أيها الإخوة الكرام!
لدينا في هذه الحلقة أربعة أحاديث، وإن كان المحقق في النسخة التي علق عليها الشيخ محمد حامد الفقي اعتبرها ثلاثة أحاديث. أولها: حديث جابر ثم حديث أبي هريرة ثم حديث سعيد بن زيد وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين.
قال المصنف رحمه الله: (وعنه رضي الله عنه -الضمير في قوله: (وعنه) يرجع إلى جابر راوي الحديث السابق- قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه )، أخرجه الدارقطني بإسناد ضعيف.
وكلام أئمة الجرح والتعديل في القاسم هذا أغلظ وأشد مما قاله الدارقطني، فقد قال فيه الإمام أحمد : ليس بشيء.
وقال أبو حاتم : متروك الحديث.
وقال أبو زرعة : أحاديثه منكرة.
وقال الدارقطني: ليس بالقوي .
وبناءً على قول الأئمة السابقين أحمد وأبي زرعة وأبي حاتم يكون هذا الحديث ضعيفاً جداً، وليس ضعيفاً فقط كما قال المصنف رحمه الله ؛ لأن حديثاً فيه رجل متروك الحديث، أو أحاديثه باطلة، أو منكرة أو ليس بشيء، أحاديثه ضعيفة جداً وليست ضعيفة فحسب.
ولكن هذا المعنى الذي دل عليه الحديث صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من طرق أخرى، من أقواها وأصحها: ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم غسل يده اليسرى حتى أشرع في العضد، ثم قال
ومثله في الدلالة أيضاً حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل يديه حتى مس أطراف العضدين )، والحديث رواه الدارقطني وغيره، وفيه محمد بن إسحاق صاحب السيرة، وهو صدوق مدلس، وقد عنعن في هذا الحديث.
وبناءً على ذلك يكون حديث عثمان بمفرده ضعيفاً؛ لأن فيه عنعنة ابن إسحاق، ولذلك من الممكن أن يعترض معترض فيقول: ما دمنا لم نحتج بحديث جابر لأنه ضعيف، فما بالنا نحتج بحديث عثمان مع أنه ضعيف أيضاً، فكيف ننفك عن هذا الإشكال؟
نقول: إن الضعيف إذا تعددت طرقه يكون حسناً لغيره .
فما بال حديث جابر لم يكن حسناً لغيره مع تعدد طرقه؟
لشدة ضعفه، حديث جابر لا ينجبر؛ لأنه شديد الضعف كما يظهر من أقوال العلماء في القاسم بن محمد، أما ضعف عثمان فضعفه قريب وقابل للانجبار.
وكذلك مثل هذين الحديثين في الدلالة على دخول المرفق في الذراع: حديث وائل بن حجر عند البزار والطبراني وغيرهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل الذراعين حتى جاوز المرفقين )، وحديث وائل هذا ضعيف؛ لأن فيه عدداً من الرواة المجهولين، فالمسألة التي أورد المصنف من أجلها حديث جابر، وهي مسألة دخول المرفق فيما يجب غسله من الذراع، مسألة ثابتة من حديث عثمان، ومن حديث أبي هريرة، ومن حديث وائل وغيرهم. وهذا القول بدخول المرفق فيما يجب غسله هو قول جماهير العلماء، الأئمة الأربعة وعطاء وإسحاق وغيرهم. ولم يخالف في ذلك إلا زفر وأبو بكر بن داود الظاهري، ولعل المسألة سبقت في غير هذا الموضع.
المهم: أن حديث جابر شديد الضعف كما رأيتم، ويغني عنه حديث أبي هريرة ثم حديث عثمان ووائل، ولذلك قال الصنعاني في سبل السلام وهو يتكلم عن حديث جابر هذا، قال: إن المصنف قال: ويغني عنه حديث عثمان، ويا ليته! ساقه عوضاً عنه، يعني: لو أن المصنف ساق حديث عثمان الذي في مسلم عوضاً عن هذا الحديث لكان أولى، والله أعلم.
نعم، لو أن المصنف ساق حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم عوضاً عن حديث جابر لكان أولى، هذا ما يتعلق بحديث جابر رضي الله عنه .
هذا الحديث أيضاً الذي ساقه المصنف هو جزء من حديث أبي هريرة، والحديث كاملاً لفظه: ( لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ).
وقد رواه من ذكرهم المصنف، ورواه أيضاً الحاكم والبيهقي والبزار وابن السكن والدارقطني وغيرهم. قال المصنف: إن إسناد هذا الحديث ضعيف، وسر ضعف إسناد هذا الحديث هو أنه من طريق يعقوب بن سلمة الليثي عن أبيه عن أبي هريرة، الحديث رواه هؤلاء الأئمة الذين ذكرهم المصنف وهم: أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم أيضاً، رووه من طريق يعقوب بن سلمة عن أبيه عن أبي هريرة ولذلك فإن فيه علتين:
الأولى: يعقوب بن سلمة هذا فإنه ضعيف. قال فيه الذهبي : شيخ ليس بذاك، أو قال: شيخ ليس بعمدة، واعتبره ابن حجر في التقريب مجهولاً. فحديثه ضعيف. هذا يعقوب بن سلمة .
ثم إن البخاري رحمه الله في كتاب: التاريخ الكبير -وهو كما تعرفون كتاب في تراجم رجال الحديث- البخاري رحمه الله ذكر يعقوب هذا وقال: لا يعرف له سماع من أبيه ولا يعرف لأبيه سماع من أبي هريرة .
إذاً: فالحديث ضعيف من وجوه:
أولها: أن يعقوب مجهول وليس بعمدة.
الثاني: احتمال الانقطاع بين يعقوب وبين أبيه، وأبوه من هو؟
الوجه الثالث: احتمال الانقطاع بين أبيه الذي هو سلمة الليثي وبين أبي هريرة رضي الله عنه.
أما الحاكم رحمه الله فإنه قد روى الحديث في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم . فقد احتج مسلم بـيعقوب بن أبي سلمة الماجشون، فوهم رحمه الله، لأنه ظن أن يعقوب هو ابن أبي سلمة الماجشون والواقع أن يعقوب هو ابن سلمة وليس ابن أبي سلمة بل يعقوب بن سلمة الليثي، وهو مجهول كما علمتم، ولذلك تعقب الحاكم الذهبي في التلخيص، وابن دقيق العيد وابن حجر وغيرهم. وبينوا وهمه في ذلك، وأن الراوي في هذا الحديث ليس ابن أبي سلمة الماجشون الذي خرج له مسلم، وإنما هو يعقوب بن سلمة الليثي، هذا إسناد الحديث عن أبي هريرة .
وللحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه إسناد آخر ضعيف أيضاً عند الدارقطني وغيره؛ لأنه من رواية أيوب بن النجار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة، وأيوب بن النجار هذا يقول: إنني لم أرو عن يحيى بن أبي كثير إلا حديثاً واحداً، وهو حديث: ( التقى آدم وموسى )، وبناءً عليه تكون العلة في الإسناد الآخر الذي جاء من طريق أيوب بن النجار، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة تكون العلة الانقطاع بين أيوب بن النجار وبين يحيى بن أبي كثير، وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة كلها ضعيفة.
هذا هو حديث أبي هريرة .
هذان حديثان:
حديث سعيد بن زيد هذا رواه الترمذي، وابن ماجه، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، والبزار وغيرهم. وهو من رواية رجل كنيته أبو ثفال، واسمه ثمامة بن حصين عن رباح بن عبد الرحمن عن جدته عن أبيها سعيد بن زيد .
وخلاصة الكلام في هذا الإسناد: أنه ضعيف؛ لأن فيه عدداً من المجاهيل، فـأبو ثفال مجهول، ورباح بن عبد الرحمن مجهول وجدته مجهولة؛ ولذلك ضعف الحديث أبو زرعة وأبو حاتم وابن القطان وغيرهم. ضعفوه لوجود هؤلاء الرواة المجهولين في إسناده.
وقال الترمذي بعد أن ساق هذا الحديث: قال الإمام أحمد : لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد.
وقال البخاري : أحسن شيء في الباب حديث رباح بن عبد الرحمن، يعني: حديث سعيد بن زيد هذا، يعني: هو أحسن شيء في الباب، ومع ذلك فهو ضعيف. هذا حديث سعيد بن زيد .
وإسناده أيضاً ضعيف، إسناد حديث أبي سعيد ضعيف؛ لأن فيه كثير بن زيد وهو ضعيف، وفيه أيضاً ضعفاء آخرون.
وقد قال بعض الأئمة كـإسحاق بن راهويه والإمام أحمد : إنه أحسن شيء في الباب، وهو مع ذلك ضعيف كما علمتم، وفي إسناد حديث أبي سعيد الأخير أيضاً رجل اسمه ربيح بن عبد الرحمن، ويجب أن نفرق بينه وبين رباح بن عبد الرحمن، فالذي في إسناد حديث سعيد بن زيد رباح . والذي في إسناد حديث أبي سعيد ربيح، واسم أبيهما واحد عبد الرحمن، وهو ضعيف أيضاً.
إذاً: فالخلاصة أن الأحاديث الثلاثة التي ساقها المصنف في التسمية على الوضوء حديث أبي هريرة وسعيد بن زيد وأبي سعيد كلها ضعيفة.
ولهذه الأحاديث شواهد كثيرة عن أنس بن مالك، وعائشة، وأبي سبرة، وأم سبرة، وعلي بن أبي طالب، وأبي عبيدة، وغيرهم، وجميع هذه الأحاديث ضعيفة ليس فيها إسناد صحيح أو حسن لذاته أبداً، جميعها ضعيفة بل هي مترددة بين الضعيف والضعيف جداً. هذه الأحاديث الواردة في: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )، كلها ما بين الضعيف جداً، ولعل من أمثلتها ما ساقه المصنف، حديث أبي هريرة وحديث سعيد وحديث أبي سعيد .
هل يجب على المتوضي أن يذكر اسم الله فيقول: (بسم الله) أو (بسم الله الرحمن الرحيم) قبل الوضوء؟ أم يستحب ذلك ولا يجب؟ هذه هي المسألة التي تتعلق بها هذه الأحاديث.
وقد اختلف فيها أهل العلم:
والدليل الثالث الذي استدلوا به: هو أن جميع الصحابة الذين رووا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر أحد منهم قط أنه سمى في أول الوضوء، وهذه أحاديثهم؛ أحاديث عثمان، أحاديث عائشة، أحاديث عبد الله بن عمرو بن العاص ووائل بن حجر والربيِّع وغيرهم، لم يذكر أحد منهم قط أنه سمى عند الوضوء صلى الله عليه وسلم، فهذه الأدلة من أقوى ما استدلوا به على أن التسمية على الوضوء سنة وليست بواجبة.
هذه الأدلة الثلاثة تدل على أن التسمية ليست بواجبة: عدم ذكرها في الآية.
عدم ذكرها في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، مع أنه في مقام التفصيل والبيان.
عدم ذكرها في جميع الأحاديث التي نقلت صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم.
ولأصحاب هذا القول قياسات أخرى في عدم الوجوب، منها: أن المطلوب في الوضوء الإسباغ كما ورد الأمر به، والتسمية ليس لها تعلق بالإسباغ.
ومنها: أنه ذكر في بداية عبادة فلم يجب.
وهذه الآراء العقلية لا تنهض للاحتجاج على عدم الوجوب. ثم إن أصحاب هذا القول يقولون: الأحاديث الواردة -فانتبهوا لهذا- في وجوب التسمية لا تثبت، يعني: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )، هذا الحديث يقولون: لا يثبت، لماذا لا يثبت؟ ها هو الإمام أحمد يقول: لا يثبت في هذا الباب شيء، ويقول في الكلمة التي نقلها عنه الترمذي : لا أعلم في هذا الباب حديثاً له إسناد جيد.
ويقول العقيلي : الأسانيد في هذا الباب فيها لين، يعني: في باب وجوب التسمية على الوضوء. ولذلك قالوا: لا نحتج بهذه الأحاديث لضعفها.
هذا هو القول الأول.
أولاً: أحاديث الباب: ( لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )، وهم يثبتون هذه الأحاديث، ويقولون: إنها وإن كانت جميع طرقها لا تخلو من ضعف، إلا أن مجموع طرقها يقويها ويثبتها، ولذلك فإن الذي يظهر من البحث أن أكثر العلماء على تصحيح هذا الحديث أو تحسينه. نقول: على إثباته في الجملة؛ ولذلك قال أبو بكر بن أبي شيبة : ثبت لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله.
وقال المنذري : الأحاديث في هذا الباب وإن كانت لا تخلو من مقال إلا أنه يقوي بعضها بعضاً.
وقال ابن حجر : الظاهر أن مجموع الأحاديث يحدث به قوة تدل على أن للحديث أصلاً.
وقال ابن القيم رحمه الله: أحاديث التسمية على الوضوء حسان، كما في المنار المنيف.
وقال ابن سيد الناس في شرح الترمذي: الأحاديث في هذا الباب -يعني: في باب التسمية على الوضوء- إما حسن صريح أو صحيح غير صريح، يعني: الأحاديث الصريحة بوجوب التسمية يعتبرها حسنة، والأحاديث الصحيحة ليست صريحة في الوجوب.
وقال ابن كثير رحمه الله: هذا الحديث بمجموع طرقه حسن أو صحيح.
وكذلك قال الشوكاني في نيل الأوطار، وكذلك أيضاً في السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار للشوكاني، ومثله الصنعاني في سبل السلام، ومثله الألباني من المعاصرين وغيرهم. هؤلاء الأئمة الذين يزيد عددهم على عشرة كلهم يثبتون الأحاديث الواردة في التسمية: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )، ويعتبرون مجموع الأحاديث إما حسن وإما صحيح.
وبناءً على ذلك: فإن القول الأقوى في الحديث نفسه -والله أعلم- أن حديث: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )، ثابت إما حسن أو صحيح، بل بالغ السيوطي واعتبره من المتواتر.
فمن حيث الثبوت: فالحديث ثابت والحجة مع من أثبته.
أما من حديث الدلالة: فإن هؤلاء الأئمة القائلين بوجوب التسمية، يستدلون على ما قالوا من هذا الحديث بأن الرسول عليه الصلاة والسلام نفى الوضوء لمن لم يسم، فقال: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )، و(لا) هاهنا نافية. فهل إذا نفى الله عز وجل أو الرسول عليه الصلاة والسلام شيئاً، هل النفي يحتمل الوجود أو الإجزاء.
وهذه القاعدة مهمة، ذكرها الفقهاء والأصوليون وقرروها، وممن وضحها الإمام الشوكاني في الكتاب الذي أشرت إليه من قليل وهو السيل الجرار .
هل إذا نفى الشارع شيئاً كما في هذا الحديث: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ) أو ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) أو غير ذلك، نفى الشارع شيئاً، فهل النفي يحمل على نفي الوجود بمعنى: نفي الحقيقة، أو على نفي الإجزاء والصحة، أو على نفي الكمال؟
هذه ثلاث درجات: إما أن يكون النفي نفياً للوجود أصلاً؛ لوجود الشيء الحقيقة، وإما أن يكون نفياً لصحته أو إجزائه، وإما أن يكون نفياً لكماله.
أرأيت لو قلت: لا رجل في الدار، ما معنى هذه العبارة؟
نفي الوجود. يعني: أنه ليس في الدار أحد ألبتة، وهذا هو الأصل، الأصل أن النفي يحمل على نفي الوجود أو على الحقيقة الشرعية، فإن لم يمكن ذلك، بمعنى أن علمنا أنه موجود، مثل أن رأينا بيتاً مملوءاً بالناس والرجال، هذا يدخل وهذا يخرج، ثم جاءنا رجل ثقة نعرف صدقه وقال لنا: أيها الناس! لا رجل في الدار، فحينئذٍ ونحن نرى الرجال يدخلون ويخرجون في الدار ننتقل من نفي الوجود أو نفي الحقيقة، إلى أمر آخر وهو المجاز، بمعنى: أن نحمل قوله: لا رجل، يعني: على نفي الرجولة الكاملة، وأنه يعتبر أن من في هذه الدار ليسوا رجالاً بالمعني الصحيح وإن كانوا ذكوراً، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: ( لا صلاة لمن لا وضوء له )، لا يعني نفي الوجود؛ لأن هذا المتوضي لو لم يكن صلى أصلاً ما كان هناك معنى لأن نقول: ليس له صلاه؛ لأنه ما صلى.
طيب. هل يعني نفي الحقيقة الشرعية، يعني: نفي الصحة؟
( لا صلاة لمن لا وضوء له )، يعني: لو واحد صلى بغير وضوء، نقول: لا صلاة له، هل معناه أن صلاته غير كاملة، أو غير مجزئة ولا صحيحة؟
نعم. أنها غير مجزئة ولا صحيحة.
إذاً: قوله: ( لا صلاة لمن لا وضوء له )، هذا يحمل على نفي الصحة .. على نفي الإجزاء وعلى نفي الحقيقة الشرعية، وإن صلى وركع وسجد ليس له صلاة.
كذلك قوله: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )، قال هؤلاء العلماء الموجبون للتسمية على الوضوء، قالوا: إن قوله: (لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه) يحمل بادئ ذي بدء على نفي الصحة.. على نفي الإجزاء.. على نفي الحقيقة الشرعية، بحيث لو توضأ ولم يسم عامداً فحينئذٍ نقول: لا وضوء له، على مذهب هؤلاء القوم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه )، فهذا النفي لا يقصد به نفي الوجود؛ لأنه توضأ الآن ولم يسم، فهو قال: ( لمن لم يذكر اسم الله عليه )، يعني: على وضوئه، فهو توضأ، فليس المقصود نفي الوجود وإنما المقصود نفي الحقيقة الشرعية.. نفي الإجزاء.. نفي الصحة في وضوئه. هذه هي طريقة استدلالهم بهذا الحديث.
طيب. وما رأيكم في هذا الاستدلال، هل يستقيم لهم أم يمكن أن يعترض عليه؟
يعني لازم. لا ننتقل من القول بأن النفي ينصب على الإجزاء إلى القول أن النفي ينصب على الكمال إلا بدليل. يعني: لو قلنا لهم: إن معنى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا وضوء)، يعني: لا وضوء كاملاً، وإلا فهو مجزئ وصحيح. ماذا يقولون لنا؟ يقولون: هاتوا دليلكم وبرهانكم. فماذا نقول لهم، ما هو البرهان؟
يمكن أن يقال: إن الدليل الذي يصرف هذا الحديث عن نفي الصحة والإجزاء إلى نفي الكمال هو ما سبق في دليل الأولين؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينقل عنه أنه سمى على وضوئه ولا مرة واحدة، ولم يأمر بذلك الرجل الذي سأله: كيف الوضوء مع أنه قال له عليه الصلاة والسلام بعد أن انتهى: (هذا الوضوء)، وقوله: (هذا الوضوء) حصر، يدل على أن الوضوء محصور فيما فعله النبي صلى الله عليه وسلم أمام هذا الرجل، فيمكن أن نقول: إن هذه الأدلة تدل على أن المنفي في الحديث: ( لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه ) ليس الوجود؛ لأن (عليه) يدل على أنه توضأ، وليس الصحة أو الإجزاء، وإنما المنفي هو الكمال. هذا دليلهم الأول على وجوب التسمية على الوضوء، وقد بينت الاعتراض على هذا الدليل.
نكمل الأدلة والبحث ثم أترك إذا كان هناك مجال للأسئلة.
دليلهم الثاني: هو ما رواه النسائي وابن خزيمة وأحمد وغيرهم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ( أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم طلبوا الوضوء -الوَضوء بفتح الواو، يعني: ماءً- فلم يجدوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هاهنا ماء؟ -يسألهم هاهنا ماء؟- فأتي به صلى الله عليه وسلم، فوضع يده فيه -في الإناء- قال
الشاهد من الحديث قوله: (توضئوا باسم الله)؛ لأنه دليل على مشروعية التسمية على الوضوء، ولا يخفى أنه لا دلالة فيه على الوجوب، وإنما غاية ما يدل عليه السنية، وقد بوب عليه أهل العلم كـالنسائي وابن خزيمة والبيهقي أيضاً فقد ... التسمية، قال بعضهم: باب استحباب التسمية على الوضوء. هذا هو دليلهم الثاني.
دليلهم الثالث: -ولعل فيه شيئاً من الطرافة- هو ما ساقه البخاري في صحيحه فقد ساق في كتاب الطهارة باباً سماه: باب التسمية عند الوقاع وفي كل حال، باب التسمية أو باب ذكر الله عند الوقاع -يعني: الجماع- وفي كل حال، ثم ساق حديث ابن عباس مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فكتب لهم ولد لم يضره الشيطان )، وهذا الحديث فيه أدب يستحب عند الجماع وهو أن يقول الرجل: ( باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا )، ما وجه الدلالة من هذا الحديث على الباب أو على الموضوع؟
ذكر العيني أن الإمام البخاري ساق هذا الحديث للإشارة إلى أنه إذا كانت التسمية والذكر مشروعين حتى عند الوقاع والجماع، الذي هو من أبعد الحالات عن الذكر، فأن يكون مشروعاً عند الوضوء والغسل ونحوهما فهو من باب أولى، وهذا يدل على دقة فقه الإمام البخاري رحمه الله كما سبق ذكره مراراً وذكر أمثلة له، وهذا من أمثلته، وهو أيضاً يدل على استحباب التسمية على الوضوء والغسل وغيرهما.
إذاً: أصحاب هذا القول يقولون بالوجوب، بوجوب التسمية، ولذلك قال بعض الفقهاء: التسمية لها أربع حالات، وهذه من الفوائد التي تلتقط، وقد نقلها ابن قاسم في حاشيته على الروض المربع، قال: إن التسمية لها أربع حالات، أو قال بعض العلماء: إن التسمية لها أربع حالات:
الحالة الأولى: الوجوب، أنها واجبة، وذلك كوجوبها عند الإرسال للصيد، أو عند الذبح، وما أشبه ذلك.
ومثل مبحث الباب عند من يقولون به كالتسمية عند الوضوء والتيمم والغسل، عند من يقول بذلك.
الحالة الثانية من حالات التسمية: أن تكون مسنونة مستحبة، وذلك كالتسمية عند قراءة القرآن، وعند الأكل، وعند الشرب، وعند الجماع.
الحالة الثالثة: أن تكون ليست بمسنونة ولا مستحبة، وذلك كالتسمية عند الصلاة، وعند الحج، وعند بداية الأذكار التي لم يرد فيها البدء بالتسمية.
الحالة الرابعة: مكروهة أو محرمة وذلك كالتسمية عند البدء في الأشياء المكروهة والمحرمة، كأكل الحرام مثلاً أو ما أشبهه؛ لأن التسمية يقصد منها الاستعانة أو البركة، وهذه الأشياء ليست محلاً للاستعانة ولا البركة، فلا يستعان على فعل المحرم أو على فعل المكروه.
هذا هو القول الثاني: أن التسمية واجبة ولا يجزئ الوضوء بتركها عمداً.
أما الترجيح بين هذه الأقوال والله أعلم فإن الإنسان إذا تأمل الأدلة وجد بينها تعارضاً قوياً. ومع أني لم أستوعب جميع الأدلة وجميع ما قيل، إنما هذا أهم ما قيل والله أعلم، ولكن الذي يظهر هو القول باستحباب التسمية وعدم وجوبها، وأنه إن تركها عمداً أو سهواً صح وضوئه ولا إعادة عليه في ذلك، ولكن الأولى به أن يفعلها اتباعاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وهديه وسنته، وخروجاً من هذا الخلاف القوي، فإنه خلاف قوي، خاصة ونحن نرى الآن أن عدداً من العلماء غير قليل صححوا هذا الحديث أو حسنوه، والقول بأن النفي فيه للكمال لا للإجزاء والصحة القرينة فيه يعترض عليها، يعني ما استدللنا به من حديث عمرو بن شعيب، ومن صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، قد يجيب عنه القائلون بالوجوب، فالأقرب والله أعلم القول بأن التسمية سنة عند الوضوء ومثله التيمم والغسل، وليست بواجبة.
فنقول لمن كان في الخلاء: إما أن يخرج بعد أن ينتهي من الخلاء فيتوضأ خارجه وهذا ميسور؛ لأننا نجد في كل بيت اليوم بجوار دورة المياه مغسلة في الخارج، فيخرج ويتوضأ فيها ليسمي مطمئناً مرتاح البال، فإن توضأ وهو في الخلاء فإنه يسمي في نفسه أو يسمي سراً، ولا يجهر بذلك لمناسبة هذا الخلاء الذي هو فيه.
هذه هي الأقوال في هذه المسألة والآراء المتعلقة بها، وقد أعرضت عن ذكر أدلة أخرى؛ لأنه لا فائدة من إطالة الاعتراضات والاعتراضات عليها، فالمهم هو الوصول إلى هذه النتيجة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر