إسلام ويب

موقف المكلف من أعمال الدنيا والآخرة [2]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إذا علم المؤمن أن الدنيا دار الفناء والزوال، وأن الآخرة هي دار البقاء والدوام؛ كان عليه أن يعرض عن الدنيا وأن يقبل على الأعمال التي بها يفوز في الآخرة بجنة النعيم، وأن يسارع ويعجل في أعمال الخير والطاعات والقربات، وأن يسابق وينافس غيره إليها حتى لا يكون من الذين يؤخرهم الله في الدنيا والآخرة، وأن يفرح كلما وفقه الله لعمل خير وطاعة وقربة تقربه من ربه، وترفع درجاته عنده، وأما الدنيا فالواجب هو الإعراض عنها، وعدم المسابقة إليها، وعدم الفرح بها إذا أقبلت والحزن عليها إذا أدبرت.

    1.   

    الإعراض عن الدنيا ومتاعها والإقبال على الآخرة وثوابها

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، سبحانك ربنا لا علم لنا إلا ما علمتنا, إنك أنت العليم الحكيم.

    أما بعد:

    ما الذي ينبغي أن نفعله نحو الدارين ونحو أعمال الدارين، تترتب على هذه الخمسة الأمور خمسة أمور أخرى:

    الأمر الأول الذي ينبغي أن نفعله نحو الدار الدنيوية والدار الأخروية: أن نريد الدار الآخرة, وأن نرغب فيها, وإن نحرص عليها، وأن نعرض عن الدار الدنيا، وأن لا نبالي بها، ولا بيد من كانت، هذا لا بد منه.

    إخوتي الكرام! هذا الأمر هو المحك الفاصل بين المؤمن والكافر، الكافر قصده وإرادته وهمه الحياة الدنيا، والمؤمن قصده وإرادته الحياة الآخرة، مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]. هذا محك فاصل ومعيار حاسم بين المؤمن والكافر، فمن أراد الدنيا وزينتها فليعزِّ نفسه، ومن أراد الآخرة ونعيمها فليهنئ نفسه، يقول الله سبحانه وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [هود:15], إرادته .. قصده .. نيته الدنيا وزينتها، نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]. ثبت في صحيح مسلم في حديث الثلاثة الذين يقضى عليهم قبل غيرهم في عرصات الموقف، والحديث مروي عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه الإمام ابن خزيمة بإسناد مطول عن أبي هريرة رضي الله عنه، وجاء في الحديث: أن أبا هريرة رضي الله عنه كان إذا أراد أن يحدث بهذا الحديث يغمى عليه، ثم إذا استيقظ وأراد أن يحدث يغمى عليه، تكرر هذا منه ثلاثاً في رواية ابن خزيمة ، ثم بعد ذلك أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أول من يقضى عليهم يوم القيامة ويحكم بينهم ثلاثة من الخلق: المجاهد، وقارئ القرآن، والمتصدق. يؤتى بالمجاهد -بالشهيد- فيعرفه الله نعمه فيعترف بها ويقر، فيقول: ماذا عملت بها؟ فيقول: قاتلت في سبيلك حتى قتلت، فيقول: كذبت ), وفي رواية ابن خزيمة : ( فتقول الملائكة كذبت، إنما قاتلت ليقال: فلان جريء فقد قيل ). تريد الحياة الدنيا وزينتها، ( ثم يأمر الله الملائكة أن تأخذه فتطرحه على وجهه في نار جهنم، ويؤتى بقارئ القرآن فيعرفه الله نعمه فيعترف بها ويقر، فيقول: ماذا عملت بها؟ فيقول: قرأت القرآن وعلمته آناء الليل وأطراف النهار، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة كذبت، إنما قرأت وأقرأت ليقال: فلان قارئ، وقد قيل، ويؤتى بالمتصدق فيعرفه الله نعمه فيعترف بها ويقر، فيقول: ماذا عملت بها؟ فيقول: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت, فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، إنما تصدقت ليقال: فلان جواد، وقد قيل، فيؤمر به إلى النار ). وكان معاوية رضي الله عنه عندما يروى له هذا الحديث يبكي بكاء كثيراً حتى يظنوا ببكائه أن البكاء سيفتت قلبه، ثم بعد أن يهدأ بكاؤه بعض الشيء يقول: هذا ما فعل بهؤلاء, فكيف ببقية الناس؟ صدق الله، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتلو: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16]. ولذلك أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن قصد الإنسان إذا توجه للدنيا، وأن إرادة الإنسان إذا دارت حول الحظوظ العاجلة وأعرض عن الدار الآخرة الباقية فإن القربات التي تصدر عنه تكون من أعظم الموبقات. سبحان الله! طاعات يقوم بها ويعذب بها؟ نعم؛ لأن قصده الدنيا، وكيف سيكون شأن من عظم ما حقره الله، الله جعل الدنيا لا تعدل جناح بعوضة، فأنت جعلتها قصدك ومبلغ إرادتك، والله لو تعبدت بعبادة الثقلين فأنت من المغضوب عليه. ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم، والحديث في المسند وسنن أبي داود وابن ماجه وصحيح ابن حبان والحاكم بسند على شرط الشيخين وأقر ذلك الذهبي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا ) هذه نيته وقصده ( لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ).

    إخوتي الكرام! معشر طلبة العلم! أخلصوا النية لرب البرية، لا نتعلم لشهادة ولا لوظيفة، ولا لنحصل منصباً ولا راتباً، نتعلم لنعرف شرع الله، ولندعو إلى الله على بصيرة، ولنزكي أنفسنا، فإن جاء شيء بعد ذلك دون أن نقصده، فمن قصده فالويل له، إن جاء شيء بعد ذلك نستعين به على ديننا ودنيانا, ويكون مطية لنا إلى ربنا، ولا يخدش ديننا, ولا ينقص كرامتنا فلا مانع من أخذه، وأما أن نلهث وراءه كما تلهث الكلاب فنحن من حطب جهنم، ولن نجد عرف الجنة يوم القيامة. وقد أخبرنا كثير من طلبة العلم وفي ظاهرهم صلاح -وأقسم أيماناً على ذلك- أنه ما يطلب العلم إلا للشهادة والوظيفة.. يا شقاء الأمة وهلاكها بمثل هذا الصنف الخبيث الذين سيحرفون كلام الله عن مواضعه، ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً بعد حين! ( من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة ), يعني: ريحها. وهذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم.

    طالب الدنيا لن يأتيه منها إلا ما قدر له

    إخوتي الكرام! والإنسان عندما يقصد الدنيا ويريدها وتكون هي مبعث همه ومحط همته هذا من قصر عقله وحماقته؛ لأنه لن يأتيه إلا ما قدر له، ولذلك عندما فسدت نيته دل على أنه لا يعرف ربه، وما آمن به حق الإيمان، وإلا لو آمن بالرحمن وعلم أن ما قدره الله سيكون وما قدر له سيأتيه ما الداعي لفساد النية؟ فساد النية يصدر من رجل لا يؤمن بالله، أما أنت فلم؟ ما قدر لك سيأتيك، يقول الله جل وعلا في سورة الإسراء: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ [الإسراء:18], هذا قصده وهمه وهمته, عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا [الإسراء:18]. حسب ما يشاء هذا الرجل؟ لا، حسب ما يشاء الله، عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ [الإسراء:18], لا ما يشاؤه هو، مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:18-19]. فهذا الذي قدر لهم لن يزداد ولن ينقص، إنما من فسدت نيته سيحصل ما قدر له بتعب ونصب لأنه انحرف عن شرع الله، وذاك سيحصل ما قدر له براحة وطمأنينة وسكينة قلب، هذا هو الفرق. ولن يحصل محب الدنيا عرضاً دائماً كما يريد، لا ثم لا، وهكذا الذي يريد الآخرة سيأتيه ما قدر له. وهذا المعنى وضحه لنا نبينا صلى الله عليه وسلم، ففي سنن ابن ماجه ومعجم الطبراني الكبير بسند رجاله ثقات عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كانت الدنيا همه ), هي نيته وإرادته وقصده, ( فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له ). انتهى الذي قدر لن يزاد فيه, إنما حصل له نكد وتعب وبلاء، فرق الله عليه أمره، وأتعبه بتحصيل هذا العرض الدنيوي، وتراه يلهث وراءه من الصباح إلى العشاء، ويفكر به عندما يريد أن ينام، وعندما يستيقظ مباشرة إلى العمل كالبهيمة, ففرق الله عليه أمره، وما حصل في قلبه غنى ولا قناعة, ( ومن أصبح وهمه الآخرة ) رضوان الله جل وعلا، والجنة الآخرة، ( جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا )، أي: المقدر له منها, ( وهي راغمة ) ذليلة. فشتان بين أن تكون لاهثاً وراءها كالكلب، وبين أن تساق إليك وهي راغمة ذليلة.

    إذاً: لن يزاد في رزقك عندما تخبث نيتك، وما قدر لك سيأتيك، فأخلص النية لله سبحانه وتعالى. روى الترمذي في سننه وقال: حديث حسن، وابن ماجه والإمام ابن حبان والحاكم في المستدرك وقال: صحيح، وأقره عليه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20]، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك ).

    هذا الأمر -كما قلت- هو الحد الفاصل بين المؤمن وغيره، فالمؤمن يريد وجه الله، وغير المؤمن يريد عرض الدنيا، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:67].

    حرص المرء على المال والشرف مهلكة وفساد لدينه

    وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن من حرص على جمع المال وكان هذا هو مبعث همه وهو محط همته وهو قصده وهو إرادته، هذا الحرص على المال وعلى عرض الدنيا سيفسد دينه، ويهلكه أعظم من إهلاك الذئب الضاري الجائع إذا وضع في زريبة غنم، ثبت في سنن الترمذي ومسند الإمام أحمد وسنن الدارمي بسند صحيح عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما ذئبان جائعان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ), أي: إذا حرص على جمع المال وكان ذلك هو نيته، وحرص على الجاه والرفعة والشأن والمنزلة، سيفسد دينه أكثر من إفساد الذئبين الضاريين الجائعين المفترسين عندما يدخلان إلى زريبة الغنم، والمعروف من حال الذئب أنه إذا سطا على زريبة غنم لا يهدأ ولا يستريح ولا يقر ولا يثبت إلا بعد أن يقتل النعاج كلها، ثم يأكل منها ما يريد، أما أن يترك شاة حية فهذا لا يمكن أبداً. وعلى هذا فمن حرص على المال وكان ذلك هو نيته وحرص أيضاً على المنزلة والجاه والشرف سيفسد دينه، بل سيضيع دينه، كما يفسد ويهلك هذان الذئبان جميع الشياه والنعاج.

    عتاب الله تعالى للنبي والمؤمنين في غزوة بدر بسبب أخذهم الفداء من الأسرى

    إخوتي الكرام! وكما تقدم معنا أن الله جل وعلا عاتب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم عندما جرى منهم في موقعة أحد ما جرى، فقد عاتبهم أيضاً في موقعة بدر عندما جرى منهم ما جرى، ولولا أن الله أتبع ذلك أيضاً بمغفرته ورحمته لتفطرت قلوبهم، يقول جل وعلا في سورة الأنفال: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67], أي: يكثر من القتل. أول معركة وقعت بين الإيمان والكفر ينبغي أن يباد فيها جنود الكفر، فلم تعجلتم إلى الأسر؟ ثم تريدون الفداء، مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:67]. هل وقف الله عند هذه الآية وما أنزل ما بعدها؟ والله ما أظن أن صحابياً يطعم طعاماً أو يشرب شراباً. ثم قال الله في إثرها مباشرة: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:68-69]. وقع منكم هذا عن طريق الاجتهاد، ولكن الاجتهاد كان فيه شائبة تعلق بالدنيا، ليس قصداً لها، فحاشاهم من ذلك، ومع ذلك يعاتبون بهذا العتاب: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال:68] في أنه أحل لكم المغانم، وأنه لن يؤاخذ المجتهد عندما يبذل ما في نفسه للوصول إلى مراد ربه، لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:68-69].

    تحذير الله تعالى لنساء النبي عن إرادة الحياة الدنيا وزينتها

    إخوتي الكرام! وحادث آخر في العصر الأول عاتب الله فيه خلاصة البرية وأشرف المخلوقات, وهن أزواج خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، انظروا -إخوتي الكرام- لهذه الآية مما جرى من نساء النبي عليه الصلاة والسلام، تنزل آية يقول بعض الصالحين: هي أخوف آية في القرآن، يقول الله في سورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28]. سبحان الله! أمهات المؤمنين يخاطبن بهذا الخطاب، ما الذي جرى منهن؟ قلن: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! نساء كسرى وقيصر في الديباج والاستبرق، وأنت رسول الله خير خلق الله، لماذا لا توسع علينا في الدنيا؟ فقط هذا الذي جرى منهن، فتنزل هذه الآية، إذا كان الإصرار منهن على ذلك, فمتعهن وسرحهن سراحاً جميلاً، وهن أزواج خير خلق الله، وهن أمهات المسلمين, وهن أفضل نساء هذه الأمة: إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28]. والتي سيسرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفارقها لأنها تريد الدنيا عليها غضب الله. إذاً: إذا جرى منكن هذا وأنتن ثابتات عليه فأنتن من المغضوب عليكن. هذا معنى الآية. أزواج النبي عليه الصلاة والسلام يوجه لهن هذا الخطاب عندما طلبن شيئاً يسيراً حقيراً. وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:29].

    هذا حال نبينا عليه الصلاة والسلام مع نسائه كان يأتيه الضيف فيرسل لأزواجه التسع: هل عندكم ما نضيف به ضيف رسول الله؟ فكل واحدة تقول: والله ما عندنا ما يأكله ذو كبد. لو دخلت فأرة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم ما تحصل حبة قمح ولا تمر. ما عندنا ما يأكله ذو كبد.

    إخوتي الكرام! فكل ما يثار من اللغط حول أمهاتنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهو من خبث الملعونين، من خبث الفاسدين، والله لو لم تكن الواحدة منهن في أعلى رتب الصديقية وأعلى درجات الفضيلة لما صبرت على شظف العيش طرفة عين. إنهن يردن الله ورسوله والدار الآخرة.

    هذا الأمر ينبغي أن نعيه إخوتي الكرام! أن تكون الآخرة هي نصب أعيننا, وهي غايتنا، والدنيا ليست على بالنا، لا نفرح بها إن أقبلت، ولا نحزن عليها إن أدبرت، فإن جاءت فهي في أيدينا لا في قلوبنا، لا يرتفع قدرها عندنا عن هذا القدر، لا بد من هذا أن نعيه, وأن يكون فينا، وإلا فحالنا كما قلت: افتضحنا فاصطلحنا. هذا الأمر الأول: أن لا نبالي بالدنيا وزينتها وبهجتها.

    1.   

    إيثار الآخرة وتقديم أعمالها على أعمال الدنيا

    الأمر الثاني وهو يترتب على هذا: إذا أردنا الآخرة وما أردنا الدنيا؛ إذاً ينبغي أن نؤثر أعمال الآخرة على أعمال الدنيا، وأن نقدم أعمال الآخرة على أعمال الدنيا، وإذا لم يصدر هذا منا فنحن في نياتنا كاذبون دجالون مزورون، ونحن نريد الدنيا ولا نريد الآخرة. وكل من آثر أعمال الدنيا على أعمال الآخرة فنيته خبيثة فاسدة، يقول الله جل وعلا: فَأَمَّا مَنْ طَغَى [النازعات:37] طغى: جاوز حده، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:38-39]. وقال جل وعلا في أول سورة إبراهيم: وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [إبراهيم:2-3]. وأخبرنا الله جل وعلا أن الإنسان إذا آثر الدنيا ولم يرد في حياته إلا العاجلة أنه لا فائدة من نصحه ولا وعظه ولا إرشاده، ويجب الإعراض عنه، قال تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى [النجم:29-30]. ولذلك قال يوسف بن أسباط : إذا رأيت الرجل أشر وبطر فلا تعظه. لأنه لا تنفع الموعظة معه في هذا الحين؛ لأنه سكران في حب الدنيا.

    وهذا كما ثبت في المستدرك وصحيح ابن حبان وسنن الترمذي وسنن أبي داود وابن ماجه بسند صحيح عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه فقلت: كيف نفعل بهذه الآية؟ فقال أبو ثعلبة : أية آية؟ قلت: قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]. فقال أبو ثعلبة : لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر, حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنيا مؤثرة )، يؤثرها على أعمال الآخرة، ( وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك, ودع أمر العامة، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيهن كأجر خمسين منكم, قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! منا أو منهم؟ قال: بل منكم؛ لأنكم تجدون على الخير أعواناً، ولا يجدون عليه أعواناً ).

    فينبغي -إذاً- أن نؤثر أعمال الآخرة على أعمال الدنيا، كما أن أهل الدنيا آثروا أعمال الدنيا على أعمال الآخرة، ولذلك قال عيسى ابن مريم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: (يا معشر الحواريين! ارضوا برديء الدنيا كما رضي أهل الدنيا برديء الدين)، أي: ارضوا بالدنيا القليلة كما أن أولئك ما أخذوا بشيء من الدين وأعرضوا عنه, أو أخذوا بحظ قليل منه. ارضوا برديء الدنيا كما رضي أهل الدنيا برديء الدين، أي: بقليله وبشيء يسير منه. هذا الأمر ينبغي أن نعيه وأن يكون على بالنا، وأن نكون به نحو دنيانا وأخرانا.

    1.   

    المسارعة في القيام بأعمال الآخرة بعكس أعمال الدنيا

    الأمر الثالث الذي ينبغي أن نتصف به نحو أعمال الدنيا وأعمال الآخرة: أعمال الآخرة ينبغي أن نقوم إليها بسرعة وعجل، ونتعجل فيها، وأما أعمال الدنيا فنقوم إليها ببطء وتمهل، فهنا مسارعة وتعجل في عمل الآخرة، وهناك بطء وتمهل في عمل الدنيا. والله جل وعلا قرر هذا في كتابه فقال جل وعلا: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا [الملك:15]. مشياً رويداً يسيراً سهلاً برفق وتؤدة وتأن، وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]. وقال جل وعلا: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ [الجمعة:10], انتشاراً برفق وسهولة وطمأنينة, وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].

    وقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من التسرع والمسارعة إلى أعمال الدنيا، وأمرنا أن نضع بيننا وبينها حواجز؛ لئلا نقع في فتنتها وفي شركها وفي مصيدتها، ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون, فاتقوا الدنيا )، اجعل بينك وبينها وقاية, وتأن في أمرها وتمهل، فما ينفع خذه، وما يضر استرح منه. ( فاتقوا الدنيا واتقوا النساء, فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت النساء ).

    وأما أعمال الآخرة فالله جل وعلا أمرنا بالمسارعة إليها، فقال: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وقال: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]. وقد أثنى الله على عباده المقربين الطيبين من أنبياء وصالحين ذكروا في سورة الأنبياء؛ لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات، فقال جل وعلا: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].

    فلا بد إذاً من العجلة في أعمال الآخرة، ولا بد من التأني والبطء والتمهل في عمل الدنيا. وهذا الأمر يصرف الإنسان طبيعته إليه، فالله جل وعلا خلقنا وفينا العجلة، فيصرفه إلى أعمال الآخرة، والتأني والتريث إلى أعمال الدنيا، يقول الله جل وعلا: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ [الأنبياء:37]. ذكر المفسرون أربعة أقوال في تفسير هذه الآية، أولها وهو أرجحها: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ، أي: أن الإنسان لفرط استعجاله وشدة تسرعه جعل كأنه مخلوق من العجل، كما قال الله جل وعلا: وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11]. وهذا أسلوب عربي معروف، كقولك: خلق فلان من الكرم، وخلق فلان من الجمال إذا كان كريماً وجميلاً، خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ، جعل لفرط عجلته وشدة تسرعه كأنه مخلوق من ذلك. وهذا أرجح الأقوال. والثاني: قيل: العجل هنا من الطين، خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ أي: من طين. وورد هذا في لغة العرب كما قال الشاعر:

    والماء من بين الصخر منبعه والنخل ينبت بين الماء والعجل

    أي: بين الماء والطين.

    وقيل: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ لقول الله: كن فكان، فالله خلق آدم بذلك.

    والقول الرابع: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ أي: وجدت العجلة من الإنسان، والشيء إذا كان سبباً لشيء بدأ العرب بالسبب في كلامهم, ومنه قول الله جل وعلا: وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ [القصص:76]. والأصل: ما إن العصبة أولي القوة ليشقيهم ويتعبهم حمل المفاتيح، فلما كانت المفاتيح سبباً في تعب حامليها نسب الفعل إليها، فكأنها هي الذي تدور وتتعب، وهنا خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37] مجاز كما قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : والمعنى: خلق العجل من الإنسان.

    هذه أربعة معانٍ أرجحها أولها, ففينا العجلة والتسرع، قال تعالى: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37]، وقال: وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11]. فهذا العجل الذي وجد فينا نصرفه إلى أمر الآخرة وإلى أمر الطاعة، وقد أرشدنا إلى ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، ففي مستدرك الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( التؤدة ) أي: التأني والتمهل والتريث, ( التؤدة في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة ). فيستحب فيها التعجل والتسرع. والحديث رواه الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين وأقره عليه الذهبي، ورواه البيهقي أيضاً في شعب الإيمان بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لــعلي: ( يا علي ! ثلاثة لا تؤخر )، هذه ينبغي العجلة فيها، ويدخل في هذا الحكم ما هو في معناها من أمور الآخرة, ( الصلاة إذا آنت ), أي: إذا حضرت ودخلت وقتها. ( والجنازة إذا حضرت, والأيم إذا وجدت لها كفؤاً )، هذه الأمور الثلاثة لا ينبغي أن تؤخر: الصلاة لا تؤخر، فالعجلة فيها مشروعة؛ لأن ذلك من أعمال الآخرة، ولذلك أخبرتنا أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسارع إلى عمل الآخرة أعظم مسارعة، ففي مسند الإمام أحمد في الصحيحين عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسارع إلى شيء ما كان يسارع إلى الركعتين قبل الفجر ), أي: سنة الفجر كان يسارع إليها ويحرص عليها أكثر من حرصه على سائر الأمور والأشياء، وركعة الفجر كما ثبت في صحيح مسلم عن نبينا صلى الله عليه وسلم: ( خير من الدنيا والآخرة )، ركعتا السنة. وثبت أيضاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم أنه قال: ( هما أحب إليّ من الدنيا جميعاً )، ولذلك كان يسارع إليهما. وفي معنى ذلك كل طاعة ينبغي للإنسان أن يسارع إليها. هذا الأمر الثالث.

    1.   

    المسابقة إلى أعمال الآخرة من الطاعات والعبادات

    الأمر الرابع: بعد أن أردنا الدار الآخرة، وبعد أن آثرنا الدار الآخرة على الدنيا، وبعد أن سارعنا إلى الدار الآخرة، ينبغي أن نتسابق في مسارعتنا فيما بيننا، نتسابق في عمل الطاعات، إذا رأيت هذا عمل كذا من الطاعات فسأحاول أن أزيد عليه، نتسابق، وأما في أمور الدنيا فلا ينظر بعضنا إلى بعض، ونقنع بما قدر لنا، وأما هنا فإذا لم تسابق غيرك في عمل الآخرة دل هذا على زهدك في الدار الآخرة، وعلى عدم حرصك على ذلك، فينبغي أن تسابق غيرك، فكلنا نسرع ونتعجل في أمر الآخرة ونحرص عليها، ويكون فيما بيننا مسابقة ومنافسة، وهذا الأمر أشار إليه ربنا جل وعلا في آيات كثيرة, فقال: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] استبقوا مسابقة، وقال جل وعلا في سورة المطففين: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:18-26]، فليتسابق المتسابقون إلى هذا. وهذا مما ينبغي أن يحرص عليه المؤمن نحو عمل الآخرة

    ولذلك ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو يعلم الناس ما في النداء ), أي: الأذان من الأجر والفضيلة والمنزلة عند الله. ( لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ). لو يعلمون ما في هذين الأمرين من الفضيلة لتسارعوا .. لتعجلوا إلى الأذان وإلى الصف الأول، فإذا وصلوا كلهم دفعة واحدة واختلفوا من الذي سيؤذن، ومن الذي سيكون في الصف الأول؟ لا مرجح إلا بالقرعة والاستهام. لو يعلمون ما في هذين من الفضل لجاء الناس في موعد الصلاة دفعة واحدة، ثم بعد ذلك يستهمون، ويتقدم من تخرج قرعتهم في الصف الأول, ثم ما يليه. ( ولو يعلمون ما في التهجير ), أي: التبكير إلى المسجد لانتظار الصلاة ( لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والفجر لأتوهما ولو حبواً ). هذا عمل الآخرة ينبغي أن يكون على هذه الشاكلة.

    وفي رواية للإمام أحمد : ( لو يعلمون ما في التأذين لتضاربوا عليه بالسيوف ). سبحان ربي العظيم! لو يعلمون ما في الأذان لحصل بينهم مسابقة ثم منافسة صورت بهذا الأسلوب، لتضاربوا عليه بالسيوف.

    وثبت في صحيح البخاري معلقاً بصيغة التمريض فقال: ويذكر أن سعد بن أبي وقاص أقرع بين قوم اختلفوا في النداء, وكان هذا في موقعة القادسية, أصيب المؤذن واستشهد, فاختلف الجيش من الذي سيؤذن؟ فأقرع بينهم سعد رضي الله عنهم.

    هذا عمل الآخرة، كلما سابقت غيرك إليه دل على تعظيمك لربك أكثر وأكثر، ولذلك قرر علماؤنا: أن الإيثار بالقرب لا ينبغي، أي: بالطاعات، فإذا كنت مع إنسان وأنت سبقته لدخول المسجد فلا تتأخر لتقدمه، تريد أن تدخل إلى فضيلة، فالإيثار بالطاعات غير مشروع؛ لأن هذا يدل على زهدك بهذه الطاعة، التي هي تعظيم لله، فعظم ربك قبل غيرك، واحرص على الأجر أكثر مما يحرص عليه الناس.

    هذا الأمر ينبغي أيضاً أن نعيه, وأن يكون في اعتبارنا، أن يسابق بعضنا بعضاً مع عجلتنا وسرعتنا إلى طاعة ربنا جل وعلا، ولذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يوضح لنا هذا الأمر ويحثنا عليه، أعني: على المسابقة في الطاعات في أحاديث كثيرة، ففي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر والحديث رواه البخاري بمفرده عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا حسد إلا في اثنتين ). والحسد هنا معناه: الغبطة، أي: أن تتمنى حصول ما عند من تحسده دون أن تزول تلك النعمة عنه. ( لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن ), وفي رواية: ( الحكمة, فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في الحق آناء الليل وأطراف النهار ). لا ينبغي أن تسابق غيرك ولا أن تتمنى مثل ما حصل له إلا في هذا، وما في معناه من أمر الآخرة.

    حرص الصحابة رضي الله عنهم على المسابقة إلى الطاعات والقربات

    وقد كان الصحابة يحرصون على هذا أتم حرص, روى ابن إسحاق في كتاب المغازي والسير في موقعة أحد حدثاً عظيماً، حاصل هذا الحدث: أن صحابين صالحين مباركين: الأول رافع بن خديج والثاني سمرة بن جندب ، وكان عمر كل منهما خمس عشرة سنة، فردهما النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد لصغرهما، فقال رافع بن خديج : ( يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إني رامٍ, أرمي ما لا يرميه الرجال الكبار الذين معك، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم وقبله ). سبحان ربي العظيم! سبحان ربي العظيم! يحرص على قتال الكفار وجيش الإسلام سبعمائة، وعدد المشركين في موقعة أحد ثلاثة آلاف، وهو صغير عمره خمس عشرة سنة، يريد أن يسابق الصحابة الكرام, ويقول: إني رام، وإن كانوا أكبر مني سناً فأنا أطيق القتال والجهاد في سبيل الله. فقال سمرة بن جندب : ( يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إذا كان رافع رامياً فلو صارعته لصرعته )، أنا أفضل منه في المصارعة، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم. هذه هي المسابقة إلى الطاعات وإلى الخيرات والقربات، كل واحد يريد أن يسابق بخصلة خير معه، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم كلاً من الصبيين, وعمر كل منهما خمس عشرة سنة. هذه هي المسابقة إلى الطاعات.

    إخوتي الكرام! كنت ذكرت في محاضرة ماضية قريبة في فضل أبي بكر رضي الله عنه شيئاً عظيماً، أحب أن أعيده في هذا الوقت، وأن أنبه على شيء قد يفهم فهماً خاطئاً، وأن نعطر هذا المجلس بمثل هذه الأخبار عن هذا الصحابي الطيب, الذي هو أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. أبو بكر تقدم معنا الإشارة في المحاضرة الماضية إلى بعض أخباره، وأنه ما سبق هذه الأمة بكثرة صلاة ولا صيام, إنما سبقهم بشيء وقر في قلبه، هذا الأمر كنت أريد أن أنبه عليه في المحاضرة عندما ذكرت هذا الأثر، وقلت: ليس هذا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، إنما هو من كلام أبي بكر بن عياش ، أو من كلام بكر بن إسحاق المزني ، وبينت هذا سابقاً وخرجت الأثر، إنما قد يفهم الأثر فهماً خاطئاً، قد يظن أن أبا بكر رضي الله عنه ما كان يسبق غيره إلى فعل الطاعات، إنما فقط عنده إيمان عظيم فقط، وهذا خطأ، إنما هو أيضاً سبق الأمة بأعماله الظاهرة، في الأعمال الظاهرة لا يسبقه أحد، عمر فمن دونه, من تهجد وقيام ومجاهدة وجهاد، إنما ما كانت فضيلته بهذا فقط، بل كانت فضيلته بشيء وقر في قلبه من تعظيم الله جل وعلا، وعدم المبالاة بالدنيا، فليس المقصود أنه كان قليل العمل لكن في قلبه إيمان عظيم، كما سأوضح ذلك بالأمثلة، وكنت ذكرت في فضله رضي الله عنه قول عمر , وهو ثابت بسند صحيح موقوفاً عليه, وله شواهد في المرفوع كثيرة تقدم الكلام عليها: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح إيمان أبي بكر.

    أريد أن أذكر الآن بعض نماذج من الأعمال الظاهرة التي كان أبو بكر رضي الله عنه يسبق بها من يريد المسابقة، أعطر بها المجلس, وأزيل ما يعلق من إيهام حول الأثر المتقدم، ثبت في مسند الإمام أحمد ومسند أبي يعلى بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمر عند أبي بكر الليلة في أمر المسلمين )، أي: يكثر السمر والسهر مع أبي بكر وفي بيته، يتحدثان في مصالح المسلمين، ( فكنت ليلة عند أبي بكر وسمرت معه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرج النبي عليه الصلاة والسلام خرجنا معه، فمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسجد، وإذا بــعبد الله بن مسعود يقرأ القرآن, فوقف النبي صلى الله عليه وسلم ينصت لقراءته، ثم قال: من أحب أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل فليقرأه بقراءة ابن أم عبد )، أي: بقراءة ابن مسعود . ( ثم لما أراد ابن مسعود أن يدعو قال النبي عليه الصلاة والسلام: سل تعط، سل تعط ). وابن مسعود لم يدر بحال النبي عليه الصلاة والسلام، ولا بحال أبي بكر وعمر , ثم انصرف كل إلى جهته وبيته. يقول عمر: ( فأدلجت -أسرعت- إلى عبد الله بن مسعود لأبشره, فطرقت عليه -أي: بعد أن ذهب كل واحد إلى بيته- فقال: ما الذي جاء بك الساعة؟ فقلت: جئت لأبشرك بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لقد سبقك أبو بكر. فقلت: فإن يفعل فإنه سباق إلى الخيرات، والله ما استبقنا خيراً قط إلا سبقنا إليه ). سباق إلى الخيرات، ما استبقنا خيراً قط إلا سبقنا إليه. ورواه الدارمي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ومن الذي سينافس أبا بكر وعمر الذي يليه في الفضيلة؟ ولكن شتان شتان ما بين الرجلين، رضي الله عنهم أجمعين. وأعظم ما نعده ونتقرب به لرب العالمين بعد إيماننا بالله حب الصحابة، حب الصحابة أعظم حسنة نتقرب بها إلى الله بعد الإيمان.

    يقول عمر : ( حظ النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة، وصادف ذلك وجود مال عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً ). إذا كان يوم من الأيام أسبقه فسأسبقه اليوم؛ لأن عندي أموال، وجاءني خير كثير، يقول: ( فقسمت مالي نصفين وأخذت نصفه وذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر وجاء عمر , وكل واحد جاء بصدقة على حسب مسابقته، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما في وجه عمر , فقال: ما الذي أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، النصف, فالتفت إلى أبي بكر فقال: ما الذي أبقيته لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله ). ما ترك في بيته شيئاً. ( فقال عمر: والله لا أسبقك إلى شيء أبداً ). حرصت الآن غاية الحرص وجئت بنصف المال, وأنت هكذا جئت بدون قصد, فغلبتنا, والله لا أسبقك إلى شيء أبداً.

    وثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أصبح منكم اليوم صائماً؟ فقال أبو بكر: أنا. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من تبع منكم اليوم جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من أطعم منكم اليوم مسكيناً؟ فقال أبو بكر: أنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: أنا. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما اجتمعن في رجل إلا أدخله الله الجنة ). هذا هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه. مسابقة ومنافسة.

    التحذير من المسابقة والمنافسة في أمر الدنيا

    ولا بد من المنافسة والمسابقة في أمر الآخرة، وأما أمر الدنيا فلا داعي للمنافسة ولا للمسابقة، ولا للمنافسة فيها, هذا لأنها لا وجه لها ولا اعتبار، ولذلك أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الناس ينتفعون بإيمانهم وبكلمة توحيدهم ما لم يتنافسوا في دنياهم ويؤثروا العرض الفاني على الباقي، ففي مسند البزار بسند حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال لا إله إلا الله أمنع من سخط الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم ), أي: على دينهم وعلى آخرتهم, ( فإذا آثروا صفقة دنياهم وقالوا: لا إله إلا الله قال الله: كذبتم ). آثرتم الآن الفاني الذي لا يعدل جناح بعوضة على الباقي في جوار الحي القيوم.

    وثبت في الصحيحين وغيرهما عن عمرو بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين ليأتي بالجزية، فلما جاء وافى الأنصار صلاة الفجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته تعرضوا له، وبدءوا يكلمونه ليوزع عليهم هذا الخير، وهذه المغانم التي جاءت، فقال: ( أظن أنه بلغكم أن أبا عبيدة قدم من البحرين؟ قالوا: نعم. قال: أبشروا وأملوا ما يسركم، والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها -أي: تتسابقون عليها- فتهلككم كما أهلكتهم ). هذا الذي أخشاه عليكم، أن تبسط الدنيا ويقع بعد ذلك فيما بينكم المسابقة والمنافسة على تحصيل عرضها كما هو الحاصل فينا في هذا الوقت، ( فتهلككم كما أهلكتهم ).

    وثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه ما يشير إلى ما ينبغي أن يسلكه المسلم, وكيف كان حال نبينا صلى الله عليه وسلم نحو عرض الدنيا، حيث قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً ), وفي رواية: ( كفافاً ) بمقدار قوت، بمقدار ما يكف عن السؤال ويكفي حاجة النفس، هذا الذي كان يسأله النبي صلى الله عليه وسلم له ولآله. وقد أخبرنا أن من حصل له هذا وقنع بالكفاف، فهو مصلح فائز رابح، ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه ).

    وكان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على هذا، وإذا حصل لهم الكفاف ولو لم ينافسوا حمدوا الله جل وعلا، ثبت في صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما: أن سعد بن أبي وقاص عندما وقعت الفتنة عند مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه كان في إبله وفي غنمه، فجاءه ولده عمر , فقال: يا والدي! يا أبتي! أنت هنا والناس يقتسمون ويتنازعون على الملك في المدينة، اذهب وشارك لتحصل شيئاً من المناصب وشيئاً من المراتب، فضرب سعد بن أبي وقاص بصدر ولده وقال: اسكت، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي ). قال شراح الحديث: الغني: غني النفس. فكل من لم يكن غني النفس فهو حقير كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: ( ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ). والذي يسهل عليك القناعة بأمر الدنيا مع المنافسة في أمر الآخرة أن تعلم أن الله ما صرف عنك أمر الدنيا بخلاً, فخزائنه ملأى، إنما صرفه عنك لطفاً بك، فاحمد الله على أن صرفه عنك، فلا داعي بعد ذلك للمنافسة والمسابقة في عرض حقير, لا يزن عند الله جناح بعوضة.

    هي القناعة فارض بها تعش ملكاً لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن

    وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها سوى بالقطن والكفن

    1.   

    الفرح بأعمال الآخرة على عكس أعمال الدنيا

    الأمر الخامس وهو آخر الأمور الذي ينبغي أن نفعله نحو أعمال الدنيا وأعمال الآخرة: أن نفرح بأعمال الآخرة، فإذا وفقنا للقيام بها نفرح ونبتهج ونسر ونطير فرحاً، والدنيا على العكس من ذلك إن جاءتنا نفرح، وإن ذهبت عنا لا نحزن، وإن جاءت لا تكون إلا في أيدينا لا في قلوبنا، وأما الآخرة فإن حصلناها نفرح بها، وإن حجبنا عنها تضيق علينا الأرض بما رحبت، لا بد من هذا الوصف أيضاً في المكلف؛ ليكون من السعداء الفائزين، والله سبحانه وتعالى يقول: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].

    ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي بن كعب : ( يا أبا المنذر ! إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة (لم يكن الذين كفروا) - سورة البينة- فقال أبي : آلله سماني لك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله سماك لي، فقال أبي : أذكرت عند رب العالمين؟ ثم بدأ يبكي ). وفي رواية المسند: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي : (يا أبا المنذر ! أفرحت؟ قال: وما يمنعني، وقد قال الله: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] ). سبحان ربي العظيم! إنسان يذكره رب العالمين لنبيه الأمين أن يقرأ عليه هذه السورة ألا يفرح؟ والله إن هذا الفخر يتضاءل بجانبه كل فخر، هذا هو الفخر الحقيقي، الفخر الحقيقي أن يذكره رب العالمين أمام نبيه الكريم ليقرأ عليه هذه السورة، وأبي بن كعب هو أقرأ هذه الأمة على الإطلاق بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في المسند وسنن الترمذي بسند حسن صحيح: ( وأقرؤكم أبي ).

    إخوتي الكرام! وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم عليه هذه السورة وأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ على أبي هذه السورة تشريفاً لـأبي وملاطفة له وتأنيساً، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره وذكر أيضاً شراح الحديث عند شرح هذا الحديث أن أبي بن كعب رضي الله عنه كما في صحيح مسلم : ( كان في المسجد، فدخل رجل فقرأ القرآن على حروف لم يقرأها أبي ، لم يسمعها من النبي عليه الصلاة والسلام، ثم دخل رجل فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه ). فاختلفت قراءة أبي مع قراءة هذين الرجلين، فقال لهما أبي : ( من أقرأكما؟ فقالا: النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فذهبنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فعرضنا عليه قراءتنا, فحسن قراءة كل منا، وكان يقول: هكذا أنزل ). وحديث نزول القرآن على سبعة أحرف متواتر باتفاق المحدثين، يقول أبي : ( فسقط في نفسي من التكذيب ولا إن كنت في الجاهلية )، دخل في نفسي خاطر شيطاني, كيف يختلف القرآن وهو كلام الرحمن؟ كيف يقرأ هذا (فتثبتوا)، وهذا يقرأ ( فتبينوا)؟ والقراءة مع القراءة كالآية مع الآية، وبهذا يزيد إعجاز لكلام الله سبحانه وتعالى، (ولا يأتل أولوا الفضل)، (ولا يتألى أولوا الفضل)، (إن المتقين في مقام أمين), ( في مُقام أمين). كل قراءة تعتبر آية مستقلة, ما الحرج في هذا؟ يقول: ( فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلي وعرف ما دار في قلبي من خاطر رديء ظهر على وجه أبي رضي الله عنه ). وهذا الخاطر كما قلت من وساوس الشيطان، والحمد لله الذي عفا عنا الخاطر والهاجس والهم في السيئات فلا تكتب علينا.

    مراتب القصد خمس هاجس ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمعا

    يليه هم فعزم كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

    رفع الله عنا في جميع السيئات الهاجس والخاطر وحديث النفس والهم، وأما العزم, وهو التصميم على الفعل بحيث لو لم يحل بينك وبين عزمك مانع خارجي لفعلته، فهذا أنت مؤاخذ به أما ما دون ذلك فلا يكتب في السيئات، وأما في الحسنات فالهاجس والخاطر لا يكتبان، وحديث النفس والهم والعزم يكتب، ثلاثة أمور تكتب في الحسنات, وأمر واحد يكتب في السيئات.

    قال: ( فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدري، ففضت عرقاً كأني أنظر إلى الله فرقاً، فقال: يا أبي ! إن الله أرسل إليّ أن أقرئ أمتك القرآن على حرف، فقلت: اللهم هون على أمتي، فقال: أقرئ أمتك على حرفين، فقلت: اللهم هون على أمتي، فقال: أقرئ أمتك على سبعة أحرف كلها كاف شاف، ولك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها ), اسأل ما شئت. ( فقلت: اللهم أمتي .. اللهم أمتي, وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق كلهم حتى إبراهيم ). على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه. هذا هو السبب لما جرى من أبي رضي الله عنه، فالله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ على أبي سورة البينة تأييداً له وتثبيتاً وملاطفة.

    إخوتي الكرام! عند قول أبي وهو في صحيح مسلم : ( كأني أنظر إلى الله فرقاً ), يقول الأخ المعترض في رسالة أرسلها باسم امرأة أيضاً, ونسأل الله أن يصلح شأننا وشأنه، يقول: إنك ذكرت في بعض المحاضرات أن النبي صلى الله عليه وسلم بين لنا صفات ربنا كأنه ينظر إليه، يقول: وهذا تشبيه وتمثيل يتنافى مع طريقة أهل السنة والجماعة؟ من هم أهل السنة والجماعة أنت أيها المنكر؟! أهل السنة والجماعة أنت؟ هذا حديث في صحيح مسلم يقول أبي : ( كأني أنظر إلى الله ). هل أبي من الفرق المبتدعة؟ وأنت الذي جئت في آخر الزمان من أهل السنة والجماعة؟ إي والله بين لنا نبينا صلى الله عليه وسلم صفات ربنا حتى كأننا ننظر إليه، (كـأننا) هل في ذلك حرج؟ وسأوضح هذه الأمور في محاضرة إن شاء الله من باب بيان الفائدة بعون الله وحوله. وهذا الحديث في صحيح مسلم، وعندي من كلام السلف الثابت من هذا شيء كثير.

    إخوتي الكرام! من باب الفائدة: أبي بن كعب من الخزرج من بني النجار، وهو من الأنصار، وهو عربي قح، أنا لا أقول هذا من باب الافتخار بالعربية أو بالعجم, فإن أكرمكم عند الله أتقاكم، إنما أريد أن أنبه إلى أمر وهم فيه الذهبي المتأخر صاحب كتاب التفسير والمفسرون، يقول: ولعل الذي ساعد أبياً على الاطلاع على تفسير كلام الله أنه كان حبراً من أحبار اليهود. سبحان ربي العظيم! الذهبي نسبك إلى اليهود يا عبد الله! ولعل الأمر اشتبه عليه بـكعب الأحبار ، فظن هذا الرجل أن أبي بن كعب هو ابن كعب الأحبار، وهذا كما يقال: الرجل أكبر من أبيه، أو أكبر من جده، كعب تابعي وأبي صحابي، فهذا اشتباه في منتهى النكارة لزم التنبيه عليه، أبي بن كعب ليس هو ابن كعب الأحبار , إنما اتفق والد أبي مع كعب الأحبار في الاسم، ولا علاقة له باليهود، ولم يكن حبراً من أحبارهم.

    إخوتي الكرام! لا بد من الفرح بأعمال الآخرة، وقد فرح أبي عندما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليه سورة (لم يكن).

    وثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المرء مع من أحب ). والحديث متواتر، وقد ألف أبو نعيم حوله كتاباً سماه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: ( الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم, فقال له: المرء مع من أحب. يقول أنس - هذا محل الشاهد- فما فرحنا بشيء بعد الإسلام فرحنا بقول النبي عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب. فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم لحبي إياهم ). فرح فرحاً عظيماً بهذا.

    وهكذا كان حال سلفنا رضوان الله تعالى عليهم إذا رأوا أمراً من أمور الآخرة فرحوا به، ففي سنن النسائي في كتاب النكاح باب: التزويج على الإسلام، وفيه: (أن أم سليم خطبها أبو طلحة ، فقالت: يا أبا طلحة ! مثلك لا يرد، رجل شريف وصاحب مروءة، ولكنك كافر، فإذا أسلمت فذلك مهري, لا أريد مهراً غيره, فأسلم أبو طلحة وتزوج أم سليم ، يقول ثابت الراوي عن أنس رضي الله عنهم أجمعين: فما سمعنا بامرأة قط كانت أكرم مهراً من أم سليم ). هكذا كانوا يعظمون شعائر الله جل وعلا ويفرحون بها. ‏

    1.   

    التحذير من الفرح بالدنيا

    عباد الله! كما قلت وأما الدنيا فما ينبغي الفرح بها، ولذلك أخبرنا الله جل وعلا في صورة القصص عن العاصي قارون عندما خرج على قومه في زينته: قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ [القصص:79-80] . في أول الآيات يقول الله: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:76-77]. وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [القصص:77], قال ابن عباس رضي الله عنهما وجمهور المفسرين: أي: لا تنس نصيبك من الدنيا في فعل الطاعات، والتزود للمعاد، فهو تشديد بعد تشديد.

    وقال بعض المفسرين وهو قول معتبر: ولا تنس نصيبك من الدنيا في التمتع بما أحل الله لك. وعلى هذا ففي هذا شيء من الملاطفة له، وكل من التفسيرين معتبر.

    وقال الله جل وعلا: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ [الرعد:26]. وقال الله جل وعلا: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:22-23].

    هذه الأمور الخمسة ينبغي أن نتصف بها نحو عمل الدنيا وعمل الآخرة.

    1.   

    أقسام الناس تجاه الدنيا وتحصيلها واكتسابها

    الفصل في الكلام في هذا الأمر إخوتي الكرام! أن الناس في هذه الحياة الدنيا ينقسمون إلى ثلاثة أقسام ليس لها رابع، مؤمن ومنافق وكافر، وكل واحد له صفة نحو الدنيا، فلينظر كل واحد منا في هذه الصفة؛ ليرى من أي الأقسام هو، أما المؤمن فيتزود، وأما المنافق فيتزين، وأما الكافر فيتمتع، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]. والمنافق همه دائماً التزين في ثيابه ومركبه وأثاث بيته وقلبه خراب.

    ما بال دينك ترضى أن تدنسه وثوبك الدهر مغسول من الدنس

    ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

    وأما المؤمن فيتزود، فمن جعل الدنيا مجالاً لمتعه فهو كافر بالله، ومن جعلها مجالاً للزينة وقصر نظره على هذا فهو منافق، ومن جعلها مجالاً للتزود بالعمل الصالح, واكتساب المال من حله وإنفاقه في حقه وعدم الانشغال به عن الله فهذا مؤمن.

    والناس في تحصيل الدنيا أيضاً لا يخرجون عن ثلاثة أقسام، قسم يحصل الدنيا بالدنيا فهذا في جهنم، وقسم يحصل الدنيا بالدين، وهذا في الدرك الأسفل من النار، ثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح أقره عليه الذهبي عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بشر هذه الأمة بالثناء والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض، ومن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا ليس له في الآخرة نصيب ).

    والصنف الثالث: يتزود من الدنيا للآخرة. فمن الناس من يكسب الدنيا بالدنيا، ومنهم من يكسب الدنيا بالدين، ومنهم من يكسب الدين بالدنيا، فيجعل دنياه مطية لآخرته، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207].

    والانهماك في اللذات والاسترسال في الشهوات المباحات فضلاً عن المحرمات هذا ليس من خصال الأبرار ولا من خصال المؤمنين ولا من خصال المتقين. ثبت في مسند الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له عندما أرسله إلى اليمن: ( إياك والتنعم! فإن عباد الله ليسوا بالمتنعمين ). وثبت في صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب كتب إلى أميره وعامله على بلاد أذربيجان وكان قائداً لسرية في ذلك الوقت، وهو عتبة بن فرقد ، فقال له: إنه ليس من كدك ولا كد أبيك ولا كد أمك، فأطعم الناس في رحالهم مما تطعمه في رحلك، وإياكم والتنعم وزي أهل الشرك.

    وثبت في سنن أبي داود وابن ماجه بسند حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: ذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الدنيا يوماً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( ألا تسمعون؟ ألا تسمعون؟ مرتين، إن البذاذة من الإيمان، إن البذاذة من الإيمان ). والبذاذة: هي رثة الهيئة وعدم الاعتناء بالملبس، وأن يكون اللباس خادماً لك، لا أن تكون خادماً له. فالتزين مع قصر النظر على ذلك هذا ليس من خصال المؤمنين، ولا مانع أن يفعل الإنسان هذا بشرط ألا يكون هذا هو قصده وهمته تتعلق به، ثم بعد ذلك في بعض الأحيان يلبس ثياباً فيها شيء من البذاذة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( البذاذة من الإيمان، البذاذة من الإيمان ).

    1.   

    حرص السلف الصالح على الزهد في الدنيا والبعد عنها

    وكان السلف رضي الله عنهم يحرصون على المسلك المتقدم غاية الحرص، وعلى رأسهم نبيهم صلى الله عليه وسلم! ففي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان والمستدرك بسند صحيح عن عمرو بن العاص : أنه خطب التابعين يوماً فقال لهم: ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، كان نبيكم صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، وأرغبهم في الآخرة. وثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح على شرط الشيخين وأقره الذهبي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال للتابعين: أنتم أكثر صلاة وصياماً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا خيراً منكم، قالوا: وكيف ذاك؟ قال: بزهدهم في الدنيا ورغبتهم في الآخرة. يزهدون في الدنيا ولا يعظمونها, ويرغبون في الآخرة، وأما أنتم فعندكم حرص على الدنيا، وعندكم بعد ذلك بالمقابل تهاون في أمر الآخرة.

    ولذلك ورد في الحلية وغيره عن إبراهيم التيمي ، وهو من أئمة السلف الصالحين، وكان يقول: إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه، كان يقول: كم بينكم وبين من قبلكم, أقبلت عليهم الدنيا فهربوا منها، وأدبرت عنكم فتبعتموها، مع سابقتهم وتفريطكم, فكيف بين أمركم وأمرهم؟ كيف يكون الحال؟

    وورد في سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان وغير ذلك عن أنس رضي الله عنه: أن سلمان الفارسي اشتكى، فعاده سعد بن أبي وقاص وعاده عدد من الصحابة، فلما عادوه وأرادوا زيارته في حال مرضه رضي الله عنه ودخلوا بيته بكى سلمان الفارسي ، فقال له سعد : ما الذي يبكيك؟ صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت وكنت، وبدأ يذكر محاسنه وفضائله، فقال سلمان : والله ما أبكي رغبة في الدنيا، وضناً عليها، ولا أبكي أيضاً زهداً في الآخرة، إنما قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليكن بلغة أحدكم في هذه الدنيا كزاد الراكب )، والراكب يتزود ما يكفيه في سفره ولا يزيد, ونحن تزودنا في هذه الدنيا أكثر مما نحتاج، فهذا الذي أبكاني رضي الله عنه وأرضاه. ولم يكن من المترفين ولا من الذين يجمعون الفلوس، ولما توفي رضي الله عنه لم يخلف إلا عشرين درهماً وأمتعة قومت جميعها فما وصلت إلى عشرين درهماً أخرى. فغاية ما تركه يقارب أربعين درهماً، ومع ذلك كان شديد الخوف لأنه لم يأخذ بوصية النبي صلى الله عليه وسلم: ( ليكن بغلة أحدكم في هذه الحياة الدنيا كزاد الراكب ).

    إخوتي الكرام! ولذلك كان سلفنا يحذرون غاية الحذر من انفتاح الدنيا عليهم لما يترتب عليها من بلاء وقعنا فيه في هذه الأيام، روى الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى بسند حسن عن أبي سنان الدؤلي قال: دخلنا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن فتح الله عليه القادسية، وجاءت المغانم إلى المدينة المنورة، ومعه مشايخ المهاجرين فجيء بسفط من خشب، فلما فتحت خرج فيها خاتم، فأخذه ولد لــعمر فتبعه عمر وأخذه منه، ثم جلس عمر رضي الله عنه يبكي، فقالوا: ما الذي يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فتح الله عليك، وأظهرك وأقر عينيك، فقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تفتح على قوم الدنيا إلا ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ). فهذا الذي أبكاني.

    وقد فتحت علينا، وهذه حالتنا عندما فتحت علينا الدنيا، فالصلاة التي نصليها جوفاء لو قدمت إلى زبال لا يقبلها، فكيف نتقرب بها إلى رب الأرض والسماء؟ والإنسان في صلاته في كل واد من أودية الدنيا يهيم، ثبت في معجم البزار بسند جيد عن ابن مسعود والأثر رواه الطبراني في معجمه الكبير والأوسط عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهم أجمعين: أن ابن مسعود رضي الله عنه عندما كان على الكوفة ويعطي الناس عطاءهم أعطى رجلاً ألف درهم عطاءه، ثم قال له: خذها، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إنما أهلك من كان قبلكم الدرهم والدينار )، وهما مهلكات.

    أسأل الله جل وعلا برحمته التي وسعت كل شيء أن ينزع حب الدنيا من قلوبنا، وأن يجعلنا ممن لا يفرحون بها إذا أقبلت، ولا يحزنون عليها إذا أدبرت، وأن يجعلها في حال وجودها عندنا في أيدينا لا في قلوبنا، وأن يجعلها مطية لنا إلى ربنا، وأن يجعلنا ممن يتسابقون الخيرات. إنه على كل شيء قدير.

    اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767958093