعني: تعلمون ومع ذلك حرم الله سبحانه وتعالى على الناس أن يتداعوا وأن يترافعوا وأن يدلوا ببيناتهم إلى الحكام ليأكلوا أموال الناس بالباطل.
ومن المسائل في هذه الآية: أن اليمين من الكافر في الخصومات تؤخذ, وحكمها كحكم اليمين من المسلم إذا كان أحد الطرفين كافراً.
وأما شهادة الكافر ويمينه، فهنا فرق بينها وبين الخصومة التي تكون بين المسلم والكافر, فإذا كانت الخصومة بين مسلم وكافر فتؤخذ منه اليمين في حال عدم وجود البينة على المدعي، إذا ادعى عليه مسلم ولم يكن لديه بينة فإنه يحلف, وإذا حلف يسقط عنه الحق, وحكمه في ذلك كحكم المسلم.
وأما بالنسبة للشهادة فهذا أمر آخر, ويأتي معنا في مسألة الوصية، وذلك في سورة المائدة بإذن الله تعالى.
ولهذا نقول: إن اليمين بين المتداعيين عند الخصومة بين مسلم وكافر, أنها عند قيامها في الكافر يكون كحال قيامها في المسلم.
وإذا استحلف الكافر بماذا يستحلف؟
لا خلاف عند العلماء أنه لا يستحلف بحرام, فإذا كان وثنياً لا يقال له: قل: والعزى واللات أو غير ذلك, أو إذا كان نصرانياً أن يحلف بالصليب, أو يذكر ربه فيقول: والمسيح ابن مريم أو غير ذلك من الأيمان المحرمة هذا لا خلاف عندهم فيه.
وإنما يحلف بما يعتقده من الأمور المعظمة المشروعة عندنا, كأن يقال: والذي أنزل التوراة, أو الذي أنزل الإنجيل وهكذا من الأيمان, وقد حلَّف النبي صلى الله عليه وسلم يهودياً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( احلف وقل: والذي أنزل التوراة على موسى ) , وهذا جاء في السنن.
ولهذا نقول: إنه يحلف, ومن الأيمان التي يحلفون بها كأن يقول: والذي خلق السماء, وبسط الأرض, ونصب الجبال، وخلق كذا وكذا, فهذا من الأيمان المشروعة, وإن اعتقد في باطنه خلاف ذلك, فنحن موكولون ومحكومون إلى الظاهر.
ويمين الكافر في نفسه هل تنعقد ويجب عليه في ذلك الكفارة أم لا؟
اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في يمين الكافر على قولين:
ذهب جمهور العلماء إلى أنها تنعقد, سواء كان الحنث في زمن كفره أو في زمن إسلامه, فإذا حلف أني لأفعلن كذا وكذا, فلم يفعل هذا الشيء في زمن الكفر أو زمن الإسلام.
نقول: ما دام أن اليمين وقعت منه معتقداً لها بتعظيمها فالكفارة عليه واجبة وهو موكول إلى الوفاء بها, والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام, -يعني: في الجاهلية- فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أوف بنذرك ). وهذا نذر منه كان في الجاهلية، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يفي به.
وعلى هذا نقول: إن يمين الكافر يجب الوفاء بها, فإذا نذر في زمن كفره ثم دخل الإسلام يجب أن يفي, وإذا لم يف كفر عن يمينه كأنه حلف في زمن الإسلام, وهذا هو القول الذي ذهب إليه جمهور العلماء خلافاً لـأبي حنيفة, فإن أبا حنيفة يرى عدم انعقاد يمين الكافر, وأنها لغو سواء دخل في الإسلام أو لم يدخل في الإسلام.
لم يدخل في الإسلام واستفتى وسأل لا يؤمر بالكفارة باعتبار عدم مخاطبته في الفروع, وإذا دخل في الإسلام وكانت يمينه في الجاهلية لا يؤمر بالكفارة عند عدم الوفاء بها؛ لأن الكفارة بنيت على يمين باطلة عنده, فعلى هذا يلزم الوفاء بها.
والصواب في ذلك: أنه يلزم الوفاء بها كما جاء في حديث النبي عليه الصلاة والسلام في قوله لــــعمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى.
الآية الثانية في قول الله عز وجل: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [آل عمران:93].
تقدم معنا أن الأصل فيما خلقه الله عز وجل وأوجده للإنسان هو الحل, وهذا ظاهر في قول الله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة:29].
(خلق لكم) اللام هنا للتمليك, وكل شيء مخلوق فهو ملك للإنسان, وملكية الإنسان لذلك بحسب نوع المخلوق, إذا كان مطعوماً هو ملك له يأكله وينتفع به, وإذا كان ملبوساً ينتفع به, وملكيته له تكون باللباس, وكذلك إذا كان مركوباً فإنه ملكيته له بالركوب، كالدواب التي تكون في الأرض, وذلك من الحمير والخيل والبغال والإبل وغير ذلك مما ينفع الله عز وجل به العباد.
فخلق الله عز وجل ذلك للعباد على الحكمة من خلقها, والمأكولات في ذلك متنوعة, كما أوجده الله عز وجل في البحر، وما تخرجه الأرض من نبات، وما جعله الله عز وجل يدب ويتناسل في الأرض من بهيمة الأنعام، وغيرها مما أحله الله سبحانه وتعالى, وكذلك ما أوجده الله عز وجل مما يخرجه الناس من هذه البهائم مما كان منفصلاً منفكاً عنها, وذلك من ألبانها وأبوالها مما أحله الله سبحانه وتعالى للإنسان.
وهنا في قول الله جل وعلا: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ [آل عمران:93] , إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن الخليل إبراهيم عليهم السلام.
وفي هذه الآية: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ [آل عمران:93], إشارة إلى أن الأصل في الأشياء الحل هو في كل شريعة, و أنما ذكره الله سبحانه وتعالى هنا في حال إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق عليه السلام أنه حرمه على نفسه.
وهل تحريمه على نفسه يكون من تحريم الله سبحانه وتعالى؟
نقول: ذكر الله عز وجل ذلك في قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [آل عمران:93] , يعني: جاء التحريم في ذلك من إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة، فكان من نفسه جائزاً في شرعته أن يحرم على نفسه شيئاً لا تفسد به دنياه, وإنما حرم يعقوب على نفسه لأنه أصيب بمرض, وقيل: إنه أصيب بعرق النسا كما جاء ذلك عن عبد الله بن عباس وغيره كما رواه ابن المنذر وابن جرير، من حديث لسعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس قال: أصيب يعقوب بعرق النسا, فحلف أن الله إذا عافاه ألا يطعم من العروق شيئاً, فحرم على نفسه اللحوم إلا ما حمل الظهر, وحرم على نفسه الأحشاء من الكلية والكبد والطحال وما في أحكامها، حرمها على نفسه.
وهنا في أخذ بني إسرائيل لذلك التحريم، أخذوا ذلك على ما حرم إسرائيل على نفسه تقليداً لذاته, ولم يحرمها الله سبحانه وتعالى.
وهل يؤخذ من ذلك أنه يجوز للإنسان أن يحرم على نفسه من الطعام ما شاء؟
نقول: إن هذا في شرعة إسرائيل جائز, وفي شرعتنا محرم, والله سبحانه وتعالى عاتب نبيه عليه الصلاة والسلام: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم:1], وهذا من الله سبحانه وتعالى عتاب لنبيه عليه الصلاة والسلام وهو لمن دونه من باب أولى: لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:87] , خطاب للذين آمنوا ألا يحرموا شيئاً أحله الله عز وجل لهم.
وعلى هذا نقول: إن هذا دليل على أن التحريم الذي كان من إسرائيل على نفسه خاص به, لا يتعدى ذلك إلى أمته, فضلاً أن يتعدى ذلك إلى من جاء بعدهم.
ولهذا عاتب الله عز وجل بني إسرائيل في أخذهم بما حرم إسرائيل على نفسه, فكيف يكون ذلك إلى أمة الإسلام؟
ولهذا نقول: إنه لا يجوز للإنسان أن يحرم على نفسه شيئاً أحله الله, وإذا كان الامتناع من ذلك من غير تحريم, ومعلوم أن الامتناع على حالين: حال يقترن بها التحريم، فيقسم الإنسان أن كذا حرام عليه, فيقول: والله لا أتناول ذلك شيئاً من ذلك الطعام أو من ذلك الشراب أو نحو ذلك, هذا لا يجوز بحال.
أما الامتناع من غير تحريم، أن يمتنع الإنسان عن شيء بعينه من غير تحريم, وإنما هي إرادة, فامتناع الإرادة جائز, كأن يمتنع الإنسان عن شيء لا يفسد دنياه, عن أكل لحم حتى يحفظ صحته أو يمتنع عن طعام ربما يصيبه بمرض أو بكسل أو يقلل من نشاطه أو ربما يؤذيه في سمنة أو في ضعف في دم أو غير ذلك, فهذا مما لا بأس به, لأنه امتناع إرادة لا تحريم نعمة, ولهذا نقول: بأن هذا الفعل جائز وهو خارج عما أحله الله سبحانه وتعالى لعباده؛ لأن الامتناع في ذلك إنما كان لمصلحة.
وهذه الآية نزلت: ( أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: ما حرم إسرائيل على نفسه؟ فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حرمه على نفسه من اللحوم )، ثم أنزل الله عز وجل عليه هذه الآية.
وفي قوله هنا: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93] , يعني: أنما ذكرته لكم إنما هو موجود عندكم في التوراة على التفصيل والتمام والبيان من غير نقصان, فإن كنتم صادقين في سؤالكم أنكم تتبعوني إن صدقت في قولي وأنبأتكم بما تعلمون, وتظنون أني لا أعلم إلا بواسطة الوحي, فيجب عليكم الإتباع.
الآية الثالثة: هي في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96], ذكر الله سبحانه وتعالى أول البيوت التي أوجدها للعبادة, وهي المسجد الحرام, ولا خلاف عند العلماء في ذلك أن أول البيوت إنما هو المسجد الحرام.
وفي هذا ذكر لمنزلة الأقدمية لهذا البيت، ولهذا عظم أجر العبادة فيه على غيره, واختص بجملة من الأحكام تختلف عن غيره.
ومن هذه الأحكام: ما يتعلق بالطواف، وما يتعلق بتضعيف الصلاة, وما يتعلق بأداء المناسك من العمرة والحج, وما يتعلق بتعظيم العمل فيه، سواء كان ذلك من الحسنات أو السيئات، فهذا دليل على حرمته.
ومن الحرمة المخصوصة فيه في هذا الموضع: أن الله عز وجل حرم صيده وحرم عضد شجره, وهذا ليس في موضع على محل الاتفاق إلا في مكة, وما عداه في المدينة وغيرها فهذا موضع خلاف عند العلماء، ويتفقون على مكة أنها لا ينفر صيدها, ولا يعضد شوكها, وهذا محل اتفاق.
وأما بالنسبة للصيد، فالمراد بذلك هو ما توحش من البهائم, وأما بالنسبة للشجر، فإن الشجر الذي يخرج طبيعة من غير استنبات, الذي يكون من الاستنبات الذي يزرع في الطرقات وفي حدائق المنازل أو غير ذلك، هذا ليس من الشجر الذي يكون له حرمة, فيكون حكمه كحكم بهائم الأنعام التي يربيها الإنسان, فإذا ذبح الإنسان شاة في مكة أو بعيراً أو بقرة أو دجاجة أو نحو ذلك فهذا لا يعد من الصيد, وهذا حكمه كحكم ما يستنبته من زرع, فإنه لا حرج عليه أن يزيله أو يحتطبه ليوقد منه ناراً بعدم دخوله في هذا.
و إنما جاء هذا التفضيل لأن البيت الحرام أول بيت وضع للناس, ولهذا عظمه الله عز وجل بهذا التعظيم.
كذلك تحريم حدوده محل اتفاق عند العلماء، أن ما يتعلق بتضعيف العبادة في الحرم هي محل خلاف, وبعض العلماء يحكي الإجماع على أن التضعيف لا يكون في غير حدود الحرم حتى في المدينة إلا في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام, ويحكون الإجماع, أما الخلاف فيقول: خلافه في خارج مسجد الكعبة ما بين المسجد وحدودها.
وقد حكى ذلك ابن حجر رحمه الله قال: الخلاف في حدود حرم مكة لا في حدود حرم غيرها, وذلك فيما يتعلق بالعبادة في المدينة إذا كان خارج المسجد يحكي الإجماع على عدم التضعيف, وأن التضعيف إنما يكون في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام. أما في مسجد مكة فهو محل الخلاف, وهذا إذا كان في مسجد النبي عليه الصلاة والسلام فإنه في المسجد الأقصى من باب أولى.
وفي هذا تفضيل للأولية والأقدمية, فالمسجد العتيق أفضل من المسجد الحديث.
وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله في المفاضلة بين المسجد العتيق والمسجد الأكثر جماعة, وفي المذهب في هذا على قولين: قول بتفضيل المسجد العتيق على المسجد الحديث, ولو كان في الحديث الجماعة أكثر, وتفضيلهم للعتيق قالوا: وهذا الذي جاء عن أنس بن مالك ولا يعلم فيه مخالف, كما جاء عند ابن أبي شيبة وعند أبي نعيم الفضل بن دكين في كتاب الصلاة من حديث ثابت البناني قال: كنت أمشي مع أنس بن مالك , فإذا مررنا بمسجد فسألني: أحديث أم عتيق؟ فإذا كان حديثاً مضى إلى غيره, فإن قلت: عتيقاً صلى به, فهو يفضل المسجد العتيق على الحديث، ولا مخالف له من العلماء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما القول الثاني الذين يقولون بأن المسجد الأكثر جماعة أفضل من العتيق ولو كان الأكثر حديثاً, قال: فالمفاضلة هي بالعدد, ويستدلون بجملة من الأحاديث، منها: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة الرجل إلى الرجل أزكى من صلاته وحده, وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل ) , قال: فهذا تفضيل للصلاة مع الجماعة في الأكثر.
والذي يظهر والله أعلم أن المسجد الأعتق المشهود أفضل, يعني: في المشهود لا يصلي الإنسان فيه منفرداً, أو يصلي فيه الإنسان ومعه واحد أو نحو ذلك بحيث تتعطل مسمى الجماعة, ولهذا نقول: إذا كان مشهوداً في الجماعة ولو كانت قليلة فهو أفضل من المسجد الحديث ولو كانت الجماعة فيه كثيرة.
وإنما فضل الله عز وجل على ما تقدم مسجد مكة أو مسجد الكعبة لقدمه, ولهذا قال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ [آل عمران:96] , فذكر الأولية هنا لها فائدة وأفضلية, فالمسجد الأقدم هو أفضل من الأحدث؛ لشهود الأرض للساجدين, وأبعد عما يطرأ عليه من صنع ما يطرأ للمساجد الحديثة وربما مباهاة أو مجاورة مسجد لمسجد.
وفي هذه الآية: كراهة تقارب المساجد, ويؤخذ هذا من تقارب المساجد أنه لما حثت الشريعة في ظاهر الأدلة تفضيل المسجد الأعتق, فهذا يلزم منه التخفيف في المكاثرة في البقية, وهذا مقتضى الدليل, فإذا كان لدينا مثلاً خمسة مساجد، وهي في ترتيبها مسجد له مائة سنة, ومسجد له سبعون, ومسجد له ستون، ومسجد له خمسون وهكذا, إذا قلنا بأن الأعتق أعظم أجراً, لا بد أن يخلو في ذلك آخرها, وفي هذا حث على التقليل ما أدى الناس الجماعة.
ولهذا نقول: بأنه يكره تقارب المساجد, والعلة في ذلك أن تقارب المساجد يؤدي إلى اختلاف الجماعات وابتعاد الناس عن بعضهم, وأيضاً ربما فيه مندوحة لقطيعة الرحم, وكذلك النزاع بين أهل الجوار, فإذا تخاصم أهل الجوار يجدون مندوحة للافتراق والابتعاد، فهذا يصلي في هذا, وهذا يصلي في هذا.
وإذا كانوا لا يجدون إلا مسجداً واحداً في حيهم فإنه لا يجد بداً من أداء الصلاة في هذا المسجد, ويزول ما في نفسه على جاره أو على ذي رحمه إذا كان جاراً له بتكرار رؤيته في المسجد يوماً بعد يوم, يعترضه في دخوله ويعترضه في خروجه في المسجد, وهذا أقرب إلى الصلة ودفع قطيعة الرحم.
ووصف الله سبحانه وتعالى المسجد الأول، قال: لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ [آل عمران:96], (بكة) المراد بها قيل: تبك الجبال, ويعني: تتوسط الجبال وتفصل بينها، سواء كان ذلك من بنائها وأهلها, أو كان ذلك من عمارها ممن يردون إليها.
وقيل: إن بكة يبك الرجل المرأة يعني: أنه يقطع الرجل المرأة والمرأة الرجل، يتداخلون في سيرهم وطوافهم وصفوفهم.
وهنا مسألة وهي: أن السترة في المسجد الحرام يخفف فيها عن غيرها؛ لكثرة الناس والمشقة في وضع الإنسان سترة بينه وبين من يمر؛ لأن الطواف كثر, فإذا كل مصل وضع سترة يجد من ذلك كلفة, إما كلفة في المصلي أو كلفة في الطائف.
وقد اختلف العلماء عليهم رحمة الله تعالى في الترخيص في هذا.
ترجم البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح قال: باب: السترة في مكة وغيرها. قال ابن حجر رحمه الله: يريد بذلك تضعيف حديث المطلب بن أبي وداعة عن أبيه عن جده: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطوف عند البيت, والرجال والنساء يمرون من بين يديه لا يسترهم منه شيء ) , وهذا الحديث ضعيف, والعمدة في هذا على الآثار.
وقد ذكر ابن جرير الطبري عليه رحمة الله في كتابه التفسير عند قول الله عز وجل: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا [آل عمران:96] , قال: ببكة يبك الرجل المرأة، قال قتادة : يبك الرجل المرأة والمرأة الرجل, تصلي المرأة أمام الرجل, ويصلي الرجل أمام المرأة, يعني: يخفف في هذا في مسألة الصفوف, ويخفف في هذا في مسألة السترة, ويخفف في هذا في مسألة قطع المرأة لصلاة الرجل.
وقد جاء عن أبي جعفر بإسناد صحيح أنه رأى رجلاً يصلي ومرت امرأة من بين يديه, فقيل له: قد قطعت صلاتك, فقال: إنها بكة تبك المرأة الرجل والرجل المرأة, ويعني: هذا لاختصاص مكة, وذكر ابن تيمية رحمه الله إلى أن السترة بمكة يعني: عند البيت يخفف بها عن غيرها من المواضع.
وكذلك بالنسبة للصفوف, إذا صف النساء أمام الرجال, وذلك أنهم يطوفون ثم تقام الصلاة, لا يختلف العلماء على أنه يتأكد أن تكون المرأة خلف الرجال, ولكن لو قامت الصفوف ووجد من النساء من هي أمام الرجال، صحت صلاتها وصلاته, جاء ذلك عن عبد الله بن عمر في مكة خاصة.
ولهذا نقول: في حال التعذر لا حرج في هذا؛ لأنه خاصة في موضع الطواف إذا كانت المرأة تطوف ثم قربت الإقامة ربما لا تجد موضعاً تخرج من أوساط الرجال, فلو صلت صحت صلاتها في ذلك الموضع, وهذا من خصائص مكة.
ولكن يقال: هذا لا يجعل ذلك تعمداً أو تقنيناً أن المرأة تتعمد أن يكون صفوفها بين الرجال, أو تتعمد أن تكون أمام الرجال, ولكن لو وجد ذلك أن هذا مما لا حرج فيه, لاختصاص المسجد الحرام, وكذلك ما يتعلق بقطع الصلاة أن المرأة لا تقطع الصلاة في ظاهر الآية في المسجد الحرام ولو مرت من بين يديه للمشقة, فإن الرجال والنساء يطوفون والرجل يصلي.
وهذا تظهر فيه المشقة في الأزمنة المتأخرة أكثر من غيرها, كان في الزمن الأول الناس يصلون صفاً مستقيماً لا صفاً مستديراً إلى نحو العقد التاسع, في الثمانين أو التسعين الهجري, ثم بدأت الصفوف مستديرة.
وأول من فعل ذلك هو خالد بن عبد الله القسري كما ذكر ذلك الفاكهي في أخبار مكة.
ومن لطائف الاستدلال ما استدل به عطاء على ذلك في قوله جل وعلا: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر:75] يستدل بأن الملائكة كانوا حول العرش حافين في الاستدارة, أيضاً الاستدارة من جهة الصفوف, فالثمانون سنة الأولى من الإسلام كانوا يصفون من جهة الباب, من جهة حجر إسماعيل من أقصاه إلى الباب, فإذا وصلوا إلى الباب عن صوب الكعبة بدأ الصف الثاني, ثم الثالث حتى يصلون إلى المسعى, ولا يحيطون بالكعبة.
ثم لما كثر الناس وشق عليهم بدءوا بمسألة الاستدارة, ثم أصبحت أمراً سائداً, ويجعلون المنفرد يصلي في أي ناحية, وأما الجماعة فلا يصلون إلا من جهة الباب, ولهذا نقول: إن الصلاة من جهة الباب أفضل من الصلاة من غيره, لأنها فعل النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة, فإذا أراد المنفرد أن يصلي أو أراد جماعة نقول له: الأفضل في مثل هذا الموضع, ولهذا جعل الله عز وجل الصلاة لركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم, وهو من تلك الناحية كذلك, فيجمع بين الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام, وكذلك في أصحابه عليهم رضوان الله تعالى.
وأما من جهة صحة الصلاة وسلامتها فلا يختلف العلماء عليهم رحمة الله في سلامتها من أي جهة صلى الإنسان, وتحققه لأجر التضعيف.
نكتفي بهذا القدر, وأسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق والسداد والإعانة, إنه ولي ذلك والقادر عليه, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر