فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، ثم أما بعد:
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: [ باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة ].
هذا التبويب من الإمام النووي في غاية التوفيق والسداد؛ لأن هذا التبويب يوحي بأن المرء لا بد أن يقع في الذنب، بل هذا نص حديث النبي عليه الصلاة والسلام الذي قال: (والذي نفس محمد بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)، فالذنب لا بد أن يقع، إن لم يكن من الكبائر فمن الصغائر حتماً، لكن لست بهذا أعطي بطاقة أو رخصة لكل إنسان أن يذنب، فالمرء قد جبل على أن يقع في الخطأ والتقصير، وإذا وقع في الذنب فمنه ما هو كبير ومنه ما هو صغير، فالكبير قد علمنا حكم مرتكب الكبيرة مراراً وتكراراً، وأما الصغائر فتكفرها الطاعات، من صلاة، وصيام، وزكاة، وحج، وذكر، وتهليل، وتكبير، وتحميد، وتسبيح، وغيرها من الأعمال التي تكفر السيئات وتمحوها.
كما يعني هذا التبويب أن المرء إذا أحدث ذنباً لا بد أن يحدث له توبة، وهذا معنى قول الله عز وجل: (اعمل ما شئت فقد غفرت لك)، فمهما عمل العبد من ذنب، وما دام أنه يحدث له توبة، فإن الله تعالى يقبل هذه التوبة.
وأقول هذا بمناسبة ذيوع حديث موضوع مشهور بين العامة: (أن الله عز وجل يقول للعبد الذي تاب من ذنبه ثم رجع إليه: فإني لا أتوب على عبدي، وعبدي كالمستهزئ بي)؛ أي: أنه يتوب ثم يرجع في توبته، ويرتكب الذنب الذي تاب منه أو غيره.
هنا يقرر قاعدة عظيمة عند أهل السنة والجماعة، وهي أن عبادة المسلم لا بد أن تدور بين الخوف والرجاء، إذ إن الله تعالى يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، فلما علم العبد أنه يدور بين الخوف والرجاء، وقد وقع في الذنب، دفعه خوفه من الله عز وجل إلى أن يطلب المغفرة منه سبحانه.
والتقدير: اعمل يا عبدي! ما شئت من الذنوب ما دمت تحدث بعدها توبة، وهذا لا يعني أنها رخصة من الله عز وجل للعباد بأن يذنبوا، أو أن يقعوا في المعاصي.
الأول: أنك لا تضمن أن تقبض روحك وأنت على المعصية، وعند ذلك لا تدرك التوبة.
الثاني: أنك لا تدري لعل الشيطان يتسلط عليك فينسيك التوبة، لذا ينبغي على المرء أن يحرص كل الحرص أن يكون بجوار ربه، وملازماً لطاعته.
الثالث: لعل الله تعالى لا يوفقك إلى التوبة.
الرابع: لعلك تتوب توبة ضعيفة، فلا يقبلها الله عز وجل، وأقول: توبة ضعيفة؛ لأن العبد الذي يفكر سلفاً في المعصية اتكالاً على أنه سيتوب، فإنه في حقيقة أمره لم يتب؛ لأن التوبة من الذنب تجعل قلب المرء كأنه يختلع وينتفض من صدره انتفاضاً، ويتحشرج في حلقه، أما الذي يطلق لنفسه العنان في المعاصي والذنوب بدعوى أنه سيتوب بعدها لا بد أن يسأل نفسه: هل تضمن حياتك بعد ارتكاب الذنب؟
فإن كان الجواب بـ(لا) فليقم على توبته قبل وقوعه في الذنب.
وقوله: (فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب، ويغفر الذنب، اعمل ما شئت فقد غفرت لك).
أي: ما دمت تتوب بعد كل ذنب، فإن باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذه التوبة عامة لكل الخلق، أما التوبة الخاصة فلكل عبد على حدة، وذلك حين يغرغر.
قال عبد الأعلى : (لا أدري أقال في الثالثة أو الرابعة : اعمل ما شئت)؟
قال: [ حدثني عبد بن حميد ، حدثني أبو الوليد -وهو هشام بن عبد الملك الطيالسي - حدثنا همام -وهو ابن يحيى بن دينار - حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: كان في المدينة قاص يقال له عبد الرحمن بن أبي عمرة قال: فسمعته يقول: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن عبداً أذنب ذنباً) بمعنى حديث حماد بن سلمة، وذكر ثلاث مرات، أذنب ذنباً، وفي الثالثة (قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء) ]، أي: فليعمل ما شاء ما دام أنه يحدث توبة، أما أن الله تعالى يعفو عن العبد وهو مصر على الذنب، ولم يتب ويستغفر، ولم يكن عنده من الطاعات ما يؤهله لمحو السيئات، فهو على خطر عظيم جداً.
قال الإمام النووي : بسط اليد استعارة في قبول التوبة، قال المازري : المراد به قبول التوبة، وإنما ورد لفظ بسط اليد؛ لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله، وإذا كرهه قبضها عنه، فخوطبوا بأمر حسي يفهمونه، وهو مجاز، فإن اليد الجارحة مستحيلة في حق الله تعالى.
هذا كلام الأشاعرة، وقلنا مراراً: إننا نثبت صفات الله عز وجل على الوجه اللائق به سبحانه، ومنها: اليد، فلا ندري كيفية هذه اليد؛ لأننا لا ندري كيفية الذات، وبالتالي فلا ندري كيفية الصفات، أما صفات الفعل لله عز وجل فمنها صفة البسط، أعني: بسط اليد، والبسط في حقنا هو مد اليد، وحتى مد اليد أو البسط على اختلاف بين شعوب العرب نفسها.
ولو حملنا بسط اليد على قبول التوبة -كما قال المازري- لقلنا: إن الله تعالى لا يبسط يده حقيقة، ونحن نؤمن أن ما وصف الله به نفسه، وما وصفه به رسوله حقيقة على المعنى اللائق به سبحانه.
وقد سألت طفلاً بدوياً في سنة 85 عن حال أبيه فقال: مبسوط، فلما زرته وجدته مريضاً طريح الفراش، فأخبرته بما قال لي ولده، فقال: كلمة (مبسوط) عندنا تعني: أنه نائم في فراشه، بخلاف ما هي عليه عندنا، إذ هي بمعنى فرحان، وعليه فكلمة (مبسوط) لها مدلولات كثيرة، فلمَ لا تحمل مدلولاً عظيماً يليق بأفعال الله عز وجل؟ وأن الله تعالى يبسط يده لعباده المسيئين بالليل والنهار ليتوبوا، فيقبل الله تعالى توبتهم، وبسط اليد وإن كان حقيقة إلا أن الكيفية تختلف عن بسط يد العباد، أو يد المخلوقات، وهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، فيؤمنون بأن الله تعالى يغضب، ويفرح، ويأتي، ويذهب، ويجيء، ويقبض، ويبسط، وغير ذلك من أفعال ذاته سبحانه وتعالى على المعنى اللائق به تبارك وتعالى، ولذلك كلام الإمام النووي غير سديد.
وإذا قلنا في معنى بسط اليد لله: أنه قبول التوبة، فلا بد أن نؤول الحب كذلك؛ لأنه لا يليق بالله عز وجل أن يحب كحبنا، فلا بد أن نثبت أن الله تعالى يحب، فيحب عباده المؤمنين والموحدين.
أما الله عز وجل فإنه يحب المدح، أي: يحب المدح والتزكية والثناء لعباده بشروطه، وقد مدح الله عز وجل عباداً صالحين على العموم، ومدح بعض عباده على الخصوص، كالأنبياء والمرسلين؛ لأنه لا يخشى عليهم الفتنة، لكن لو قلت لشخص ما: أنت ما شاء الله عليك، أنت ممتاز، أنت رجل فاضل، وهو أصلاً لا يستحق ذلك، فيصدق هذا الكلام، ويصدق هذا المدح، فيتعامل مع نفسه ومع الناس بعد ذلك على أنه رجل طيب، ورجل فاضل، وهو في الحقيقة لا يستاهل أن يكون نصف رجل، فأنت قد أثنيت عليه ظلماً وعدواناً لتحصل منه على منفعة غلب على ظنك أنك لا تحصل على هذه المصلحة أو هذه المنفعة إلا بالثناء والإطراء له، والطامة أنه صدق ذلك، وبالتالي بدأ يتصرف على أنه بالفعل إنسان ممدوح، وإنسان مرغوب فيه وفي أخلاقه وغير ذلك، أما الله عز وجل فإنه على خلاف ذلك؛ لأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11].
قال: [ (وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش) ]؛ لأن الله تعالى يغار -والله المثل الأعلى- فالواحد منا يغار على امرأته، فيغلق عليها الباب، ويغلق عليها الشبابيك، ولا يحب أن يراها رجل، ولا يحب أن تنظر هي إلى رجل آخر، فيمنعها من كل شيء يؤثر على هذه الغيرة، أو يعكر عليه هذه الغيرة، ولو أنه رأى بصر امرأته وقع على رجل، أو وقع بصر رجل عليها، لغضب غضباً شديداً، ولفعل الأفاعيل.
لذا أقول: إن الله تبارك وتعالى أشد غيرة من عباده، حتى وإن كانوا أنبياء أو ملائكة، وهي غيرة تليق بذاته وجلاله، ولذلك حرم المعاصي والفواحش، فوضع الحدود والموانع من ارتكاب هذه المعاصي والفواحش؛ لأن الله تعالى يغار أن تنتهك حرمة من حرماته، أو أن يقع عبد في معصية من معاصيه.
والتقدير كما في الرواية السابقة: من أجل ذلك مدح الله تعالى نفسه.
قال: [ حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار ، قالا: حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل يقول: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: قلت له: أأنت سمعته من عبد الله ؟ -يعني: أن عمرو بن مرة سأل أبا وائل هل سمع هذا الحديث من عبد الله بن مسعود؟- قال نعم. ورفعه ]، أي: أن ابن مسعود رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسمي الكلام المرفوع إلى النبي مرفوعاً؛ لرفعة قائله صلى الله عليه وسلم.
قال: [ (لا أحد أغير من الله، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، ولذلك مدح نفسه) ].
قال: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة وزهير بن حرب - أبو خيثمة النسائي ، نزيل بغداد- وإسحاق بن إبراهيم -المعروف بـابن راهويه - قال إسحاق : أخبرنا وقال الآخران: حدثنا جرير، عن الأعمش ، عن مالك بن الحارث -وهو السلمي الرقي، وقيل: الكوفي- عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله عز وجل، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش، وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل).
إن مدح الله تعالى والثناء عليه يكون بالتحميد، والتهليل، والتسبيح، والذكر، والصلاة، والصيام، والحج وغير ذلك، وكل هذه الطاعات إنما هي من باب مدح الله عز وجل، وقد اختلف أهل العلم في معنى المدح:
فقال بعضهم: هي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال بعضهم: قول العبد: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين.
وقال بعضهم: المقصود بالمدح في الحديث: الصلاة؛ لما اشتملت عليه من دعاء، واستغفار، وقراءة للقرآن وغير ذلك.
والذي يترجح لدى الإمام النووي ، وأظن أنه الراجح: أن كل طاعة يؤديها العبد لله عز وجل بذل وخضوع فهي من باب مدح الله عز وجل على نعمائه على عباده.
المعاصي القلبية، كالغل، والبغض، والحسد، والضغينة، والشحناء، كل هذه أمراض قلبية باطنية، فالله تعالى يطلع عليها ويعلمها من عبده، ولذلك حرم الله تعالى الفواحش والمعاصي ما ظهر منها للعيان وما لم يظهر، كما لو كان في أمراض القلوب.
قال: (وليس أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل)، أي: إذا لم يكن العذر محبباً إلى الله عز وجل، وبلوغ الحجة وقيامها على العباد، فما الفائدة من إرسال الأنبياء والمرسلين، وإنزال الكتب الهادية البشيرة مع هؤلاء الأنبياء والمرسلين؟
إن الله عز وجل بإنزاله الكتب وإرساله الرسل قد أقام الحجة على جميع العباد؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، والله تعالى غني عن عذاب عباده، ولذلك لا يعذبهم إلا بعد قيام الحجة عليهم، وأخذ العذر عنهم ولهم، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام (إذا بلغ العبد أربعين عاماً فقد أعذر الله له) إذا بلغ العبد، مع أنه مكلف من سن العاشرة أو الثانية عشر، ومحاسب على أعماله الحسنة والسيئة، لكن الله تعالى كأنه أعطاه فرصة لأن يتوب، وأن يراجع نفسه، وأن يقف مع نفسه وقفة جادة صادقة حتى بلغ سنة أربعين سنة، والحديث في مسلم .
ومن العجب أن سن الأربعين له اهتمام خاص في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15]، وورد أهمية هذا السن في كثير من الأحاديث والآيات، وقد قيل: إن كل نبي بعثه الله عز وجل في هذه السن، أي: في سن الأربعين، ولا أقصد جميع الأنبياء، لكن غالب الأنبياء هكذا، وإلا فأنتم تعلمون أن بعض الأنبياء بعثوا قبل ذلك وهم صغار، مثل: سيدنا عيسى، وسيدنا يحيى، وسيدنا سليمان.
نقل الإمام النووي عن القاضي فيقول: يحتمل أن المراد بالاعتذار، أي: اعتذار العباد إليه من تقصيرهم وتوبتهم من معاصيهم، فيغفر الله لهم، كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [الشورى:25]. نفس الكلام الذي قلناه في بسط اليد نقوله هنا في غيرة الله عز وجل.
قال: [ حدثنا عمرو الناقد ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية ، عن حجاج بن أبي عثمان قال: قال يحيى -وهو ابن أبي كثير -: وحدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه) ]، أي: ما حرم الله عليه.
وعلى كل فالله تعالى أثبت لنفسه غيرة كما أثبت لعبده المؤمن غيرة، لكن شتان بين غيرة الله تعالى وبين غيرة عباده المؤمنين.
قال: [ قال يحيى بن أبي كثير : وحدثني أبو سلمة ، أن عروة بن الزبير حدثه ، أن أسماء بنت أبي بكر حدثته ، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس شيء أغير من الله عز وجل).
وفي رواية لها قالت: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لا شيء أغير من الله عز وجل) ].
قال: [ حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي ، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يغار، والله أشد غيرة) ].
و هذا يدل على أن الغيرة من شعب الإيمان، والحديث الذي معنا قد أثبت أن العبد المؤمن يغار، والعبد الذي لا يغار لا يكون مؤمناً كامل الإيمان، بل لا يكون رجلاً قط، إنما الرجل هو القائم على طاعة الله عز وجل، هذا هو الرجل حقيقة.
الشاهد: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها).
أي: إذا وقعت في سيئة فليكن بعدها حسنة، من أجل أن تغفر هذه تلك، أو أن هذه الحسنة تمحو السيئة، ومعنى (يذهبن) تمحو، فالحسنات تمحو السيئات.
ولا يقول العبد: الحمد لله هذه رحمة من الله عز وجل، ويفعل الآثام والمعاصي! إذ إنه لا يوجد عنده زلف من الليل، وإنما يكتفي بالفروض الخمسة، ولا سنن قبلية ولا سنن بعدية، وربما صلى وهو يفكر، ويريد أن ينتهي الإمام من الصلاة حتى يخرج إلى الشارع، لذا إقامة الصلاة ليس معناه: أنك تؤدي الصلاة ثم تنصرف، بل لا بد أن تبقى قيام الصلاة في قلبك، بحيث يتعلق قلبك بالمساجد.
ولذلك يقول العلماء: أداء الصلاة شيء وإقامتها شيء آخر، فإقامة الصلاة يعني: تعلق القلب بها مثلما كان السلف، فقد كان الشخص منهم يدخل في الصلاة فلا يشعر بمن حوله، حتى لو قطعوا رجله أو رقبته؛ لأنه استغرق تماماً في هذه العبادة، فعاش مع الله تبارك وتعالى، فهل نحن كذلك؟!
وقال: حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد وأبو بكر بن أبي شيبة -واللفظ لـيحيى - قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا أبو الأحوص -وهو سلام بن سليم - عن سماك بن حرب ، عن إبراهيم النخعي ، عن علقمة والأسود ، عن عبد الله بن مسعود قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني عالجت امرأة في أقصى المدينة) ].
أي: استمتعت بها استمتاعاً دون الفاحشة، كأن يقبلها أو يحضنها أو يغمز لها أو غير ذلك.
وقوله: (في أقصى المدينة) أي: بعيداً عن أنظار وأعين الناس.
قال: (وإني أصبت منها ما دون أن أمسها) والمس بمعنى: الجماع، أي: أنه فعل معها كل شيء إلا الجماع. قال: فأنا هذا فاقض فيّ ما شئت، يعني: ها أنا قد أتيتك، وأنا بين يديك فاحكم في بما شئت.
لكن نجد كل وسائل الفساد قد سعت لإفساد المرأة، فأدخلوا لها تلفزيوناً (24 بوصة) ملوناً، وأخذت تنظر فيه، فترى الرجل يقبل المرأة، وهي تكاد أن تموت من فرط غيرتها وحيائها، ثم بعد ذلك تألف المسألة، بل لو تعطل التلفزيون تكون مصيبة كبيرة في البيت، ولا بد أن تصلحه في نفس اليوم؛ لأنها تتابع الأفلام والمسلسلات، ومعنى أنها لا تدرك حلقة من المسلسل ذهاب نصف عمرها! وهكذا فشيء مع الوقت تغيرت الأخلاق، وتغيرت القلوب، وكل شيء تغير في الأمة، فلا بد من الرجوع بالأمة إلى عهدها الأول، ولن تصلح الأمة إلا بالرجوع إلى عهدها الأول، العهد الذي يقاس عليه الخير كله.
قال: [ (فقال له
فقوله: (الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها ما لم تغش الكبائر)، يدل على أن الذي فعله الرجل ليس من الكبائر؛ لأنه ليس بالزنا الذي هو الإيلاج، أي: إدخال الذكر في الفرج، كما يدخل الرشاء في البئر، وكما قال عليه الصلاة والسلام في حديث ماعز : (يا رسول الله! إني زنيت، قال: أتدري ما الزنا؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: أدخل هذا منك في ذاك منها كما يدخل الرشاء في البئر- يعني: هل دخل ذكرك في فرجها على هذا النحو؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: أقيموا عليه الحد) .
ومع أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له: لعلك قبلت، أو لعلك فعلت أمراً دون الجماع، بل سأل عنه الصحابة: أهو سكران؟ ومع ذلك كان يعرف ما هو الزنا.
كل هذا درءاً للحد بأي شبهة، ولم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: أقيموا عليه الحد، بل أخذ يتنقل به من مرحلة إلى مرحلة، ومن مرتبة إلى مرتبة، حتى وجب عليه الحد، ومع هذا لما أقاموا عليه الحد، وأصابه مس الحجر فر، فضربه رجل بوظيف كان معه فقتله، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هلا تركتموه؟!
بينما هذا الوقت يموت الشخص من دون أي ذنب، فيظل في القسم مدة معينة، ثم ينتقل إلى قسم آخر، وهكذا، ويطلب منه أن يعترف بشيء لم يعمله، فيعترف لهم بذلك، ويسجل ذلك في المحضر بيديه أنه هو قد عمل هذا الشيء! ثم يذهب إلى النيابة، فيقول: يا وكيل النيابة! أنا لم أعمل شيئاً، لكن من الضغط علي اعترفت بشيء ولم أعمله، ثم يرجع مرة أخرى إلى القسم، وينال العقاب حتى يعترف بشيء لم يعمله، ثم يذهب إلى النيابة، ويقول: أنا قد عملت كذا وكذا، وهو في الحقيقة لم يعمل شيئاً.
وحدثنا الحسن بن علي الحلواني ، حدثنا عمرو بن عاصم -وهو الكلابي القيسي أبو عثمان البصري - حدثنا همام -وهو ابن يحيى بن دينار - عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أصبت حداً فأقمه علي. قال: وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضى الصلاة قال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقم في كتاب الله، قال: هل حضرت الصلاة معنا؟ قال: نعم، قال: قد غفر لك) ].
وهذا محمول على الصغائر لا الكبائر، لأن الكبيرة تستوجب الحد، وليس في مقدور النبي عليه الصلاة والسلام ألا يقيم الحد، والحدود والتعزيرات بينهما فوارق:
منها: أنه للسلطان أن يتنازل عن الحد في الكبيرة، بخلاف التعزير، فإنه متروك لاجتهاد القاضي، أو الحاكم أو الأمير أو السيد أو الزعيم أو المسئول، والتعزير يكون باللوم وبالتوبيخ وبالسب، وبالمثلة، كأن يحلق شعره، ولا حد في أقل من عشر، كما أنه لا تعزير في أكثر من عشر، فللحاكم أن يعزر بالجلد، فيجلد جلدتين وثلاثاً وسبعاً وعشراً، ولا يزيد على ذلك إلا في حد من حدود الله، ولذلك جعل الله تعزير المرأة أولاً بالوعظ، ثم باللوم والتوبيخ والهجر، ثم الضرب غير المبرح.
قال: [ حدثنا نصر بن علي الجهضمي وزهير بن حرب -واللفظ لـزهير - قالا: حدثنا عمر بن يونس -وهو ابن قاسم اليمامي - حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا شداد ، حدثنا أبو أمامة قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ونحن قعود معه، إذ جاء رجل فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً) ].
أي: ذنباً عظيماً وليس ما يستوجب حداً، وربما فهم الرجل أن هذا العمل فيه حد، فلما أطلع النبي على ما فعل علم أنه ليس حداً يستوجب إقامة الحد عليه.
وهذا يذكرني بذاك المدني الذي أتى وقال: (يا رسول الله! هلك الأبعد، قال: وما أهلكه؟ قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان)، مع أن وطء المرأة في نهار رمضان ليس فيه حد، ومع هذا قال: هلك. وقال: الأبعد، أي: يدعو على نفسه. فقال عليه الصلاة والسلام: (وما أهلكه؟ أي: ماذا عمل؟ قال: وقعت على امرأتي في نهار رمضان، قال: اذهب فأعتق رقبة، قال: ليس عندي رقبة، قال: اذهب فصم ستين يوماً، قال: وهل أوقعني فيما وقعت فيه إلا الصيام؟ فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال: كيف وقعت بها؟ قال: رأيت خلخالها، ثم قال: اذهب فأطعم ستين مسكيناً، قال: ليس عندي ما أطعمه، قال: انتظر، فانتظر حتى أتي بتمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال: اذهب فأطعم ستين مسكيناً، قال: والله يا رسول الله! لا تجد بين لابتيها -أي: بين جبليها، فقد كانت المدينة في وادي أو في سهل بين جبلين عظيمين- أفقر مني ومن أهل بيتي، قال: اذهب فاجعله فيك وفي أهل بيتك).
انظر إلى الحرص على طلب العلم، فقد مشى الرجل والنبي عليه الصلاة والسلام وأبو أمامة وراءهم من أجل أن يعرف رد النبي في هذه القضية.
قال: [ (فلحق الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني أصبت حداً فأقمه علي، قال
الجواب: هذا هو الأصل؛ وليس جائزاً فقط؛ لأن القواعد النحوية إنما أخذت من كلام العرب، وأبلغ الكلام وأفصحه هو كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذا فإن أعظم قاعدة لغوية هي ما يستشهد عليها بآية من كتاب الله، أو بحديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب: هذا الحديث روي أنه قاله النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة الخندق، لكن إسناده غير صحيح، وهو صحيح موقوف من قول علي بن أبي طالب، فالراجح أنه من كلام علي بن أبي طالب لا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.
الجواب: نعم هو حديث صحيح.
الجواب: قد ذكرنا هذا مراراً وتكراراً، وقلنا: إن العقيدة لم تتقرر عند الإمام النووي رحمه الله، ولذلك يورد أحياناً كلام الأشاعرة ويرد عليهم، ويبطل معتقدهم ومذهبهم، وأحياناً يوافقهم على ذلك، وأحياناً يتوقف.
الجواب: في الحقيقة أن التلفاز لا يحتاج إلى النذر حتى يتركه المسلم؛ أعظم من أن ينذر المسلم تركه، وعلى أي حال إذا أرادت الأخت أن تستريح لسؤالها فلتتصدق بشيء ما، وهذا الشيء قد اختلف فيه أهل العلم؛ لأنه قد ورد في رواية مسلم : (من نذر فلم يستطع فليتصدق بشيء)، وفي رواية: (من قال لأخيه: تعال أقامرك. فليتصدق بشيء)، فهل هذا الشيء هو الكفارة أو أي شيء يجزئ؟
الراجح: أن أي شيء مهما قل يجزئ، خاصة أن الأخت عاهدت الله تعالى، فإذا حملنا هذا العهد على النذر فيجزئها أن تتصدق بأي شيء قل أو كثر، والله تعالى أعلم.
الجواب: أظن أن هذا السؤال بالذات كان محل خطبة طويلة على هذا المنبر، وقد قلنا: إن النبي عليه الصلاة والسلام مكث ثلاثة عشر عاماً يعلم أصحابه الاعتقاد قبل أن ينزل من السماء حكم شرعي واحد، وهذا ليس بحديث، وإنما هو من قول عبد الله بن عمر ، وجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم أجمعين، يقول عبد الله بن عمر :كان الواحد منا يتعلم العشر الآيات من القرآن، فيقف عندها، فيتعلم حلالها وحرامها، وحدودها وفرائضها، وما يجب عليه منها، فكان الإيمان أولاً، وكم ممن يحفظ القرآن لا إيمان له، وبعض الناس يتصور أنه إذا حفظ القرآن فقد عبر القنطرة، بل إن أعظم الناس بدعة في تاريخ الإسلام الخوارج، ومع ذلك كانوا أحفظ الناس لكتاب الله، وأعبد الفرق الإسلامية لله عز وجل، وما وقعوا فيما وقعوا فيه إلا لاستشعارهم بأن المعصية الصغيرة ذنب كبير في حق الله عز وجل، ولذلك كفروا مرتكب الكبيرة، وقالوا: من ارتكب كبيرة فهو كافر خارج عن الملة، مخلد في النار، مع أنه ليس كذلك، لكنهم قالوا بذلك استشعاراً لعظم الذنب، وهذا يعني: أن حسن النية للشخص، أو العواطف في الأحكام الشرعية ليس كافياً، إذ إن المسائل الشرعية تقرر بالقواعد العلمية، ولا يكفيها العاطفة أبداً.
الجواب: أسأل الله تعالى أن يوفقك إلى ما فيه الخير والصلاح، ووصيتي ونصيحتي لك أن تتزوج بامرأة كفءٍ لك مادياً، لكن لو أنك تزوجت امرأة أقل منك في مستوى المعيشة لكان أفضل، كأن يستلم أبوها مائتين جنيه، وأنت تستلم ثلاثمائة جنيه، عند ذلك سوف تكون حياتها معك جميلة ومرتاحة، لكن أن تبحث عن قوت يومك، وتريد امرأة صاحبة دين -ليس هناك خلاف- ونسب وحسب وجمال فلا؛ لأن معظم البلاء يأتي من هنا، وهناك حالات كثيرة جداً في المجتمع يشهد لها الواقع، ولذلك لما قال العلماء: الكفاءة في الزواج شرط. اختلفوا في المراد بالكفاءة، هل يكتفى بكفاءة الدين، وهو محل اتفاق، أم لا بد من كفاءة الدنيا؟ أعني: من المال أو الحسب أو غيرهما؟
منهم من رد كفاءة الدنيا وقال: إن خديجة رضي الله عنها كانت أكفأ مادياً من النبي عليه الصلاة والسلام، بل كانت تنفق عليه، وكان يشتغل عندها عليه الصلاة والسلام قبل البعثة، لكن في هذه الأيام بعض الشباب يفكرون أن العملية مثلما نقرأ في الكتب! أن الكتب شيء والواقع شيء، فواقعنا مر وأليم، وإياكم أن تتصوروا أنه سيحدث مثل الحادثة التي نسمعها دائماً، وهي: أن رجلاً دميماً تزوج امرأة جميلة، فرآها رجل وسألها: كيف أنت جميلة وزوجك دميم؟! فقالت: يا هذا إليك عني، فلعلني عصيت الله فعاقبني به، ولعله أصلح ما بينه وبين الله فكافأه الله بي.
الجواب: الباءة هي الإنفاق على الزوجة وأبنائها، والقدرة على إتيان النساء، وليس لأهل العلم تفسير أكثر من ذلك.
الجواب: هو بلا شك ليس من السنة، فالذي يحلق شاربه بموس ليس من السنة، بل السنة حف الشارب من أعلى الشفة العليا، فلا يتركه ينزل إلى فمه.
الجواب: جائز، خلافاً لشيخنا الألباني رحمه الله.
الجواب: أهل العلم على قولين في هذه المسألة:
فالجمهور يقولون بجواز قضاء الفوائت في كل حال.
وغير الجمهور من المحدثين وغيرهم يقولون: لا تقبل الفوائت إلا إذا فاتت بعذر، أما غير ذلك فلا، وهذا الرأي أرجح من الأول، وعليه فإذا تركها متعمداً فلا يصليها إذا دخل وقت الثانية، والله أعلم.
الجواب: الحقيقة هذا السائل ما زاد على الأبواب التي ندرسها ونتناولها في كل يوم، وأن الذي بدر منه هو من الكبائر ومن عظائم الذنوب، ويستوجب الحد، لكنه لا حد عليه الآن، وحتى على فرض وجوب الحد الآن فإن الله تعالى قد ستر عليك وأنت تأتي بالكبائر، فدائرة عفو الله عز وجل تشملك كما تشمل كل شيء، كما قال الله تعالى : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، فذنبك مهما عظم شيء، ورحمة الله تعالى وسعت كل شيء، فيجزئك ويكفيك أن تتوب توبة صادقة وخالصة لله عز وجل، ولا يلزمك كذلك التحلل من أصحاب هذه المظالم؛ لأن بعض الناس ربما تعسف في معرفة المظلمة، وفي الحقيقة لو أنك عرضت علي هذا السؤال قبل أن تذكر هذه المظلمة لوالد البنت التي ظلمتها وظلمته وظلمت نفسك أيضاً، فلن أنصحك أبداً بإخباره بذلك، لكن كونك قد فعلت، وكونه قد عفا، فهو أعظم منك وأكرم، وهذا على خلاف عادات الناس جميعاً، فكونه عفا فهذا يدل على أصالته وشرفه وسيادته، وهذا الأخ إنما يسعه أن يتوب إلى الله عز وجل، ولا شيء عليه بعد ذلك، ولا يلزمه أن يذهب إلى بلاد تقيم الحدود؛ لأن بعض الناس يفعل هذا إذا أذنب ذنباً في بلد لا يقام فيه الحد، وأقول: يلزمه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأن ينخرط في سلك طلاب العلم، فيطلب العلم، ويكثر من الصلاة، والصيام، والذكر، والاستغفار، وغير ذلك من القربات والطاعات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر