أما بعد: ها نحن مع أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في السنة الثانية من الهجرة المحمدية، غزوة بدر الكبرى، وقد انتهى بنا الدرس إلى مقطوعة تحت عنوان: [بشائر النصر] كيف تلوح؟
قال: [وعجل الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم بتبشير المسلمين في المدينة بالنصر الذي تم، فبعث عبد الله بن راوحة بشيراً إلى أهل العالية] من المدينة [وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة] كان للمدينة عالية وسافلة كمكة.
[قال أسامة بن زيد ] حب رسول الله صلى الله عليه وسلم [رضي الله عنه: أتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم] ماتت رقية بنت محمد صلى الله عليه وسلم وخديجة بنت خويلد رضي الله عنهما وأرضاهما [التي كانت عند عثمان بن عفان رضي الله عنه] ويقال فيه عثمان ذو النورين؛ لأنه تزوج رقية وأم كلثوم ابنتي النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: أتانا الخبر [أن زيد بن حارثة قد قدم، فجئت وهو واقف بالمصلى قد غشيه الناس وهو يقول: قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو جهل ، وزمعة بن الأسود ، وأبو البختري ، وأمية بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، فقلت: يا أبت أحق هذا؟ قال: نعم، والله يا بني!] أي: نعم والله يا بني كل هؤلاء الطواغيت قتلوا في بدر. وهذه هي البشرى!
قال: [ومعه الأسارى من المشركين] وكانوا سبعين أسيراً [واحتمل معه صلى الله عليه وسلم الغنائم] التي غنموها من العدو عندما انهزم وقتل صناديده وأُسروا [وجعل عليها عبد الله بن كعب النجاري ] من بني النجار [وسار صلى الله عليه وسلم، حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية إلى سرحة به، فقسم هناك الغنائم بالسوية على المسلمين، ثم ارتحل حتى إذا كان بالروحاء] قريباً من المدينة [لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه وعلى من معه بالنصر المبين، وأثناء مسيره -وبالصفراء بالضبط- قتل علي بن أبي طالب النضر بن الحارث -أحد الأسرى-] وكان شيطاناً مارداً، فهو الذي قال من سورة الأنفال: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32] أي: إذا كان ما جاء به محمد هو الحق، فنحن لا نستطيع أن نعيش أبداً، ونمطر حجارة من السماء ولا نرى محمداً ينتصر ودينه ينتشر. ولهذا ما صبر علي فقتله.
قال: [كما قُتل عقبة بن أبي معيط قتله عاصم بن ثابت الأنصاري ] وعقبة هذا من شر الخلق وقد شبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم بـقدار بن سالف عاقر ناقة صالح، فقد كان أزرق العينين، أحمر اللون، قصير القامة، كأنه قدار بن سالف . وسبحان الله! ذاك ظالم في قوم صالح، وهذا ظالم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم [بعرق الطيبة] في مكان يسمى عرق الطيبة [وثم لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو هند حجام الرسول صلى الله عليه وسلم] الذي كان يحجم لرسول الله اسمه أبو هند ، والحجامة من سنن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وهي دواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الشفاء في ثلاث: شربة عسل وشرطة محجم وكية نار ).
قال: [لقيه بحميت حيساً] والحميت: الزق من الجلد، والحيس: السمن يخلط بالتمر والأقط [فقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إنما هو
قال: [إنه بعد أن أتم الله نصره لرسوله والمؤمنين حيث انهزم المشركون وفروا من المعركة لائذين] بالفرار [تاركين وراءهم سبعين جثة ألقيت في القليب، وسبعين أسيراً وُضعوا في القيود، وقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً ونزل منزلاً، واستشار أصحابه في الأسرى أيُقتلون أم يُفادون بمال يستعان به على مواصلة الجهاد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أمكنكم منهم، فما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ )، فقام عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم] فقد كذبوك وأخرجوك. هذه كلمة ابن الخطاب ، ولعل بعض الزوار لا يعرفونه، يقول ابنه عبد الله : "ما قال أبي في شيء أظنه كذا إلا كان كما ظن". وقد وافق ربه في أربع أو خمس مسائل، وما كان الشيطان يقوى أو يقدر على أن يمشي مع عمر في طريق واحد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما سلك
نذكر له صورة واحدة من صور زهده: أقام له أحد ولاته أيام خلافته مأدبة طعام، ووضع لونين أو ثلاثة من الطعام على السفرة، فلما نظر عمر إلى الطعام وألوانه انتفض انتفاضة الأسد وقام، فقال له الوالي: يا خليفة رسول الله! ما لك لا تطعم؟! فقال -بالحرف الواحد-: خشيت أن أكون ممن قال الله تعالى فيهم: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20]. والآن فقراؤنا على مائدتهم ثلاثة أو أربعة أنواع من الطعام، تجد الفول والعسل واللبن والخبز والشاي والقهوة .. وهو من أفقر الناس.
عرفتم كيف ارتفع عمر ؟ ارتفع بصفاء الروح، وطهارة النفس وزكاتها، فهي التي تجعل المرء هكذا، أما الذي يكب على الشهوات أنى له أن يصل إلى هذا المستوى؟ وكيف يميز بين الحق والباطل؟ والخير والشر، والعدل والظلم؟ ويؤكد هذه النظرية أو هذه القاعدة الحقيقية قول الله عز وجل واسمعوا وتأملوا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] ومعنى هذا الكلام أيها المسلمون أن تتقوا الله فلا تعصوه، وتعملون على طاعته، وتزكون أنفسكم حتى تصبح كتلة من نور. ذلكم هو الفرقان، الذي تفرقون به بين الحق والباطل، فلا يلتبس عليكم شيء.
والآن قادة العالم الإسلامي ورجالاته ومسئولوه ومديروه ومدبروه لا يملكون هذا الفرقان؟ والذي اتقى الله عز وجل فلم يخرج عن طاعته، ولم يفسق عن أمره، فنهض بالتكاليف وأداها على الوجه المطلوب، وتجنب مغاضب الله ومساخطه، وما حرمه وما نهى عنه.. -والله- ليعطين هذا الفرقان، وتصبح نظريته السياسية والاقتصادية والاجتماعية لا تخطئ.
ومن كان يعيش على الفسق والفجور والباطل أنى له أن يعطى هذا النور؟ والبرهنة: العالم الإسلامي الذي يتخبط تخبط العميان، والسبب أن المسئولون لا يملكون هذا النور؛ لأن هذا النور يأتي بتقوى الله، كن شريفاً أو وضيعاً أو كن ما شئت وأن تتقي الله يأتيك الله هذا النور، ويكون ذلك -أولاً-: بأن تعرف فيم تتقي الله من الأمر والنهي.
ثانياً: أن تجاهد نفسك حتى تؤدي المأمور على الكيفية والنحو والظرف المأمور به، حتى يُنتج لك طاقة نورانية.
ثالثاً: تجنب مساخط الله من الكلمة إلى النظرة إلى كل سيئة؛ ليبقى النور كما هو ويزداد؛ لأن الذنوب تقضي على تلك الأنوار وتفسدها..
إذاً: استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمر الأسرى، أما قال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159] ونطق عمر فقال: يا رسول الله اضرب أعناقهم، قد كذبوك وأخرجوك [فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم] أعطاه عرضه ولم التفت إليه، بل سمع رأيه وسكت، يريد رأياً من الآخرين [ثم عاد صلى الله عليه وسلم إلى قوله طالباً المشورة في الأسرى، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء. فذهب عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم فعفا عنهم وقبل الفداء] فرج أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلامه ذلك، فما أرحم الصديق ! لا إله إلا الله، هذا أبو بكر الصديق يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت
الأول: ساعة ما كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الغار، خاف وارتعد؛ لأنه وجد الحيات والعقارب وكان المشركون يقلبون الحجارة بحثاً عن النبي وصاحبه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وذلك بعد أن خاف وقال: لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] ( ما ظنك يا
والموقف الثاني: في بدر الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرتعد خائفاً رافعاً يديه إلى ربه يقول: ( رب! إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض ) وأبو بكر يأخذ رداء النبي صلى الله عليه وسلم ويصلحه ويقول: لا تخف يا رسول الله إن الله معنا. فسبحان الله العظيم! موقفان مختلفان، فما هو السر؟
الموقف الأول؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم فيه أدى كل ما وجب أن يؤديه من الحذر والحيطة والاستعدادات الكاملة، فمن هنا كان مطمئناً إلى أن الله لا يخيبه، فقد اختار الرفيق في خروجه من مكة، واختار الجغرافي الخاص (الخريت)، وتهيأ واستعد لهذه السفرة وهذا الخروج. إذاً: ما ترك شيئاً من الأسباب إلا عمله، ومن هنا كان اطمئنانه إلى نصر الله. فلما كان الصديق خائفاً قال له: ( ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ )، لكن في بدر الرسول صلى الله عليه وسلم شعر بأنه قصّر، حيث كان خروجه بثلاثمائة مقاتل فقط لأجل القافلة لا لقتال قريش، وقد رمت بأفلاذ أكبادها، فلهذا قال كلمته: ( رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد في الأرض ).
ومن هنا إذا أعد المسلمون العدة وهيئوا كل أسباب الجهاد والنصر، واطرحوا بين يدي الله فالله ناصرهم. وإن قصروا في تلك الأسباب وما أدوها على وجهها فإنهم يخافون، وقد يهزمون ولا ينتصرون، فإذا كنت تريد أن تقاتل وتجاهد، هيأ وأعد ما ينبغي أن تعده، ثم باسم الله قاتل والله ناصرك، أما أن تكون هابطاً -كهبوطنا نحن الآن وإن كان ليس في العدة العتاد ولكنه في قلوبنا الممزقة وشهواتنا الطاغية وجهلنا العام- فكيف تنتصر؟
إن بنو عمنا اليهود أذلوا العالم الإسلامي -وهم حفنة- وهزموا ألف مليون؛ وكل مسلم مسئول عن هذا عربي أو عجمي.. مع أن اليهود أعداء الله ورسوله إلى يوم القيامة، والسر أنه لا صلة لنا -حقيقية- بالله ، فسقنا عن أمر الله وخرجنا عن طاعته، وحكمنا أهواءنا وشهواتنا، وأقبلنا على أوساخ دنيانا وتقاتلنا عليها، وما أصبحنا أمة ولا جماعة واحدة، وسُنة الله ماضية لن تتخلف، فلا بد من هزيمة، ولن يتم نصر أبداً إلا إذا كان طالبي النصر أهلاً لذلك، بإيمان وتقوى وفرقان يضيء لهم الحياة ويبين لهم الطريق.
وأنزل الله تعالى عذر نبيه صلى الله عليه وسلم وعذر صاحبه أبي بكر الصديق فقال: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:68-69]] الله أكبر!
الذي عنده ربه كيف يكرب أو يخاف أو يحزن؟ والمقطوع عن مولاه كيف يعيش؟ كيف يكمُل أو يسعد؟
لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ كتاب المقادير سَبَقَ هذه المفردات لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68] لكن هذا أمر كتبه وقدره، فلا بد وأن يتم ابتداء، ثم قال: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:69] فاستراحت النفوس وارتاحت الصدور، أي كلوا من هذا الفداء للأسرى حَلالًا طَيِّبًا [الأنفال:69].
[وأنزل في الأسرى قوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:70]] ففتح لهم باب الدخول في الإسلام، ودخلوا إلا ما كان من الشياطين كـعقبة والنضر وغيرهم.
وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا أي: رغبة في الإسلام وشوق إليه يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ، فإذا أخذ منك ألف دينار أو ألفين فالله يعوضكم خيراً منها؛ لأن الفداء لا بد منه فهذا حق المجاهدين، قال تعالى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ أي: ما سبق من الشرك والكفر والظلم والحرب للإسلام ورسوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال:70]. بشرى عجيبة!
[فشجعهم بهذا على دفع الفدية وواعدهم بالمغفرة والرحمة إن هم أسلموا وحسن إسلامهم] وليس إسلام نفاق بأن يقول: أسلمت ما دام في الأسر [من بين هؤلاء الأسرى العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعقيل بن أبي طالب وغيرهما] من الأسرى أشراف، وهل هناك أشرف من العباس عم سيد الناس؟!
قال: [وبهذا كان القتل للأسرى في هذه المعركة البدرية خيراً من المفاداة؛ لأنها أول معركة انتصر فيها الإسلام، وإن كان المفاداة في غيرها خيراً، وفي كل خير والحمد لله إذ أنزل تعالى بعد هذه الآيات من سورة الأنفال أنزل سورة القتال، وفيها قوله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا [محمد:4]] هذه التعاليم من أين أتت، هل أتت من قادة الجيش؟ هل أتت من خريجي كليات الحرب؟ وأنى لهم أن يحوموا حول هذا؟ سبحان الله! والمسلمون معرضون عن القرآن تماماً. ستقولون: لا تقل يا شيخ معرضون فتكذب عليهم؟ أقول: إنهم يقرءونه كل ليلة ولكن على الأموات، ما يموت ميت رجل أو امرأة غني أو فقير حتى العاهرة إذا ماتت يقرءون عليها القرآن، أقربائها يأتون بأهل القرآن يقرءون عليها؛ حتى تنجو من النار وتدخل الجنة! ويبرهن على هذا الواقع الواقعُ نفسه، فالمسلمون ممزقون مشتتون أذلاء، مهانون فقراء يجرون وراء الشرق والغرب لضعفهم وهبوطهم.
وهل هناك آية تدل على أن القرآن روح؟ إي والله! اسمع! يقول تعالى من سورة الشورى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52] فسمى القرآن روحاً؟ فمن ثم من آمن بهذا القرآن وقرأه وفهمه، وطبق أنظمته حيي، وعز وطهر وكمل، وتهيأ للملكوت الأعلى، ومن أعرض عنه أعماه الله وأذله وأخذه، يقول عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
ولقد عرف المجوس واليهود والنصارى أن هذه الأمة روحها القرآن، فحاولوا أن ينتزعوه وعجزوا، لأنه محفوظ في صدور الرجال والنساء، وحاولوا -فقط- تغيير حرف واحد وما استطاعوا. فقالوا: احتالوا عليهم واصرفوهم عنه، فلا يتدبرون، ولا يطبقون، ولا يعملون .. إذاً: كيف نفعل؟ قالوا: اقرءوه على الموتى! فأصبح العالم الإسلامي لا يعرف الاجتماع على القرآن إلا فقط ليلة الميت، يجتمعون سبع ليال، أو أربعين ليلة أحياناً.
إن أردنا عودة للكمال فعلينا أن نعود إلى القرآن. ومن يفسر لنا القرآن؟ إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحكامه وآدابه من القرآن الكريم، مدونة موجودة. ومما يؤسف له إلى الآن أننا ما أقبلنا على القرآن الكريم، نعم وجد إقبال عليه من حيث حفظه، فقد كان حفظة القرآن قليلين، والآن كثروا في كل البلاد، لكن الاجتماع عليه لاستخراج أنواره والهداية بها! ليس موجود إلا من رحم الله عز وجل.
ثم قال: هذا ما عاهد عليه رسول الله، فقال سهيل : لو عرفناك رسول الله ما قتلناك! وعند هذه كاد يتفجر عمر . فقال النبي: اكتب هذا ما عاهد عليه محمد بن عبد الله. وتنازل عن كلمة (رسول الله) لأجل ما يتحقق بهذا الصلح من المصلحة للمسلمين، والآن -أعني شبيبتنا الناهضة- لو أن سياسياً في مكان ما اضطر لمصلحة الإسلام والمسلمين بأن يتنازل عن كلمة كهذه لكفروه في الشرق والغرب، والليل والنهار وكتبوا حتى على بابه: كافر! لأنهم ما تربوا في حجور الصالحين، ولا تلقوا العلوم والمعارف من الكتب والمحاضرات، فالذي يكون أهلاً للكمال يجب أن يزاحم العلماء بركبتيه، وأن يجالسهم حتى تزكو روحه وتطيب نفسه بالكتاب والحكمة، ولهذا لا تسأل عن تخبط العالم الإسلامي، ونتائجه دائماً الخراب، ولن تقوم لنا قائمة أبداً؛ لأننا ما نهجنا نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: [فخير تعالى في هذه الآية الإمام بين المن مجاناً وبين الفداء بمقابل وبين القتل، فليدُر الإمام مع المصلحة العامة للإسلام والمسلمين، فإن كانت في الفداء فدى، وإن كانت في القتل قتل، وإن كانت في المن منّ].
[وها هو ذا أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير ، وقد أسر يحدث فيقول: مر بي أخي مصعب ورجل من الأنصار بأسيرين] ومصعب كان من أسرة غنية في قريش، اعتنق الإسلام في أيام الدعوة الأولى، وقد كان يمشي في الحرير فرئي بعدها يمشي وعليه جلد شاة يستر عورته، وعذبوه، ونكلوا به، قالوا له: كيف تترك دين آبائك وأجدادك وتتبع دين محمد صلى الله عليه وسلم؟! وشاء الله أن يكون أول من يهاجر إلى المدينة، فكان داعية عجباً، وقد استشهد في أحد مع حمزة بن عبد المطلب .
قال: [فقال له: شد يديك به -أي: حافظ عليه- فإن أمه ذات متاع] يعني صاحبة ذهب وفضة [لعلها تفديه منك] قال لمن بيده أخوه: شد عليه فإن أمه ثرية لعلها تفديه بقنطار من ذهب [قال أبو عزيز : وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم أو عشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر] عملاً بقول نبيهم صلى الله عليه وسلم: ( استوصوا بهم خيراً )، ولو دخلت اليوم إلى سجون العرب لشاهدت البلاء والعذاب الذي لا يكون في يوم القيامة. إنهم يتفننون الأسرى بشيء لا يطاق ولا يُذكر، ينشرون بالمناشير، وتفقأ عيونهم، وتخرق عظامهم، وكأنهم ليسوا بشراً، بل يأتون بهم الفواحش. وبعد هذا نريد أن نكمل ونسعد!! أمجانين نحن؟ والله لولا حلم الله عز وجل ما استحق المسلمون البقاء إلى اليوم!
فكان المسلمون إذا قدموا الغداء والأسرى الكفار بينهم قدموا لهم الخبز وأكلوا هم التمر، عملاً بوصية رسولهم صلى الله عليه وسلم: ( استوصوا بالأسرى خيراً )، فماذا أصاب العرب المسلمين؟ الأمر واضح، إنهم ما عرفوا الله حتى يكمل إيمانهم به، وحتى يُوجد إيمانهم خوفه ومحبته، ومن لم يخف الله ولم يحبه فكيف يطيعه؟ مستحيل!
وعدنا من حيث بدأنا: إنه الجهل، يجب أن نعود إلى كتاب الله وهدي رسوله، فلا صحف ولا مجلات ولا تلفاز ولا راديو، وإنما بيوت الرب فقط، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد بينا هذا الخبر فسخر منا الناس؛ وسخروا لأنهم أمة هابطة، فقلنا: أيما أهل إقليم عرب أو عجم، فقراء أو أغنياء عليهم أن يلتزموا في طلب العلم من الكتاب والسنة، فإذا دقت الساعة السادسة مساء أوقفوا العمل، فلا دكن مفتوح ولا مقهى ولا متجر ولا مصنع ولا مزرعة فيها فلاح، بل يغتسلون ويتطيبون ويتطهرون ويأتون إلى جامعهم في قريتهم أو حيهم بنسائهم وأطفالهم، ويكون النساء من وراء ستارة والأبناء دونهن والفحول أمامهم، ثم يجلس لهم المربي يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم .. يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام ما يمضي كبير زمن إلا وكلهم ربانيون، أولياء لله، لو رفعوا أكفهم إلى الله ما ردها. ووراء ذلك لن يبق زنا ولا خنا ولا غش ولا كذب ولا خداع ولا باطل ولا.. كل هذا سينتهي، فوالله إن أعلمنا بالله هو أتقانا له، لا يكذب ولا يخون ولا يغدر ولا يغش ولا يقول الباطل، وكل المصائب من الجهلة.
قال: [لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا، فما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها، فأستحيي فأردها على أحد، فيردوها علي ما يمسها. فسبحان الله! ما أطوع أصحاب رسول الله لرسول الله فصلى الله عليه وسلم، ما أرحمه! لقد نالت رحمته أعداءه، ورضي الله عن صحابته الطيعين البررة الخيرين].
وصلى الله على نبينا محمد وآله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر