فما زال الكلام موصولاً حول مسألة مهمة من مسائل القدر وهي: (الشقاوة والسعادة) و(الكفر والإيمان)، و(الهداية والإضلال) بيد الله عز وجل.
وهذا لا يعني أن الله عز وجل يقسم هدايته ورضوانه على عباده بغير عدل ولا حكمة، والذي يعنيه هذا في الدرجة الأولى: أن الله تعالى أضل من سبق في علمه أنه يضل، وهدى من سبق في علمه أنه يقبل الهدى، لا أن الله تعالى فرض عليه الضلال، وإنما علم الله عز وجل سلفاً وأزلاً أن هذا العبد رغم إتاحة جميع سبل الهداية له إلا أنه يختار طريق الضلال والشقاء فكتبه عليه، وليس في ذلك من ظلم، وهذا معنى قول سلفنا: إن الله تعالى يملك الإضلال والهداية، الخير والشر، السعادة والشقاء.
إذاً: عندنا الآن مسألتان: الأولى: أن الهداية والإضلال بيد الله عز وجل.
المسألة الثانية: أنه سبق في علم الله الأزلي أن هذا العبد رغم إتاحة جميع سبل الهداية له إلا أنه يختار السعادة أو الشقاء، فلما علم الله ذلك من عبده أزلاً كتبه عليه، والأدلة على ذلك سبق بعضها في الدرس الماضي، وبقية الأدلة في هذا الدرس.
قال: [(فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)] أخرجه البخاري ومسلم.
وفي رواية عند مسلم : (ويشركانه أو ويشرِّكانه). أي: يجعلانه مشركاً. [(كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟)]. يعني: لو أن البهيمة التي اجتمع جميع أعضائها لا عيب فيها ولا نقص فهي جمعاء؛ والجمعاء تلد جمعاء، ولذلك لما أخذ الله تعالى الميثاق الأول على ذرية آدم فلاشك أن كل واحد منهم يولد على هذه الفطرة الأولى، ولكن التغيير والتبديل إنما يطرأ عليه بسبب التربية، وبسبب المجتمعات التي يتربى فيها، وبسبب عوامل أخرى خارجية، أما أصل خلقه فإنه يخلق وقد اجتمعت فيه خصال الخير وفطرة الإسلام.
قال: [ثم قال أبو هريرة رضي الله عنه: فاقرءوا إن شئتم: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30]]. (فِطْرَةَ اللَّهِ) أي: سنة الله التي خلق الناس عليها أولاً وهي: التوحيد. [قال الأوزاعي: وذلك بقضاء وقدر]. يعني: هذا التبديل وهذا التنصير والتهويد والإشراك إنما كله بقضاء وقدر. وقال الأوزاعي: [لا يخرجانه من علم الله، وإلى علم الله يصيرون]. لأنه في الحديث: (يولد المولود على الفطرة، فأبواه يهودانه). يعني: ربنا يعلم أن الأبوين سيهودان المولود، فالله يعلم ذلك، وبتهويدهما لولدهما لم يخرجا هذا الولد من علم الله، وإنما الله تعالى علم ذلك أزلاً، ولذلك قال الأوزاعي لا يخرجانه -أي: الأبوين- يخرجانه من علم الله؛ لأن الله علم أزلاً أن أبويه سيهودانه، وأنه إذا عقل التهويد وخالف فطرته التي فطره الله عليها كتبه عليه. قال: لا يخرجانه من علم الله، وإلى علم الله يصيرون.
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما ينتجون بالبهيمة بهيمة، فهل ترون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها؟)]. يعني: البهيمة تولد كاملة الأعضاء، ولكن يتدخل صاحبها بقطع جزء منها، ووسمها في أذنها أو وجهها، وغير ذلك من التشوهات والتغيير والتبديل الذي يطرأ عليها، فإنما ذلك يكون بتدخل صاحبها [(قالوا: يا رسول الله، أفرأيت وهو يموت وهو صغير؟)] يعني: أفرأيت إن مات هذا الغلام وهو صغير فما حكمه؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: [(الله أعلم بما كانوا عاملين)].
قيمة هذا الكلام: أن كل شيء بعلم الله السابق في الأزل، ولو نفترض فرضاً: لو أن الطفل الصغير وهو من أبناء المشركين مات في صغره فالله عز وجل أعلم بما لو كان عاش وبلغ ماذا سيكون، يعلم ذلك، ولذلك الجواب هنا يقول: [(الله أعلم بما كانوا عاملين)]، أي: لو عاشوا وبلغوا مبلغ الرجال، فالله عز وجل يعلم ماذا كانوا يصنعون، وما سيصيرون إليه شقاء أم سعادة، هداية أم ضلال، يقبلون الهدى أو يقبلون الضلال، يعلم ذلك منهم، ولذلك أوكل النبي عليه الصلاة والسلام أمرهم إلى الله عز وجل؛ لأنه العليم سبحانه وتعالى.
قال: [عن جابر رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإما شاكراً وإما كفوراً)].
وهذا الحديث فيه ضعف إلا أنه يشهد له بقية الأدلة.
قال: [عن ابن وهب قال: سمعت مالكاً قيل له: إن أهل الأهواء يحتجون بهذا الحديث: -(فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه)- فقال مالك: احتج عليهم بآخره].
أهل القدر يقولون: الغلام لا علاقة له بالتهويد ولا التنصير ولا المجوسية، لأن هذا فرض عليه فرضاً من قبل أبويه، أو أن الغلام ينشأ مؤمناً في بيت مؤمن لا يختار هذا الإيمان، فيكون الإيمان وكذلك الشقاء واختيار ما يضاد أحدهما قصد للعبد به؛ لأنه إما أن يخلق مؤمناً على فطرته الأولى في بيت مؤمن فهو لا يكون بذلك قد اختار الإيمان، وإما أن يفرض عليه التبديل والتغيير عن طريق والديه وهو صغير وبالتالي لا علاقة له بهذا.
فقالوا لـمالك : إن أهل الأهواء يحتجون بهذا الحديث؟ قال مالك : احتج عليهم بآخره.
إذا كانوا يعتمدون صدر الحديث وأوله، وأن الشقاء ليس للعبد فيه دخل وأن ذلك جبر عليه وقهر بدون اختيار له، فاحتج عليهم بآخر الحديث: (الله أعلم بما كانوا عاملين).
وعمل العبد بعد بلوغه لاشك أنه محاسب عليه، قالوا: (أرأيت من يموت وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين).
عن حماد بن سلمة وهو من كبار أهل السنة [يفسر حديث: (كل مولود يولد على الفطرة)، قال: هذا عندنا حيث أخذ عليهم العهد في أصلاب آبائهم، حيث قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172]].
يعني: هو يفسر الفطرة على أنها الإسلام والإيمان والتوحيد الأول الذي جبل عليه الخلق أجمعون، وهذا مذهب ابن عباس بل مذهب جماهير أهل السنة والجماعة أن الفطرة هي الإسلام.
وقد جاء في رواية صحيحة: (كل مولود يولد على فطرة الإسلام)، ولكن التبديل يأتي به أو يأتي عليه بعد ذلك.
إذاً: الغواية والضلال بيد الله عز وجل.
فهذا ليس متبعاً للكتاب والسنة، وإنما متبع لهواه، كل ما يمليه عليه هواه فهو دينه يتبعه كأنه شرع منزل من السماء، والله تعالى ينكر على صاحب الهوى أنه قد اتخذ إلهه هواه، مع أن الإله واحد والرب واحد تبارك وتعالى، فكيف يترك العبد هذا الوحي من الكتاب والسنة، ويحل محلهما هواه ومزاجه وذوقه ووجده؟!
فقال الله عز وجل: أَفَرَأَيْتَ [الجاثية:23] أي: يا محمد، مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم [الجاثية:23] إذاً: الضلال أتى بعد اتخاذ العبد إلهه هواه وليس في ذلك من ظلم، فالله تعالى جعل لك العقل لتميز به الحسن من القبيح، بل ربط الحسن والقبح بالكتاب والسنة. أي: بالوحي.
فالحسن هو ما حسنه الله عز وجل ورسوله، والقبيح: هو ما قبحه الله عز وجل ورسوله، ولم يجعل للعقل في التمييز بين هذا وذاك مجالاً إلا مجالاً أذن الله تعالى فيه، فهنا نقول: إن الله عز وجل جعل لك العقل، وألزمك بالوحي، وأرسل إليك الرسل، وأنزل عليهم الكتب، كل ذلك لأجلك أنت. فإذا كان الأمر كذلك وأنت استغنيت عن هذا كله وذهبت تتخذ إلهاً من دون الله عز وجل وهو الهوى، فلابد وأن الله تعالى قد علم أنك ستعرض عن الوحي وعن الخير وعن الهدى، وتختار هواك إلهاً من دون الله عز وجل فكتبه عليك؛ لأنه علم ذلك منك أزلاً، فيكون معنى قوله تبارك وتعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23]. أي: سبق في علم الله أن هذا العبد سيضل ويترك الوحي ويتخذ إلهه هواه من دون الله، فلما علم الله ذلك منه أزلاً كتبه عليه.
قال ابن عباس: [لا يضل أحد أحداً إلا سبق في علم الله أنه من صال الجحيم].
قال: [عن عمرو بن ذر قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: لو أراد الله ألا يعصى لم يخلق إبليس] لأنه رأس العصيان، ورأس الفساد، ولو أراد الله تعالى أن يطاع في الأرض ولا يعصى قط ما خلق إبليس.
[وقد فصل لكم وبين لكم، قال تعالى: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ [الصافات:162] إلا من قدر له أن يصلى الجحيم]، أي: فإنه حينئذ يضل.
وقال خالد للحسن: [ألهذه خلق آدم ثم أشار إلى السماء، أم لهذه وأشار إلى الأرض؟] يعني: أخلق آدم للسماء أم خلق للأرض؟ ويشير بذلك إلى معصية آدم، وأن آدم كان في الجنة، وكان في السماء، وأهبط منها إلى الأرض فهو يسأله، ويقول له: آدم خلق لهذه وأشار إلى السماء أم لهذه وأشار إلى الأرض؟ قال الحسن: [بل لهذه وأشار إلى الأرض]. رغم أنه كان في الجنة وكان في السماء، فما الذي أهبطه إلى الأرض؟ لأنه خلق لها وما نزلها إلا بقدر.
يعني: الذي دار بين آدم وإبليس، وأن المعصية التي خالف فيها آدم ربه، لم تكن تخفى على الله قبل أن يخلق آدم، فقد وقعت بقدر والله عز وجل علم أزلاً أن إبليس سينتصر في هذه الخدعة التي بينه وبين آدم، وعلم أن آدم سيقنع بحجة إبليس، وأنه سينسى العهد الذي أخذه مع ربه.
ثم يسأل خالد الحسن فيقول: تصور لو أن آدم اعتصم من الخطيئة. يعني: لم يقع فيها، فلم يعملها أكان ترك في الجنة؟
قال الحسن: [سبحان الله! كان له بد من أن يعملها]. كان لازم يعمل كذا؛ لأنه سبق في علم الله أنه سيعمل ذلك، والذي سبق في علم الله وكتبه في اللوح المحفوظ لابد وأن يقع.
قال: [قلت: يا أبا سعيد قوله عز وجل: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ [الصافات:162] قال: ما أنتم عليه بمضلين إلا من قدر له أن يصلى الجحيم].
قال: [عن ابن عباس -في تفسير هذه الآية- نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسقم والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلالة].
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]. يعني: تصور لو أن عبداً لم تتح له قط سبل المعصية هل سيشعر بحلاوة الطاعة وهو قائم بالطاعة بالليل والنهار؟ فلا يشعر بعناء المعصية ولا بمجاهدة نفسه في البعد عن طاعة الله عز وجل.
تصور لو أن واحداً يعيش في مجتمع نقي نظيف لا فتنة فيه، أموره كلها لله، يقوم من طاعة ويقعد في طاعة، وينتهي من طاعة فإذا به يستلزم طاعة أخرى، ويعمل طاعة أخرى، لأن المجتمع كله يعينه على الطاعة.
أما لو عاش في مجتمع كله فساد وشر، فالمرء يجاهد نفسه مجاهدة شديدة جداً حتى لا يقع في معصية الله عز وجل، كمن تعرض عليه جريمة الزنا، ولكنه يجاهد نفسه حتى لا يقع في هذه الفاحشة، فإذا لم يقع فيها فإنه يشعر بنعمة عظيمة جداً، وأنه كان على مشارف معصية فنجاه الله تعالى منها.
لو أن واحداً قد طحنه الفقر طحناً، وعرضت عليه أموال كثيرة جداً يسرقها ويغنى، ولكنه جاهد نفسه وكف يده عن الحرام فأغناه الله عز وجل، أو أبدله حلاوة لا يشعر بها إلا في قلبه. هذه أحلى من مد يده، يشعر العبد حين مجاهدة نفسه بأن الخير أحياناً يكون فتنة والشر أحياناً يكون فتنة. والله تعالى يبتلي العبد بهذا وذاك، حتى يختار العبد لنفسه ما شاء مع قيام الحجة الرسالية عليه.
فالمشركون لما دعاهم النبي عليه الصلاة والسلام سمعوا قوله، ولكنهم لم يسمعوه سماع إجابة، وإنما سمعوه سماع جحود وإعراض.
مثلما قلت لك: افعل كذا تسمعني وإلا ما تسمعني. تقول: سمعت. وأنت في نيتك أنك لا أنت منفذ ولا أنت سائل عنه، فهذا سماع إجابة وليس سماع جحود وإعراض، فالله عز وجل وصفهم بالصم والبكم والعمي، وعدم التعقل لما يسمعونه ويبصرونه، رغم أنهم يسمعون ويبصرون.
وأئمة التقوى وأئمة الضلال كثيرون في هذا الزمان، فالتقوى بيد الله عز وجل، والإضلال بيد الله عز وجل، ولما سبق في علم الله عز وجل أن عبده هذا يختار طريق التقى والهداية يسره له على عكس عبده الثاني.
ولذلك قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، يعني: والذين اختاروا طريق الهداية الله عز وجل زادهم وثبتهم على طريق الهدى، وآتاهم تقواهم.
وليس هناك إشكال في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ [الأحزاب:7]، لكن الإشكال في قوله تعالى: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب:7] مع أن الترتيب الطبيعي: ومن نوحاً ومنك، فإن نوحاً أسبق من محمد، بل نوح هو رسول أرسل إلى البشرية، وآدم أول نبي نبئ إلى البشرية، فالله تعالى قال: وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الأحزاب:7] ولم يقل: ومن نوح ومنك؛ ليدل على أن الله تعالى علم أزلاً أنه سيخلق محمداً عليه الصلاة والسلام، مع أن خلق نوح كان قبل خلق محمد، ولكن الله تعالى قدمه هنا في الذكر؛ ليدلنا على أن محمداً هذا كان في علم الله أزلاً فقدمه على نوح، فهذه حجة على القدرية.
اعملي صالحاً واهتدي قبل أن تموتي موتة لا بعث فيها إلا يوم القيامة.
قال ابن عباس: [فأخبر الله سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى؛ لأنهم اختاروا طريق الضلالة، وقد علم الله عز وجل ذلك منهم أزلاً فكتبه عليهم، قال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]].
أي: كاذبون في قولهم: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:58]، ولو ردوا إلى ما كانوا عليه قبل ذلك لعادوا لما كانوا عليه قبل ذلك من تعاطي أسباب الشقاء والضلال.
أي: لو ردوا إلى الدنيا ولحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة]. يعني: سبق في علم الله أنهم لا يقبلون الهدى، فيسر لهم طريق الضلال.
النوع الأول: يقولون: إن العبد مجبور على عمله لا إرادة له، مسلوب الإرادة، لا علاقة له بعمله، ولذلك من الظلم أن يعاقبه الله عز وجل.
والرد عليهم: أن هذا الشيء قدره الله عليه، فهو شيء مكتوب عليه، ولكنه قد سبق في علم الله أن العبد سيختاره فكتبه سبحانه وتعالى له.
إذاً: العبد ليس مجبولاً على المعصية، ولكن علم الله عز وجل ذلك منه أزلاً بعد تيسير سبل الدعوة، وإقامة الحجة الشرعية، وبيان الحلال من الحرام، ولكن العبد في المقابل هو الذي اختار طريق المعصية، فلما كان منه ذلك كتبه الله عز وجل عليه، لأنه العليم سبحانه وتعالى.
فقوله هنا: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] رد على القدرية، وأن للعبد مشيئة. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]. يعني: لك مشيئة، ولك إرادة، ولكن إرادتك في علم الله ومشيئتك سبقت في علم الله، فقد علم الله ماذا سيكون عملك، وكيف تصير إليه؟ فكتب ذلك في اللوح المحفوظ.
النوع الثاني من القدرية قالوا: لا علاقة لله عز وجل قط بأفعال العباد، والعبد له المشيئة المطلقة في إتيان الهدى وإتيان الضلال.
فالقدرية ضد بعضهم البعض، فطائفة تقول: العبد مسلوب الإرادة، وطائفة تقول: لا مشيئة لله عز وجل ولا إرادة له في أفعال العباد، وأن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه، وهو الذي يوجد فعل نفسه، وكلاهما على ضلال بين.
فهذه الآية ترد على هاتين الفرقتين بإثبات الإرادة والمشيئة للعبد، وربط هذه المشيئة بعلم الله عز وجل الأزلي الأولي.
قال: [عن زيد بن أسلم : والله ما قالت القدرية كما قال الله عز وجل، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس]. يعني: القدرية قد أتوا بالبدع التي لم يأت بها حتى إبليس، فما وجه مخالفتهم لله؟ وما وجه مخالفتهم للملائكة ولأهل الجنة والنار؟ [قال الله عز وجل: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30]] فهذه الآية ترد على القدرية بنوعيها، وذلك بإثبات المشيئة للعبد، وربط هذه المشيئة بعلم الله عز وجل الأزلي.
[وقالت الملائكة: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا [البقرة:32].
إذاً: الله تعالى هو الذي علم الملائكة قبل أن تعلم، والملائكة خلقهم الله عز وجل لا علم لهم ثم علمهم، ولا يتصور أن الله تعالى علمهم ما لا علم له به أصلاً، فهو العليم الخبير, تعلم ملائكته من علمه، وهو الذي علمهم من علمه. والقدرية يقولون: إن الله تعالى لا يعلم الأشياء حتى تقع، وهذا في قولهم: أنه لا قدر وأن الأمر أنف. يعني: أن الله لا يعلم الشيء حتى يكون.
إذاً: هذه الآية فيها إثبات العلم لله عز وجل، فربنا علم الملائكة أسماء كل شيء، وأمر الملائكة أن تعلم آدم الأسماء، والله تعالى علم الأشياء بأسمائها وأفعالها وأقوالها وحركاتها وسكناتها وشقائها وسعادتها، علم ذلك كله أزلاً قبل أن يخلق الخلق فكتبه في اللوح المحفوظ، فالله تعالى يعلم ما العباد عاملون وكيف يصيرون إليه.
قال: [وقال شعيب: وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا [الأعراف:89]. فأثبت المشيئة الأزلية لله عز وجل، وأنه إذا سبق في علمه الشقاء أجراه، وإذا سبق في علمه الهدى أجراه ويسره.
[وقال أهل الجنة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا [الأعراف:43]] فالهداية بيد الله عز وجل، ومعنى ذلك أنه سبق في علمه أن أهل الجنة سيختارون الطاعة فيسرهم لها ومهد لهم السبيل إلى الجنة.
[الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]].
فأثبت أهل الجنة أن الهداية بيد الله عز وجل.
[وقال أهل النار: غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا [المؤمنون:106]]. يعني قد اخترنا الشقاء وغلب علينا؛ لأن الله تعالى علم أزلاً أننا سنختار الشقاء فكتبه، وما يكتبه الله عز وجل لابد أن يغلب، لأنه الغالب على أمره.
[وقال أخوهم إبليس: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39]] يعني: رب بما أضللتني. فإبليس يعلم أن السعادة والشقاء، والهداية والإضلال بيد الله عز وجل فقال: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39].
قال الشافعي لما رأى قوماً يتجادلون في القدر بين يديه: [لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله عز وجل خير له من أن يلقاه بشيء من هذه الأهواء] يعني: من أهواء الفرق الضالة كالمعتزلة، والقدرية، والجهمية، والأشعرية وغير ذلك.
قال الشافعي: [أخبر الله تعالى في كتابه أن المشيئة له دون خلقه]. فلا يستطيع عبد أن يريد إرادة، أو أن يشاء مشيئة من دون الله عز وجل، ولكن العبد يختار ويشاء ويريد ويتمنى، كل ذلك يعلمه المولى عز وجل وييسره له.
قال: [والمشيئة: إرادة الله تعالى، يقول الله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، فأعلم خلقه أن المشيئة له، وكان يثبت القدر].
قال: [قوله تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13]]. العنق: الرقبة. والطائر: هو الكتاب.
قال: [عن مجاهد أنه قال: مكتوب في ورقة في عنقه شقي أو سعيد]، ولما كانت الأعمال بالخواتيم، والخاتمة لا يعلمها إلا الله عز وجل، كان هذا أدعى للعبد أن يجثو على ركبتيه ذلاً وخضوعاً لله عز وجل في كل أحايينه وأوقاته، وأن يتوسل إلى مولاه أن يجعله من أهل السعادة، فلا تفرح بأنك تصلي وتصوم وتزكي، فربما لا يقبل ذلك منك كله، وربما يرد عليك، ولا تحقرن أخاً لك مهما قل عمله في الطاعة وكثرت معصيته، بل اشفق عليه فربما يختم له بالسعادة ولك بالشقاء، والمسألة هذه خطيرة جداً إذا علمها العبد من دينه فإنه لا يفرح بطاعة قط.
هناك رجل كان مرشحاً لأن يكون ابن تيمية عصره، الرجل هذا كان أعجوبة في علمه، أما تقواه ودينه وورعه وعبادته فلا علم لي بها، له كتب ألفت في الرسالات والنبوة، وكرامات الأولياء والدفاع عن الإسلام، وذم اليهودية والنصرانية والإلحاد، وكتاب ممتع رائع في الرد على الشيعة، ثم صنف ثلاثة كتب يحارب فيها الإسلام كله، آخر ثلاثة كتب صنفت بيده وبخطه وقلمه هي في الحرب على الإسلام بعنوان: (هذه هي الأغلال)، يرفع فيها الوثنية ويخفض فيها الإسلام، هذا الذي كان مرشحاً لأن يكون ابن تيمية عصره.
والأزهر عقد مجلساً بل مجالس لهذا الرجل واسمه: عبد الله القصيمي، وأولاده كثيرون وكلهم أساتذة في جامعات العرب يدرسون الشريعة الإسلامية، وقد تبرءوا منه قبل أن يتبرأ منه الأزهر، وأعلن الأزهر في الجرائد والصحف والمجلات المسموعة وغيرها أن عبد الله القصيمي ارتد عن ملة الإسلام.
منهج في الأزهر أن الذي يريد أن يرتد يتفضل، لكن لابد أن يعلم أمره، وما في أحد سيكلمه ولا حتى الأزهر، وكان الأزهر تلك الأيام له كلمة وله سطوة، ولما ألف هذا الرجل هذه الكتب في نبذ الإسلام وسبه، ورفع الوثنية عليه حكموا فوراً بردته بعد أن جلسوا معه مجالس متعددة.
إذاً: الله عز وجل علم أزلاً أن عبد الله القصيمي سيموت على الردة، مع أنه نفع الإسلام أيما نفع.
قال: [قوله: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [الإسراء:13] عن مجاهد: مكتوب في ورقة في عنقه شقي أو سعيد] وكل واحد منا يوجد في رقبته كتاب مكتوب فيه هو شقي أو سعيد.
وهذا لا يعرفه إلا الله عز وجل، فهذا يستدعي منا ويقتضي أن نسعى سعياً حثيثاً لتحصيل أسباب السعادة، وأن ندعو الله تبارك وتعالى بالليل والنهار أن يختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين، وأن يثبت قلوبنا على الإيمان،وأن يصرف قلوبنا إلى طاعته، فهذا واجب على كل عبد، لا أنه لما يصلي ينظر إلى الناس على أنهم من أهل النار وهو من أهل الجنة، هذا مع أننا نؤدي العبادة بصورة هزيلة وباهتة وماسخة ليس لها أي قيمة ولا معنى، ومع هذا فإن بعضنا يفرح بهذه العبادة، ويظن أنه من أهل الجنة، وأن الناس من أهل النار، وهذا يخالف معتقدنا في إثبات القدر، وفي إثبات علم الله عز وجل.
(وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ)، يعني: ومن سبق في علم الله أنه يفتن فليس لأحد من الخلق، بل ليس للخلق أجمعين أن ينقلوه من الفتنة إلى الهداية.
قال: [عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يقول الله: من يرد الله ضلالته لم تغن عنه شيئاً].
يعني: المهمة الأولى للخلق هي العبادة، ولكنه سبق في علم الله من يعبده ومن يعصيه، من يشقى بمعصيته ومن يسعد بطاعته، فلما سبق في علم الله ذلك كتبه.
[وقوله تعالى: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77]]. والدعاء هنا: هو الإيمان. أي: ما يعبأ بكم ربي لولا إيمانكم. قال: [يقول: لولا إيمانكم، فأخبر الله تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين].
قال: [قوله تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]] لأنهم اختاروا طريق الكفر والجحود والضلال، والله تبارك وتعالى لما علم ذلك منهم أزلاً كتبه عليهم، فسواء أنذرتهم أم لم تنذرهم فإنهم يخسرون الإيمان، وهم قائمون على الكفر والجحود والنكران، وهذا سابق في علم الله وكتبه، ولكن لابد من قيام الحجة عليهم حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.
فليس هناك من يجيء يوم القيامة ويحتج على ربنا ويقول: يا رب! ما بعثت رسولاً، وما أنزلت كتاباً.
وقوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:105] ونحو هذا من القرآن].
كل هذه الآيات تدل على أن الإيمان والكفر والشقاء والسعادة والهداية والإضلال بيد الله عز وجل.
قال: [وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول].
الرسول صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على أن يجمع جميع الخلق على السعادة، وربنا قال له: أنت لا تستطيع أن تفعل ذلك، وليس هذا لك ولا لأحد، وإنما هذا لرجل قد سبق في علم الله أنه من أهل السعادة، وليست لرجل سبق في علم الله أنه من أهل الشقاوة.
قال: [فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول.
ثم قال لنبيه عليه الصلاة والسلام: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ [الكهف:6] -يعني: مهلك نفسك- أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]. يقول: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ [الشعراء:4]. ثم قال: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ [فاطر:2]. ويقول: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]]. أي: ليس لك يا محمد من الأمر شيء، فأنت لا تعلم ما الذي كتبه الله عز وجل أزلاً على العباد من السعادة والشقاء، والهداية والإضلال، وما عليك يا محمد إلا أن تبلغ هذا الوحي إلى الناس، أما الخواتيم فلا يعلمها إلا الله عز وجل.
قال: [عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلق كلهم قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء)].
ومن المقادير: السعادة والشقاوة، الجنة والنار، الرزق. كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. فإذا كان الله تعالى كتب ذلك بعلم، فلابد أن نثبت أولاً العلم الأزلي لله عز وجل، وهو علم كل شيء، علم لا نهاية له، ولا منتهى له، وأن الله تعالى علم ذلك أزلاً فكتبه في اللوح المحفوظ الذي لا يقبل التبديل ولا التغيير ولا التحريف، ولا يلحقه إثبات غير ما هو مثبت فيه، أما الذي يقبل الإثبات والمحو فالكتب التي بيد الملائكة، أما اللوح المحفوظ فلا يقبل المحو ولا الإثبات إلا ما كان فيه، فلما علم الله ذلك أزلاً كتبه قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم كتب للعبد الشقاء أو السعادة، وهذه الكتابة بعدل وحكمة من الله، وليس بظلم منه.
والله تبارك وتعالى خاطب المؤمن والكافر بالإيمان، وألزمهما وكلفهما به، ولكن العبد التقي اختار طريق التقى والهدى طلباً للجنة ولرضوان ربه، فإن العبد الذي سبق في علم الله أنه شقي هو الذي اختار طريق الشقاء وطريق النار، فلما سبق في علم الله ذلك منه كتبه عليه بعد أن أرسل إليه الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ورزقه العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، وبين السعادة والشقاء، وبين الهدى والضلال.
قال: [(كتب الله مقادير الخلق كلهم قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء)].
قال: [عن طاوس قال: أدركت ناساً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام يقولون: كل شيء بقدر.
قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس)].
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)] مع أن هذا مؤمن وهذا مؤمن، لكن هذا مؤمن قوي، قوي في علمه، قوي في إيمانه، قوي في عمله، فهو أحب إلى الله عز وجل من المؤمن الضعيف. [(وفي كل خير)]؛ لأن كل واحد منهما فيه إيمان، والإيمان خير، [(فاحرص على ما ينفعك، واستعن بالله تبارك وتعالى ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقولن: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)].
يعني: كل شيء عنده بمقدار حتى العدل والكيل (فإن لو تفتح عمل الشيطان)].
قال: [عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن النذر لا يقدر لابن آدم شيئاً لم يكن الله قدره)].
يعني: أنت تقول: يا رب! لو ابني نجح سأذبح شاة، وابنك نجح، فهذا قد سبق في علم الله. لكي لا تتصور أن ذبح النعجة معلق بسبب نجاح ابنك، بل كتب في اللوح المحفوظ، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان يكره النذر في الطاعة، ويقول: (إنما يستخرج به من البخيل). يعني كأنك تقول: يا رب لو ابني نجح أذبح، وإذا ما نجح ما أذبح. وهذا لا يصح، ففي زمن السلف لم يختلفوا في هذه القضية.
ولابد أن يكون النذر في طاعة، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه).
فمثلاً: واحد يقول: يا رب لو أنا حصل لي كيت سأترك الصلاة. فهذا النذر يأثم به العبد، ولا يلزمه هذا النذر، إنما لو نذر في طاعة يلزمه النذر والأفضل عدم النذر، والنذر لن يغير شيئاً في المكتوب والمقدر.
فتقول: يا رب لو ابني نجح سأذبح شاة، فنجح ابنك، ثم بعد ذلك تلف وتدور وتتلمس الأعذار فتقول أصوم فأنا ممكن أصوم ستة شهور ولا أذبح -لأنك بخيل- وممكن أن تحدث نفسك بأنه كان مكتوب في اللوح المحفوظ أنه سينجح، فما الذي جعلك تنذر؟
ولذلك النذر يستخرج به من البخيل، أما للإحسان وهو أن ربنا أحسن إليك في نجاح ولدك، أو في قضاء مصالحك فاذبح من غير ما تنذر، فلا ينفع أن تعمل الطاعة وأنت محتار، بل وأنت راض ومبسوط، ومقبل على ربك، لابد أن تعمل الطاعة ورقبتك تحت رجلك، فلا تذبح الشاة وأنت كاره، قال: (إن النذر لا يقدر لابن آدم شيئاً لم يكن الله قدره).
يعني: هذا النذر لم يغير من القدر شيئاً، ولكن النذر يوافق القدر، والله عز وجل علم أزلاً أنك ستنذر فلابد أن تفي بالنذر.
ويفضل ألا تنذر حتى في الطاعة، وإذا كنت تريد أن تشكر ربك بذبح شاة، فلا يكن ذلك في صورة نذر، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الطاعة بدون نذر خير من الطاعة بنذر.
إذاً: الأفضل هو ألا تنذر، وأن تفعل هذه الطاعة بلا نذر، لكن الله تعالى بعد أن أرسل إليك رسولاً، وبين لك أن الطاعة بغير نذر أفضل من الطاعة بنذر علم أزلاً أنك ستنذر، وبالتالي يقول لك: إن النذر هذا لا يغير في القدر شيئاً، ولكنه يوافق القدر، فالنذر بالقدر، ونجاح ولدك بالقدر. قال: [ولكن النذر يوافق القدر فيكره ذلك من البخيل ما لم يكن يريد أن يخرجه].
والله عز وجل يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الجواب: هو يريد أن يقول: إذا كان الله عز وجل علم أزلاً أن هذا العبد سيختار طريق الشقاء كتبه عليه، فالله هو الذي جعل العبد يختار طريق الشقاء، وهذه شبهة القدرية، ولذلك فإن معظم السلف ما كانوا يتكلمون كلمة واحدة في القدر، لما تنظر إلى كلام أحمد بن حنبل تجد أنه لم يثبت عنه أنه تكلم في القدر بكلمة إلا كلمة واحدة قال: القدر هو قدرة الله عز وجل.
فليس معنى ذلك أن الإمام أحمد لم يستطع أن يؤلف مصنفات في القدر، ولكن معظم السلف كانوا ينكرون هذا الكلام إنكاراً عظيماً جداً.
ولذلك ورد عنهم: إذا جاء القدر فأمسكوا. لأن الشيطان سيسلمك من سؤال إلى سؤال، إلى حد أن تقول: إن ربنا ظالم لنا.
ونحن أثبتنا أن العبد له إرادة، والله عز وجل له إرادة، والعبد له مشيئة، والله تبارك وتعالى له مشيئة، والله تعالى لا يرضى لعباده الكفر ابتداءً، وأمرهم بالإيمان، ونهاهم عن الكفر ولم يرضه لهم، فالعبد لا يكفر غصباً وإنما بمشيئة الله.
فالذي حصل له ألم لا يرضى أنه يتعذب به في الدنيا وكذا في الآخرة، والذي صفعك لا يستطيع أن يصفعك إلا بإرادة الله، وسترد عليه بإرادة الله، وما رفع يده إلا بإرادة الله، ولا يقدر ينزلها إلا بإرادة الله، فهل الله تبارك وتعالى يرضى عن هذا الفعل؟ لا. ومع هذا أذن بوقوعه؟ فالشيطان من خلق الله، وأعمال الشيطان هي من خلق الله وإيجاد الله، فهل ربنا رضى عنها؟
إذاً: نحن لابد أن نفرق بين المسألتين:
الإرادة الشرعية الدينية، والإرادة الكونية القدرية:
الإرادة الشرعية هي: أنك تصلي معنا المغرب والعشاء، فربنا أذن في ذلك وخلق فيك هذه الحركات من قيام وركوع وسجود وقراءة، وأضل غيرك، أو أنساه صلاة المغرب وصلاة العشاء، ويمكن أنه ما يصلي نهائياً.
وهذا بإرادة الله، لكن الله لا يرضاه، إنما أذن بوقوعه، مثلما أذن بوقوع الكفر في الكون، مع أنه حذر منه، وأرسل الرسل، وأنزل عليهم الكتب، والله لا يرضى الكفر، ومع هذا فالكافر هو الذي اختار الكفر.
لما تقول لابنك: يا ابني! الطريق هذه تؤدي بك إلى النجاح، والطريق هذه تؤدي بك إلى الرسوب، ومع هذا ابنك يصر على عدم المذاكرة مع المراقبة الشديدة وتوفير جميع وسائل الراحة التي تؤهله للنجاح في نهاية العام، ومع هذا فالولد كلما تؤكد عليه يعرض عنك، فهذا الولد يعرض عنك بإرادة؛ بدليل أنك موفر له سبل الراحة، والولد لا يستغل سبل الراحة ولا يذاكر.
فالله عز وجل علم إعراض هذا الولد، وعلم أنك ستقوم تجاهه بالواجب، ويأجرك على هذا الواجب والولد يأثم عند الله عز وجل بتمتعه بهذه النعم وإعراضه عن المذاكرة.
الولد يعرف في نفسه أنه لو ذاكر سيرضي ربه ويرضي والده، ومع هذا يعرض.
فإذا كان لا يعلم ذلك فإنه لا يأثم.
إذاً: لا يوجد ظلم هنا، فالله تبارك وتعالى خلق الجنة وخلق النار، خلق لهذه قسم الله أعلم بهم، وخلق لتلك قسم الله أعلم بهم، وبين لهم الطرق والأسباب التي تؤدي بهم إلى الجنة، وإلى النار، وأنزل لهم الكتب، وأرسل لهم الرسل فقامت عليهم الحجة، فالذي يكفر يعلم أنه كافر، والذي يزني يعلم أنه يزني، ويعلم أن الزنا معصية، وأن الله سيعاقبه عليه، ولكنه لا يستطيع أن يزني بغير إرادة الله. وليس معنى: (بقدر الله) أن الله عز وجل يحب الزنا ولذلك أذن فيه، فهو لا يحبه، إنما يحب العفاف والطهر وأمر به، ويكره الزنا ويمقته ونهى عنه، لكن الذي يأتي الطاعة فهو يأتيها بإرادة الله، والذي يأتي المعصية هو يأتيها بإرادة الله؛ لأنه لا يقع في الكون إلا ما أراده الله وقدر، لكن من إرادته ما يثيب عليها، ومن إرادته ما يعاقب عليها.
الجواب: الكرفتة تشبه بالكفار، لكن من يلبسها ليس كافراً، وإنما يجب على الرجل أن يتنزه عن مشابهة غير المسملين.
أما عدد الرضعات المحرمة: فهي خمس رضعات في كلام الله، وحديث عائشة في الصحيحين: (كان مكتوب في الكتاب عشر رضعات محرمات جعلها الله عز وجل خمساً، فهي خمس رضعات مشبعات متفرقات).
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تحرم المصة ولا المصتان، ولا الإملاجة ولا الإملاجتان).
(سئل هل تحرم الرضعة يا رسول الله؟ قال: لا. قال: هل تحرم رضعتان؟ قال: لا).
واختلف أهل العلم في التحريم، ورأي الجمهور هو الصواب: أن الرضاع يحرم كما قال عليه الصلاة والسلام: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
أي: أن الرضعات المحرمات خمس رضعات مشبعات، وهو أن يترك الولد الثدي باختياره وبإرادته.
الجواب: هو يريد أن يقول: امرأة عقدت عليها ولم أبن بها ثم طلقتها، فهي تبين بينونة كبرى بهذه الطلقة، فإذا أراد أن يتزوجها لابد من عقد جديد ومهر جديد، وهذه المرأة ليس لها نفقة ولا متعة، ولا سكن ولا شيء من هذا نهائياً، إنما إذا كان قد خلا بها خلوة شرعية فلها المهر كله، وإذا لم يخل بها أي: لم يدخلها في مكان ويغلق الباب، ويرخي الستر عليهما حتى وإن لم يقبلها ولم يمسها، فإذا حدثت هذه الخلوة وإن لم يمسها فيجب لها المهر كاملاً، أما إذا لم تحدث هذه الخلوة فليس للمرأة عند زوجها إلا نصف المهر، ولو عفت عنه لا يطالب الزوج به، ولكن لابد أن يكون العفو بإذن الولي أياً كان، سواءً كان الولي أخوها أو عمها أو جدها، فأنت لا ترضى أن تعفو ابنتك إذا طلقت، فقد تضربها على ذلك.
الجواب: التخصص في هذا سمج بارد، وأنا أظنه ظناً يقينياً: أن هذا معصية لله عز وجل، كيف أن الدكتور يعيش حياته بالليل والنهار بين أفخاذ النساء؟
والعلماء يقولون: النساء عليهن أن يتعلمن، ومجال الطب لابد أن يكون فيه طاقم نسوي فيما يتعلق بتعليم المرأة في الطب، أما أن الرجل يكون رئيس قسم النساء والتوليد والعقم، فهذا من البلاء العجيب، وليس هذا مستساغاً فضلاً عن مخالفته، ولذلك نحن نرى الإخوة الطيبين الذين تورطوا في هذا القسم لما يتوبوا فإنهم يبحثون عن قسم آخر يتخصصون فيه، ويأخذون فيه دراسات من جديد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر