ونسأله سبحانه وتعالى أن ييسر لنا استئناف درس تعليقات على القواعد لـابن اللحام الحنبلي، وقد وصلنا إلى القاعدة الحادية والعشرين.
الملقي: قال المؤلف رحمه الله: [ البطلان والفساد مترادفان عندنا وعند الشافعية، وقال أبو حنيفة : إنهما متباينان؛ فالباطل عنده ما لم يشرع بالكلية، كبيع المضامين والملاقيح، والفاسد ما شرع أصله ولكن امتنع لاشتماله على وصف محرم كالربا.
إذا تقرر هذا فذكر أصحابنا مسائل فرقوا فيها بين الفاسد والباطل ظن بعض المتأخرين أنها مخالفة للقاعدة.
والذي يظهر والله أعلم أن ذلك ليس بمخالفة للقاعدة.
وبيانه أن الأصحاب إنما قالوا: البطلان والفساد مترادفان في مقابلة قول أبي حنيفة حيث قال: ما لم يشرع بالكلية هو الباطل وما شرع أصله وامتنع لاشتماله على وصف محرم هو الفاسد.
فعندنا كل ما كان منهياً عنه إما لعينه أو لوصفه ففاسد وباطل، ولم يفرق الأصحاب في صورة من الصورتين بين الفاسد والباطل في المنهي عنه، وإنما فرقوا بين الفاسد والباطل في مسائل الدليل ].
الأقرب أن أثر النهي في المنهي عنه له ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون النهي عائداً على ذات المنهي عنه أو على ماهية المنهي عنه فهذا باطل؛ فيفيد حكمه الفساد والذي نحن نسميه البطلان، وهذا الحكم يتفق عليه جميع أصحاب المذاهب أنه باطل، مثاله: كالنهي عن بيع المضامين والملاقيح؛ المضامين: ما في أصلاب الفحول مثل: ماء الفحل، والملاقيح: ما في أجنة النوق، فهذا النهي عائد على ماهية وذات المنهي عنه فيفيد البطلان، وهذا الحكم يتفق عليه الأئمة الأربعة ولا إشكال، والأمثلة في هذا كثيرة، مثل: النهي عن الخمر، والنهي عن الزنا، والنهي عن بيع الميتة، فكل هذا يفيد البطلان.
القسم الثاني: أن يكون النهي غير عائد على ماهية المنهي عنه، إنما النهي عائد على وصف في المنهي عنه غير مجاور، ومعنى غير مجاور أنه يمكن أن ينفك عن الماهية، وغير ملازم، الذي يقولون فيه: الوصف الذي لا ينفك عنه كما في عبارة صاحب القواعد لـابن رجب ، أو الوصف الملازم للماهية أو للمنهي، غير الملازم اللي نحن نسميه غير مجاور.
إذاً غير مجاور يعني منهي عنه لكن ليس لأجل الماهية ولكن لوصف غير ملاصق للماهية وغير ملازم لها، مثل: النهي عن البيع وقت النداء الثاني، ومثل النهي عن بيع النجش، والنهي عن بيع تلقي الركبان، فهذا النهي ليس عائداً على أصل البيع، ولا يكن عائداً على وصفه الذي لا ينفك عنه؛ فحينئذ يجوز أن تقول: بعت لك السيارة وتنتهي، من غير معرفة الثمن، أي: يكون الثمن بسعر المثل، أليس كذلك؟ أو على الراجح أبيعك ما باع به علي، فهذا مثل النهي عن وقت النداء الثاني؛ نهي عن وصف في الماهية غير مجاور، فهذه الصورة الثانية النهي يقتضي البطلان عند الحنابلة والظاهرية، ولا يقتضي البطلان عند الحنفية والشافعية والمالكية، فإذا سُئلت: النهي في وقت النداء الثاني يقتضي البطلان؟ تقول: على مذهب الحنابلة نعم، وعلى مذهب الجمهور لا، أو إن شئت قل: على مذهب الحنابلة وبعض المالكية، وعند الجمهور لا، إذاً: الآن الشافعية وافقوا الحنفية.
القسم الثالث: هذا هو المقصود دائماً في إطلاقهم بين الفرق بين البطلان والفساد عند الحنفية وعند الجمهور، وهو أن يكون النهي عائداً على وصف في المنهي عنه ملازم له، يعني: لا ينفك عنه، لا ينفك عن الماهية، لا ينفك عن ذات المنهي عنه، فهذا النوع الثالث وقد ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن النهي يقتضي الفساد والبطلان ولا فرق بينهما، مثل: أن أبيعك السيارة بخمر أو بميتة، هل ثمة فرق بين هذه الصورة وبين الصورة الأولى التي قلنا بيع الخمر والميتة؟
نحن ذكرنا من أمثلة الصورة الأولى: أن يكون النهي عائداً على الماهية، مثل بيع الخمر والميتة، والآن نقول: مثل أن أبيع السيارة بخمر أو ميتة، في فرق بينهما؟
نقول: الصورة الأولى في بيع الخمر النهي عائد على ماهية المبيع وهو الخمر والميتة، أما الصورة التي نحن بصدد البحث فيها وهو أن أبيعك سيارة بخمر، دخلت الباء على الخمر فالحمز هو الثمن، فالمبيع سليم إذاً: نحن نقول: إن أركان البيع قد توفرت وهي الصيغة والعاقدان والمحل، إلا أن وصفاً في المحل منهي عنه وهو الثمن، ولو بعت درهماً بدرهمين صارت الباء داخلة على الدرهمين وهو الربا، فالربا عند الحنفية نهي يقتضي الفساد، أما عند الجمهور يقتضي البطلان، والشرط الفاسد في العقد الذي يُخالف مقتضى العقد يشرط على الوصف الذي لا ينفك عنه، ومع ذلك قال الجمهور أنه فاسد أو باطل، وقال الحنفية: أن ثمة فرقاً بين الفاسد والباطل.
أنا حاولت أسهل العبارة؛ لأن أكثر علماء الأصول لا يفرقون بمثل ذلك في التفريق بين هذا، فيذكرون هذه القاعدة على إطلاقها، ولعل أحسن من تكلم فيها وإن كان عبارته ليست قوية هو الدكتور محمد أديب الصالح في كتابه تفسير النصوص، وكذلك القرافي في الفروق، رحمهم الله رحمة واسعة.
هذه الصورة -الصورة الثالثة- يذهب الحنفية إلى أن الحكم يفيد الفساد ولا يفيد البطلان، وعلى هذا فالحنفية يقولون: ما كان مشروعاً بأصله ووصفه -أي: الذي لا ينفك عن الماهية- فإن هذا يكون عقداً صحيحاً، وما كان غير مشروع لا في أصله ولا في وصفه الذي لا ينفك عنه فإنه يكون باطلاً، وما كان مشروعاً في أصله غير مشروع في وصفه الذي لا ينفك عنه فإن ذلك يُسمى عند الحنفية بالفاسد.
إذاً: فما دليل الجمهور في هذه الصورة؟
الجمهور يقولون: إننا اتفقنا على أن النهي إذا كان عائداً أصل الماهية فإنه يدل على البطلان، ولا فرق بين أن يكون النهي عائداً على الماهية أو على وصفه الذي لا ينفك عنه، فكما أننا حكمنا على بُطلان العقد الذي نُهي عن ذاته فكذلك نُنهى عن العقد ويُبطل العقد الذي نُهي عن وصفه الذي لا ينفك عن ذاته، وقالوا: إن الصحابة رضي الله عنهم حكموا بالبطلان في الوصف الذي لا ينفك عنه كما حكم ابن عمر في نكاح المرأة الكتابية وقالوا إنه يجوز أن تتزوج المرأة ولكن لوجود وصف فيها وهو الكفر منُع منه فصار باطلاً، هذا دليل الجمهور، قالوا: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).
أما الحنفية فإنهم قالوا: إن النهي عائد على ما كان غير مشروع مع أن المشروع ثابت، بمعنى أنهم قالوا: لا يمكن أن نجعل ما ثبت بأصل المشروعية مساوياً للمنهي في الوصف، فإن بيع درهم بدرهمين يكون أحد الدرهمين العقد عليه صحيحاً والدرهم الثاني فاسداً، فيقول: لا يمكن أن نجعل الشرع الذي في أحد الدرهمين فاسداً لوجود مجاور فيه، فكما أننا لم نُصحح الجميع فلا نُبطل الجميع؛ لأن النهي العائد على الوصف فيه مشروع وفيه منهي، درهم بدرهم ودرهم، فأحدهما صحيح والآخر فاسد، فيقولون: فكما أننا لم نجعل جميع العقد صحيحاً لوجود أحدهما فكذلك لا نجعل الأمر جميعاً فاسداً لوجود الفساد في أحدهما. يقول القرافي في هذا التفريق يقول: وهذا تفريق حسن، و القرافي مالكي.
والزنجاني المتوفى سنة 656هـ في كتابه تخريج الفروع على الأصول يقول: وقد عظُم الاختلاف بين الفئتين واحتدم الخلاف بين الفريقين، ولا يعدو أن يكون الخلاف خلافاً لفظياً ومراء جدلياً. والزنجاني عندما قال هذا؛ قاله لأنه رأى بعض الصور التي نهيها للوصف الشافعي يُبطلها و أبو حنيفة يبطلها ورأى بعض الوصف فـالشافعي لا يبطلها و أبو حنيفة لا يبطلها لذلك قال: النهي خلاف لفظي.
وعلى التقسيم الذي ذكرناه هل يكون لفظياً؟ لا، ليس بلفظي، ولأجل هذا جئنا بهذا التفصيل وهو أفضل لطالب العلم أن يعرف الصورة بدقتها.
خذ صورة بسيطة واقعية: لو أننا افترضنا أن الإجارة المنتهية بالتمليك فيها شروط فاسدة، لكنها ليست في أصل الماهية، ولكن في وصفها الذي لا ينفك عنها؛ فهذه الإجارة المنتهية بالتمليك على فرض أنها فاسدة بسبب شروط تخالف مقتضى العقد تكون عند الشافعية والحنابلة عقد باطل أو فساد لا فرق، وما قبضه المستأجر أو المشتري على الخلاف فإنه يكون في حكم المقبوض بعقد فاسد فلا يفيد الملك، ويضمنه بالمسمى أم بالقيمة؟ على الخلاف؛ أما عند الحنفية فإنهم يقولون بأن العقد الفاسد لا يفيد الملك بقبض المشتري، فإن قبضه المشتري فإن نماءه وخسارته عليه مطلقاً ولكنه يأثم بهذا الفعل ويجب عليه أن يصحح العقد، فيرد الدرهم إلى صاحبه، ويستبدل الخمر -الذي هو الثمن- بثمن صحيح، هذا هو الفرق بين الحنفية وبين الجمهور.
وكثيرة هي الوقائع في واقعنا المعاصر، وفي المعاملات المالية يصعب أحياناً أن نرد العقود إلى أصحابها؛ لأنهم دخلوا على ظن أن العقد صحيح وقد تغيرت السلعة وربما عودها يصعب، فالقول قول أبي حنيفة حينئذ لا بأس أن نأخذه ونفتي به، وأحسب أن بعض القضاة في حكمهم في الإجارة المنتهية بالتمليك إذا أخذها المستأجر، ومضى على العقد ثلاث سنين، ثم رفعت قضية وهي أن المستأجر لم يسدد فيمضي العقد على أنه باطل ثم يجعل الإجارة إجارة بالمثل، فيكون حينئذ ظلم المستأجر أما المؤسسة فيكون أفضل من عقدها؛ لأن إجارة مثلاً كراون فكتوريا مثلاً بثلاثمائة، لكنه حينما أخذها إجارة منتهية بالتمليك فالعقد بالشهر أن يسدد ألفين، فنقسم ألفين على ثلاثين يكون الناتج ستين، والفرق هنا موجود.
ولأجل هذا نحن نقول دائماً للذين أبرموا عقود تورق مصرفي: العقد فاسد، لكن إذا قبض الإنسان السلعة وتصرف فيها، نقول: استغفر الله وتب إليه، ونقول: متى ما استطعت أن تقوم بعملية مرابحة إسلامية عند بنك أو شخص آخر لتسدد هذا الأمر فهو أفضل، وإن كان ابقاؤه من غيرها جائزاً كما يقول ابن تيمية: ومن تعامل معاملة ببعض الحيل التي يُرخص فيها بعض الفقهاء باجتهاد أو تقليد أو تأويل فما أخذ من هذا المال فهو جائز أو كما قال رحمه الله.
بهذا التفصيل نستطيع أن ندلك إلى هذه القاعدة ونعرف أن الشافعية ليسوا على وتيرة واحدة مع الحنابلة، وإنما مع الحنابلة في صورة واحدة أو في الصورة الثالثة وهي أن يكون النهي ليس عائداً على الماهية، ولكن على وصفه الذي لا ينفك عنه، أما في الذي ينفك عنه فإنهم يوافقون الحنفية.
واعلم أن هذا التفريق بين الباطل والفاسد إنما هو في المعاملات المالية، وأما في العبادات فلا فرق عند الأئمة الأربعة بين الباطل والفاسد، فإذا قالوا في العبادات: باطل أو فاسد فإنهما سواء في الحكم، وكذلك في الأحوال الشخصية في النكاح؛ لأن النكاح لا يخلو من وجود شائبة التعبد، ولأجل هذا حكم الحنفية بأن الفساد والبطلان في النكاح كحكم العبادات وأنه لا فرق، إذاً: التفريق بين الباطل والفاسد عند الجمهور والحنفية إنما هو في المعاملات.
وأذكر لكم صورة تقوي قول أبي حنيفة وهي لو أن شخصاً ذهب إلى سوق الذهب فسأل عن سعر الطقم من الذهب فوجده بعشرة آلاف ريال، فقال: أنا أريد أن آخذه وأعرضه على أهلي؛ فإن رضي أهلي به حولت لك المبلغ، وإن لم يرض به أهلي فإنني سوف أقوم بإعادته، فرضي البائع، فهل هذا عقد جائز؟ لا يجوز؛ لأنه ليس فيه تقابض، فيكون العقد عند الجمهور باطلاً، وقبض المشتري هنا قبض بعقد فاسد، وعند الحنفية فاسد؛ لأن النهي كان على وصفه الذي لا ينفك عنه مثل الربا. قبضه المشتري وقبضه يفيد الملك، انظروا صعوبة التطبيق عند الجمهور، ثم اتصل الرجل على صاحب الذهب وقال له: نحن رغبنا فيه ولبس زوجته الذهب يومين ثم ذهب به إلى السوق فباعه بنفسه، ثم جاء وقال: أنا اشتريت ذهباً بالطريقة المذكورة، قلنا: هذا ربا لا يجوز، والعقد فاسد، فعلى مذهب الجمهور أنه يرد السلعة، فإن لم يوجد فإنه يقدر طقماً مثل الطقم الذي باعه، فإن وجد مثل الذي اشتراه فإنه يشتريه على أنه هو، ثم يعيده بنفس القيمة، وإذا كان مما لا يوجد مثله فيُقدر على أنه كان موجوداً، فيُنظر قيمته فيُعطى صاحبه، وهذه فيها صعوبة جداً.
لكن هذه الصور على مذهب أبي حنيفة يقولون: هذا عين الربا فيلزمه رده، فإن كان قد تصرف فيه فعلية أن يتوب يستغفر ويتصدق لعل الله أن يتوب عليه، هذا هو الفرق بين الحنفية وبين الجمهور.
وإليك صورة ثانية في واقعنا المعاصر: أحياناً تجد مخططاً من المخططات العقارية يأخذه شخص منحة، فخطط وباع على الناس، ثم باع الناس الذين اشتروا على غيرهم، وغيرهم باعوا على غيرهم، فجاء ورثة مات أبوهم فبدءوا يفتشون، فوجدوا أن هناك صكاً لهم في نفس الموقع بنفس هذه الأرض، فذهبوا إلى المحكمة فقالوا: هذه أرضنا، وساحتها كذا وكذا ورثناها من والدنا، فجاءت المحكمة فوجدت أن هذه هي الأرض التي ادعوها نفسها، وسألت البلدية فوجدت أنها نفس الأرض، وأنها منحت في عهد أحد المسئولين قديماً، ولكن البلدية لم تعلم بصك الورثة، فنظر القاضي فوجد أن صك البلدية أحدث من صك الورثة، فيكون الملك للميت، فيكون بيع هؤلاء عقداً فاسداً، على ري الجمهور فعلى كل واحد أن يرجع على الثاني حتى ينتهوا، وهذا يوجد كثيراً.
وعلى مذهب أبي حنيفة أن هذا على وصفه الذي لا ينفك عنه؛ لأن العاقدين موجودان والمحل موجود، وأما أنه لا يملكه فيرى أبو حنيفة أنه مبني على الرضا والتصرف، هذا هو الفرق، أبو حنيفة يرى أن العقد موقوف على رضا المالك، فإن رضي المالك وإلا فإن العقد باطل، وإن كان المالك لا يرضى تعنتاً فإن القاضي لا يمضيه على رأيه، فإنه من المعلوم قطعاً أنه لا يمكن إيجاد هؤلاء الذين باع بعضهم على بعض، فيقال له: هذه الأرض قيمتها، فالبائع الأول الذي طبق الأرض له هو الذي يعطيك الثمن إن كانت البلدية وإلا إن كان هذا البائع الأول، يعطيك كامل الثمن. هذا القول على مذهب أبي حنيفة أولى بالتطبيق ولا يسع الناس في هذا الزمن إلا هذا، والله أعلم.
الملقي: [ وقال أبو حنيفة : إنهما متباينان ].
الشيخ: متباينان أي: الباطل والفاسد في المعاملات المالية، غير متباينين في العبادات والنكاح، والتباين هنا إنما هو فيما كان النهي عائداً على الوصف الذي لا ينفك عن الماهية غالباً، فلا يفرقون في الحج؛ بل يرون أن الفاسد والباطل في الحج سواء؛ ولهذا أجمعوا على أن من جامع قبل التحليل الأول فحجه فاسد ويجب المضي فيه.
الملقي: [ فالباطل عنده ما لم يشرع بالكلية كبيع المضامين والملاقيح ].
الشيخ: ما لم يُشرع بالكلية هو أن يكون النهي عائداً على أصله الذي هو على ذات المنهي عنه، مثل: بيع الملاقيح والمضامين المحل غير موجود، إذاً: فات الوصف الذي لا ينفك عنه؛ لأن أبا حنيفة يرى أن الركن الصيغة والوصف الذي لا ينفك عنه -الذي هو العاقدان والمحل- وهذا منها.
الملقي: قال: [ والفاسد ما شرع أصله ولكن امتنع لاشتماله على وصف محرم كالربا ].
الشيخ: أي: لاشتمال المحل الذي هو العقد على وصف غير مشروع كالربا، فدرهم بدرهمين، هنا المحل موجود، ولكن هذا الوصف محرم، فلو أخذنا بقول أبي حنيفة نقول: الراجح أن العقد باطل، فإذا كان موجوداً فيجب رده ولا يملكه ألبتة، هذا هو الفرق الذي نراه، وكأن هذا القول الذي أقوله قول للمالكية، فإن المالكية يقولون في العقد الفاسد: إن لم يمكن رجوعه يفيد الملك، وإن أمكن رجوعه فإنه لا يفيد الملك، وقول المالكية هذا أحسن الأقوال، أما الحنفية فيقولون: بمجرد القبض يفيد الملك ولكنه آثم، أما إذا لم يقبضه فلا يزال في ملك البائع.
الشيخ: يعني أنهم حينما فرقوا بين الباطل والفاسد هذا التفريق ليس لوجود الفرق بين الباطل والفاسد، ولكن لوجود امتناع شرط من الشروط التي لم تجعله فاسداً أو لم تجعله باطلاً كما سوف يأتي بيانه.
الملقي: [ وبيانه أن الأصحاب إنما قالوا: البطلان والفساد مترادفان في مقابلة قول أبي حنيفة حيث قال: ما لم يشرع بالكلية هو الباطل، وما شرع أصله وامتنع لاشتماله على وصف محرم هو الفاسد، فعندنا كل ما كان منهياً عنه إما لعينه أو لوصفه ففاسد وباطل ولم يفرق الأصحاب في صورة من الصورتين بين الفاسد والباطل ].
الشيخ: الحنابلة يقولون: كل ما كان منهياً عنه لعينه أو لوصفه سواء انفك أو لم ينفك يفيد الفساد والبطلان.
الملقي: [ ولم يفرق الأصحاب في صورة من الصورتين بين الفاسد والباطل في المنهى عنه وإنما فرقوا بين الفاسد والباطل في مسائل الدليل، منها: إذا أحرم الواطىء حال وطئه هل ينعقد إحرامه أم لا؟
كلام أبي البركات صريح في انعقاده، وقال بعض أصحابنا في مسألة البيع الفاسد: إنه لا يجب مضيه فيه فدل على أنه لا ينعقد فيكون باطلاً، ولو جامع قبل التحلل الأول فسد حجه، وحكم الباطل: لا يجب المضي فيه، والفاسد: يجب المضي فيه ].
الشيخ: الصورة هنا في الحج يمضي فيه وهذا لا يجب المضي فيه، ليس لأجل التفريق بين الباطل والفاسد، ولكن لأن الحج استثني من العبادات؛ فإن فاسده يجب المضي فيه، وأما الذي أحرم حال انعقاده لا يجب المضي؛ لأن إحرامه لم ينعقد أصلاً، والله أعلم.
الملقي: [ ومنها: الكتابة، فإنه إذا كاتب من لا يصح العقد منه فإنها تكون كتابة باطلة، ولا يترتب عليها العتق وسواء كان السيد أو العبد ].
الشيخ: يعني لو أن السيد مجنون وكاتب عبده فإن هذا العقد لا يصح أصلاً؛ لأن الكتابة هنا لا تصح.
الملقي: [ وقال القاضي: إذا كاتب السيد عبده يعتق بالأداء والمذهب خلافه ].
الشيخ: لماذا قال القاضي: يعتق مع أن العبد مجنون، والمجنون لا يصح تصرفه؟ لأن الشارع يتشوف إلى العتق، إذاً: هذا مستثنى لا لأجل علاقة الباطل والفاسد ولكن لأجل أمر آخر، وإن كان المذهب على خلافه.
الملقي: [ وكذا لو كاتبه على عوض غير منجم، فالعقد باطل ].
الشيخ: يقول: لو كاتبه على عوض غير منجم أي: مقسط. الأصل في الكتابة التقسيط، (إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في كل سنة أوقية)، فلو كاتبه على غير التقسيط فإن العبد لا يستطيع. لأنه ليس معه شيء، فقبل أن يكاتبه كان مال العبد مال لسيده، فإذا كاتبه على أن يسدد اليوم فإن هذا نوع من التعجيز وتكون المكاتبة باطلة أصلاً.
الملقي: [ وكذا لو كاتبه على عوض غير منجم فالعقد باطل، ذكره القاضي والشريف و أبو الخطاب ، وصرح ابن عقيل بأن الإخلال بشرط النجوم يبطل العقد، وذكر صاحب التلخيص أن الكتابة تصير فاسدة، ولا تبطل من أصلها ].
الشيخ: صاحب التلخيص يقول: لو أن السيد كاتب عبده على عوض غير منجم فإن العقد يثبت، ويصحح التنجيم، ما الفرق بينهما؟ الفرق بينهما أن على قول صاحب التلخيص أن العقد ثابت ولا يستطيع السيد أن يبيع العبد حتى يعجز. وأما على قول جمهور الحنابلة فإن العبد حينئذٍ لم يعقد فيجوز أن يبيعه؛ لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، ولكنه لا يبيعه وقد كاتبه حتى يُعجز نفسه أو يعجز عن ذلك، والله أعلم.
الملقي: قال: [ ولكل واحد منهما فسخها ويحصل العتق فيها بالأداء دون الإبراء ].
الشيخ: قف على هذا، هذا كلام واضح، وهي مسائل لن تحدث إلا أن يشاء الله.
الملقي: قال: [ والمنصوص عن أحمد أن العقد يبطل من أصله وأما إذا كاتبه على خمر أو خنزير فقال القاضي وأصحابه: حكمها حكم المكاتبة الفاسدة ].
الشيخ: الآن كاتبه على خمر، فالثمن هو الخمر؟ والثمن وصف في المحل، إذاً: هو على مذهب أبي حنيفة يملكه بالقبض، وعلى مذهب الجمهور لا يملك.
الملقي: قال: [ وأما إن كاتبه على خمر أو خنزير فقال القاضي: وأصحابه حكمها حكم المكاتبة الفاسدة، والمنصوص عن أحمد أن العقد يبطل من أصله ولا يقع فيه عتق، قال أحمد في رواية الميموني: إذا كاتبه كتابة فاسدة فأدى ما كوتب، عليه عتق ما لم تكن الكتابة محرمة، معناه على محرم كالخمر والخنزير، وهذا اختيار أبي بكر و ابن عقيل ، وأول القاضي و أبو الخطاب النص ].
الشيخ: يعني الآن القاضي و أبو الخطاب حولوا النص الذي قاله أحمد رحمه الله، والفرق بينهما أن أحمد يرى أن الثمن في الكتابة على الخمر يجعلها باطلة، وأما القاضي فإنه يجعلها فاسدة، وأن العقد صحيح ويجب عليه أن يغير الثمن.
الملقي: [ سؤال: قول الأكثرين إن الكتابة إذا لم تكن منجمة باطلة من أصلها مع قولهم في الكتابة على عوض مجهول يتغلب فيها حكم الصفة مشكل جداً، وكان الأولى إذا كان العوض معلوماً أن يغلب فيه حكم الصفة أيضاً، والله أعلم ].
الشيخ: يقول رحمه الله: إذا كان العوض معلوماً ولو كان الثمن محرماً يجب أن يغلب فيها حكم الصفة، والتفريق بينهما مُشكل، لكن نحن نقول: الراجح -والله أعلم- في مثل هذه الصورة العقد صحيح ولكنه يجب تصحيح العوض؛ لأن الشارع يتشوف إلى العتق، والله أعلم.
الملقي: [ ومنها: إذا قبض العين في العقد الباطل فإنها تكون مضمونة عليه على كل حال، سواء كانت صحيحة العين مضمونة فيه أو غير مضمونة، وإن قبضها في الفاسد وكانت صحيحة العين فيه غير مضمونة ففاسد، كذلك ذكره صاحب المغني وغيره ].
الشيخ: نعم، ولكن إذا قبضه ثم تلف فإننا نقول: هذا المقبوض بعقد فاسد للحنابلة فيه أقوال:
القول الأول: أنه يضمنه بالقيمة، فلو أنه اشترى سيارة قيمتها مائة ألف في السوق بتسعين ثم هلكت وقد قبض بعقد فاسد، فإذا قلنا: يضمنها بالقيمة تكون القيمة ألف مائة، وليس المقصود بالقيمة قيمة المشترى، ولكن قيمة السلعة في السوق، وإذا قلنا: يضمن بالمسمى فإنه يضمن بالمسمى في العقد وهو التسعين، و ابن تيمية يقول: يضمن بالمسمى؛ لأنهما دخلا ورضيا بالثمن، فإذا تبين أن العقد فاسد وقد هلكت فالفاسد يأخذ حكم الصحيح فيما يترتب عليه، هذا اختيار ابن تيمية، والله أعلم.
وقوله: (إذا قبض العين في العقد الباطل فإنها تكون مضمونة عليه على كل حال سواء كانت صحيحة العين مضمونة فيه أو غير مضمونة، وإن قبضها في الفاسد وكانت صحيحة العين فيه غير مضمونة ففاسد كذلك).
الغير مضمونة مثل لو أتى العين وأخذها برضاه، والمضمونة كأن يكون أخذها من غير رضاه -مثل حكم الغصب- فهذه صحيحة العين مضمونة، والأولى صحيحة العين غير مضمونة، مثل المساومة فإنه إذا كانت برضاه وهي عقد فاسد فهي مثل أن يقول: دعنا نأخذ السيارة دعها عندك، فيكون هذه أمانة، هذا الفرق.
وكل هذه الأمثلة التي سوف يذكرها المؤلف لا علاقة لها في الحقيقة بالتفريق بين الفاسد والباطل؛ لأن الحنابلة قولهم واحد، ولكن المؤلف رحمه الله ذكر هذه الصور وهي فيها نوع من التكلف، أو أنها داخلة في عقد النكاح، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر