إسلام ويب

وإذا مرضت فهو يشفينللشيخ : عائض القرني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • المرض ابتلاء من الله للمؤمن يكفر به الخطايا والذنوب كما دلت على ذلك أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأمراض القلوب أعظم من أمراض الأبدان.

    وهذا الدرس تفصيل لأحكام تتعلق بالمريض .

    1.   

    المرض كفارة للذنوب والخطايا

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [آل عمران:190- 193].

    سلام الله عليكم ورحمته الله وبركاته..

    ولا نزال مع حديثه صلى الله عليه وسلم وكلامه العذب وسيرته العطرة ومع ميراثه الضخم وتراثه الفذ، فعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، جزاء ما قدم للإنسانية وما أعطى للبشرية وما أهدى للإنسان.

    يستفتح البخاري رحمه الله تعالى كتاباً آخر وهو كتاب المرضى، وقد انتهينا من كتاب الأدب ولم يبق فيه إلا ما يندرج فيما قبله، أو أحاديث مكررات.

    يقول البخاري رحمه الله تعالى: كتاب المرضى -شافاكم الله من المرض- قال تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]. ونحن نسأل الله لنا ولكم العافية ففي مسند الإمام أحمد بسند جيد عن العباس أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: (يا عمي يا عباس! سل الله العفو والعافية) وكان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه -في المسند - يقول: [[اسألوا الله العفو والعافية فإنه لم يؤت أحد بعد اليقين خيراً من العافية]] والعافية في الأبدان والأديان والبلدان، فالعافية في الأبدان: صحة وقوة ونشاط، والعافية في الأديان: سلامة ونجاة ومنهج، والعافية في البلدان: أمن ورخاء وازدهار.

    باب ما جاء في كفارة المرض، والمسلم لا يأتيه شيء يصيبه إلا كفَّر الله به من خطاياه كضربة الشمس والجوع والظمأ والهم والغم فكل ما أصابك فهو كفارة لك فاحتسبه في ميزان الواحد الأحد، وقول الله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123] هذه الآية أبكت أبا بكر الصديق فعندما نزلت هذه الآية تفصم ظهر أبي بكر وهو بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تماط فقال له صلى الله عليه وسلم: (مالك؟! قال: يا رسول الله! يقول الله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123] وكيف العمل بعد هذه الآية، كلفنا من الأعمال ما نطيق ولكن كيف نعمل بعد هذه الآية أإذا وقع منا كل سوء عاقبنا الله مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه ) [النساء:123] قال صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تهتم؟ ألست تغتم؟ قال: بلى. يا رسول الله! قال: فذلك كفارة).

    فالحمد لله الذي جعل لنا هذه الأمور كفارة وإلا فخطايانا ملأت السهل والجبل، وإذا لم تدركنا رحمة الله وعفوه وكرمه فقد هلكنا، إذاً كل ما يصيب المسلم فهو كفارة.

    وابن عباس عاش ليلة طويلة بطيئة النجوم هادئة السحر يبكي حتى الصباح من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123].

    شرح حديث عائشة في أن المصائب تكفر الذنوب

    قال البخاري رحمه الله حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع هذا الرجل شيخ البخاري وهذا الحديث لا يتلقى إلا بالسند:

    أصح وأعلى ما سمعناه في الندى     من الزمن المعروف منذ قديم

    أحاديث ترويها السيول عن الحيا     عن الغيث عن كف الأمير تميم

    وهذا البخاري سنده كنجوم الليل كل رجل فيه ولي من أولياء الله إن شاء الله، فشيخ البخاري هذا كان من العباد الكبار بكى من خشية الله حتى عمي، ووجد في السلف الصالح من بكى من خشية الله حتى عمي، منهم: الترمذي صاحب السنن بقي يبكي في الليل من العبادة حتى عمي، ومنهم: يزيد بن هارون الواسطي بكى حتى ذهبت عينه اليمنى ثم بكى حتى ذهبت عينه اليسرى فقال له تلاميذه: أين العينان الجميلتان؟ -كما في سير أعلام النبلاء للذهبي - قال: أذهبهما والله بكاء السحر.

    من تلظي لموعه كاد يعمى      كاد من شهرة اسمه لا يسمى

    وقال سعيد بن المسيب سيد التابعين: لا خير في عين لا تعمى من كثرة البكاء. وبكى حتى عميت عينه وبقي على عين واحدة؛ لأن الحياة مرحلة:

    طول الحياة إذا مضى كقصيرها     والفقر للإنسان كالإعصار

    ولكن الحياة الأبدية التي فيها لذة وسعادة هي دار القرار، وأتفه الناس وأحقرهم وأصغر الناس وأجهلهم من جعل هذه الحياة متاعاً قال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

    قال أخبرنا شعيب، وهو شعيب بن حمزة الحمصي أحد الثقات الأعلام وكذلك العباد؛ لأن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان كانوا يتعلمون العلم للعمل، يقول الإمام أحمد: كتبت المسند -أربعين ألف حديث يعني: بالمكرر- ما من حديث فيه يقبل العمل إلا عملت به إن شاء الله حتى أنني وجدت حديثاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختفى في غار ثور ثلاثة أيام، فاختفيت في غار في الكرخ ثلاثة أيام، هذا الاتباع وهذه الأصالة والنبل حتى لحقوا بركبه صلى الله عليه وسلم.

    قال الزهري محمد بن شهاب الزهري القرشي العلامة الكبير، حافظ الدنيا، كان من أتقى عباد الله لله، كان صادقاً لا يكذب، حلف بالله الذي لا إله إلا هو لو نادى منادٍ من السماء: إن الكذب حلال ما كذبت في حياتي، وفي الناس من لو نادى منادي من السماء وقد نادى منادي من السماء وهو القرآن والسنة أن الكذب حرام ويكذبون، ونعوذ بالله من الكذب.

    له مع السلطان مواقف أثبت فيها صدقه وشجاعته، جلس الناس عند الخليفة الأموي الذي يلقب الأحول هشام بن عبد الملك الذي يقول فيه الفرزدق:

    يقلب رأساً لم يكن رأس سيد     وعينان حولاوان بادٍ عيوبها

    هذا هشام سجن الفرزدق لما مدح زين العابدين علي بن الحسين لما قال أهل الشام وهم حول الكعبة وعلي بن الحسين يطوف، فأراد هشام أن يطوف فما استطاع من الازدحام فوقف معه الأمراء والوزراء حتى ينتهي الناس وهم كالبحر حول الكعبة، فأتى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين -الذي يقول عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: كان يسجد كل ليلة ألف سجدة- فأتى وفي يده خيزران وكان وجهه كالقمر ليلة أربعة عشر والمسك يفوح من ثيابه وهو ابن بنت رسول الله:

    نسب كأن عليه من شمس الضحى     نوراً ومن فلق الصباح عمودا

    فلما رآه الناس انقشعوا من حول الكعبة، وأخذ بعضهم يحطم بعضاً يفسحوا له الطريق، ليس عنده حرس ولا جند لكن أصالته تأتي من قلبه الكبير ومكانته في الأمة، فأخذ يطوف وهو يتبسم للناس وهم يحاولون تقبيل يده، فيسحبها من الناس فقال أهل الشام لـهشام بن عبد الملك: من هذا؟ فـهشام أخذه الحسد والغيرة وقال: ما أعرفه! سبحان الله! ما تعرفه:

    بينما يذكرنني أبصرنني     عند قيد الميل يسعى بي الأغر

    قلن تعرفن الفتى قلن نعم     قد عرفناه وهل يخفى القمر

    فقام الفرزدق وهو جالس فعرفه بقصيدة ما طرق التاريخ في المدح مثلها، يقول:

    هذا الذي تعرف البطحاء وطأته     والبيت يعرفه والحل والحرم

    هذا ابن خير عباد الله كلهم     هذا التقي النقي الطاهر العلم

    هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله      بجده أنبياء الله قد ختموا

    يغضي حياءً ويغضى من مهابته      فما يكلم إلا حين يبتسم

    بكفه خيزران ريحها من عبق     من كف أروع في عِرْنِيْنِه شمم

    ما قال لا قط إلا في تشهده     لولا التشهد كانت لاؤه نعم

    فأسكته وسجنه.

    فالمقصود: أن الزهري دخل على هشام هذا وهو في دمشق، فقال هشام بن عبد الملك وكان بطاشاً يبطش بالرجال عنده سيف وسلطة وقوة، الخلافة تحت يديه وهو يحمل على علي بن أبي طالب لأن بني أمية فيهم نواصب يحملون على علي رضي الله عنه وأرضاه، والنصب: بغض أهل البيت، ويقول بعض بني أمية: إن الذي تولى كبره في فتنة الإفك هو علي بن أبي طالب سبحان الله! أتقى الناس وأزهد الناس وأخشى الناس أبو الحسن يتولى كبره! والذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول ذاك المنافق الخبيث، لكن بعض بني أمية يقولون: لا. الذي تولى كبره علي بن أبي طالب.

    فأتى عالم فقال له هشام: من الذي تولى كبره؟ قال: عبد الله بن أبي بن سلول، قال: كذبت. الذي تولى كبره علي بن أبي طالب فقال العالم: الخليفة أعلم بما يقول، وجلس، قام الثاني فقال له الخليفة: من الذي تولى كبره؟ قال: عبد الله بن أبي، قال: كذبت، وقال: الخليفة أعلم بما يقول، معنى ذلك السيف الأملح، فقام الزهري فقال له هشام بن عبد الملك: من الذي تولى كبره؟ قال: عبد الله بن أبي بن سلول، قال: كذبت، قال: بل كذبت أنت وأبوك وجدك، حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة صاحبة الإفك: أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول، وحدثني عروة عن عائشة: أن الذي تولى كبره كذا ووالله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت، فتزلزل الملك وقال: لعلنا هيجنا الشيخ اجلس اجلس.

    إن الصادق يظهر في هذه المواقف، وهذا الزهري قال له هشام: اكتب لي أحاديث، فكتب له أربعمائة حديث وبعد سنة استدعاه وقال: ضاع ذاك الدفتر الذي أمليت علينا من الأحاديث، أعد عليَّ تلك الأحاديث، فأملاه، فأخرج ذاك الدفتر وهذا الدفتر الجديد فقارنوا بينهما قالوا: فوالله ما أسقط حرفاً واحداً.

    قال: أخبرني عروة بن الزبير من ذاك البيت الأصيل ابن حواري الرسول صلى الله عليه وسلم كان عالماً بحراً يقولون: يلف حبوته في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام فما ينـزل حبوته حتى يقرأ ربع القرآن، ونحن إذا قرأ الواحد منا جزءاً أو حزباً قال: يا رأسي! يا بطني! يا رجلي! إن لعينك عليك حقاً وإن لنفسك عليك حقاً، الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، أما أحاديث الرخص وأحاديث الطعام والطب فنحفظها، فنحن برحمة الله عز وجل لا من عملنا ولا من قوتنا.

    قالت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها} وهذه بشرى تزف لكل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر.

    1.   

    مسائل في قوله تعالى: ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ....)

    ومن الآية مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123] فيها قضايا:

    القضية الأولى: هل كل من عمل سوءاً يجزَ به؟

    القضية الثانية: ما مناسبة قوله تعالى: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123].

    القضية الثالثة: هل الجزاء أو النكال أو العذاب كفارة أو رفع في الدرجات؟

    هل كل من عمل سوءاً يجز به

    السؤال: هل كل من عمل سوءاً يجزى به؟

    الجواب: لا. يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بعد آية الجزاء: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] فكثير من السيئات تستوجب النكال والعذاب في الدنيا والآخرة لكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يعفو، فلسنا نجازى بكل إساءاتنا بل يعفو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهذا ملموس، يقول ابن القيم في الفوائد: احذر المعاصي فإنها في الطريق. يعني: أنها لك كميناً في طريقك تثور عليك بعد أيام ولو بعد أربعين أو خمسين سنة.

    قال بعض أهل السير والتراجم وهي من الإسرائيليات: أن يعقوب عليه السلام لما فات يوسف عليه أربعين سنة كان ذلك جزاء له لما قال لأبنائه: أخاف أن يأكله الذئب، ولم يقل أتوكل على الله، ففقده أربعين سنة يبكي عليه، وقال أحد التابعين: نظرت نظرة لا تحل لي فقال لي أحد المشايخ والعلماء: أتنظر إلى الحرام؟! والله لتجدن غبها -أي: نتيجتها- ولو بعد حين، قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.

    وجاء الإمام الشافعي كما في ترجمة وكيع بن الجراح المحدث صاحب كتاب الزهد، وكان يسمى شيخ الإسلام من رجال البخاري ومسلم، جاء إليه الشافعي فقال: سمعت أنك من أحفظ الناس، يقول ابن المبارك: حفظنا تكلف أما حفظ وكيع فهو جبلة فطرة، قال: فما هو أحسن شيء في الحفظ؟ قال وكيع: جربت الأدوية وجربت كل شيء فوجدت أحسنها ترك المعاصي، فقال الشافعي:

    شكوت إلى وكيع سوء حفظي     فأرشدني إلى ترك المعاصي

    وقال اعلم بأن العلم نور     ونور الله لا يهدى لعاصي

    مناسبة قوله تعالى : ( وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً )

    القضية الثانية:

    ما مناسبة قوله تعالى: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً [النساء:123] الولي: من تولاك وتوليته، والنصير: قد لا يكون ولياً بل قد يكون ناصراً ولو كان كافراً، ولذلك قد يستنصر المسلم بالكافر فلا يسمى ولياً ويسمى نصيراً، فإذا استنصر المسلم بالمسلم كان ولياً نصيراً فإذا فصل ينتهي بالواو فهي للمغايرة، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] لم يقل ولياً لأنه والياً في الأمور وهذا معلوم، وإنما قال هادياً للقلب ونصيراً للحياة، قالوا: هداية القلب وهداية السيف، فالله سبحانه وتعالى ينصر أهل المناهج السديدة في الهداية وينصر أهل المبادئ الرشيدة في النصرة والولاية.

    ولـابن تيمية طوفان وكلام بديع في هذا المعنى لا يحسنه إلا هو لكن وقته يطول.

    الراجح أن المرض كفارة ولا يرفع الدرجات

    القضية الثالثة:

    الذي يعلم عند الجمهور أن المرض كفارة وليس رفعاً للدرجات واستدلوا على ذلك بأحاديث وآيات منها هذه الآية: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123] ولم يقل يرفع درجته ويثاب، ومنها الحديث الصحيح: {ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها من خطاياه حتى الشوكة} والحديث الصحيح الآخر: {ما يصيب المسلم من هم ولا غم ولا وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه} والحديث الثالث الصحيح: {يا أبا بكر! ألست تمرض وتهتم وتغتم فإن ذلك كفارة} إذاً: هذا الراجح إن شاء الله.

    قيل لـأبي عبيدة وهو مريض: هنيئاً لك رفع الدرجات -هذا في مسند أبي يعلى - قال: لا والله، لكنه حط للسيئات. فيظهر والله أعلم وهو الراجح أن من أصابه مرض فقد حط الله عنه سيئاته بحسب هذا المرض، ولذلك فرح الصالحون بالمرض.

    قال أبو الدرداء: أحب ثلاثاً يكرهها الناس: أحب الفقر؛ لأن فيه مسكنة لربي، وأحب المرض؛ لأن فيه كفارة لخطيئتي، وأحب الموت؛ لأن فيه لقاء لربي.

    وفي الحديث الصحيح: {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه} اتفق الشيخان على إخراجه.

    قال حافظ الحكمي رحمه الله في منظومته البديعة الرائعة:

    ومن لقاء الله قد أحبا     كان له الله أشد حبا

    وعكسه الكاره فالله اسأل     رحمته فضلاً ولا تتكل

    والموت فاذكره وما وراءه     فمنه ما لأحد براءه

    وإنه للفيصل الذي به     ينكشف الحال فلا يشتبه

    والقبر روضة من الجنان     أو حفرة من حفر النيران

    إن يك خيراً فالذي من بعده     أفضل عند ربنا لعبده

    وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ      ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ

    قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها}.

    وورد عن أبي بكر عند الترمذي رفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام: {كل شيء يصاب به العبد فهو كفارة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ومن كلام أبي بكر عند بعض المحدثين: [[حتى الحاجة يضعها أحدكم تحت إبطه فيفقدها فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون]].

    والمصيبة إذا أتت من مرض أو غيره فعلينا فيها ثلاث واجبات:

    الأول: أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157].

    الثاني: أن نحتسبها في ميزان الكفارة عند الله عز وجل.

    الثالث: أن نحمد الله عز وجل على أنه لم يجعلها في ديننا ومعتقدنا وجعلها في أبداننا ومالنا:

    إذا أبقت الدنيا على المرء دينه     فما فاته فيها فليس بضائر

    فما رضي الدنيا ثواباً لمؤمن     وما رضي الدنيا عقاباً لكافر

    كل شيء إلا الدين والمعتقد، فإذا كنت تفقر وتمرض ويموت أبناؤك ويهدم بيتك وتسحق سحقاً وتمزق ويفصل أعضاؤك، لكن قلبك فيه لا إله إلا الله وأنت تحب الله ورسوله فلا والله ما فاتك شيء.

    1.   

    أقسام المرض

    والمرض قسمان:

    1/ مرض قلوب.

    2/ مرض الأجسام.

    أمراض القلوب

    ولـابن تيمية في أول المجلد العاشر من فتاويه رسالة القاعدة العراقية في الأعمال القلبية تحدث بحديث كأنه الشهد إذا انسل أو كأنه الماء الزلال أو كأنه النسيم العليل أو كأنه الحب إذا سرى من قلب محب إلى قلب محب، وفصل المسألة وقال: القلوب تمرض أعظم من مرض الأبدان، لكن بعض الناس يمرض قلبه فلا يحس إلا إذا أصابه زكام أو حرارة أو التهاب لأن حياته حياة الأجسام أما القلب فميت.

    يقول المتنبي:

    من يهن يسهل الهوان عليه     ما لجرح بميت إيلام

    إذا مات الميت وأتيت تطعنه بالخنجر أو تفصل من يده فماذا يضره؟ يقول عبد الله بن الزبير لأمه أسماء العظيمة الرائدة المربية: يا أماه! ما علي من الحجاج إذا قتلني -فالقتل سنة وشهادة- لكن أخاف أن أقطع ويمثل بي، فضحكت وتبسمت تبسم الشجاعة التي تجيد تربية الأبناء، وقالت: وما عليك، لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها، فاستبسل بنفسه وقتل، ورفع على مشنقة الموت وأصبح عالياً كأنه العلم، وسفل الذين عادوه في الله عز وجل.

    فمرض القلوب خطير وله أسباب:

    السبب الأول: وهو أفتكها وأعظمها وهو الذي يدمر البيوت والدور والعمار والقصور والشعوب والأمم، ويهلك المجتمعات، ويجعل الذكي غبياً، والوجيه متأخراً، والرائد متخلفاً، والمحب مكروهاً، والمقرب مطروداً، والمنعم عليه بائساً، والغني فقيراً، والكبير صغيراً، إنها الذنوب والخطايا أعاذنا الله وإياكم من الذنوب والخطايا، وأول مصائب الذنوب والخطايا: أنها تميت القلب، وهذا أعظم مرض فيصبح لا يشعر ولا يحس، تفوته صلاة الجماعة أمر عادي لكن لو فاتته عشرة ريال لأقام الدنيا وأقعدها وبحث وقلب البيت ظهراً على عقب، أما مصيبة الدين فلا يحس بها؛ لأنه مات قلبه، فتراه لا يقرأ في اليوم في الأربع والعشرين ساعة شيئاً من القرآن، ولكن الأخبار اليومية لا تفوته، أبداً، ودرجات الحرارة والصيدليات المناوبة لا تفوته أما سورة الأنعام والأعراف وطه وهذه الأسس والمبادئ التي أتى بها محمد عليه الصلاة والسلام من فوق سبع سماوات، فيقول: نقرأ يوم الجمعة إن شاء الله إذا فرغنا أو في رمضان أو إذا مات أحد الجيران.

    إن اليوم الذي يمر عليك دون أن تقرأ فيه قرآناً هو من أشد الأيام بؤساً عليك، وقد خسرته من عمرك، تمر علينا الساعات ولا نسبح ولا نهلل إلا من رحم الله أنا أتكلم عن القاصرين، ولكن إذا أتى الغروب فلا نعد الساعات التي فاتتنا بلا تسبيح، لكن كم تكلمنا من هذر ومذر وشذر؟ ومن هذا الكلام الذي ليس تحته طائل في الأسعار والأشجار والأمطار، وتزوج فلان وطلق فلان، وأحاديث مشبوهة كأن عليها ظلام بهيم فنشكو حالنا إلى الله، فأعظم الأسباب في أمراض القلوب المعاصي.

    السبب الثاني: كثرة المباحات، وقد ذكرها ابن القيم في مدارج السالكين بكلام عطر صدي شجي، والمباحات إذا كثرت أبطلت الإحساس في القلب.

    ما هي المباحات؟

    كثرة النوم، وكثرة الأكل، وكثرة الخلطة في الناس، وكثرة المزاح، وكثرة الكلام، فإذا زادت هذه كلها عن حدها؛ أتتك كآبة وضيق وقسا قلبك من هذه الكلمات والأمور الواردة.

    مرض الأجسام

    والمرض الثاني: مرض الأجسام وهو سهل بسيط بجانب مرض القلوب، ومرض الأجسام لا يعد بالمقارنة مع مرض القلوب شيئاً.

    بعض الناس على السرير الأبيض مريض ولكن قلبه حي، وبعض الناس يمشي ويسعى على أقدامه وقلبه ميت؛ لأن هذه حياة بهيمية وتلك حياة إسلامية وفرق بين الحياتين.

    لشتان ما بين اليزيدين في الندى     يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم

    والمرض في القرآن إذا أطلق فهو على نوعين:

    1/ مرض الأجسام.

    2/ ومرض القلوب.

    لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:7] فالمرض هنا مرض الأجسام وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في مرض القلوب: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] وقال تعالى: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ * أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [التوبة:124-127] ومرض القلوب في القرآن قسمان:

    1/ مرض الشهوة.

    2/ مرض النفاق.

    مرض النفاق مثل هذه الآية: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:125].

    ومرض الشهوة مثل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] قالوا: مرض شهوة وهذا من تقسيمات وإفادات محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أضواء البيان وهي من أحسن ما يقال.

    1.   

    حديث آخر للبخاري في تكفير المرض للذنوب

    1.   

    حال المؤمن والمنافق مع الشدائد

    وعنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثل المؤمن كالخامة من الزرع تُفَيِّئُها الريح مرة وتعدلها مرة، ومثل المنافق كالأرزة لا تزال حتى يكون انجعافها مرة واحدة) يضرب الرسول عليه الصلاة والسلام مثلاً للمؤمن والمنافق في باب المرض فالمؤمن كالخامة: قيل هي وليدة الزرع المائسة الرطبة الراوية كالزرع، التي تقبل التمايل؛ لأن الزرعة دائماً تقبل الميلان وهي كسنبلة البر؛ لأن ساقها رقيق فهي تميل من الريح يمنة ويسرة وأي شيء يؤثر عليها.

    وقد قرأت في كتاب أن ملكاً من ملوك الهند استدعى الرسامين في عهده وقال: أريد رسمة بديعة لا أحسن منها، فرسموا له رسومات، وكان من أبدع الرسامين رجل هندي رسم سنبلة زرعة من القمح وقد هبط عليها عصفور فأتى بهذه اللوحة فأعجبت أهل الهند جميعاً، فوضعها على قصره فمر رجل أعور قال: هذه الصورة فيها عيب، قال الحرس: ويلك، فقادوه -بعدما أقر أهل الهند أنها أحسن رسمة- إلى الملك، فقال الملك: ما هو العيب؟ قال: العيب فيها أنه ما أمال الزرعة لما رسمها؛ لأن العصفور إذا هبط عليها مالت ولا تبقى منتصبة، قال: صدقت ثم شطب اللوحة.

    فالمقصود: أن هذه الزرعة أدنى شيء يؤثر فيها، فالمؤمن دائماً بين الأمراض والحسرات والنكبات، دائماً يمنة ويسرة في كبد، تراه دائماً إما طفله يموت، أو بنته تمرض، أو ولده يرسب، أو سيارته تصدم، أو هم أو غم ليحتحت الله عنه الخطايا، أما المنافق فتجمع وتحمل عليه المواد مادة على مادة حتى يسلخ مرة واحدة فما يأتيه إلا كير جهنم، فهذا مثل المؤمن ومثل المنافق.

    حال المؤمنين وقت الشدائد

    كان خالد بن الوليد يستبشر بالصداع وبالحمى، وهي علامة الخير في الرجل؛ لأن المنافق دائماً بدين سمين لا يتأثر أبداً، تجده في الحياة منعماً يعيش في رغد لكنها في الحقيقة عذاب، وحياة ضنك ولو أنها في الظاهر رغد يقول أبو تمام:

    قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت     ويبتلي الله بعض القوم بالنعم

    والحمى تأتي الصالحين كثيراً، وسبب موت أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالحمى فقد دخل عليه الصحابة وقالوا له: [[يا خليفة رسول الله! ماذا يوجعك؟ قال: الطبيب يدري، قالوا: أشكيت أمرك إلى الطبيب؟ قال: نعم. قالوا: ماذا قال؟ قال: إني فعال لما أريد]] هو الله عز وجل، فأخذها أحد الناظمين وقال:

    كيف أشكو إلى طبيبي ما بي     والذي قد أصابني من طبيبي

    وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما     تشكو الرحيم على الذي لا يرحم

    وبعض الناس يقول أمام الناس: أنا مريض من عشرين سنة سبحان الله! تشكو الله الذي فوق سبع سماوات أنه أمرضك.. وإذا عافاك لا تخبر الناس! والله أمر بكتم الأمراض لتبقى سراً بين العبد وبينه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما النعمة فقال: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11] وفي سنن البيهقي بسند حسن: {إن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه}.

    وهذا الوزير ابن هبيرة الحنبلي الكبير وهو ولي من أولياء الله صاحب كتاب الإفصاح يقول لما حضرته سكرات الموت: فقدت عيني هذه من أربعين سنة والله ما علمت زوجتي وهي معي في البيت، لأن الشكوى على الله، عجيبة سيرته أوردها صاحب طبقات الحنابلة وسير أعلام النبلاء وهو من الحفاظ الكبار، حج بالناس وهو وزير الدولة العباسية فانقطع الماء في منى فرفع يديه يستسقي فنـزل الماء والغيث من السماء وفيه ثلج، فبكى وقال: يا ليتني سألت الله المغفرة.

    والخليفة المستنجد أعجب بوزيره فقال:

    صفت نعمتان عمتاك وخصتا     فخيرهما حتى القيامة يذكر

    وزهدك والدنيا إليك فقيرة     وزهدك والمعروف في الناس ينكر

    ثم يقول:

    ولم أر من ينوي لك السوء يا أبا الـ     مظفر إلا كنت أنت المظفر

    كل ما نوى له أحد من المبتدعة أتى من تحته؛ لأن الله ينصر أولياءه، ومما يجدر أن نشير إليه أن الأحنف بن قيس ذكر الذهبي في ترجمته أنه فقد عينه ثلاثين سنة وما أخبر بها أحداً لكن من يستطيع هذا! الزكام إذا أصاب بعض الناس اليوم أخبر أهل الحي وعطس في المسجد وشكا وبكى وناح وقال: ثلاثة أيام وأنا في هذا الزكام، اللهم ارفعه عنا اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، تقوم القيامة من أجل الزكام فقد جعلنا مستوياتنا وقلوبنا في هذه الدرجة!!!

    وعمران بن حصين ذكر عنه ابن حجر فيالإصابة أنه مرض أربعين سنة، فما قام من على الفراش حتى كانت الملائكة تصافحه في السحر بأيديها، قال ابن تيمية: نعم. صافحته في السحر بأيديها فلما اكتوى تركت مصافحته.

    وقالوا عن أيوب عليه السلام أنه مرض ثمانية عشر سنة فقالوا له: ادع الله بالشفاء، قال: أنا تشافيت خمسين سنة فإذا تساوى المرض والعافية دعوت الله، بقيت سنوات كثيرة، لكن من يستطيع هذا إلا أهل الصدق عند الله! أما نحن فكما قال الفضيل بن عياض لما قرأ قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31] قال: اللهم لا تبلونا فتفضحنا. الستر الستر فإن العملة إذا عرضت على الصراف أخرج البهرج منها، ما كل شيء يدخل النار فيخرج ذهباً أحمر فإن بعضها يخرج فحماً فنحن نسأل الله العافية ألا يبلونا فيفضحنا.

    وقالوا عن الإمام أحمد كان ذهباً فدخل النار فخرج ذهباً أحمر في فتنة القول في خلق القرآن، على أنه نحيف هزيل لا يجد اللحم إلا من الأضحية إلى الأضحية، عنده بقشة فيها كسار شعير، يطوف الدنيا ويسعى الفراسخ في جمع الأحاديث من اليمن وخراسان ومصر وبغداد ودمشق حتى يقول ابنه: لقد رأيته أحياناً تكاد هذه -أي: اللحم الذي تحت خذيه- تلتصق بهذه من الضعف، كان يصبغ لحيته بالحناء وكان ربما انحنى من الهزال والتعب، يخرج إلى السوق يقتضي الحطب على يديه فيأتي أهل السوق وبعض الوزراء من بني العباس يأخذون الحطب لأنه إمام أهل السنة والجماعة فيقول: نحن قوم مساكين، لولا فضل الله لا فتضحنا، فلما أتت فتنة القول بخلق القرآن وجاء الحزب البدعي التحالفي ضد أهل السنة؛ كان هو الإمام المعتبر وكان أسداً هصوراً مثل الليث إذا غضب، قامت الدنيا وقعدت وطوق بيته بالجيش وبالحرس وسلت السيوف عند أذنيه وهدد بالموت فقال: لا. ولا يكون هذا، وفي الأخير رفع الله منـزلته لما صبر: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]:

    علو في الحياة وفي الممات     بحق أنت إحدى المعجزات

    هذا يقال في الإمام أحمد وفي أمثاله.

    حال المنافقين وقت الشدائد

    وأما المنافق فقليلة أوصابه وأحزانه لأن رَغَدَه الحياةُ، والله عز وجل لا يجمع للعبد سعادتين وراحتين في الدنيا والآخرة إلا النادر، ولا يجمع شقوتين على العبد إلا النادر، قال يهودي للشافعي: ما بالنا نحن أقل منكم أمراضاً وأنتم تمرضون وأنتم مسلمون؟! قال الشافعي: لأن هذه هي جنتكم وهذا سجننا، فإذا خرجنا منها خرجنا إلى الجنة وخرجت أنت إلى النار، وهذا رد بديع مليح، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4]:

    لا بأس بالقوم من طول ومن عرض     جسم البغال وأحلام العصافير

    أما الأجسام فممتلئة، والشخصيات فارهة لكن لا قلوب..

    لقد ذهب الحمار بأم عمرو     فلا رجعت ولا رجع الحمار

    والقلب إنما يكون لأهل القلوب الذين يسكبون فيها القرآن والسنة، قال: {ومثل المنافق كالأرزة لا تزال حتى يكون انجعافها مرة واحدة} الأرزة هذه هي: الأرز الذي ينبت في لبنان هذه الشجرة المتينة وقيل الصنوبر لكن لا يهمنا هذه أو تلك إنما هي شجرة متينة لا تؤثر فيها الريح، ولذلك تمر المصائب بالناس، والمؤمن دائماً مصاب وأما المنافق فلا يمر به شيء في الغالب، حتى إن بعض المنافقين وبعض الفجرة يستهزئ بمصائب المؤمنين ويشمت بهم، ويقول: فلان نسأل الله العافية نظن من ذنوبه مات ابنه ورسب أولاده، وهو لا يفكر في نفسه.

    وعروة بن الزبير قطعت رجله من الفخذ فقال الناس الذين إيمانهم ضعيف: أظن عروة ما قطعت رجله إلا لذنب أصابه، ولم يدر أنها رفعة في الميزان، وأنها حط من الخطايا، فقال عروة:

    لعمرك ما مديت رجلي لريبة     ولا حملتني نحو فاحشة رجلي

    ولا قادني فكري ولا نظري لها     ولا دلني فكري إليها ولا عقلي

    وأعلم أني لم تصبني مصيبة     من الله إلا قد أصابت فتى قبلي

    ثم قال البخاري رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها فإذا اعتدلت تكفأً بالبلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء} هذا بلفظ آخر وهو من سياق هذا الحديث ومعانيها واحدة.

    وقد أكثر الأدباء في المرض وفي التكلم عنه، وأكثروا من ذكر محمدتهم من مكث الأمراض وصبرهم على ذلك، ويقول بعضهم في أبيات معناها: إنه إذا مرض حبيبي وزرته مرضت أنا من النظر إليه، وإذا زارني وأنا مريض تشافيت من النظر إليه يقول:

    مرض الحبيب فزرته     فمرضت من خوفي عليه

    وأتى الحبيب يزورني     فشفيت من نظري إليه

    واستدل بها ابن القيم وهي من أحسن ما يقال، يقول أبو تمام حبيب بن أوس:

    إذا مرضنا أتيناكم نعودكم     وتذنبون فنأتيكم ونعتذر

    واجب المسلم تجاه المريض

    وواجبنا نحو المريض:

    الزيارة الشرعية طلباً للثواب من الله ففي صحيح مسلم: {من زار أخاه المسلم إذا مرض لا يزال في خرفة الجنة حتى يمسي} وفي لفظ صحيح آخر: {شيعه سبعون ألف ملك حتى يمسي} وفي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {حق المسلم على المسلم ست -وفي رواية خمس- ومنها: وإذا مرض فعده}.

    وللزيارة آداب منها:

    1/ أن تتوخى الوقت المناسب لزيارته، وتختار أحسن وقت لزيارته كالعصر أو المغرب أو الصباح بحسب المريض وظروفه، وأما أن تفاجئه في وقت لا يزار فيه فهذا ليس بصحيح، وهو تعكير للصفو، وربما يذهب الإثم بالأجر وبعضهم يطرق عليك وسط الليل، فتقول ماذا؟! فيقول: سمعت أنك مزكوم فأتيت أزورك في الله عز وجل، أهذه زيارة؟!

    2/ أن يخفف الجلوس لديه إذا زاره، ولا يتأخر طويلاً في الجلوس، وإنما يبقى عنده بقدر ما يسأل عن حاله، ويدعو له، فإن بعض الناس ربما يطيل على المريض حتى يزداد مرضاً إلى مرضه، إلا إن علم بارتياح المريض لبقائه معه.

    3/ أن يكون كلامه مناسباً للموقف، فإذا مرض أحد الناس فلا يأتي بكلمة عن القبر، أو رجل مزكوم أو أصابه جرح بسيط في يده فيقول: نسأل الله العافية، فلان بن فلان أصابه الزكام فما زال به الزكام حتى أرداه في القبر، وفلان أصابه جرح فتسمم من الجرح حتى بترت يده! وإن كان من أهل الآخرة فيرجيه برحمة الله عز وجل ويقربه من النعيم ويحسن ظنه بالله تبارك وتعالى.

    ولا يزال الحديث مستمراً مع أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يصب منه} في الصحيحين عن معاوية: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين} ومفهوم المخالفة أن الذي لا يريد الله به خيراً لا يفقه في الدين، وهنا: {من يرد الله به خير يصب منه} أي: تصيبه مصيبة من مرض أو نصب أو غيرهما.

    1.   

    باب: أشد الناس بلاءً الأنبياء

    1.   

    باب: عيادة الأعراب

    وبعض الناس لا يصبر للمرض. ذكر البخاري في كتاب المرض: أن الرسول عليه الصلاة والسلام زار أعرابياً من الأعراب من البادية وكان مريضاً بالحمى، فوضع صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: (لا بأس طهور إن شاء الله) يعني: الحمى طهور لك من الذنوب والخطايا، فقال الأعرابي: ليس بطهور بل حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور، يقول: أهذه الحمى طهور إنها تهزني هزاً عنيفاً؛ لأنه ما تمكن في الإسلام قلبه.

    يقولون: دخل ثعلبان في غرفة فأكلا من الدجاجة حتى تنعما وشبعا فانتفخت بطونهما، فقاما يخرجان من المكان الذي دخلا منه فما استطاعا فوقف أحدهم يشكو على الآخر يقول: من أين نخرج، وما هو المصير؟ قال: غداً في الزبالة -يعني: إن صاحب البيت سوف يأخذهم ويقتلهم ويرميهم- جاء بها ابن القيم في كتاب الفوائد مثلاً لمن نسي الله وموعوده ولقاءه وأكل وتنعم على حساب دينه واستقامته وسلوكه، فقال صلى الله عليه وسلم: نعم إذاً. فمات الأعرابي من تلك الحمى، فمن سخط فله السخط ومن رضي فله الرضى.

    1.   

    باب: عيادة الصبيان

    وقال البخاري: باب عيادة الصبيان. هل يزار الطفل؟ وذكر رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول عليه الصلاة والسلام زار ابن ابنته زينب رضي الله عنها وأرضاها وسلم عليه وأخذه وهو يقعقع في سكرات الموت فبكى صلى الله عليه وسلم فزيارة الطفل واردة.. وهل يزار من الرمد؟ قال أهل العلم: لا يزار من رمد العينين، وبعض الأمراض لا يزار منها مثل الزكام الخفيف، ومثل الأمراض التي لا تعطل المسلم على فراشه وإنما يسأل المسلم عرضاً إذا لقي وإذا وجد.

    1.   

    باب: وضع اليد على المريض

    ثم قال البخاري: باب وضع اليد على المريض:

    هل توضع اليد على المريض أم لا؟ هذا من الأنس واللطافة، وهي من أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم، أتى إلى سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة وقائد المسلمين في القادسية ووجده مريضاً في مكة بعد الهجرة فوضع يده عليه، ودعا له بالبركة والصحة والعافية.

    قال جابر أغمي علي من المرض، فما وعيت بنفسي إلا والرسول عليه الصلاة والسلام تمضمض ومج في وجهي، فانتبهت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، ووضع صلى الله عليه وسلم يده.

    قال سعد بن أبي وقاص: والله الذي لا إله إلا هو ما زال برد يده صلى الله عليه وسلم على صدري حتى بعد عشرين أو ثلاثين سنة، لما جعل الله فيه من البر والبركة والطيب لكن ليس لأحد غيره صلى الله عليه وسلم.

    كان يُفْلت يده للأعراب وهو حاج فيأخذ الأعرابي يده فيمسح بها وجهه وبعضهم يبل يده في الماء ويشرب الماء، وفي المسند للإمام أحمد في ترجمته التي أوردها أحمد شاكر وهي موجودة عند الذهبي وغيره أن الإمام أحمد وجد شعرة من شعره صلى الله عليه وسلم فأخذ يبلها في الماء ويضعها على عينه ويبلها في الماء ويستنشقها ويشمها ويضعها في الماء ويمص ماءها، قال الذهبي: والهف نفسه على شعرة من شعره صلى الله عليه وسلم، وهذا لكمال الحب الذي أوجدته سيرته صلى الله عليه وسلم في القلوب.

    1.   

    باب: وجوب عيادة المريض

    قال البخاري: باب وجوب عيادة المريض.

    وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطعموا الجائع، وعودوا المريض وفكوا العاني) وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (يقول الله يوم القيامة لابن آدم: يابن آدم! جعت فلم تطعمني، قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان جاع فما أطعمته أما علمت أنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي؟ يابن آدم! مرضت ولم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده؟ أما أنك لو عدته وجدت ذلك عندي) وفي حديث يقبل التحسين أورده صاحب كشف الخفا ومزيل الإلباس: (الناس عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم إلى عياله). ولو أن في سند الحديث ضعفاً عند بعض أهل العلم لكن بعضهم يحسنه بشواهده، والجزاء من جنس العمل.

    قال البخاري: وعن البراء بن عازب أحد الصحابة الشباب رضي الله عنهما قال: (أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، نهانا عن خاتم الذهب) خاتم الذهب ودبلة الذهب للرجال حرام لا يقبل أي فتية هزيلة، أو أي ترخص في دين الله عز وجل، ومن لبس خاتماً في يده أو دبلة فإنما تقلد جمرة من نار فليلبسها أو يتركها، وإذا رأيت إنساناً يفعل هذا ويماحر النصوص فاعلم أنه مسلوب العلم أو واهم أو جاهل يعلم، ويلحق بذلك الأقلام المذهبة التي هي من ذهبٍ خالص، والسلاسل والميداليات فهذه حكمها التحريم لأنها تبذل للنقدين، ولأن فيها علواً، ولأن استخدامها للزينة التي حرمها الرسول صلى الله عليه وسلم للرجال، وأما المموه بالذهب فهو موضوع آخر، لكن الذهب الخالص الذي يستخدم في السلاسل والأقلام والدبل والخواتم حرام، فينبه على الناس لأن هذه العادة انتشرت وصادمو النصوص بعاداتهم واستقراءاتهم الهزيلة التي لا تنفعهم عند الله عز وجل.

    ولبس الحرير حرام على الرجال فعند أحمد في مسنده بسند صحيح عن علي رضي الله عنه وأرضاه، قال: (أخذ صلى الله عليه وسلم قطعة من ذهب في يده وقطعة من حرير وصعد المنبر وقال: هذان حلال لإناث أمتي حرام على ذكورها) وهو نص في أن الذهب والحرير للنساء ليس فيه تحريم حتى الذهب المحلق لا كما قال بعض الناس أنه محرم؛ بل الصحيح للعموم في الأحاديث هذه وفي غيرها أنه حلال المحلق والمسلسل والمقطع وغيره، وهذا شبه إجماع ينقضه ابن الجصاص في كتاب الأحكام وهو حنفي، وقد قاله كثير من العلماء في هذا العصر.

    (نهانا عن خاتم الذهب، ولبس الحرير، والدِّيباج، والإستبرق، وعن القسي والميثرة) فالحرير لا يلبسه الرجال إلا في حالتين:

    إما مرض شديد مثل شدة حكة، أو مرض جسمي يرى أهل الطب أن علاجه أن يلبس الحرير فليلبس ذلك، ففي الصحيحين من حديث أنس وغيره: (أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكيا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حكة في جلودهما فأمرهما صلى الله عليه وسلم بلبس الحرير) والناحية الثانية أن يلبس لإرهاب العدو وقت مصافة الأعداء في وقت الحرب فلا بأس بذلك، فقد شكي لـعمر أن أهل الروم يأتون بلباس من حرير فيفتنون المسلمين قال: البسوا ذلك، أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه، وبعض الأمور المحرمة قد تحل لأمور أو لمناسبات أو مصالح أعظم منها مثل مشية الخيلاء حرام، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أباحها لـأبي دجانة لما اختال بين الصفين وقال: (إن هذه مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع).

    والإستبرق نوع من الحرير وقيل أجود منه وهو نوع آخر أملس أغلى، والقسي ثياب من اليمن تأتي مخططة.

    والميثرة يقولون كذلك: لحاف يأتي من اليمن يأتي مخططاً يوضع قيل من حرير أو من غيره ويركب عليه.

    (وأمرنا أن نتبع الجنائز ونعود المريض) وهو الشاهد (ونفشي السلام) وترك بقية الحديث لأن الشاهد عيادة المريض فليحتسب المسلم في عيادة المريض.

    1.   

    باب: عيادة المغمى عليه

    قال: باب عيادة المغمى عليه:

    انظر إلى البخاري يأتي بأمور لا ينتبه إليها إلا من فقه ودقَّقَّ، هل الإنسان الذي أغمي عليه وأغشي وفقد وعيه بأمر ما هل يعاد أم لا؟

    عن ابن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: (مرضت مرضاً فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان -من الحفاوة أنهما ماشيان إما قصداً وإما توافق- فوجداني أغمي علي، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه علي، فأفقت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! كيف أصنع في مالي، كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث).

    يقول أبو ذر فيما صح عنه: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيني في بيتي فيصافحني إذا رآني قال: فأتاني مرة فلم يجدني فجلس على السرير، فلما أتيت التزمني فكانت أحسن) كان الغالب أن يصافحه مصافحة فأتى مرة فلم يجده فجلس على السرير ينتظره، ينتظر أحد تلاميذه وطلابه وحسنة من حسناته، فلما أتى صلى الله عليه وسلم صافح أبا ذر والتزمه فكانت أحسن يعني: من كثرة الحفاوة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يكرم أحداً من أصحابه يلتزمه أو يشبك أصابعه في أصابعه كما في سنن أبي داود بسند صحيح، قال معاذ رضي الله عنه وأرضاه: (خرجت من المسجد فأخذ صلى الله عليه وسلم يدي فشبك أصابعه بأصابعي وقال يا معاذ: والله إني لأحبك لا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).

    هل تشبك الأصابع في المسجد، البخاري من يقظته وفطنته يأتي بهذا الباب لأنه عند الترمذي في حديث كعب بن عجرة في سنده كلام وفيه ضعف، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا ذهب أحدكم متوضأ إلى المسجد فلا يشبك بين أصابعه) لكن البخاري يقول: باب تشبيك الأصابع في المسجد، ثم من أين يأتي لنا بحديث قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العشاء وقال: المؤمن للمؤمن كالبنيان وشبك بين أصابعه) فهو في المسجد صلى الله عليه وسلم متوضأ، فلا بأس بتشبيك الأصابع، فبعض الاتحافات منه صلى الله عليه وسلم من باب التكريم لأصحابه يكرمهم بهذا العمل عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    باب: فضل من يصرع من الريح

    من يصيبه الصرع من الجان ما جزاؤه عند الله إذا كان مسلماً؟

    هل يذهب عقله هدراً؟

    هل ليس له مثوبة؟

    هل يساويه الله بمن تمتع بالعقل؟

    فإن من أعظم النعم نعمة العقل ونعمة الإدراك فيأتي البخاري بحديث ابن عباس قال لـعطاء بن أبي رباح: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة تمشي على الأرض- أريك امرأة أصبح مكانها وموقعها في الجنة تمشي في الأرض- قال: بلى. قال: تلك المرأة السوداء أتت الرسول عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله! إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي) يصيبها الصرع فتفقد عقلها ووعيها وقد انتشر هذا الصرع في هذا الزمن لقلة الأذكار، وقلة الوضوء، وقلة قراءة القرآن في البيت، فالبيت الذي يدندن فيه المغني والمغنية كيف لا يصرع أهله، والبيت الذي لا يجيد تلاوة القرآن، والأذكار الصباحية والمسائية، كيف لا يصرع؟ ولكن هل سمعتم بإنسان يحافظ على أذكار الصباح والمساء وآية الكرسي والمعوذات وسورة الإخلاص والتهليل والتكبير يصرع أهله؟ لا.

    ولذلك لو ربي الأطفال على هذا فإنهم لا يصرعون إن شاء الله، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42] ولا جنده إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175] أما أولياء الله فلا، لكن لما قلت الأذكار وقراءة القرآن وكثر الغناء والكلمات البذيئة أتى هذا الأمر.

    تقول: (يا رسول الله! إني أصرع فادع الله لي، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، قالت: بل أصبر، لكن أدع الله ألا أتكشف فدعا لها) فهي من أهل الجنة.

    1.   

    باب: فضل من ذهب بصره

    وذكر البخاري في أهل المصائب في أعضائهم جوارحهم أبواباً منها:

    فضل من ذهب بصره: وقد أورد حديث أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يقول: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة) والحبيبتان: العينان، لأنهما من أحب الأعضاء عند الإنسان وهما النوران والجوهران، ولقد ابتلى الله بذهاب العينين كثيراً من الناس لرفع الدرجات منهم: ابن عباس الحافظ العالم صاحب الدراية والرواية المفسر الكبير رضي الله عنه وأرضاه، فقد ذهب بصره في آخر حياته، فدخل على قوم فكأن بضعهم شمت به، وقال: لا تصاب بمكروه يا ابن عباس! ففهم ابن عباس، فقال:

    إن يأخذ الله من عيني نورهما     ففي فؤادي وقلبي منهما نور

    قلبي ذكي وعقلي غير ذي عوج     وفي فمي صارم كالسيف مشهور

    يقول: إذا أخذ الله هاتين الحبيبتين فقد عوضني الله خيراً منهما، والله إذا أخذ شيئاً عوض خيراً منه، قالوا لأحد العمي وكان مزاحاً: ما الذي عوضك الله يوم أخذ بصرك؟ قال: لئلا أرى من أمثالك أحداً، فمما يعوض الله الأعمى: الحافظة

    .

    ومنها: أن الله عز وجل قد يعلم أن هذا العبد خير له أن يذهب بصره لئلا يرى المفاتن والمحرمات وينتهك حدود الله عز وجل، ولكي تزهد نفسه في الدنيا وليبني له الله قصراً مشيداً في الجنة، وليكفر عنه سيئاته والعوض العظيم هو الجنة: (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة) وورد عند الترمذي في الإصابة بالولد، قال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل لملائكته وهو أعلم: قبضتم ابن عبدي فلان؟ قالوا: قبضناه، قال: قبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: نعم. يا رب، قال: فماذا قال عبدي؟ وهو أعلم. قالوا: حمدك واسترجع -أي قال: الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون- فقال الله عز وجل لهم: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد) جزاء ما صبر وحمد الله عز وجل.

    1.   

    باب: عيادة النساء للرجال

    عادت أم الدرداء رجلاً من الأنصار.

    هل تعود المرأة الرجل إذا مرض، ويعود الرجل المرأة إذا مرضت أم لا؟!

    في الأمر تفصيل: إذا كانت من المحارم فلا بأس بعيادتها، أو من غير المحارم إذا انتفت الشبهة بأن تكون طاعنة في السن كسن والدته أو أكبر، ولم يكن هناك ريبة، فلا بأس بالسؤال عنها وإغلاق هذا الباب أولى، أما المحارم فإن عيادتهم واجبة كالخالة أو العمة أو البنت أو الأخت كما فعل عليه الصلاة والسلام، أما إذا سمع الإنسان ببنات الناس يمرضن فيطرق بيوتهن أريد زيارة فلانة بنت فلان! فلا زيارة ولا قدوم ولا أجر ولا مثوبة، وقيل للإمام أحمد: عطست امرأة أفؤشمتها؟ قال: رجل أحمق، ما بقي يشمت هذه المرأة إلا هو! وتوقف الإمام أحمد في الرد على المرأة إذا سلمت، ولكن الصحيح أنها إذا سلمت ولم يكن هناك فتنة فرد عليها رداً موجزاً وعليكم السلام، أو إذا لم يكن هناك فتنة فسلم أنت وقل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ورضاه ومرضاته وكيف أصبحتم، وكيف حالكم، وأهلاً وسهلاً، وصبحكم الله بالخير، وكيف حال الإخوان والجيران، فيستمر ساعة إلا خمس دقائق فهذا من الحمق، وهذا من مداخل الفتنة والريبة.

    1.   

    الأسئلة

    هنا سؤال يلفت الانتباه لأنها قضية كبرى يقول:

    نصيحة لطلاب العلم

    السؤال: بعض من تسموا بطلبة العلم، وهيأت لهم الدولة كل الوسائل، ومع ذلك نائمون في سباتهم لا يعملون لطلب العلم ولا التحصيل، وهم أصبحوا عالة على مجتمعاتهم، ووبالاً على أمتهم فما حكم الشرع فيهم؟

    الجواب: أنا أشاركك في الفكرة أنه وجد في المجتمع من أهل التقصير كثير ممن هيئت لهم الأسباب، وتهيئة الأسباب توفيق من الله عز وجل ثم من أهل الخير القائمين على ذلك فنحمد الله عز وجل على ذلك، ووجد أن هناك كسلاً، يعرف ذلك من يعايش التدريس، أو من يصحح في الامتحانات أو يرى في المقابلات المستوى العلمي الهابط، والسبب في ذلك الزهد في طلب العلم وكثرة المثبطات، ربما يرتاح كثير من طلبة العلم بالجلوس ساعة أو ساعتين على شرب إبريق من الشاي، وفي هذا الوقت ألف ابن تيمية كتاباً كاملاً وقد سلف في مناسبات أنه ألف كتاب التدمرية من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، وقرأناه سنة فما فهمناه لأنها تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] فالوقت الضائع هذا سببه الخمول والكسل وعدم معرفة طرق التحصيل، وهذه الكليات والمعاهد والمؤسسات العلمية إنما تعطي الإنسان أموراً تجريبية واستقرائية ومفاتيح لطلب العلم، أما العلم الغزير، والتحصيل العلمي، وتحقيق المسائل فلا يحصل إلا بمدارسة الكتب ومراجعة طلبة العلم والعكوف في البيت مع المكتبة، وحضور الجلسات وندوات الخير والمحاضرات والدروس وكثرة التعليم والتحقيق والمسائلة والمذاكرة، أما أن يبقى الإنسان هكذا! فلا يمكن أن يحصل على طائل من العلم، وقد يكون عنده نسبة من العلم، لكن قال أحد الحكماء: يُهلك الأجسام نصف طبيب، ويهلك الأديان نصف عالم، ويهلك الجيل نصف مربي، لأنه يريد أن يوجههم وما عنده إلا نصف فقط فلو كان جاهلاً لاعتذر وقال سامحوني ما عندي تربية.

    ونصف عالم يهلك الناس ولو كان جاهلاً لتعلم أو لتواضع وعرف نفسه، ولو كان عالماً لأفاد لكن يرى أنه عالم وهو ليس بعالم هذه هي المشكلة.

    وأسباب التحصيل تندرج في أمور:

    الأمر الأول: تقوى الله الواحد الأحد، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم تقواه.

    الأمر الثاني: كثرة التوبة والاستغفار.

    الأمر الثالث: أن يكون لك همة في طلب العلم ولا تقل كبرت ولا شخت ولا شبت فأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام تعلموا العلم كباراً.

    الأمر الرابع: أن يكون لك مكتبة سمعية ونظرية تقرأ وتسمع، ويكون شغلك الشاغل هذا، ثم يكون لك مذاكرة مع طلبة العلم واستحضار، ولا تفوتك أي فائدة، ولا بد أن تعلق وتقول دائماً: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114].

    وأسباب حفظ العلم كما يقول ابن هبيرة الحنبلي صاحب الإفصاح: أسباب تحصيل العلم وحفظه ثلاثة:

    السبب الأول: العمل بالعلم: فإذا عملت أنت بالأحاديث حفَّظك الله الحديث، والذي يريد أن يحفظ كتاباً في الذكر لكنه لا يقرأ الأذكار الصباحية والمسائية وعند النوم وعند القيام فإنه لن يحفظه بل ينساه.

    السبب الثاني: التصنيف: إذا بلغت إلى درجة أن تبحث المسألة وتحققها فهذا يثبت معك العلم لأنك تخرج الحديث وتراجعه وتحققه وتسأل عنه وتبحث فيثبت ويرسخ.

    السبب الثالث: التعليم: تعليم الناس نحن نقول إننا لسنا أهلاً لأن نجلس أمام هذه الوجوه لأن في الجمع من هو أعلم منا؛ لكن ليثبت العلم ولأن الإنسان يشحذ نفسه إذا علم أن عنده درس أو عنده إلقاء أو محاضرة أو كلمة فتراه راجع المسائل وحقق الأحاديث ورجع إلى التراجم، وأما إذا لم يعلم أن وراءه طلب ولا كلمة ولا درس فقد لا يهتم بهذا، فالعلم يحفظ بالتعليم والتصنيف والعمل به، فيدعو طلبة العلم إلى أن ينفقوا مما أعطاهم الله عز وجل ويزكوا هذا الميراث وهذا الكنز الذي معهم وهو الدعوة إلى الله عز وجل، ومن كان في قرية أو مدينة أو بادية أو ضاحية فإذا ذهب إلى أهله فليكن رسول خير وداعية إسلام يتحدث بما سهل الله عز وجل، فإن الناس لا يريدون كثرة علم، يريدون أي حديث بشرط أن تكون مخلصاً صادقاً متمكناً مما تقول، تسأل الله منه المثوبة وحسن العرض وحسن الخلق للناس فسوف يستفيدون: {بلغوا عني ولو آية} {نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع}.

    أسأل الله لي ولكم القبول والهداية والرشد، وأن يعيننا وإياكم على الدنيا والآخرة، ويسهل لنا أمورنا جميعًا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768262423