أما بعــد:
هذا هو المجلس السابع في سلسلة الدروس العلمية العامة، وينعقد في ليلة الإثنين، التاسع والعشرين من شهر شعبان لعام ألف وأربعمائة وعشرة للهجرة، ومن المحتمل أن تكون هذه الليلة هي آخر ليلة في شهر شعبان، فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا للصيام والقيام، وأن يوفقنا للتوبة النصوح، وأن يجعل ما نستقبل من أيامنا خيراً مما استدبرنا، إنه على كل شيءٍ قدير.
أيها الإخوة الأكارم: درسنا هذه الليلة درسٌ جديدٌ تحت عنوان: (عشر وقفات في مطلع شهر رمضان) فاعتباراً من هذه الليلة، وعلى مدى شهر رمضان المبارك، فسوف تكون الدروس -إن شاء الله- دروساً أو جلسات رمضانية، نتحدث عن بعض الأمور التي يحتاجها الصائم، وفي هذه الليلة لنا عشر وقفات في مطلع هذا الشهر، وبإذنه تبارك وتعالى في الأسبوع القادم لنا عشر وقفات أخرى، فالوقفات في الأصل عشرون لكن نأخذ منها الليلة عشراً، وسيكون موعد الدرس -إن شاء الله- بعد صلاة التراويح في هذا المسجد في ليلة الإثنين، أي في مثل هذه الليلة من كل أسبوعٍ إن شاء الله تعالى.
الوقفة الأولى -أيها الإخوة- هي وقفة مع النص القرآني.
والناس في استقبالهم لرمضان على صنفين:
أولاً: لأنهم عودوا أنفسهم على الصيام، ولهذا تجدون في السنة النبوية -مثلاً- استحباب صيام أيامٍ كثيرة، كالإثنين والخميس وأيام البيض ويوم عرفة لغير الحاج، ويوم عاشوراء مع يوم قبله أو يوم بعده، وصيام شعبان، وغير ذلك من الأشياء التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ حتى يعتادوا الصيام ولا يصبح الصيام غريباً عليهم.
ولذلك تجدون أن الذي يصوم النفل، وعلى الأقل يصوم أيام البيض -مثلاً- لا يستثقل صيام رمضان، بل يعتبر صيام رمضان بالنسبة له أمراً طبيعياً لا تكلف فيه ولا ثقل، لكن الإنسان الذي لا يصوم، لا ستاً من شوال ولا الأيام البيض ولا غيرها؛ فإنه يحسب لرمضان حساباً ويجد فيه شيئاً من الثقل والمشقة؛ لأنه لم يعود نفسه على الصيام.
ولذلك ينقل عن السلف رضي الله عنهم من ذلك شيء عجيب.
يروى أن قوماً من السلف باعوا جارية لهم فاشتراها رجل، فلما أقبل رمضان بدأ يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال شهر رمضان -كما يصنع الناس في هذا الزمان- فقالت لهم: لماذا تصنعون هذا؟!
قالوا: نصنعه لاستقبال رمضان. قالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان! والله لقد جئت من عند قومٍ السنة عندهم كأنها رمضان، لا حاجة لي إليكم ردوني إليهم. فرجعت إلى سيدها الأول.
ويروى أن الحسن بن صالح وكان من الزهاد العباد الورعين الأتقياء، كان يقوم الليل هو وأخوه وأمه أثلاثاً، يقوم ثلثاً ويقوم أخوه ثلثاً آخر وتقوم أمه الثلث الباقي، فلما ماتت أمه تناصف هو وأخوه الليل، فصار يقوم نصفه ويقوم أخوه النصف الآخر، فلما مات أخوه نقل عنه أنه كان يقوم الليل كله.
قيل: إن الحسن بن صالح هذا باع أمةً له، فلما انتصف الليل عند سيدها الجديد، قامت في وسط الدار وصاحت: يا قوم، الصلاة الصلاة، فقاموا فزعين، وقالوا: هل طلع الفجر؟! قالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة!! فلما أصبحت رجعت إلى سيدها، وقالت: لقد بعتني على قوم سوء، بعتني على قومٍ لا يصلون إلا الفريضة، ولا يصومون إلا الفريضة، لا حاجة لي إليهم ردوني ردوني، فردها.
إذاً: إذا اعتاد الإنسان على الصيام لم يجد في صيام رمضان ثقلاً ولا مشقةً، وهذا من أسباب فرح المؤمنين بشهر الصوم، حيث يصومون فيه شهراً كاملاً، ويوافقهم الناس كلهم على صيام هذا الشهر.
الأمر الثاني من أسباب رغبتهم فيه وفرحهم به: أنهم يعرفون أن الامتناع من اللذات في هذه الدنيا سببٌ لحصولها في الدار الآخرة، فإن امتناع الصائم عن الأكل والشرب والجماع، وسائر المفطرات في نهار رمضان طاعةً لله عز وجل، يكون سبباً في حصوله على ألوان الملذات في الجنة، فلقوة يقينهم بذلك يفرحون بهذا الشهر الكريم، والعكس بالعكس، فإن الإنسان الذي يقبل على الملذات المحرمة في الدنيا يكون هذا سبباً في حرمانه منها يوم القيامة.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة} وإنما لم يشرب الخمر في الآخرة -أي وإن دخل الجنة- عقاباً له على تمتعه بخمرة الدنيا، وهي خمرةٌ محرمة حرم الله على عباده المؤمنين أن يتعاطوها، وقد ورد في حديث آخر أيضا: {من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة}.
السبب الثالث: أنهم يدركون أن هذا الشهر من أعظم مواسم الطاعات والتنافس في القربات: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26] ويعلمون أن الله عز وجل يجري فيه من الأجور ما لا يجري في غيره من الشهور، ولذلك يفرحون بقدومه فرح الغائب بقدوم غائبه وحبيبه، وهؤلاء لا شك همُ المؤمنون الصادقون، نسأل الله أن يجعلنا منهم.
ثانياً: لأنهم قومٌ عظم تقصيرهم في الطاعات، حتى إن منهم من لا يؤدي الصلاة، ومنهم من يقصر كثيراً في حقوق الله، فإذا جاء هذا الشهر التزموا ببعض العبادات، فوجدتَ كثيراً من الناكثين القاسطين المقصرين بدءوا يترددون على المساجد، ويشهدون الجمع والجماعات إلى غير ذلك، فيستثقلون هذا الشهر؛ لأنهم يلتزمون فيه ببعض الطاعات التي قصروا فيها في غيره.
لذلك يذكر المؤرخون -كـابن رجب وغيره- أن ولداً لـهارون الرشيد كان غلاماً سفيهاً، فلما أقبل رمضان ضاق به ذرعاً وبدأ يقول:
دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر |
فلو كان يعديني الأنام بقوة على الشهر لاستعديت قومي على الشهر |
فهو يدعو على رمضان ويقول: عسى ألا أصوم شهراً بعده آخر الدهر، ولو كان يمكن أن أستعين بالناس على هذا الشهر لأتغلب عليه لاستعنت بهم، قال: فأصيب بمرض الصرع، فكان يصرع في اليوم عدةَ مرات، وما زال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر بعد ما قال ما قال.
وهكذا الذين يستثقلون رمضان لأنهم سيفارقون فيه مألوفهم من الشهوات، ويلتزمون ببعض العبادات، إضافةً إلى ضعف يقينهم بما أعد الله تبارك وتعالى للمؤمنين، فإنهم لا يدركون فضل هذا الشهر ولا يتصورون عظمة الأجر المكتوب لهم، فيه فلا يجدون فيه من اللذة والفرح والسرور ما يجده أصحاب الإيمان.
وللصيام -أيها الإخوة- معانٍ ومقاصد عظيمة لو تأملناها لطال عجبنا منها:
وقل مثل ذلك في سائر العبادات، انظر -مثلاً- إلى الوضوء أمر إلى الغسل، فكون الإنسان يتعمد أن يتوضأ ويغتسل ليرفع حدثه الأصغر والأكبر، فلولا إيمانه بالله جل وعلا، وأن الله رقيبٌ عليه؛ لما كان يفعل ذلك. وانظر إلى الصلاة، فكون العبد يقول وهو قائم: " الحمد لله رب العالمين "، أو يقول وهو راكع: سبحان ربي العظيم، أو يقول وهو ساجد: سبحان ربي الأعلى، أو يقول بين السجدتين: رب اغفر لي، أو يقول في التشهد: التحيات لله، والرجل الذي إلى جواره لا يسمعه، فلو لم يكن مؤمناً بإله يراقبه ويعلم حتى همسات لسانه ووساوس قلبه وخواطره، فلو لم يكن مؤمناً بهذا الرب؛ لما دعا وذكر الله عز وجل سراً، في حين أن جاره في الصلاة قد لا يسمع همساته وكلماته.
إذاً فالصوم من أعظم معانيه: تربية الإيمان بالله العليم الخبير المطلع على العبد في سره ونجواه: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7].
فمثلاً: بمقياس الماديين فإن الأكل يقوي الجسم، وفيه تحصيل للذة، والشبع، والسعادة، والشرب كذلك، وإتيان النساء كذلك، لكن المؤمن عنده مقياس آخر: أن هذه الأشياء وإن كانت تحقق بعض ما ذكر، إلا أن هناك مقياساً آخر وهو مقياس الآخرة.
فإذاً من الممكن أن يترك المؤمن -مثلاً- الأكل لأنه ينتظر أن يجازى على هذا الترك في الآخرة وليس في الدنيا، ويترك الشرب لذلك ويترك المحرمات لذلك، فيتربى في قلبه الإيمان بالدار الآخرة، التي هي في الحقيقة دار الجزاء والحساب.
أما ما يلقاه المؤمن في هذه الدنيا من النعيم بسبب الطاعة، فإنما هو عربونٌ فقط، فما تجده -مثلاً- من أثر الصوم في الدنيا، من الصحة والسعادة، والفرح، … إلى آخره، إنما هو عربون، والجزاء الحقيقي والثمن الحقيقي لهذا العمل إنما تجده في الدار الآخرة، فيربي الصوم الإنسان على التطلع إلى الدار الآخرة التي فيها الجزاء الحقيقي، وفيها نهاية المطاف، وليست نهاية المطاف في هذه الدار الدنيا.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا |
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا |
فهو يعتبر أن من أعظم الشرف أنه مخاطبٌ بقول الله تعالى: يا عبادي.
ويقول الآخر:
أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرا |
إذاً: كمال الحرية في كمال العبودية لله جل وعلا، والصوم يربي العبد على العبودية، وانظر كيف، يقول لك الله عز وجل: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ [البقرة:187] فيكون في هذا أمر لك بالأكل، فتجد أن من العبادة أن تأكل، ولذلك يستحب للإنسان أن يأكل -مثلاً- عند السحور وعند الإفطار كما هو معروف، ويكره له الوصال؛ بحيث يواصل الإنسان يوماً أو يومين فلا يفطر بينهما، فتكون العبادة حينئذٍ بأن تأكل وتشبع شهوتك من الأكل والشرب، وفي وقتٍ آخر يأمرك الله عز وجل بضد ذلك فيقول: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] فتمسك من طلوع الفجر إلى الليل، عن الأكل والشرب وسائر المفطرات طاعة لله عز وجل، فتتربى حينئذٍ على العبودية الحقيقية لله، إذا قال لك: كل فإنك تأكل، وإذا قال لك: اشرب فإنك تشرب، وإذا قال لك: صم وأمسك؛ فإنك تصوم وتمسك. ففي هذا يتربى العبد على أن القضية ليست مجرد أذواق وشهوات وأمزجة يتعاطاها؛ بل هي طاعة لله عز وجل، فإن أمرنا بالأكل أكلنا وإن أمرنا بالإمساك أمسكنا.
ولذلك تجد العبد -مثلاً- في صلاته أحياناً يقف، وأحياناً يركع، وأحياناً يسجد، وأحياناً يقعد، لأن هذا هو الأمر الذي أراده الله، وهذا هو التعليل.
وفي الإحرام مثلاً حين يحرم الإنسان ليس منهياً عن الأكل ولا عن الشرب، ولكنه منهيٌ عن الجماع ودواعيه، ومنهيٌ عن تغطية الرأس، وعن الطيب وعن تقليم الأظافر، وعن قص الشعر، وعن جميع ألوان الترفه، فيمتنع عن جميع هذه الأشياء ما دام محرماً؛ لأن الله تعالى هكذا أراد منا إرادة شرعية، لكن له أن يأكل، ولو امتنع المحرم عن الأكل والشرب لأنه محرم لكان مبتدعاً في ذلك.
فإذا انتهى إحرامه يقال له: مطلوبٌ منك الآن -وجوباً- أن تحلق أو تقصر رأسك، ومطلوبٌ منك أن تقلم أظفارك، وأن تتزين وتتطيب وتغتسل قال الله: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [الحج:29].
فهذه تربيةً على العبودية الحقيقية لله جل وعلا، يأمرك بالشيء فتمتثل ويأمرك بنقيضه فتمتثل أيضاً، وليس من الضروري أن ندرك علة أو حكمةً لهذا الأمر أو لذاك النهي، فالعلة والحكمة تتلخص في أن الله تعالى أمر فأطعنا وامتثلنا، ونهى فانتهينا وامتثلنا، وهذا هو معنى العبودية الحقيقية.
ربما يكون الكثير منا -بل لعل الجميع- صام يوماً من الأيام نفلاً، إما أيام البيض أو يوم عاشوراء أو يوم عرفة، أو ما أشبه ذلك.
فما هي المقارنة بين صوم النفل وصوم الفرض؟
صوم النفل يتعب فيه الإنسان بعض الشيء ويجد شيئاً من المشقة، أما صوم الفرض فإن الإنسان يقول فيه: سبحان الله! كيف يسر الله تبارك وتعالى لنا الصوم، والله ما كأننا صائمين. هكذا لسان الجميع، ما هو السبب؟
لا شك أن الله تعالى يعين العبد في فرض الصيام ونفله، وإن كانت الإعانة في الفرض أكثر، لكن الإعانة موجودة في الجميع، وإنما من أهم الأسباب -في نظري-: أن الله تعالى جعل صوم رمضان فرضاً على الجميع، ولذلك كلما تلفت الإنسان وجد أن المجتمع صائم، فأنت تخرج للسوق فتجد الناس صائمين، وتذهب لسوق الخضار فتجد الناس صائمين، وتدخل البيت فتجد أهل البيت صائمين، وتذهب إلى المدرسة فتجد زملاءك صائمين، وتذهب للعمل فتجدهم صائمين، فالكل صائم.
ولذلك يحس الإنسان بأن الأمر الذي يفعله هو أمر يفعله الجميع، وهذا لا شك مما يجعل الموضوع غير ثقيل على النفس، ولهذا فالإخوة الذين يصومون في مجتمعاتٍ مفطرة، كما يقع لبعض الذين يعيشون في بلاد الغرب، إما لمرض -عافانا الله وإياكم- أو لحاجة أو لضرورة، فإنهم يجدون مشقة عظيمة في صيام رمضان؛ لأن الناس مفطرون هناك، فهو يجد الناس يأكلون في كل مكان، ولا يراعى أن يكون صائماً، فهو مطالب بأن يعمل كما يعمل غيره، ويخرج كما يخرج غيره، ويدخل كما يدخل غيره، من غير مراعاة لكونه صائماً، فيجد في ذلك مشقةً عظيمة، كما حدثنا الإخوة الذين عاشوا هناك في شهر الصيام، لكن في المجتمعات المسلمة الصائمة لا يجد الإنسان هذه المشقة، وفي هذا تربيةٌ للمجتمع.
ولذلك رأينا -أيها الإخوة- بأعيننا أن الإنسان حين يذهب في شهر الصيام حتى للمجتمعات المنهمكة في الفساد، ولكن عليها آثار الإسلام وفيها بقايا الإسلام؛ يجد دخول الشهر الكريم مميز تماماً، فإذا دخل الشهر وجدت آثار رمضان ظاهرة على الجميع، حتى الفساق يظهر عليهم آثار الشهر الكريم، ففي ذلك تربية للمجتمع.
ولهذا تلاحظون دائماً أن الإسلام يُعنى عنايةً كبيرةً بإصلاح المجتمعات من الفساد -مثلاً- كحادثة فردية، فإن هذه الأخطاء الفردية واقعة في كل مجتمع لا بد منها، حتى المجتمع النبوي مجتمع الصحابة، وقع فيه حالات من الانحراف، وجد إنسان زنا وآخر سرق وثالث شرب الخمر مثلاً، لكن المشكلة حين تتحول هذه المنكرات إلى منكرات معلنة موجودة على الملأ، فتتلوث البيئة العامة، ويصبح الإنسان الذي يريد الخير قد لا يهتدي لأن المجتمع يضغط عليه، ولهذا -أيضاً- تلاحظون أن أعداء الإسلام حريصون على إفساد المجتمع وتلويث البيئة.
ولعلكم سمعتم -مثلاً- بما يسمى بالبث المباشر، وكثيراً من تُحدِثَ عن هذا الموضوع، وهو محاولة الدول الغربية أن ترسل بثاً تلفزيونياً إلى البلاد الإسلامية يكون مثل قنوات الراديو -تقريباً- بحيث يكون من الممكن في التلفاز أن يشاهد الإنسان أي محطة، وهذا ليس -كما يتصور البعض- أنه أمر قاب قوسين أو أدنى، لا شك أنه أمر فيه صعوبة وأمامه عقبات، لكنه أمر متوقع، فهم حين يفعلون ذلك وغيره كثير، يحاولون أن يلوثوا البيئة العامة حتى تفسد وتنحرف؛ بحيث أن الذي يريد الصلاح لا يصلح لأن المجتمع يعارضه، فهو إن صلح يصبح ضد التيار كما يقال.
وهذا من أعظم مقاصد الصيام، أن الله عز وجل يربي المجتمع الإسلامي بالصيام، بحيث يتحول إلى مجتمعٍ صائم، ولذلك تجد الصغار عندنا يصومون، وتجد الفساق يستترون، وتجد الكفار لا يستطيعون أن يعلنوا الأكل والشرب في الأسواق وعلى الملأ، لأن المجتمع يفرض عليهم هذا الأمر.
كما جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الصوم جنة يستجن بها العبد من النار} وفي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً}.
إذاً: فالصوم جنة ووقاية من النار، وكلما صام العبد بعد عن النار، فإذا كان من صام يوماً أبعد سبعين خريفاً -أي سبعين عاماً- فما بالك بمن يصوم شهراً، وما بالك بمن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وما بالك بمن يصوم أكثر من ذلك! لا شك أنه أبعد ما يكون عن النار.
ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الشباب بالزواج، وإذا لم يستطيعوا أرشدهم إلى الصيام، وبين عليه الصلاة والسلام أن الصوم وجاء يمنع الشهوة أن تتحرك وتبلغ مبلغها في الإنسان.
فإلى الشباب الذين يشتكون من الشهوات -وهم كثيرٌ خاصة في هذا العصر المليء بالمغريات، فالشاب -مثلاً- يشتكي أنه إن خرج إلى السوق وجد النساء المتبرجات، وإن دخل البقالة وجد المجلات التي فيها صور النساء الكاسيات العاريات، وإن ركب في السيارة سمع الغناء، وإن ركب الطائرة كذلك، وإن ذهب أو دخل أو خرج وجد الشهوة والفتنة تلاحقه في كل مكان، مع ما جبل عليه وركب من الشهوة الغريزية التي تتحرك في نفس كل إنسان، ومع ضعف الرادع والوازع عند الكثيرين- إلى هؤلاء الشباب نهدي هذه النصيحة النبوية: {ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} وهذا طب نبوي للذين يشتكون من الشبق وشدة الشهوة، وقد جرب هذا الطب فوجد أنه علاج ناجع ودواءٌ نافع، وهو كافٍ عن غيره من العلاجات والأدوية المادية، إضافة إلى أدوية أخرى شرعية في هذا المجال.
ولذلك روى النسائي بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه، أنه قال: {يا رسول الله دلني على عملٍ يقربني من الجنة ويباعدني من النار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: عليك بالصوم فإنه لا مثل له} فبين أنه لا شيء يقرب العبد من الجنة ويباعده من النار مثل الصيام.
بل إن في الجنة باباً خاصاً للصائمين، كما في الحديث المتفق عليه عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة باباً يقال له الريان } ولاحظ اسم الباب، فإنه يتناسب مع صفة الصائم، فإن الصائم يصيبه العطش والجوع في سبيل الله؛ فجوزي بأن يدخل من باب الريان، والجزاء من جنس العمل: {إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد غيرهم} فهذا جزاء الصائمين.
ولذلك روى الإمام أحمد والحاكم بسند حسن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {القرآن والصيام يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: يا رب منعته الطعام والشراب فشفعني فيه. ويقول القرآن: يا رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال عليه الصلاة والسلام: فيشفعان}.
فالأعمال التي يعملها العبد في هذه الدنيا لا مانع أن تكون يوم القيامة أشياءً حسية تشفع للعبد، وتتكلم وتوزن إلى غير ذلك مما ورد في النصوص الشرعية، وهاهنا أثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم يكون ذاتاً يوم القيامة يتكلم ويقول: يا رب منعته الطعام والشراب والشهوة فشفعني فيه، فيشفع الصوم في صاحبه، سواء أكان صوم فرضٍ أم كان صوم نفل.
ولذلك قال الله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] فالصوم فيه حسنات كثيرة، والحسنات تذهب السيئات، فكل عمل صالح فهو سببٌ في مغفرة الذنوب وستر العيوب وتجاوز الله تبارك وتعالى عن العبد، ولكن ورد في الصوم خاصةً أحاديث كثيرة:
منها: حديث حذيفة المتفق عليه، بل رواه الستة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة} أي: أن ما يحدث منك من أخطاء، سواء أكانت كلمة نابية، أم اعتداءً أم إيذاءً لأهلك أم خطأ عليهم، أم في مالك، أم في جيرانك، أو ما أشبه ذلك من الصغائر، تكفرها الصلاة والصوم والصدقة.
وفي الحديث المتفق عليه -أيضاً- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} أي: إيماناً بالله عز وجل، واحتساباً لأجر الصوم، ومعرفة بما أعد الله تبارك وتعالى للصائمين، فهو يصوم ويتوقع الأجر الذي سيعطاه على هذا الصيام، غفر له ما تقدم من ذنبه.
وفي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر}.
فالصوم مكفر لما قبله بشرط اجتناب الكبائر، فإن جمهور علماء أهل السنة وجمهور علماء السلف على أن الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة؛ وإنما الصوم والصلاة وغيرها تكفر صغائر الذنوب، ولذلك قال الله عز وجل (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً [النساء:31].
ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره وفرحةٌ عند لقاء ربه} أما فرحة الصائم عند فطره فهي فرحةٌ دنيوية وفرحةٌ عاجلة، وهي سعادة لأن السعادة في الحقيقة هي فرح القلب، فالذين يبحثون عن السعادة لا يجدونها إلا في طاعة الله تعالى وتقواه، وهذا نموذج للسعادة.
فالذي يفطر يفرح عند فطره، وفرحه يكون من وجهين:
الأول: فرحه بأن الله تعالى أباح له الأكل والشرب، والنفس مجبولة على حب الأكل والشرب، ولذلك تعبدنا الله تبارك وتعالى بتركهما، كما يترك الإنسان الجماع، مع أنه يرغبه وقد ركب في طبعه وجبلته، فيتركه طاعة لله تعالى، فإذا أذن له في ذلك فرح بأنه سوف يأكل ويشرب.
والأمر الآخر الذي يفرح به، وهذا فرح أعلى وأسمى من الفرح الأول: أنه يفرح لأن الله تعالى وفقه لإتمام صيام ذلك اليوم، فيفرح بإكمال هذه العبادة وإتمامها على الوجه المطلوب، فهو فرح من الوجهين.
وخلوف فم الصائم هي الرائحة التي تخرج من الفم، وهي في الواقع من المعدة، لكن تخرج عن طريق الفم في آخر النهار، بسبب خلو المعدة من الطعام، وهي رائحة مكروهة للخلق؛ لكنها محبوبةٌ للخالق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك} وفي صحيح مسلم: {أطيب عند الله تعالى يوم القيامة من ريح المسك} وفي هذا دليل على أنه لا بأس أن يتسوك الإنسان بعد الزوال.
وهذا هو الرأي الراجح والصحيح في المسألة؛ بل يستحب للإنسان أن يستاك بعد الزوال ولو كان صائماً، فيستاك عند الصلاة وعند الوضوء، ويستاك عند دخول المنـزل، وعند الاستيقاظ من النوم.. إلى غير ذلك من المواضع التي يستحب فيها السواك، لأن الخلوف هذا -أولاً- ليس من الفم وإنما هو من المعدة، وثانياً: أنه أطيب عند الله تعالى يوم القيامة من ريح المسك.
وقد ورد في أثر إسرائيلي: إن الله عز وجل لما أمر موسى أن يأتي إليه، أمره أن يصوم ثلاثين يوماً فصام ثلاثين يوماً، فلما انتهى منها وجد رائحة الخلوف في فمه فكأنه أفطر أو استاك، فأمره الله عز وجل أن يصوم عشرة أيام بعدها، وقال له: يا موسى، أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك. فأتمها الله تعالى عشرة أيام، فتم ميقات ربه أربعين ليلة.
المهم أن من فضائل الصوم: أن خلوف فم الصائم -وهو أمر مكروه للخلق- أطيب عند الله تبارك وتعالى من ريح المسك، وهكذا جاء في الحديث عن دم الشهيد - مع أن الدم بحد ذاته أمر مستقبح مستقذر، بل هو نجس عند أكثر الفقهاء، لكن قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه يدمي، اللون لون الدم والريح ريح المسك}.
ولذلك فإن بكاء المذنبين بين يدي الله عز وجل، هو من أعظم السرور لهم والقربى إلى الله عز وجل، وربما يكون-أحياناً- خيراً من كثير من العبادات والطاعات التي يدل بها العبد ويستعظمها، ويعتبر أنه فعل من جرائها شيئاً عظيماً، بخلاف المنكسرين الباكين بين يدي ربهم، فإن قلوبهم منكسرة، ولذلك ورد في أثرٍ -وإن كان ليس بالقوي- أن الله عز وجل قال لبعض رسله وأنبيائه حين قالوا: أين تكون يارب؟
قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي.
ولهذا لا أعظم من الدعاء؛ لأن الدعاء يتحقق فيه انكسار العبد، وافتقاره إلى الله جل وعلا، وخاصةً إذا كان دعاءً عن ضرورةٍ وعن اضطرار: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ [النمل:62].
وما سبق إنما هو فضائل الصيام فرضاً أو نفلاً، أما فضائل رمضان فهي:
فإن الصوم نصف الصبر، والصبر جزاؤه الجنة، وكما قال الله عز وجل في القرآن: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10] فإن الصبر لا يتجلى في شيء من العبادات كما يتجلى في الصوم، حيث يحبس الإنسان نفسه عن الأكل والشرب والجماع وغيرها، طيلة هذا الشهر الكريم.
ولذلك تجدون أن وسوسة الشيطان وكيده وتلبيسه على الناس في رمضان أقل منه في غيره، بل إن الشيطان يخاف من رمضان كما يخاف من الأذان والإقامة فيولي، ولهذا تلاحظون -أيضاً- أنه قبل أن يدخل رمضان يبدأ الناس العصاة يستعدون للتوبة، وكثيراً ما يسأل الناس فيقول أحدهم -مثلاً-: أنا عندي مظلمة وأريد أن أخرج منها، أو عندي مال حرام وأريد أن أتخلص منه، أو عندي أمور لا ترضي الله أريد أن أتوب منها. يقولون هذا قبل رمضان، ومعنى ذلك أن الشيطان يخاف من قدوم رمضان فيضعف كيده وتأثيره، فما بالك إذا دخل رمضان، وسلسل الشيطان وصفد بالأغلال، فإنه لا يكاد يصل إلى الناس إلا في أقل القليل من الذنوب والآثام.
إلا أن هناك أناسٌ أصبحت نفوسهم شريرةٌ؛ بسبب تقبلها لوسوسة الشيطان، فحتى حين يضعف تأثير الشيطان عليها فإنه يكون فيها شرٌ بذاتها، ولذلك لا تعجب أن تجد والعياذ بالله من الناس من يكون انحرافه في رمضان، فقد وقفت على أقوامٍ كان انحرافهم في رمضان، بل وربما في ليلة القدر ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، وربما اجتمع فيها أقوامٌ على لهو وشرب وغناء وزنا -عافانا الله وإياكم من ذلك- وهذا من مسخ القلوب وانسلاخها.
يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن< |
ولذلك روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه بسند جيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لكل مسلمٍ دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان}.
وقد ورد في أحاديث عديدة أن هذه الدعوة عند الإفطار، فليحرص العبد عند إفطاره على أن يستجمع جوامع الدعاء ويدعو بها، وسأتحدث -إن شاء الله- عن جوامع الدعاء في الوقفات القادمة بإذنه تعالى.
ولا شك أن الكلام عن أحكام الصيام يطول بل فيه مصنفاتٌ خاصة، ولذلك سأتحدث باختصارٍ وبسرعةٍ -أيضاً- عن بعض هذه الأحكام.
وقد ذكر العراقي في طرح التثريب، أن القاضي حسين وهو من فقهاء الشافعية، جاءه رجل فقال له: يا إمام أنا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم البارحة في المنام، فقال لي: إن الليلة من رمضان. -انظروا تلبيس الشيطان، وانظروا كيف يكون الفقه- فقال له القاضي حسين: الذي تزعم أنك رأيته في المنام، رآه أصحابه في اليقظة وقال لهم: {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته} إي: فلا عبرة بهذا الذي رأيته في المنام، ولم يأتك رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لبس عليك.
كذلك لا يجوز للإنسان أن يصوم احتياطاً لرمضان، فمن صام آخر يومٍ من شعبان احتياطاً لرمضان فهذا لا يجوز على الراجح، أما من صامه لأنه وافق يوماً كان يصومه، فلا حرج في ذلك، كما إذا صامه لأنه يوم الإثنين -مثلاً- أو أنه يصوم يوماً ويفطر يوماً فوافق يوم صومه، فلا حرج في هذا.
فلا بد أن يبيت الإنسان الصوم من الليل، أي ينوي صوم الفرض من الليل، أما النفل فيجوز بنيةٍ من الليل أو النهار، فلو استيقظت بعد طلوع الشمس -مثلاً- ثم نويت صيام اليوم، فلا بأس بذلك إذا كان نفلاً، لكن الفرض لا بد له من نية من الليل.
وهاهنا أنبه إلى أمور: بعض الناس يوسوسون في النية، والوسواس في النية من أردأ وأحط أنواع الوساوس، فأنت مسلم عرفت أنه دخل رمضان، واستقر عندك نية أنك سوف تصوم جميع رمضان، وهذا يكفي.
التنبيه الآخر: إن قولنا من الليل، يمتد حتى طلوع الفجر، فلو فرض أن الإنسان نام ليلةً من الليالي ولم يعلم أن الليلة من رمضان، ثم استيقظ قبل الفجر بدقائق، وعلم أن الليلة من رمضان فشرب جرعة من ماءٍ ثم صام فإن هذا يكفي، وليس معنى تبييت النية أن ينام وفي نيته أن يصوم كما يتوهمه بعض الجهال.
فينبغي للإنسان أن يتسحر، ولو على شربةٍ من ماء إذا لم يجد غيرها أو لم يتمكن من غيرها.
فقالت: الذي يعجل الفطور ويعجل الصلاة أفضل
]].فيستحب للعبد أن يعجل الإفطار بمجرد ما يتيقن غروب الشمس، ويفطر على رطب، فإن لم يجد أفطر على تمر، فإن لم يجد حسا حسواتٍ من ماء، كما ذكره أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه كان يفطر على رطبات، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء} والحديث رواه أبو داود، وأحمد، وابن خزيمة، والترمذي، وسنده صحيح.
ويستحب عند الإفطار أن يقول الصائم: الحمد لله، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى. وهذا هو أصح ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الإفطار، فقد رواه أبو داود والدارقطني، وقال الدارقطني: إسناده حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال: {الحمد لله، ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى} ولا يثبت في أدعية الإفطار إلا هذا، لكن للإنسان أن يدعو بما أحب من خير الدنيا والآخرة.
أولاً: الأكل والشرب والجماع.
فإذا تعمد الصائم شيئاً من هذه الأشياء فإنه يفطر بإجماع أهل العلم، وهي مذكورة في القرآن الكريم، ولذلك قال الله عز وجل: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة:187] -أي: النساء بالجماع- وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:187] فأجمع أهل العلم على أن الأكل والشرب والجماع، هي من المفطرات إذا تعمد الإنسان شيئاً منها، من غير إكراهٍ ولا نسيان.
ثانياً: من المفطرات -أيضاً-: القيء عمداً.
إفإذا استقاء الإنسان وتعمد أن يستفرغ ما في بطنه فإنه يفطر بذلك، وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: {من استقاء عامداً فليقض، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه} والحديث رواه أبو داود والترمذي، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب حقيقة الصيام: إنه حديث صحيح.
ومعنى الحديث: أن من تقيأ من غير إرادةٍ فخرج منه القيء من غير قصد فهذا لا قضاء عليه، لكن لو تعمد كأن أدخل أصبعه أو شم شيئاً عن عمدٍ ليتقيأ فإن عليه القضاء، كما أفتى بذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث.
ثالثاً: ومن المفطرات بالإجماع -أيضاً-: الحيض والنفاس، فإن المرأة إذا حاضت أو نفست فإنه لا يصح منها الصوم، ولذلك جاء في حديث عائشة: {كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة} فدل على أن الحائض لا تصوم ولا يصح منها ذلك.
هذه هي المفطرات المشهورة، ويدخل فيها ما كان في معناها، فمثلاً: يدخل في الأكل الإبر المغذية التي يستغني بها الإنسان عن الأكل والشرب، ويدخل في الجماع -من حيث أنه مفطر- الاستمناء عمداً بأي وسيلةٍ كانت فإنه يفطر ولا شك في هذا، ولا ينبغي أن يكون في هذا خلاف.
ومن أفطر، فإن كان إفطاره بالجماع في نهار رمضان؛ فإن عليه أربعة أمور:
الأول: أن يمسك بقية اليوم؛ لأن هذا الفطر غير مشروع، فيمسك بقية اليوم فلا يأكل ولا يشرب شيئاً.
الثاني: التوبة لأن هذا إثمٌ عظيم، فهذا العمل كبيرة من الكبائر يجب التوبة منه.
الثالث: أن يقضي يوماً مكان اليوم الذي أفسده.
الرابع: الكفارة، وهي عتق رقبة فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يجد أطعم ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت عنه الكفارة.
أما إن كان فطره بغير الجماع، بأكلٍ أو شربٍ؛ فإن عليه التوبة والاستغفار، وأن يقضي يوماً مكانه على الراجح من أقوال أهل العلم.
فإن في الصوم رخصٌ عديدة رخص الله تبارك وتعالى فيها لنا، منها:
وهذا المسألة اختلف فيها أهل العلم، فبعضهم قال: أفطر بها، وبعضهم قال: لم يفطر لأنه جاهل. والصحيح أنه يفطر بذلك، فإذا تذكر وفي فمه شيء وجب أن يلفظه، وكذلك إذا رآه إنسانٌ يجب عليه أن يعلمه؛ لأن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا رأيت من يأكل أو يشربُ في نهار رمضان ناسياً، فقل له: أنت صائم أو نحن في رمضان.
فمن أتى أهله أو احتلم في الليل، ثم طلع عليه الفجر قبل أن يغتسل، فالصحيح في ذلك أنه لا شيء عليه، ويصوم ويغتسل بعد ذلك، وينوي الصيام وهو جنب ولا حرج في هذا؛ خلافاً لما أفتى به أبو هريرة أول الأمر، فإن هذا كان ثم نسخ.
ولا شك أن الصائمين من أفضل العباد، لكن مع ذلك لا بد من التنبيه على بعض الأخطاء التي يقع فيها الصائمون:
ولذلك ذهب بعضهم إلى أنه يفطر بذلك؛ لكن الصحيح أنه لا يفطر بذلك، والحديث الوارد في هذا ضعيف، وهو قصة المرأتين اللتين غلبهما الصيام فجيء بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: {قيئا فقاءتا قيحاً ودماً عبيطاً، فقال عليه الصلاة والسلام: إن هاتين أفطرتا على ما حرم الله وصامتا عما أحل الله} هذا الحديث لا يصح، وقد احتج به ابن حزم وغيره على أن الغيبة والنميمة تفطر وهو حديث ضعيف.
ولذلك إذا كان الإنسان يخوض المعركة وقد تذهب روحه في سبيل الله تعالى ولا يفطر؛ لأن هذه طاعة وعبادة وقربة، فليس المقصود أن الإنسان يصوم حتى يصح جسمه، أو يسلم من الأمراض والآفات والعاهات، أو يحصل على سعادة عاجلة، وإن كانت هذه الأمور كلها تأتي تبعاً، لكنه يصوم طاعة لله عز وجل.
فإن كثيراً من الصائمين يصبح عنده سوء في خلقه بسبب امتناعه عن الأكل والشرب، فيغلظ على أهله ويقسو عليهم، وكذلك إن كان موظفاً يغلظ ويقسو على من يليه، ويعاملهم بأسلوبٍ فظٍ غليظ، ويستخدم ألفاظاً نابية لا تليق.
والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا، كما في الحديث المتفق عليه: {الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم} فأرشدك إذا كنت صائماً إذا سبك أحدٌ أو شتمك ألا ترد عليه، بل تقول له: إني صائم.
فما بال بعض الناس إذا صاموا عكسوا القضية، فربما يكون الواحد منهم في غير الصوم هادئاً وديعاً خلوقاً، لكن إذا صام اشتدت أعصابه وتوترت، وأصبح يرمي بالعبارات النابية الغليظة هنا وهناك، لأهله وأولاده وجيرانه وزملائه إلى غير ذلك.
ونحن نجد أن المسلمين الأُول كانوا عكس ذلك، فكثير من المعارك الإسلامية الشهيرة كانت في رمضان، ولم يكن الصيام فرصةً للنوم، وبعضهم يحتجون في ذلك بأحاديث ضعيفة مثل: {نوم الصائم عبادة} ولو فرض أنه صحيح فإنه لا يدل على ما ذهبوا إليه، فالحقيقة أن الصائم ينبغي أن يعود نفسه على النشاط والإقدام والقيام بالأعمال الصالحة.
فإننا نجد أن كثيراً من الناس يستعدون لاستقبال رمضان بألوان المطعومات والمشروبات، ويعدون لسحورهم وفطورهم وعشائهم، من أطايب الطعام ما لا يعرفه الناس في غير رمضان، وهذا لا شك أنه يتنافى مع الحكمة الأساسية من مشروعية الصيام، ولذلك تعجبني كلمة ذكرها أحد المصنفين وهو يوبخ الناس، فيقول لهم: "إنكم تأكلون الأرطال، وتشربون الأسطال، وتنامون بالليل ولو طال، وتزعمون أنكم أبطال".
وهذا في الواقع حكاية الحال التي يعيشها كثير من الجهال فالإنسان عليه أن يكون مقتصداً في أكله وشربه في رمضان.
وكذلك نقل غيره تضعيفه عن أئمة آخرين.
نسأل الله أن يلحقنا وإياكم خيراً.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف} رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه}رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران}.
وقد أمر الله عز وجل بتلاوة كتابه، وبين أن هذا دأب الصالحين السابقين، فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29-30].
أولها: أن ابتداء نـزول القرآن كان في رمضان، أي أن الليلة التي نـزل فيها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم [العلق:1-4] كانت في رمضان، في الشهر الذي هو في الحقيقة شهر رمضان، وقد جاءت قصة نـزول جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء الليالي ذوات العدد يتحنث -وهو التعبد- قبل أن ينـزع إلى أهله، ثم ينـزع إلى أهله ويتزود لمثلها، حتى جاءه الملك فقال له: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ، قال عليه الصلاة والسلام: فأخذني فغتني أو فغطني -يعني ضغطه- حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، -أي: أنا لا أحسن القراءة، لأنه كان أمياً عليه الصلاة والسلام- ثم فعل به ذلك ثلاثاً، ثم أرسله فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]. فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة ترجف بوادره، يقول: زملوني زملوني، فزملوه وغطوه حتى سكن ما به، ثم أخبرها الخبر وقال: لقد خشيت على نفسي. فقالت له: {أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق}. ثم انطلقت به إلى ورقة بن نوفل وكان امرءاً تنصر في الجاهلية، فهو يقرأ من الإنجيل بالعبرانية، ويكتب ما شاء الله أن يكتب، فأخبره الخبر، فقال: هذا الناموس الذي كان يأتي موسى، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. قال: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن مات، وفتر الوحي فترة
إذاً: فأول آيات أنـزلت من القرآن الكريم كانت في رمضان، وعلى هذا حمل بعض أهل العلم قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] أي: ابتدأ إنـزاله، ويحتمل -أيضاً- أن يكون هذا هو معنى قوله عز وجل: إِنَّا أَنـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] وفي الآية الأخرى: إِنَّا أَنـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ [الدخان:3] فهي ليلة القدر وهي من رمضان.
السبب الثاني: في أن عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان تتضاعف: أن رمضان هو الذي أنـزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه وأطبق عليه السلف، أن الله تبارك وتعالى أنـزل القرآن من اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة في السماء الدنيا في رمضان، وفي ليلة القدر، ثم كان ينـزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً بحسب الوقائع والأحوال والملابسات، كما هو معروف في أسباب النـزول، ولذلك جاء عن جابر رضي الله عنه أنه قال: [[إن صحف إبراهيم أنـزلت في أول يوم من رمضان، وإن التوراة أنـزلت على موسى بعد مضي ستة أيام من رمضان، وإن الزبور أنـزل على داود بعد مضي اثني عشر يوماً من رمضان، وإن الإنجيل أنـزل على عيسى بعد مضي ثمانية عشر يوماً من رمضان، وإن القرآن أو الفرقان أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم بعد مضي أربعة وعشرين يوماً من رمضان]] وقد نقل هذا المعنى عن جماهة من الصحابة، كـواثلة بن الأسقع، وعائشة رضي الله عنهما وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً وموقوفاً، ونقل أيضاً أن الحسن بن علي رضي الله عنه، لما قتل أبوه رضي الله عنه قال: [[لقد قتلتم رجلاً في ليلة أنـزل فيها القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، ورفع فيها عيسى إلى السماء، وقتل فيها يوشع بن نون، وتيب فيها على بني إسرائيل]] والآثار في ذلك عن السلف كثيرة جداً، خلاصتها أن القرآن الكريم أنـزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر في رمضان.
السبب الثالث: -لتضاعف اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان-: أن جبريل كان يأتيه في رمضان فيدارسه القرآن كل ليلة، كما في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يلقاه في كل ليلة، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وفي العام الذي توفي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل بالقرآن مرتين} فقد خصص جبريل عليه السلام شهر رمضان من الحول؛ لينـزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ليلة فيتدارس معه ما أنـزل من القرآن، أي من الحول إلى الحول، فكان رمضان فرصةً لمراجعة ما سبق نـزوله من رمضان الماضي إلى رمضان الحاضر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن فيقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل يستمع إليه، ويتم من خلال هذه العرضة إثبات ما أمر الله بإثباته، ونسخ ما أمر الله بنسخه: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَاب [الرعد:39].
كما أنه قد يكون من ضمن ذلك شرح معاني القرآن ومدارستها بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين جبريل، ومن هذا أخذ أهل العلم مشروعية ختم القرآن في رمضان، لأن جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم كانا ينهيان ما سبق نـزوله من القرآن الكريم، وفي آخر سنة تم ختم القرآن مرتين من خلال المعارضة والمدارسة بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على أنه يستحب للمسلم أن يقرأ القرآن الكريم في رمضان مرةً أو أكثر، بل إن السنة للإنسان أن يختم القرآن في كل شهر مرة، بل إن استطاع في كل أسبوع مرة، بل لو استطاع أن يختم القرآن في كل ثلاث ليال لكان مستحباً له ذلك، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان السلف رضي الله عنهم يخصصون جزءاً كبيراً من رمضان لقراءة القرآن، حتى قال الزهري رحمه الله: إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام، وكان الإمام مالك رحمه الله إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث، وأقبل على قراءة القرآن الكريم من المصحف.
ونقل عن جماعة من السلف كـالنخعي، والأسود وغيرهم، أنهم كانوا يختمون القرآن في كل ثلاث ليال مرة، فإذا دخل رمضان ختموه في كل ليلتين مرة، فإذا كان في العشر الأواخر ختموه في كل ليلة.
فمن الملاحظات: أن بعض الناس يظنون أن ختم القرآن مقصود لذاته، فيهذ الواحد منهم القرآن هذ الشعر، لا يقف عند معانيه ولا يتدبره ولا يتخشع، ولا يرق قلبه عند معاني القرآن الكريم، إنما يهذه هذاً، وهمه الوصول إلى آخر السورة، أو الوصول إلى آخر الجزء، أو أن ينتهي من قراءة القرآن الكريم، ولا شك أنه ليس لهذا نـزل القرآن، فإن الله يقول في القرآن نفسه: كِتَابٌ أَنـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه [ص:29].
إذاً: المقصود هو التدبر والاتعاظ والاعتبار قال الله: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات:50] فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية:6] ويقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً [المزمل:4] فمن الخطأ الكبير أن بعض الناس يهمه أن يهذَّ القرآن هذاً ويختم، وإذا سمع هذه الآثار عن السلف أنهم ختموا في كل يوم مرةً أو في كل يومين مرة، قال: لا بد أن أقتدي بهم، فأصبح يهذُّ القرآن هذاً، لا يقف عند معانيه ولا يتدبره، ولا يخرج الحروف من مخارجها، ولا يعطي الأحكام التجويدية حقها، وهمه أن يختم القرآن، ولا شك أن ختم القرآن ليس مقصوداً لذاته، ولا شك أن كون الإنسان يقرأ بعض القرآن أو جزءاً أو سورةً منه، بتدبر وتفكر وتمعن خير من أن يقرأ القرآن كله دون أن يفهم منه شيئاً.
وقد ثبت في موطأ مالك -رحمه الله- أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه جلس في تحصيل سورة البقرة عشر سنوات، فلما أتمها، نحر بدنة.
هل ترى أن ابن عمر رضي الله عنه جلس عشر سنوات يتحفظ سورة البقرة؟
كلا! فإن صبيان الكُتَّاب عندنا يحفظون القرآن كله في سنة أو في سنتين، فلم يكن ابن عمر بحاجة إلى أن يجلس عشر سنين يحفظ سورة البقرة. إنما كان رضي الله عنه عشر سنين يحفظ السورة ويتعلم أحكامها ومعانيها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها، ويقف عندما ورد فيها، وهذا هو الذي جعله يستغرق في ضبطها عشر سنين.
الملاحظة الثانية: أنه في بعض البلاد يوجد عادات شكلية حول قراءة القرآن، ومن ذلك مصر.
فمثلاً: عندهم -خاصةً في الماضي وربما اندرست هذه العادة الآن- عادة يسمونها المساهر، حيث يجلسون في رمضان خاصةً بعد صلاة التراويح إلى السحور، فيأتي ذوو اليسار والغنى الذين أوجد الله عليهم ورزقهم، فيستأجرون قارئاً يقرأ لهم القرآن في بيوتهم، فيجتمع الناس على هذا القارئ، ويرفعون أصواتهم بعد قراءة كل آية بلفظ الجلالة -الله الله- أو الله يكرمك، ربنا يكرمك ويعطونه من هذه الدعوات، ويرفعون أصواتهم بهذه الصيحات، ولا شك أن هذا مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم لعدة أمور:
أولاً: قراءة القرآن بالأجر لا أصل لها، وهذا الذي يقرأ بالأجر الدنيوي ليس له أجر عند الله تعالى مادام قصده من القراءة الأجر من الناس.
ثانياً: أن جمع الناس بهذه الطريقة لا تتم به الفائدة، فإن الأصل أن يقرأ الإنسان وحده ليتدبر ويخشع ويتمعن، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم -في السبعة الذين يظلهم الله في ظله- قال: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه}.
ثالثاً: أن رفع الأصوات عند قراءة القرآن ليس من عادات المؤمنين، ولا يجوز ولا يسوغ، فإن الله عز وجل قال: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26] صحيح أنهم لا يرفعون أصواتهم عند القراءة، إنما يرفعونها بعد ما يسكت، لكن أيضاً هذا فيه سوء أدب مع القرآن، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يفعلونه، ففي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـعبد الله بن مسعود: {اقرأ عليَّ القرآن. قال: قلت يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنـزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأ عليه سورة النساء حتى وصل إلى قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41] قال: حسبك الآن، يقول ابن مسعود: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان
هذا هو الخشوع والتأثر بالقرآن، وهذا هو الاعتبار والأدب الواجب مع قراءة القرآن.
ومن الأشياء التي تحتاج إلى وقفة فيما يتعلق بالقرآن الكريم: ما يسمى عند الناس اليوم بالختمة، وقد تحدثت عنها في مناسبات أخرى؛ لكن في هذا المناسبة أذكرها، فإن الناس في هذا -كما يقال- طرفان ووسط، وأعني بالختمة: إتمام قراءة القرآن في صلاة التراويح والقيام، ثم الدعاء المعروف، فمن الناس من يقول: هذه بدعة ولا يفصل، ومن الناس من يقول: الختمة سنة ويعمل بها -أيضاً- دون تفصيل.
والذي أراه صواباً أنه لا بد من التفصيل في ذلك، فأقول:
أولاً: إتمام قراءة القرآن الكريم في صلاة التراويح والقيام مشروع، كما سبق.
ثانياً: الدعاء عند ختم القرآن الكريم -أيضاً- مشروع، وقد ثبت من حديث جابر عند أحمد وأبي داود، ومن حديث عمران بن حصين عند الطبراني، وهما حديثان صحيحان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اقرءوا القرآن وادعوا الله به} وفي لفظ: {وسلوا الله به، فإنه يأتي قوم يتعجلون أجره ولا يتأجلونه} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ القرآن ونسأل وندعو الله به.
إذاً: فالدعاء عند ختم القرآن مستحب، وفي سنن الدارمي بسند جيد أن أنساً رضي الله عنه [[كان إذا ختم القرآن الكريم جمع أهل بيته فدعا بهم]].
ثالثاً: هذا الدعاء الذي يقال عند ختم القرآن الكريم ينبغي أن يكون في صلاة الوتر، سواء في التراويح أو في القيام، وذلك لأن الوتر هو المكان الذي ثبت شرعاً أنه مكان للدعاء، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو، ويقنت في وتره، وعلَّم الحسن كما في سنن الترمذي بسند حسن، أنه صلى الله عليه وسلَّم علمه أن يقول: اللهم اهدني فيمن هديت.. إلى آخر الدعاء المعروف.
فالسنة في الدعاء أن يكون في الوتر، قبل الركوع أو بعده، فكلاهما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم بعد الركوع.
رابعاً: هذا الدعاء لا مانع من إطالته بمناسبة ختم القرآن، بمعنى أن يضاعف الإنسان الدعاء بمناسبة ختم القرآن، ويضيف أدعية تتعلق بالقرآن الكريم، مثل قول بعضهم: اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن الكريم، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل القرآن لنا شفيعاً.. إلى آخر الأدعية الخاصة بالقرآن، وهذه مناسبة جيدة، أن يختار الإنسان أدعية تتعلق بالقرآن الكريم.
أما الدعاء الشائع عند الناس الذي يبدأ عندهم بقوله: صدق الله العظيم الذي لم يزل عليماً قديراً... إلى آخر الأدعية التي تبدأ عندهم بصدق الله العظيم، صدق الله، ومن أصدق من الله قيلاً، أو صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ما قال ربنا من الشاهدين، ولما أوجب وألزم غير جاحدين. فهذه لا أصل لها، والأولى بالإنسان أن يتجنبها، خاصةً وقد انتشرت عند الناس حتى ظن بعضهم أنها من السنن، فلو تركها أحد لأنكروا عليه وقاموا في وجهه، وقالوا: لقد خالفت السنة!! وليس لها أصل صحيح.
ومما يدخل في المنع: أن بعض الناس يزيد في دعاء ختم القرآن مواعظ وأذكاراً تتعلق بذكر القبر وما يقع فيه من عذاب، وكذلك ذكر الصراط والبعث والجزاء والحساب والجنة والنار وما يقع فيها، ولا شك أن هذا ليس محله، وهو من الاعتداء المنهي عنه، وربما أوصل بعضهم إلى أن تبطل صلاته، لأن بعضهم يحول الدعاء إلى موعظة ويخاطب المصلين بالخطاب المباشر، وهذا يبطل الصلاة بلا شك.
فينبغي أن يفرق بين هذا وهذا، فمن يقول: إن الختمة بدعة أو الختمة سنة، كلاهما ينبغي أن لا يتسرع في إطلاق هذه الكلمة، بل لا بد أن يفصل ويبين ما يكون سنة وما ليس بسنة، مع أن الأمر لا ينبغي التشديد فيه -فيما يظهر لي- حتى إن الذين يقرءون دعاء الختمة في التراويح، أعني في صلاة ثنائية في غير الوتر، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة الفجر، كما ثبت عنه مرات، وثبت عنه القنوت في غير صلاة الفجر، في صلاة الظهر والعصر والعشاء في أحاديث كثيرة، فيقولون هذا من هذا، وإن كان هذا لا يقاس عليه، والعبادات ليس فيها مجال للقياس، ولذلك لا أصل للدعاء في صلاة ثنائية فيما أعلم.
فكما أن رمضان شهر الصيام فهو شهر القيام، يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:1-5] ويقول عز وجل في صفة عبادة المحسنين: كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].
ولذلك ثبت في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل} وفي سنن الترمذي بسند صحيح، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: {لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة سمعت الناس يقولون: جاء محمد جاء محمد، وانجفل الناس إليه -أي هرعوا وركضوا وأسرعوا إليه، وكان عبد الله بن سلام يهودياً لم يسلم بعد- قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنظرت في وجهه، فلما استثبت في وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب. قال: فسمعته يقول: يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام}.
وفي رمضان خاصة قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة-: {من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بأصحابه، كما ثبت ذلك من حديث عائشة في الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ليلة فصلى رجال بصلاته، فلما كان من الليلة الثانية كثر الناس فصلوا بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الليلة الثالثة أو الرابعة كثر الناس حتى عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصبح ثم قال لهم: قد عرفت مكانكم، ولكنني خشيت أن تفرض عليكم، ما منعني من الخروج إليكم إلا أنني خشيت أن تفرض عليكم، فصلوا -أيها الناس- في بيوتكم} فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة القيام في رمضان ليلتين أو ثلاثاً.
وكذلك حديث أبي ذر، الذي رواه أهل السنن وسنده صحيح، قال: {لم يقم بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى بقي سبع ليال، فصلى بنا حتى كان ثلث الليل، فلما كان من الليلة الثانية لم يصل بنا، فلما كان من الليلة الثالثة صلىَّ بنا حتى مضى شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله! لو نفلتنا بقية ليلتنا -أي: لو صليت بنا بقية الليلة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة. ثم قام بهم بعدها صلى الله عليه وسلم الليل كله، قال: حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح} والفلاح هو السحور، يعني صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى خشوا أن يفوتهم السحور.
وهاهنا في موضوع قيام الليل في رمضان خاصة، لنا عدة ملاحظات:
منها: كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أصح ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: {ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة} فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة، لكن يطيلها ويحسنها، ويطيل القراءة والركوع والسجود عليه الصلاة والسلام.
ثم ما الذي فعله الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟
فإنه لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ زال الخوف أن تفرض صلاة التراويح والقيام على الناس، فأمر عمر رضي الله عنه المسلمين أن يجتمعوا على الصلاة، حيث دخل المسجد فوجدهم أوزاعاً، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرجل والرجلان والرهط، فرأى عمر أن يجمعهم على إمام واحد، فأمر أبي بن كعب وتميم بن أوس الداري أن يصليا بالناس، فصليا بهم، فيا ترى كم صلاة تميم بن أوس وأبي بن كعب؟
ورد في ذلك روايتان كلتاهما صحيحة، وهما من طريق السائب بن يزيد.
الرواية الأولى: أن عمر رضي الله عنه أمرهم أن يصلوا بالناس إحدى عشرة ركعة.
والرواية الثانية: أن تميم بن أوس وأبياً قاما بالناس بإحدى وعشرين ركعة، وفي رواية بثلاث وعشرين ركعة. ورواية إحدى عشر ركعة في موطأ مالك وسندها صحيح، ورواية إحدى وعشرين في مصنف عبد الرزاق وسندها صحيح، ورواية ثلاث وعشرين في سنن البيهقي وسندها صحيح.
إذاً: ما هو المخرج من ذلك؟
بعض أهل العلم حكموا على رواية إحدى وعشرين وثلاث وعشرين بالشذوذ، لكن لا داعي لهذا؛ لأن الجمع بينها ممكن، فنجمع بين رواية إحدى عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين، بما جمع بينها الحافظ ابن حجر رحمه الله قال: إنه يحمل على التنوع والتعدد بحسب الأحوال وحاجة الناس، فأحياناً كانوا يصلون إحدى عشرة ركعة، وأحياناً إحدى وعشرين، وأحياناً ثلاثاً وعشرين، بحسب نشاط الناس وقوتهم.
فإن صلوا إحدى عشرة أطالوا حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وإن صلوا ثلاثاً وعشرين خففوها بحيث لا يشق ذلك على الناس، وهذا جمع حسن.
وانقدح في نفسي جمع آخر، لعله أن يكون معقولاً أيضاً وهو أن عمر رضي الله عنه أمرهم أن يصلوا بالناس إحدى عشرة ركعة، وهذا لم تختلف الرواية فيه أن الأمر صدر من عمر بإحدى عشرة، ولكن تميماً وأبياً صليا بالناس إحدى وعشرين، أو ثلاثاً وعشرين.
فالأمر بإحدى عشرة والفعل الذي حدث إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، وذلك قد يكون بناءً على أمر عرض لهما، رأيا أن المصلحة أن يصليا إحدى وعشرين أو ثلاثاً وعشرين؛ لحاجة الناس إلى ذلك، أو أن الناس يستطيلون القيام بإحدى عشرة فرأوا أن تكون إحدى وعشرين أو ثلاثاً وعشرين، ويخففون في القيام والركوع والسجود، ليكون أمكن لهم في العبادة، هذا -أيضاً- ممكن وبه تأتلف النصوص.
على كل حال: سواء صلى الناس إحدى عشرة، أم إحدى وعشرين، أم ثلاثاً وعشرين، إلا أنه ينبغي أن أنبه إلى أن ما ذهب إليه بعض أهل العلم من أنه لا تجوز الزيادة في التراويح على إحدى عشرة ركعة، أنه قول ضعيف جداً، وينبغي عدم الالتفات إليه، وذلك لأن الأعرابي الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: { مثنى مثنى } والحديث في الصحيحين، وهذا الرجل ما كان يعرف صفة صلاة الليل فضلاً عن أن يعرف عددها، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {مثنى مثنى } أي تسلم من كل ركعتين، ولم يحدد له في ذلك عدداً محدوداً، بل أطلق الأمر، هذا أمر.
الأمر الثاني: أن النوافل المطلقة جائزة مطلقاً، ليلاً أو نهاراً، إلا في أوقات النهي، ولم يرد لها حد معلوم، فلو صلى الإنسان قبل الظهر أو بعده، أو بعد العشاء أو في الضحى، ما تيسر له لما كان ملوماً في ذلك ولا معتوباً عليه، فهذه نوافل مطلقة جماهير الأمة، بما في ذلك الأئمة الأربعة وغيرهم، على أنها لا تحد بحد لا يجوز الزيادة عليه، وإن كان منهم من يقول هناك عدد أفضل من عدد.
هذا يقع من بعض طلبة العلم؛ حينما يسودون الصفحات الطويلة في الخصام في صلاة التراويح، كم هي، ورد بعضهم على بعض، وهجوم بعضهم على بعض، وتشهير بعضهم ببعض، ويقع هذا عند طلبة العلم، وعند العامة في المساجد، فإذا جاء رمضان بدأ الخصام والشجار في التراويح، فمن قائل: صلِّ عشراً وآخر صلِّ عشرين، واختلفت الجماعة على الإمام، فبعضهم نريد عشراً وبعضهم يقول نريد خمساً، وبعضهم يريد أقل وبعضهم يريد أكثر، وبعضهم يقول: طول وبعضهم يقول: أسرع.
وهكذا تتحول العبادة التي شرعها الله عز وجل لتهذيب النفوس والأفراد والمجتمعات وجمع الكلمة، في نفوس المسلمين المتأخرين المتخلفين في هذا العصر، إلى ميدان للتنافر والتطاحن والتباغض والتباعد، فتنعكس الآية ويضعف تأثير هذه العبادات في نفوس كثير من الناس.
فإننا نعلم من هدي الإسلام أنه دين اليسر والسماحة، خذ على سبيل المثال: الحديث المتفق عليه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس وغيرهما، أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حج حجة الوداع، كان واقفاً للناس في منىً لا يسأله أحد عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج. قال قائل: رميت بعد ما أمسيت؟
قال: افعل لا حرج. حلقت قبل أن أرمي؟
قال: افعل ولا حرج... ولم يسأل صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر، من أعمال الحج مثل الرمي التي تفعل في يوم العيد، والنحر والحلق والطواف، إلا قال: افعل ولا حرج. سألوه عمن قدم الطواف؟
فقال: لا حرج، وسألوه عمن قدم الحلق؟
فقال: لا حرج، وسألوه عمن قدم النحر؟
فقال: لا حرج، لم يسأل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: لا حرج.
فكان صلى الله عليه وسلم يحب التوسعة على أمته، وهذا مسلك نجده لعلماء أهل السنة عبر العصور، يكرهون المشقة على الناس، وهكذا يجب علينا في هذا العصر أن نبتعد عن المشقة على الناس في التراويح وغيرها.
ومن الابتعاد عن المشقة أن يراعي الإنسان حال المأمومين، فإن كان يشق عليهم أن يصلي بهم عشر تسليمات، صلى بهم خمساً، وهذا أوفق وأقرب للسنة، وإن كان أكثرهم اعتاد على العشر وهي أخف عليهم، لأنه يشق عليهم طول الوقوف فيصلي بهم، عشر تسليمات ولا حرج في ذلك؛ لأنه ليس في صلاة التراويح حد محدود، المهم أن تكون مثنى مثنى، تسلم من كل ركعتين ولا تقرن أربعاً، ثم صل ما يناسبك، وإن كان الأصل في ذلك أن يكون العامة تبعاً لعلمائهم وأئمتهم وطلاب العلم، فليس الأصل أن العامة هم الذي يفرضون على الناس عدد الصلوات، لكن إن كان في ذلك مشقة أو اختلاف فينبغي تجنب ذلك.
والجهاد -كما تعلمون- ذروة سنام الإسلام، وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجة والتي تليها كما بين السماء والأرض، أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله، وأعلى ذلك الفردوس، فإذا سألتم الله؛ فسلوه الفردوس الأعلى، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تتفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن عز وجل} ففي الجنة مائة درجة هي للمجاهدين في سبيل الله عز وجل، ولذلك فإن رمضان ليس شهر النوم والكسل والبطالة، بل هو شهر الجهاد.
خذ على سبيل المثال: حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعظم معركتين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانتا في رمضان، أولاهما: معركة بدر الكبرى، فإنها كانت في شهر رمضان، ومعركة بدر هي الفرقان الذي فرق الله تعالى بها بين عهد الذل والاستضعاف، وبين عهد العزة والتمكين للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم بدر يرفع يديه إلى السماء ويبتهل إلى الله عز وجل، حتى سقط رداؤه عن منكبه، وهو يقول: {اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم في الأرض. حتى جاء
المعركة الثانية: هي معركة فتح مكة، وكانت من أخطر وأهم المعارك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن مكة كانت مركز الجزيرة العربية، ومكان الحج والعمرة، والناس يأتونها من كل مكان، فكانت الوثنية تسيطر على مكة على مدى ثمان سنوات بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى منعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية من دخول مكة وأداء العمرة، فلما ذهب عليه الصلاة والسلام إلى مكة ودخلها فاتحاً؛ دانت له الجزيرة العربية كلها.
وكان فتح مكة في السنة الثامنة، وفي السنة التاسعة جاءت الوفود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من أنحاء الجزيرة العربية تبايعه على الإسلام، ولهذا يصح أن نقول: إن فتح مكة هو الوقت الذي زالت فيه غربة الإسلام، وأصبح الإسلام عزيزاً في أنحاء الجزيرة، وسقطت سلطة الوثنية في هذه البلاد. وكان فتح مكة -أيضاً- في رمضان.
وهناك كثير من الفتوحات والمعارك الفاصلة في الإسلام كانت في رمضان، أذكر منها معركة عين جالوت، المعركة التي نصر الله فيها عباده المؤمنين بقيادة المماليك على التتار، وانكسر مدهم وانهزموا بعد ذلك هزيمةً منكرة لم يقم لهم بعدها قائمة.
فرمضان هو شهر الجهاد، وهذا يذكرنا بأمرين:
بل هو شهر البطالة والكسل والنوم، وهذا خطأ، فإن الجهاد باب واسع، فهناك الجهاد بالكلمة، والجهاد بالعلم، والجهاد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالدعوة إلى الله عز وجل وبالمال، وكل أنواع الجهاد مشروعة في رمضان وغيره، وهي في رمضان أولى من غيره.
يحدث هذا في أفغانستان، وفي فلسطين، وفي إريتريا، وفي الفلبين، ويحدث -أيضاً- في بلاد إسلامية أخرى، وفي جميع هذه البلاد التي ذكرت، توجد أمم وطوائف من أهل السنة والجماعة، المشهود لهم بالصلاح والورع والتقوى ولزوم الجادة وصلاح المعتقد، وهم يقاتلون عدواً كافراً خاسراً، يهودياً أو نصرانياً أو شيوعياً، وهم بأمس الحاجة إلى أن يكون إخوانهم المسلمون معهم، بالدعاء وبالحماية والنصر، والمال، وبغير ذلك من الوسائل.
والنفقة عموماً من أعظم أسباب القرب من الله تعالى ودخول الجنة.
وذلك يدل على أن نية المؤمن الصادقة على الإنفاق في سبيل الله وغير ذلك من أبواب الخير، أنها تبلغه منازل العاملين، متى كانت نيةً صادقة من أعماق قلبه، وليست مجرد أمنية، ففرق بين النية والأمنية، لأن بعض الناس يقول: لو عندي، لكن لو أعطاه الله عز وجل لكفر: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التوبة:75-77] ففرق بين الأمنية وبين النية الصادقة المبيتة الجازمة، أنه لو أعطاك الله مالاً لفعلت مثل فلان، أو لو رزقك الله علماً لفعلت به مثل فلان.
وفي صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة: {أن رجلاً من بني إسرائيل سمع صوتاً في السحاب يقول: اسق حديقة فلان اسق حديقة فلان. فلما توسطت السحاب المزرعة أمطرت ما فيها، فذهب الرجل فإذا فلاح يحول الماء بمسحاته، فاستوعبت الشريجة ذلك الماء كله، فقال له الرجل: ما اسمك يا عبد الله؟ قال: اسمي فلان -بالاسم الذي سمعه في السحابة- فقال: وماذا تصنع؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعت صوتاً في السماء يقول: أسق حديقة فلان أسق حديقة فلان، فلما توسطت السحاب مزرعتك أمطرت. فقال: أما إن قلت ذاك، فإنني إذا أخذت ثمرة هذه الحديقة تصدقت بثلثها، وجعلت ثلثها فيها، -أي رده في بذرها وإصلاحها- وأكلت أنا وأولادي ثلثها
فمن أجل ذلك وسع الله على هذا الرجل، وبارك له في رزقه وفيما أعطاه، حتى إن ملكاً موكلاً بالسحاب، يقول: اسق حديقة فلان اسق حديقة فلان، يخصه دون غيره من الناس، ولذلك لا تعجب إذا رأيت الناس الذين أصيبوا بالكوارث والمصائب والنكبات، إنما أتوا من قبل أنفسهم.
يقول لي أحد الإخوة القضاة: إنه جاءه رجل يشتكي إليه أن صاعقةً نـزلت على غنمه فأتلفت منها مئاتاً -أكثر من سبعمائة رأس- فهو يأتي للمحكمة حتى تسجل له ويعوض عنها، يقول: فقلت له ذات مرة: ما سبب هذه المصيبة التي نـزلت بك؟
لعلك لا تخرج الزكاة؛ قال: فرأيت الرجل تأثر ثم خرج من عندي ولم يعد بعد ذلك، وكأن هذه الكلمة وقعت من الرجل موقعاً، وعرف أن ما أصابه بسبب ذنوبه، فلم يرد أن يأخذ تعويضاً أو مقابلاً لذلك، ولعله تاب إلى الله عز وجل، ولذلك ينبغي علينا جميعاً أن نحرص على أن نتقي النار بالزكاة والصدقات والنفقات.
وقد جاء في الحديث المتفق عليه عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه ويبنه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشام منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة} وفي الحديث الآخر المتفق عليه -أيضاً-: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى النساء وعظهن وذكرهن، وقال: يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار} فبين عليه الصلاة والسلام أن الصدقة من أعظم أسباب الوقاية من عذاب النار، ولو من الحلي، ولو بشق تمرة، فيجود الإنسان بقدر ما أعطاه الله عز وجل.
ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الطبراني بسند حسن -كما يقول الدمياطي في المتجر الرابح- عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر} فليحرص الإنسان على الاستكثار من هذه الأشياء، وعلى أن تكون صدقته سراً.
ومن الخطأ أن يتصدق الإنسان بمائة ألف ريال أو بخمسمائة ألف ريال من أجل أن يكتب اسمه في الجريدة، أو يكتب اسمه في دفتر التبرعات، أو يذكر عنه أنه المحسن الفلاني، اللهم إلا أن يكون قصده أن يكون في ذلك حثاً وتشجيعاً للناس على الصدقة، وإثارة المنافسة بينهم في العمل الصالح فهذا جيد، أما إن كان القصد الرياء والقيل والقال؛ فهذا -والعياذ بالله!- خسارة الصحابة في الدنيا ووبال عليه في الآخرة.
السبب الأول: لمناسبة رمضان، فإنَّ رمضان شهر تضاعف فيه الحسنات، وترفع فيه الدرجات، فيتقرب فيه العبيد إلى مولاهم بكثرة الأعمال الصالحات.
السبب الثاني: كثرة قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن في رمضان، والقرآن فيه آيات كثيرة في الحث على الإنفاق في سبيل الله، والتقلل من الدنيا والزهد فيها والإقبال على الآخرة، فيكون في ذلك تحريك لقلب الإنسان لأن ينفق في سبيل الله، وحري بكل من يقرأ القرآن أن يكثر من الصدقة في سبيل الله.
السبب الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى جبريل -كما سبق- في كل ليلة، ولقاؤه لجبريل من باب مجالسة الصالحين، ومجالسة الصالحين تزيد في الإيمان وتحث على الطاعة، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الصدقة في رمضان.
وأنواع جوده صلى الله عليه وسلم لا تنحصر، والكلام في جوده يبدأ ولا ينتهي، فهو أجود الناس على الإطلاق، يتفنن صلى الله عليه وسلم في أنواع الجود، ويعطي كل من سأله، لا يرد سائلاً إلا أن لا يجد، حتى إنه صلى الله عليه وسلم قد يسأله رجل ثوباً عليه فيدخل بيته ويخرج وقد خلع ثوبه وأعطاه إياه، وحتى إنه صلى الله عليه وسلم يعطي غنما بين جبلين، ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وربما اشترى الشيء فأعطى ثمنه ورده على بائعه، وربما اشترى وأعطى الثمن وزاده، وربما استسلف شيئاً فرده بأكثر وأطيب وأكبر منه، وربما أهدى وتصدق، وأعطى، وربما قبل الهدية وأثاب عليها أكثر منها وأعظم وأوفر، وكان صلى الله عليه وسلم يفرح بأن يعطي أكثر مما يفرح الآخذ بما يأخذ، ففرحه صلى الله عليه وسلم بالعطاء أعظم من فرح الآخذ بالأخذ، حتى إنه ليصدق عليه وحده عليه الصلاة والسلام قول القائل:
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله |
وكان يجود صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله، ويصفح عمن ظلمه ويعطي من حرمه، ويعفو عمن أساء إليه، وله في ذلك شيء كثير يطول ذكره عليه الصلاة والسلام.
المصرف الأول: مصرف المجاهدين في سبيل الله قال الله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّه [التوبة:60] فالمجاهدون في سبيل الله هم أحد الأصناف الثمانية الذين تدفع لهم الزكاة، وقد بينت لكم أن في بلاد الأفغان وفلسطين وإريتريا والفلبين مسلمين ومجاهدين ومرابطين على الثغور، وإذا كنا لم نجاهد معهم، ولم نحمل السلاح معهم، ولم نخلفهم في أولادهم وأزواجهم بخير، فلا أقل من أن نعينهم بما تجود به أيدينا من المال، وهذه أعظم مصارف الزكاة في هذا العصر خاصة، ولذلك ينبغي دعم هؤلاء الإخوة المجاهدين، وبالأسباب والوسائل التي من الممكن أن تصل من خلالها الأموال إليهم بيسر وسهولة.
ومن المصارف التي أود أن أشير إليها: الفقراء والمحتاجين من الشباب وطلاب العلم، فإنني أعلم كثيراً من طلاب العلم -وقد يكون بعضهم من بينكم، من بين المستمعين- من هم بحاجة إلى مساعدة إخوانهم، من لعوز، أو فقر أو حاجة أو إعسار، أو لأنهم يريدون أن يتزوجوا ولا يجدون ما يكمل لهم مهر الزواج وموؤنته، وفي ذلك إعفاف لهم وتحصين لفروجهم وإكمال لنصف دينهم، وفيه من المصالح مالا يخفى، كما أنه يعين على طلب العلم وتحصيله.
وأود أن أشير إلى أن من الجهات التي تتقبل الصدقات والنفقات هي: الجمعيات الخيرية، فإذا وجدت جمعيات خيرية موثوقة، فلا بأس أن يعطيها الإنسان، لأن هذه الجمعيات تتحرى، وعندها ملفات خاصة بالأسر المحتاجة، وتعطيهم رواتب شهرية وتنفق عليهم، وفي هذا البلد أعلم أن القائمين على جمعية البر الخيرية من الناس الموثوقين المعروفين بالخير والاستقامة، والحرص على تحري وضع المال في موضعه الصحيح الشرعي، فينبغي للإنسان الذي يجد المال وربما لا يعرف مصارفه الصحيحة، أن يوكلهم في صرف هذا المال إلى مستحقيه.
أولها: جود الله تبارك وتعالى وصفحه عن عباده في هذا الشهر، حتى إنه صح أنه لله تعالى في كل ليلة عتقاء من النار.
ثانيها: أن الشياطين تصفد وتسلسل، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين} وفي لفظ: {وسلسلت الشياطين} فالعباد يقتربون إلى الله في هذا الشهر، فهو فرصة ذهبية ليتوب التائبون من ذنوبهم.
أيها الأخ إذا لم تتب في رمضان فمتى تتوب؟!
وإذا لم تنب في مثل هذه الساعات فمتى تنيب؟!
وإذا مضت أيام عمرك ولياليك ضياعاً فلا يجوز أن يضيع منك شهر رمضان.
أولها: الإخلاص لله عز وجل، وأن تكون توبة العبد صالحة خالصة لا يشوبها مقصد دنيوي.
ثانيها: أن تكون في زمن الإمكان، أي قبل أن تطلع الشمس من مغربها، وقبل أن تبلغ الروح الحلقوم وتغرغر، فإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.
ثالثها: أن تكون مصحوبةً بالإقلاع عن الذنب، فلا يصح أن يدعي الإنسان التوبة وهو مقيم على المعصية.
رابعها: أن يندم الإنسان على ما مضى، فإن التائب نادم، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الندم توبة} فالندم يأكل قلب التائب أكلاً.
خامسها: العزم على أن لا يعود إلى الذنب مرةً أخرى، وهذه هي حقيقة التوبة.
سادسها: إن كان الذنب يتعلق بحقوق المخلوقين رده إليهم، من مال أو عرض أو أي شيء.
والله تعالى يجيب عباده في كل وقت، وخاصةً في رمضان، فقد سبق أن الله تعالى يجيب دعاء الصائم، وللصائم عند فطره دعوة لا ترد.
وأود أن أشير إلى خمسة أسباب -ذكرتها في درس بلوغ المرام- لإجابة الدعاء:
السبب الأول: اختيار الزمان الفاضل، وذلك كأوقات السحر، وفي أدبار الصلوات المكتوبات، وما بين الآذان والإقامة، وفي آخر ساعة من الجمعة، وعند دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، وعند الإفطار، فإن هذه من أوقات إجابة الدعاء.
السبب الثاني: اختيار المكان الفاضل، وذلك كالمساجد والأماكن الفاضلة، كـ مكة وغيرها.
السبب الثالث: صفة الداعي، كأن يكون الداعي مسافراً، فإن المسافر مستجاب الدعوة، وكونه أباً يدعو لولده، وكونه صائماً يدعو الله عز وجل، وكونه مقاتلاً فإن الدعاء عند التحام الصفين مستجاب، وكذلك كونه مظلوماً فإن دعوة المظلوم لا ترد، يرفعها الله فوق السحاب، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
وكذلك كون الداعي مضطراً، ومعنى الاضطرار وحقيقته: أن يقطع العبد جميع الأسباب والوسائل إلا عن الله جل وعلا، فينقطع إلى الله تعالى بقلبه انقطاعاً تاماً، ويفوض الأمر إليه تفويضاً تاماً، وحينئذٍ يجيبه الله بلا شك ولا امتراء، يقول الله عز وجل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62].
مر موسى عليه الصلاة والسلام برجل يدعو الله جل وعلا، فقال موسى: يا رب، والله لو كانت حاجة هذا الرجل عندي لقضيتها. فقال الله عز وجل: يا موسى، أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني وقلبه عند غيري. فأخبر موسى الرجل، فانقطع إلى الله بقلبه، فأجاب الله تعالى دعاءه.
فينبغي أن يكون الداعي على حال من الإخبات والانكسار والاضطرار، وألا يكون دعاؤه على سبيل التجربة، يقول عليه الصلاة والسلام: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من دعاه بقلب غافل لاهٍ} والحديث جاء بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، فهو حديث حسن.
السبب الرابع: صفة الدعاء، مثل أن يكون الداعي متوضئاً متطهراً، مستقبل القبلة رافعاً يديه، يدعو بدعاءٍ ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، ويكرر الدعوة ثلاث مرات، ويدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإن هذا من أسباب إجابة الدعاء، وأن يحرص على التزام الأدب النبوي في دعائه، وقد سبق أن تكلمت تفصيلاً عن ذلك في محاضرة عنوانها: آداب الدعاء، وكانت في مثل هذا الشهر من رمضان في العام الماضي.
وأود أن أشير في موضوع الدعاء، إلى الاعتداء الذي يقع من كثير من الناس في الدعاء خاصية في هذا الوقت:
فمن الناس من يعتدي في إطالة الدعاء بما لا لزوم له، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء، فمن الاعتداء: أن يطيل الإنسان في الأدعية ويفصل بما لا لزوم له، فتجد بعض الناس يقول: اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، وأخوالنا وخالاتنا، وأعمامنا وعماتنا، ثم يبدأ يعدد الأقارب، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الجيران، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الزملاء، وهكذا.
وهذا قد يستغرق عشر دقائق، وكان يستطيع أن يقول اللهم اغفر لنا ولإخواننا، ولمعارفنا ولأقاربنا ويكتفي. فهذا التفصيل الذي لا لزوم له هو من الاعتداء في الدعاء.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بإثم أو قطيعة رحم.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بأسماء لله تعالى لم ترد في القرآن ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قول بعضهم: يا غفران يا سلطان، فإن هذا ليس من أسماء الله جل وعلا.
ومن الاعتداء في الدعاء: المبالغة في رفع الصوت، حيث وجد في هذا العصر مكبرات الصوت، فتجد الداعي يدعو -أحياناً- في شرق البلد فيسمعه من في غربها، وهذا لا يليق، فالداعي يدعو إن كان لنفسه سراً قال تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً [مريم:2-3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعبادة كلما كانت سراً كانت أقرب للصدق والخشوع والإجابة، فإن كنت تدعو لنفسك فادع سراً، أما إن كنت تدعو لغيرك -كأن تكون إماماً تدعو للناس- فادع وارفع صوتك بقدر ما يسمعه المصلون، أما أن تدعو ويسمعك من بشرق الأرض وغربها، فهذا ليس بجيد، وأخشى أن يكون هذا باباً إلى الرياء والإعجاب بالعمل فينبغي تجنبه والحذر منه.
السبب الخامس: زوال المانع، فإن الله لا يجيب الإنسان الذي يأكل الحرام، كما ورد في صحيح مسلم: {ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!} فالذي يأكل الحرام من ربا، أو يأكل أموال اليتامى ظلماً، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو بالغش أو بالحلف الكاذب، أو ما أشبه ذلك فلا يستجاب له.
وكذلك من أعظم موانع استجابة الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله تعالى يقول -كما ورد في حديث مروي من طرق-: {يا أيها الناس! مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم} فإذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يأمرون أنفسهم ولا أولادهم ولا جيرانهم، ولا يأمرون الناس عامةً في المجتمع، فإن الله تعالى يحرمهم من إجابة الدعاء.
السبب الأول: اختيار الزمان الفاضل، وذلك كأوقات السحر، وفي أدبار الصلوات المكتوبات، وما بين الآذان والإقامة، وفي آخر ساعة من الجمعة، وعند دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، وعند الإفطار، فإن هذه من أوقات إجابة الدعاء.
السبب الثاني: اختيار المكان الفاضل، وذلك كالمساجد والأماكن الفاضلة، كـ مكة وغيرها.
السبب الثالث: صفة الداعي، كأن يكون الداعي مسافراً، فإن المسافر مستجاب الدعوة، وكونه أباً يدعو لولده، وكونه صائماً يدعو الله عز وجل، وكونه مقاتلاً فإن الدعاء عند التحام الصفين مستجاب، وكذلك كونه مظلوماً فإن دعوة المظلوم لا ترد، يرفعها الله فوق السحاب، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
وكذلك كون الداعي مضطراً، ومعنى الاضطرار وحقيقته: أن يقطع العبد جميع الأسباب والوسائل إلا عن الله جل وعلا، فينقطع إلى الله تعالى بقلبه انقطاعاً تاماً، ويفوض الأمر إليه تفويضاً تاماً، وحينئذٍ يجيبه الله بلا شك ولا امتراء، يقول الله عز وجل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62].
مر موسى عليه الصلاة والسلام برجل يدعو الله جل وعلا، فقال موسى: يا رب، والله لو كانت حاجة هذا الرجل عندي لقضيتها. فقال الله عز وجل: يا موسى، أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني وقلبه عند غيري. فأخبر موسى الرجل، فانقطع إلى الله بقلبه، فأجاب الله تعالى دعاءه.
فينبغي أن يكون الداعي على حال من الإخبات والانكسار والاضطرار، وألا يكون دعاؤه على سبيل التجربة، يقول عليه الصلاة والسلام: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من دعاه بقلب غافل لاهٍ} والحديث جاء بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، فهو حديث حسن.
السبب الرابع: صفة الدعاء، مثل أن يكون الداعي متوضئاً متطهراً، مستقبل القبلة رافعاً يديه، يدعو بدعاءٍ ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، ويكرر الدعوة ثلاث مرات، ويدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإن هذا من أسباب إجابة الدعاء، وأن يحرص على التزام الأدب النبوي في دعائه، وقد سبق أن تكلمت تفصيلاً عن ذلك في محاضرة عنوانها: آداب الدعاء، وكانت في مثل هذا الشهر من رمضان في العام الماضي.
وأود أن أشير في موضوع الدعاء، إلى الاعتداء الذي يقع من كثير من الناس في الدعاء خاصية في هذا الوقت:
فمن الناس من يعتدي في إطالة الدعاء بما لا لزوم له، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء، فمن الاعتداء: أن يطيل الإنسان في الأدعية ويفصل بما لا لزوم له، فتجد بعض الناس يقول: اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، وأخوالنا وخالاتنا، وأعمامنا وعماتنا، ثم يبدأ يعدد الأقارب، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الجيران، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الزملاء، وهكذا.
وهذا قد يستغرق عشر دقائق، وكان يستطيع أن يقول اللهم اغفر لنا ولإخواننا، ولمعارفنا ولأقاربنا ويكتفي. فهذا التفصيل الذي لا لزوم له هو من الاعتداء في الدعاء.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بإثم أو قطيعة رحم.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بأسماء لله تعالى لم ترد في القرآن ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قول بعضهم: يا غفران يا سلطان، فإن هذا ليس من أسماء الله جل وعلا.
ومن الاعتداء في الدعاء: المبالغة في رفع الصوت، حيث وجد في هذا العصر مكبرات الصوت، فتجد الداعي يدعو -أحياناً- في شرق البلد فيسمعه من في غربها، وهذا لا يليق، فالداعي يدعو إن كان لنفسه سراً قال تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً [مريم:2-3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعبادة كلما كانت سراً كانت أقرب للصدق والخشوع والإجابة، فإن كنت تدعو لنفسك فادع سراً، أما إن كنت تدعو لغيرك -كأن تكون إماماً تدعو للناس- فادع وارفع صوتك بقدر ما يسمعه المصلون، أما أن تدعو ويسمعك من بشرق الأرض وغربها، فهذا ليس بجيد، وأخشى أن يكون هذا باباً إلى الرياء والإعجاب بالعمل فينبغي تجنبه والحذر منه.
السبب الخامس: زوال المانع، فإن الله لا يجيب الإنسان الذي يأكل الحرام، كما ورد في صحيح مسلم: {ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!} فالذي يأكل الحرام من ربا، أو يأكل أموال اليتامى ظلماً، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو بالغش أو بالحلف الكاذب، أو ما أشبه ذلك فلا يستجاب له.
وكذلك من أعظم موانع استجابة الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله تعالى يقول -كما ورد في حديث مروي من طرق-: {يا أيها الناس! مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم} فإذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يأمرون أنفسهم ولا أولادهم ولا جيرانهم، ولا يأمرون الناس عامةً في المجتمع، فإن الله تعالى يحرمهم من إجابة الدعاء.
وأود أن أشير إلى خمسة أسباب -ذكرتها في درس بلوغ المرام- لإجابة الدعاء:
السبب الأول: اختيار الزمان الفاضل، وذلك كأوقات السحر، وفي أدبار الصلوات المكتوبات، وما بين الآذان والإقامة، وفي آخر ساعة من الجمعة، وعند دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، وعند الإفطار، فإن هذه من أوقات إجابة الدعاء.
السبب الثاني: اختيار المكان الفاضل، وذلك كالمساجد والأماكن الفاضلة، كـ مكة وغيرها.
السبب الثالث: صفة الداعي، كأن يكون الداعي مسافراً، فإن المسافر مستجاب الدعوة، وكونه أباً يدعو لولده، وكونه صائماً يدعو الله عز وجل، وكونه مقاتلاً فإن الدعاء عند التحام الصفين مستجاب، وكذلك كونه مظلوماً فإن دعوة المظلوم لا ترد، يرفعها الله فوق السحاب، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.
وكذلك كون الداعي مضطراً، ومعنى الاضطرار وحقيقته: أن يقطع العبد جميع الأسباب والوسائل إلا عن الله جل وعلا، فينقطع إلى الله تعالى بقلبه انقطاعاً تاماً، ويفوض الأمر إليه تفويضاً تاماً، وحينئذٍ يجيبه الله بلا شك ولا امتراء، يقول الله عز وجل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62].
مر موسى عليه الصلاة والسلام برجل يدعو الله جل وعلا، فقال موسى: يا رب، والله لو كانت حاجة هذا الرجل عندي لقضيتها. فقال الله عز وجل: يا موسى، أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني وقلبه عند غيري. فأخبر موسى الرجل، فانقطع إلى الله بقلبه، فأجاب الله تعالى دعاءه.
فينبغي أن يكون الداعي على حال من الإخبات والانكسار والاضطرار، وألا يكون دعاؤه على سبيل التجربة، يقول عليه الصلاة والسلام: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من دعاه بقلب غافل لاهٍ} والحديث جاء بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، فهو حديث حسن.
السبب الرابع: صفة الدعاء، مثل أن يكون الداعي متوضئاً متطهراً، مستقبل القبلة رافعاً يديه، يدعو بدعاءٍ ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، ويكرر الدعوة ثلاث مرات، ويدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإن هذا من أسباب إجابة الدعاء، وأن يحرص على التزام الأدب النبوي في دعائه، وقد سبق أن تكلمت تفصيلاً عن ذلك في محاضرة عنوانها: آداب الدعاء، وكانت في مثل هذا الشهر من رمضان في العام الماضي.
وأود أن أشير في موضوع الدعاء، إلى الاعتداء الذي يقع من كثير من الناس في الدعاء خاصية في هذا الوقت:
فمن الناس من يعتدي في إطالة الدعاء بما لا لزوم له، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء، فمن الاعتداء: أن يطيل الإنسان في الأدعية ويفصل بما لا لزوم له، فتجد بعض الناس يقول: اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، وأخوالنا وخالاتنا، وأعمامنا وعماتنا، ثم يبدأ يعدد الأقارب، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الجيران، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الزملاء، وهكذا.
وهذا قد يستغرق عشر دقائق، وكان يستطيع أن يقول اللهم اغفر لنا ولإخواننا، ولمعارفنا ولأقاربنا ويكتفي. فهذا التفصيل الذي لا لزوم له هو من الاعتداء في الدعاء.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بإثم أو قطيعة رحم.
ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بأسماء لله تعالى لم ترد في القرآن ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قول بعضهم: يا غفران يا سلطان، فإن هذا ليس من أسماء الله جل وعلا.
ومن الاعتداء في الدعاء: المبالغة في رفع الصوت، حيث وجد في هذا العصر مكبرات الصوت، فتجد الداعي يدعو -أحياناً- في شرق البلد فيسمعه من في غربها، وهذا لا يليق، فالداعي يدعو إن كان لنفسه سراً قال تعالى: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً [مريم:2-3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعبادة كلما كانت سراً كانت أقرب للصدق والخشوع والإجابة، فإن كنت تدعو لنفسك فادع سراً، أما إن كنت تدعو لغيرك -كأن تكون إماماً تدعو للناس- فادع وارفع صوتك بقدر ما يسمعه المصلون، أما أن تدعو ويسمعك من بشرق الأرض وغربها، فهذا ليس بجيد، وأخشى أن يكون هذا باباً إلى الرياء والإعجاب بالعمل فينبغي تجنبه والحذر منه.
السبب الخامس: زوال المانع، فإن الله لا يجيب الإنسان الذي يأكل الحرام، كما ورد في صحيح مسلم: {ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!} فالذي يأكل الحرام من ربا، أو يأكل أموال اليتامى ظلماً، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو بالغش أو بالحلف الكاذب، أو ما أشبه ذلك فلا يستجاب له.
وكذلك من أعظم موانع استجابة الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله تعالى يقول -كما ورد في حديث مروي من طرق-: {يا أيها الناس! مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم} فإذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يأمرون أنفسهم ولا أولادهم ولا جيرانهم، ولا يأمرون الناس عامةً في المجتمع، فإن الله تعالى يحرمهم من إجابة الدعاء.
حتى قال جماعة من أهل العلم: إنه كان واجباً، وثبت في صحيح مسلم من حديث الربيّع أنها قالت: {كنا نصوم عاشوراء ونُصَوِّم صبياننا، حتى يبكي أحدهم على الطعام فنعطيه اللعبةً من العهن يلعب بها حتى يكون عند الإفطار، وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القرى التي حول المدينة: من أصبح صائماً فليصم، ومن أصبح مفطراً فليتم بقية يومه فلما فرض رمضان كان يوم عاشوراء سنة من شاء صامه ومن شاء لم يصمه}.
وأول ما فرض رمضان كان على التخيير، إن شاء صام وإن شاء أطعم، ثم ألزم الناس بالصيام قال الله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] وصار الإطعام للشيخ الكبير والمريض، والمرضع والحامل إذا خافتا ومن في حكمهما، لكن كان الإنسان إذا أفطر في المغرب ثم نام العشاء -مثلاً- لا يجوز له أن يأكل، وفي صحيح البخاري أن رجلاً من الأنصار كان يعمل طيلة النهار في مزرعته، فلما جاء الليل قال لزوجته: هل عندك شيء؟
قالت: لا، لكن أذهب أبحث لك، فذهبت تبحث له عن طعام فلما جاءت وجدته نائماً، فقالت له: ياخيبةً لك! لأنه نام ومعنى ذلك أنه لا يجوز له بعد نومه أن يأكل شيئاً، وكان متعباً، فلما كان في النهار أغمي على هذا الرجل لشدة الجوع والتعب والإعياء، فنـزلت الرخصة، وأذن الله تعالى للمسلمين أن يأكلوا ويشربوا حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، واستقرت الشريعة على ذلك.
وكانت فريضة رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات، وكان عليه الصلاة والسلام يكثر من العبادة في رمضان، حتى إنه ربما واصل اليومين والثلاثة لا يأكل خلالهما تفرغاً للعبادة، فلما واصل أصحابه قال: {إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقين} وقد تكلم الإمام ابن القيم في زاد المعاد في أول الجزء الثاني عن هذا الحديث، وفصل وبين ما معنى قوله: "يطعمني ويسقيني" بما لا داعي لذكره هاهنا لضيق الوقت، والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل في رمضان ليتفرغ لعبادة ربه، وكان يكثر من قراءة القرآن، كما سبق أنه كان مع جبريل يدارسه القرآن.
وسافر النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان أسفاراً، منها سفر لغزوة بدر، ومنها سفر لفتح مكة وغيرها، فربما صام وربما أفطر في سفره عليه الصلاة والسلام، ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداءقال: {كنا في سفر، في يوم شديد الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم و
ومما حدث له عليه الصلاة والسلام في رمضان أنه كان يزداد جوده، كما ثبت في حديث ابن عباس كما سبق، ومن الأحكام التي بينها صلى الله عليه وسلم بفعله: أنه كان يدركه الفجر وهو جنب ثم يغتسل ويصوم كما ذكرت عائشة.
والسواك مشروع في كل وقت، خاصة في المواضع التي ورد النص عليها، وهي ستة مواضع.
ثانياً: عند الوضوء.
ثالثاً: عند دخول المنـزل.
رابعاً: عند الاستيقاظ من النوم.
خامساً: عند قراءة القرآن.
سادساً: عند تغير رائحة الفم.
ومنها: قول عائشة وقد سئلت: {بأي شيءٍ كان يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك}.
ومنها: قول حذيفة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام من الليل كان يشوص فاه بالسواك}.
ومنها: قوله عليه صلى الله عليه وسلم: {السواك مطهرة للفم مرضاة للرب} إلى غير ذلك من الأدلة.
فينبغي للمسلم أن يتعاهد السواك في كل وقت، خاصةً في هذه الأوقات، قبل الزوال وبعده، فإن القول الصحيح أن السواك مشروع للصائم قبل الزوال وبعده، عند الوضوء والصلاة، وعند دخول المنـزل، وعند قراءة القرآن، وما أشبه ذلك، هذا هو القول الراجح، لأن قوله عند كل صلاة وعند كل وضوء؛ يشمل ما قبل الزوال وما بعده.
أما الأحاديث الواردة في المنع كحديث علي: {استاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي} فهو ضعيف، بل هو ضعيف جداً، ومثله: {رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى يستاك وهو صائم} فهو ضعيف أيضاً؛ لكن الصحيح أن السواك مشروع للصائم كما هو مشروع لغير الصائم، قبل الزوال وبعد الزوال.
ووقت المسلم عموماً ثمين، وفي رمضان خاصةً أثمن وأعظم، ولذلك فإنني أنبه على بعض النقاط المتعلقة بأوقاتنا في رمضان.
فإن كان جالساً وقرأ من المصحف فهذا حسن، وإلا قرأ من حفظه وهو ذاهب آيب، في السيارة أو مكان العمل، أو في أي مكان يكون فيه، فينبغي أن يغتنم الإنسان هذه الفرصة ويكثر من تلاوة القرآن وترديده، ويحرص على أن يختمه -إن أمكن- كل أسبوع، أو كل ثلاثة أيام، أو كل عشرة أيام، وأضعف الإيمان -وأنا أعتبر أن هذا من التفريط- أن لا يختم الإنسان في رمضان إلا مرة واحدة.
الملاحظة الثالثة: تجنب مجالس اللغو.
فبعض الشباب بعد التراويح، بل ربما لا يصلون التراويح، يخرجون في دورات أو في سهرات، أو يجلسون عند بعضهم، ويتبادلون أطراف الحديث، وربما يكثر عندهم الهرج والمرج، والقيل والقال، وتبادل النكت والضحك، ويبالغون في ذلك، وقد يقعون في الغيبة والنميمة وقول الزور وما أشبه ذلك، وهذا لا يليق بالمسلم عموماً خاصةً في هذا الشهر الكريم، وما بال الإنسان يحصل على شيء من الحسنات ثم يتفرغ بعد ذلك لإتلافها بالمعاصي والموبقات!
وأنا لا أمنع من ذلك إذا كان بالقدر المعقول المعتدل، أما أن يكون ليل الإنسان كله في ذلك، فلا شك أن هذا من الإهمال وتضييع الوقت في أمور لا فائدة منها، ولا شك أن نوم الإنسان أفضل بكثير من ذلك، فضلاً عن أولئك الشباب الذين يسهرون لمشاهدة التلفاز، وقد يكون فيه الغناء والموسيقى، وقد يكون فيه المسلسلات الهادمة للدين والأخلاق، والتي ينبغي للشباب تجنبها.
وهذه مشكلة كبيرة ينبغي تلافيها، فإن الإنسان إذا كان مضطراً إلى أن يقضي جزءاً من نهاره في الدوام، معنى ذلك أنه لابد أن يخصص جزءاً طيباً من الليل للنوم، حتى يكون نهاره معتدلاً، فيستطيع أن يجلس ويصلي الصلوات مع الجماعة، ويبكر إلى المسجد، ويجلس بعض الوقت في النهار ليقرأ القرآن وما أشبه ذلك.
وبعض الإخوة ينامون حتى في الدوام، إن كان طالباً فهو ينام في الفصل، وإن كان موظفاً فهو ينام في وقت الدوام، ولا شك أن الراتب الذي أعطي له ليس مقابل نومه على مكتبه؛ وإنما أعطي مرتبه ليخدم المراجعين، ويقوم في مصالح المسلمين، فلا يجوز للإنسان أن يقضي وقت دوامه في النوم.
المرأة كالرجل في رمضان فهن شقائق الرجال، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما يقال في الرجل يقال في المرأة، وهي مطالبة كالرجل بقراءة القرآن والصيام والقيام، والنفقة في سبيل الله والدعاء، إلى غير ذلك من الطاعات والقربات، لكن أشير إلى بعض النقاط الخاصة بالمرأة:
ومما يخفى على بعض النساء أن إحداهن قد تستخدم حبوب منع العادة، أو منع الحمل، وهذه -وإن كنت لا أنصح باستخدامها- في كثير من الحالات تكون ضارةً بالمرأة، إلا أن بعض النساء تستخدمها رغبةً في الصلاة مع المسلمين والصيام معهم، أو لأنها تريد أن تعتمر، أو لأن عادتها تختلف وتضطرب في رمضان، فتأتي يوماً وتذهب يوماً، فتستخدم هذه الحبوب حتى تنتظم العادة وتسلم من الحرج، وربما تظن بعض النساء أنها إذا توقفت عنها العادة بسبب هذه الحبوب فإنها تقضي هذه الأيام فيما بعد، مع أنه لا قضاء عليها، فمادامت قد طهرت ثم صلت وصامت، فإنه لا قضاء عليها.
وفرصة وجود المرأة في المسجد فرصة نادرة، ينبغي أن يستثمرها الأئمة والمحدثون في الكلام عن موضوعات تخص المرأة، في أحكام، وآداب، وتوجيه، وترغيب، وترهيب، فإن النساء قل ما تصل إليهن الموعظة، وخروجهن في رمضان أمر معروف مستقر، فينبغي استثماره بالحديث في موضوعات تخص المرأة وتتعلق بها، وأن يوجه الحديث إلى النساء على الأقل في بعض الأيام.
فنص عليه الصلاة والسلام على أن العمرة كفارة لما قبلها من الذنوب، حتى العمرة الأخرى التي تليها، وهذا عام في كل عمرة سواء أكانت في رمضان أم في غيره.
وفي هذا من الفضل ما فيه، فإن ظاهر النص يدل على أن من اعتمر في رمضان يبتغي ما عند الله، كأنما حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف معه بـعرفة، وبات معه بـمزدلفة، وأفاض معه إلى منى، وطاف وسعى معه، وهذا فضل عظيم لا يقدر قدره إلا الله جل وعلا.
الأولى: أن بعض الناس -خاصة من الموظفين- يأخذون ما يسمى بالإجازة الاضطرارية للذهاب إلى مكة، وهذا لا يجوز، فإن الإجازة الاضطرارية -في حسب أنظمة الموظفين- إنما تمنح للموظف في حالة اضطرار، مثل حالة وفاة لقريب، أو ما أشبه ذلك، أما أن يأخذها في أمر ليس بضرورة، مثل أن يأخذها ليعتمر فهذا ظاهره أنه محرم.
الملاحظة الثانية: أن كثيراً من الناس يسافرون بنساء دون محارم، فقد تسافر المرأة مع غير ذي محرم، ومما عمت به البلوى في هذا الزمن خاصة: أن كثيراً من الأسر يسافرون بخادمات عندهم وهن بدون محرم، فالخادمة جاءت من بلدها من أقصى الدنيا بدون محرم، وتسافر -أيضاً- إلى بيت الله الحرام، بدون محرم وهذا لا يجوز.
ولذلك قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب حج النساء ثم ساق فيه حديث ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها أحد إلا ومعها ذو محرم}.
فكل شيء يسمى سفر لا يجوز للمرأة أن تركبه إلا مع ذي محرم، هذا في الحالات العادية.
وقال رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن امرأتي انطلقت حاجةً، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا -أي سفَّر زوجته للحج بدون محرم وذهب للجهاد- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {انطلق فحج مع امرأتك} اترك الجهاد، واذهب لتصحب امرأتك في حجها.
ثم ساق البخاري رحمه الله -أيضاً- حديث أبي سعيد الخدري، وهو في مسلم -أيضاً- أنه قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع كلمات فأعجبنني وآنقنني:
الأولى: {لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا مع ذي محرم}.
والثانية: {لا صوم في يومين يوم الفطر ويوم الأضحى}.
والثالثة: {لا صلاة بعد صلاتين بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس}.
والرابعة: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى}.
والشاهد في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا مع ذي محرم} وجاء التقييد بيومين.
وفي حديث ابن عباس جاء مطلقاً: { لا تسافر المرأة} فكل ما سمي سفراً، ورخص للإنسان فيه برخصة السفر من القصر والفطر وغيرهما، فإنه لا يجوز للمرأة أن تركبه إلا ومعها ذو محرم. ولذلك فإن من الخطأ أن يسافر الإنسان بأجنبية عنه، سواء أكانت بنت عم له أم من الجيران أم كانت خادمةً عنده في بيته.
الملاحظة الثالثة: من الأخطاء التي يقع فيها الناس في موضوع العمرة: إهمالهم لأهليهم. فبعض الناس يسافرون ويتركون أولادهم؛ فقد يسافر الأب والأم، والأولاد بحكم أنهم يدرسون في المدرسة لا يذهبون، فيبقون نصف رمضان أو أكثر من ذلك في بلدهم، بدون رقابة عليهم، وقد يكونون من صغار السن، أو المراهقين، وممن يُخشى أن تحدث منهم الحوادث، وهذا من الخطأ يقول النبي: {كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول} فتذهب وتبتغي ما عند الله، وتضيع من ولاك الله أمرهم من الصبية ذكوراً وإناثاً، أو من الشباب المراهقين الذين لا تؤمن غوائلهم وأخطاؤهم، وقد يستفزهم الشيطان، وقد يستجرهم قرناء السوء إلى ما لا تحمد عقباه.
ويحدث الخطأ بصورة أخرى، وهي أن الكثير يسافرون بأهليهم إلى مكة، ثم يعتكف الأب في الحرم، أو يقضي غالب وقته في الحرم، ما بين قيام وصلاة ونوم، ويترك الحبل على الغارب لأولاده وبناته، ولذلك رأينا ورأى غيرنا في البيت العتيق، وفي المسجد الحرام، وفي أطهر بقعة على وجه الأرض، من مظاهر التبرج والتفسخ وتضييع البنات الشيء الذي يندى له الجبين وهي أمور محزنة.
والواقع أنني قد نبهت على هذا في أكثر من مناسبة؛ لكنني أرى ضرورة التركيز على هذا الأمر، لأنه قد عمت به البلوى في كثير من الأسر المعروفة، التي فيها دين وحياء ومراقبة، ومع ذلك تجدهم يسافرون ببناتهم ثم يتركونهن هناك بلا مراقبة.
والذي يجب على الأب والأم -إذا ذهبوا بأولادهم وبناتهم- أن يراقبوهم جيداً ويتابعوهم، فإذا كانون عاجزين عن ذلك فلا معنى لذهابهم بهم إلى الحرم، حيث يكون هناك مجالات كثيرة لاختلاط الرجال بالنساء، وخروج المرأة بكافة الحجج، فتخرج بحجة الذهاب للحرم، وتخرج للسوق أو لتأتي بالطعام، أو إلى الشقة، وتخرج إلى مناسبات عديدة.
فإذا كان الأب رجلاً يستطيع أن يحافظ على أولاده وبناته فحبذا، ولا شك أن في الذهاب بهم إلى هناك فائدة وتربية وخير، فهو بلد طيب مبارك ووقت طيب مبارك، تضاعف فيه الحسنات، فهذا أمر محمود، لكن إن كان عاجزاً عن رعايتهم وحياطتهم ومراقبتهم وضبط تصرفاتهم، فليبق حيث هو في بلده ولا داعي لأن يتسبب لنفسه ولغيره بالضرر العظيم.
الملاحظة الرابعة: من الملاحظات التي تلحظ في موضوع العمرة: أن كثيراً من الناس خاصة الأئمة، ومن يكونون مرابطين على الثغور في الأمر والنهي والتوجيه والإصلاح والإمامة والحديث؛ يتركون أعمالهم ويذهبون إلى هناك، حيث يعتمرون ويقيمون في العشر الأواخر.
ولا شك أن من كان مرتبطاً بإمامة أو حديث أو وعظ، أو وظيفة يحتاج إليها المسلمون؛ فإن الأولى في حقه -بل الأوجب عليه- أن يبقى حيث هو وفي ذلك من الخير ما فيه، فإن احتاج ذهب إلى العمرة على السيارة أو الطائرة يوماً أو يومين، ثم يعتمر ويدعو ثم يعود إلى محله الذي هو فيه.
فإنه من غير المناسب أن تخلو المساجد أو المرافق من الوعاظ والمرشدين والمحدثين والأئمة، وهذا يحدث في أفضل الأوقات وهى أوقات العشر، فإذا أحب الإنسان أن يعتمر ويدرك الفضيلة؛ فبإمكانه أن يذهب يوماً أو يومين فيعتمر ويعود إلى عملة، الذي كان فيه.
والاعتكاف هو لزوم مسجد بنية مخصوصة لطاعة الله تعالى، وهو مشروع مستحب مسنون باتفاق أهل العلم.
وقد نقل عن الإمام مالك أنه قال: تأملت أمر الاعتكاف وما ورد فيه، وكيف أن المسلمين تركوه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتركه، فرأيت أنهم إنما تركوه لمشقة ذلك عليهم -أي أن فيه مشقة- قال مالك: ولم أعلم عن أحداً من السلف أنه اعتكف إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن.
وما قاله الإمام مالك متعقب؛ فإنه نقل عن جماعات من السلف أنهم كانوا يعتكفون، ومن ذلك أمهات المؤمنين كما سوف يأتي.
ولذلك قال الزهري رحمه الله: عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل.
وأكثر ما يفسد القلب هي الشواغل والملهيات التي تلهيه عن الإقبال على الله عز وجل؛ كالاشتغال بالطعام والشراب والشهوات، وفضول الكلام وفضول النوم وفضول الصحبة، وغير ذلك من الأمور الضارة التي تصرف القلب عن الإقبال على الله عز وجل، وتفرقه وتشتته حتى لا يكاد يلتم ويجتمع على عبادة أو طاعة.
ثم شرع الله تعالى الاعتكاف؛ حتى يتخلص الجسد والقلب من فضول صحبة الناس التي لا خير فيها، والتي قد تزيد فتصبح مثل ما إذا أصيب الإنسان بالتخمة من كثرة الطعام والشراب، ولذلك قال الشاعر:
عدوك في صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب |
فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب |
فكما أن الإنسان إذا أكثر من الطعام والشراب أصيب بالتخمة، كذلك إذا أكثر من الصحبة والمجالسة والاختلاط بالناس أصيب بالتخمة من جراء ذلك، فمرض القلب واعتل، فكان الاعتكاف حِمية للقلب من كثرة الصحبة والاختلاط بالناس.
ثم فيه حِمية -أيضاً- من كثرة الكلام، لأن الإنسان غالباً ما يعتكف بمفرده، فيقبل على الله تعالى بالصيام والقيام وقراءة القرآن وما أشبه ذلك.
وكذلك فيه حِمية من كثرة النوم، فإن الإنسان إنما اعتكف ليعبد الله تعالى، ولم يعتكف حتى ينام في المسجد، فيكون في ذلك من الإقبال واجتماع القلب على الله تعالى ما ليس في غيره.
ولذلك استحب السلف الجمع بين الصيام والاعتكاف، حتى قال ابن القيم رحمه الله: إن جمهور السلف على أنه لا اعتكاف إلا بصوم.
بل صح هذا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [[لا اعتكاف إلا بصوم]] فرأوا أن الاعتكاف لا يصح إلا بالصيام، وهذا مذهب جماعة من الأئمة؛ وذلك حتى يجمع للإنسان بين الصيام وبين الاعتكاف فيحصل فضائل هذا وفضائل ذاك.
وقال الإمام ابن القيم: إنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف إلا وهو صائم.
وهذا الذي قاله رحمه الله فيه بعض النظر كما سيأتي. فقد نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في شوال، ولم يثبت أنه كان صائماً في هذه الأيام التي اعتكفها، ولا أنه غير صائم، فالأمر على ذلك غير ظاهر.
ولكن الأصح أن يقال: يستحب للإنسان ألا يعتكف إلا بصيام.
هذه إشارة إلى بعض حكمة مشروعية الاعتكاف وجمع الصيام معه، كما هو مذهب جماهير السلف كما نقله ابن القيم، وثبت عن عمر وابن عباس وعائشة رضى الله عنهم، وبه قال مالك والأوزاعي والإمام أبو حنيفة، واختلف النقل في ذلك عن الإمام أحمد والشافعي.
والحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري، فرجع الناس إلى معتكفهم -أي: اعتكفوا عشرة أيام أخرى، وهي العشر الأواخر من رمضان-.
قال أبو سعيد: وما نرى في السماء من قزعة حتى كان تلك الليلة، فجاءت سحابة فأمطرت، وكان سقف المسجد من جريد النخل، فسال سقف المسجد، قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد على ماء وطين، والتفت إلينا وإن أثر الطين على جبهته وأنفه -عليه الصلاة والسلام- فتحققت نبوءته صلى الله عليه وسلم بذلك، وتبين أن تلك الليلة كانت ليلة القدر، وكانت ليلة إحدى وعشرين، فاعتكف صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان، ثم حافظ بعد ذلك على الاعتكاف في العشر الأواخر، كما في الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده }.
وفي العام الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم اعتكف -أيضاً- عشرين يوماً، أي: اعتكف العشر الأوسط مع العشر الأواخر، وذلك لأسباب:
منها -والله تعالى أعلم-: أن جبريل عارضه القرآن في تلك السنة مرتين -كما سبق- فناسب أن يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم عشرين يوماً حتى يتمكن من معارضة جبريل بالقرآن كله مرتين.
ومنها: أن في ذلك مضاعفة العمل الصالح؛ حينما أحس عليه الصلاة والسلام بقرب أجله ودنو وفاته؛ ولهذا قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً [النصر:1-3] فالله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكثر من التسبيح والاستغفار في آخر عمره.
وهكذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم، يكثر من أن يقول في ركوعه، وسجوده: { سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي} يتأول القرآن عليه الصلاة والسلام، فاعتكف عشرين يوماً في السنة التي قبض فيها صلى الله عليه وسلم، لمناسبة قرب وفاته ليضاعف العمل الصالح.
وقد يكون من أسرار مضاعفة اعتكافه: أن يكون ذلك شكراً لله عز وجل على ما أنعم به عليه من هذه الأعمال الصالحة؛ من الجهاد والتعليم، والصيام والقيام وإنـزال القرآن، وغير ذلك من الأعمال التي امتن الله تبارك وتعالى بها عليه.
وكان عليه الصلاة والسلام يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من الأيام التي يريد أن يعتكفها، فإذا أراد أن يعتكف العشر الأواسط -مثلاً- دخل المعتكف قبل غروب الشمس من ليلة الحادي عشر، وإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل قبل غروب الشمس من ليلة الحادي والعشرين.
وذلك لأن العشر الأواخر تبدأ من غروب شمس يوم عشرين، أما ما ثبت عنه في الصحيح: { أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ثم دخل معتكفه } فإنما المقصود أنه دخل المكان الخاص في المسجد حيث كان يعتكف في غرفة، كما ورد أنه اعتكف في مكان خاص، -في قبة تركية كما جاء في بعض الروايات- فكان يدخل هذا المكان الخاص، وإلا فقد كان في المسجد منذ غروب الشمس.
ومن طريف ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المعتكف ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه إليها وهي في المسجد، وهو في الغرفة فترجله، وتسرحه، وتغسله، وهو معتكف صلى الله عليه وسلم} وهي كانت حائضاً.
فكان صلى الله عليه وسلم يتكئ كما في مسند أحمد على باب غرفتها، ثم يخرج رأسه إليها فترجله، وهذا دليل على أن إخراج المعتكف بعض جسده لا يضر، وليس كإخراج الكل، فلو أن إنساناً حلف أنه لا يخرج من هذا المسجد فأخرج يده، أو رأسه، أو رجله فإنه لا يعد خارجاً.
ومثله المعتكف، لو أخرج يده أو رجله أو رأسه، فإن هذا لا يضر، وكذلك الحائض لو أدخلت يدها أو رجلها أو رأسها في المسجد لم يكن ذلك ممنوعاً ولا حرج عليها في ذلك؛ لأن هذا لا يعد دخولاً ولا خروجاً.
ومن فوائد هذا الحديث أن المعتكف لا حرج عليه من أن يتنظف، ويتطيب، ويغسل رأسه، ويسرحه، وينظفه، وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا ينافي الاعتكاف.
ومن طريف ما وقع له صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه، {أنه خرج يوماً ليعتكف كما في صحيح البخاري فلما أن أراد أن يعتكف رأى صلى الله عليه وسلم الخيام منصوبةً في المسجد -أخبية منصوبة- هذا خباء حفصة، وهذا خباء عائشة، وهذا خباء زينب، فتعجب صلى الله عليه وسلم وترك الاعتكاف، وقال لأصحابه: آلبر أردْن بهذا؟! أي: هل تظنون أن ذلك من أجل البر، -لا- إنما فعلنه من أجل الغيرة وحرصاً على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم}.
وذلك لأن عائشة استأذنت -أولاً- فأذن لها، ثم استأذنت حفصة فأذن لها، ثم فعلت زينب فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى هذه الأخبية منصوبة، وفيها ما فيها من تضييق المسجد، وفيها ما فيها من المنافسة، كره ذلك صلى الله عليه وسلم وأمر بهذه الأخبية فقوضت ثم ترك الاعتكاف صلى الله عليه وسلم، فلم يعتكف تلك السنة، فلما كان في شوال اعتكف عشرة أيام، والأظهر والله أعلم أنه اعتكف عشرة أيام من بعد يوم العيد أي: تبدأ من الثاني من شوال. هذا هو الأقرب، ويحتمل أنه اعتكف من يوم العيد، وإذا صح أنه اعتكف من يوم العيد فهذا دليل على أن الاعتكاف لا يشترط معه الصيام؛ لأن يوم العيد لا يصام؛ لكن لا يلزم أن يكون يوم العيد من ضمن أيام الاعتكاف.
ومن طرائف ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه ما رواه الشيخان عن صفية { أنها جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه ليلةً فجلست تتحدث معه ساعةً، ثم قامت تنقلب إلى بيتها، فقام معها صلى الله عليه وسلم ليقلبها -أي: ربما يؤنسها، أو يزيل وحشتها في الطريق- حتى إذا وكان عند باب المسجد أي عند باب فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما أو على هنتكما، أرفقا إنها فقالا: سبحان الله! يا رسول الله، وكبر ذلك عليهما، وفي رواية أنهما قالا: أو فيك نظن يا رسول الله، أو فيك يشك يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، -يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم يعني في عروق الإنسان إلى القلب كالدم- إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً
فمن شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على صدق إيمان هذين الصحابيين الأنصاريين، وخشيته أن يزيغا بأن يلقي الشيطان في قلوبهما شراً، فيشكا فيكون ذلك كفراً، أو يشتغلا بدفع هذه الوسوسة رأى صلى الله عليه وسلم أنه لا حاجة لذلك أصلاً، وأنه لا مانع من كشف الموضوع، فقال لهما: إنها صفية بنت حيي، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي هذا الحديث من الدروس الشيء الكثير؛ لكن لا أود أن أقف عندها؛ لأنها دروس خارج موضوع الاعتكاف، وخارج موضوع الصيام.
والصواب أن الاعتكاف جائز في كل مسجد يصلى فيه، ويستحب أن يكون في المسجد الجامع؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة.
فإن اعتكف في مسجد غير جامع فإنه يخرج ليصلي الجمعة ثم يعود؛ وذلك لقول الله عز وجل: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] فدل ذلك على أن الاعتكاف في كل مسجد جائز، إذا كان مسجداً تصلى فيه الفروض الخمسة، فإن كان جامعاً فهو أفضل.
أما حديث {لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة} فعلى القول بصحته فإنه مؤول على أن أكمل ما يكون الاعتكاف وأفضل وأوفى ما يكون في هذه المساجد، هذا ما قاله أهل العلم.
وقد انقدح في ذهني تأويل آخر للحديث -وهو في ظني حسن- وهو أن معنى الحديث، أن من نذر أن يعتكف في مسجد يسافر إليه فإنه لا يسافر، إلا أن يكون نذر الاعتكاف في المساجد الثلاثة، فإن الإنسان إذا نذر أن يعتكف في المسجد الحرام -مثلاً- وجب عليه الوفاء باعتكافه، فيعتكف في المسجد الحرام.
ولكن لو نذر مثلاً أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجوز له أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز له أن يعتكف في المسجد الحرام؛ لأنه أفضل ومن باب الأولى، ولو نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى -فك الله أسره وطهره من رجس اليهود الغادرين الخائنين- جاز له أن يسافر إلى المسجد الأقصى ليعتكف فيه، وجاز له أن يسافر إلى مسجد المدينة، وإلى مسجد مكة، ليعتكف فيهما، لأنهما أفضل من المسجد الأقصى.
لكن لو فرض -مثلاً- أنه نذر أن يعتكف في مسجد جواثا، وهو أول مسجد صليت فيه الجمعة خارج المدينة وهو بـالبحرين بـالأحساء والمسجد معروف الآن، فهل يجوز أن يسافر إلى مسجد جواثا ليعتكف فيه؟
لا يجوز أن يسافر ويشد الرحل إليه، لكن يجوز له أن يعوض عن ذلك بأن يعتكف في مسجد من مساجد بلده، أو يسافر إلى أحد المساجد الثلاثة.
فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: {لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة } أي: لا اعتكاف ينذر ويسافر إليه؛ ولذلك فإن الأئمة مجمعون خاصةً الأئمة الأربعة، على أنه يعتكف في أي مسجد من المساجد الجوامع، ولا يلزم الاعتكاف في هذه المساجد الثلاثة.
ولم يقل أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أحد من الأئمة المعروفين المتبوعين، لا الأربعة، ولا العشرة، ولا غيرهم، إنما نقل هذا عن حذيفة رضي الله عنه، وواحد أو اثنين من السلف.
ومن الملاحظات: في موضوع الاعتكاف، أن بعض الناس يعتبرون الاعتكاف فرصةً للخلوة ببعض أصاحبهم وأحبابهم، وتبادل أطراف الحديث، وكون مجموعة يعتكفون في مسجد، هذا لا حرج فيه؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف، واعتكف معه أزواجه، حتى إن إحدى أمهات المؤمنين اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مستحاضة؛ حتى كانت ترى الدم وهي في المسجد.
إذاً: فلا حرج أن يعتكف الإنسان مع صاحبه، أو قريبه أو حبيبه أو صديقه؛ لكن الحرج أن يكون الاعتكاف فرصةً للأحاديث، والسمر، والسهر، والقيل والقال وما أشبه ذلك.
ولهذا قال الإمام ابن القيم بعدما تكلم عن الاعتكاف وما يفعله بعض الناس، وما يتوسعون فيه من الكلام وغيره قال: فهذا لون، واعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لون آخر، -أي: مختلف تماماً عن اعتكاف هؤلاء-.
ومن الملاحظات: أن بعض الناس يعتكفون ويتركون أعمالهم وواجباتهم، وبعضهم قد يترك عمله الوظيفي الذي كلف به وألزم به، ويذهب ليعتكف.
وليس من العدل أن يترك الإنسان واجباً ليفعل السنة، ولذلك يقال لمن اعتكف وترك عمله الوظيفي، إنه يجب عليه أن يقطع الاعتكاف، ويعود إلى عمله الذي ترك.
وبادرنا بهذه الوقفة لأن هذا هو الدرس الأخير ضمن هذه الدروس في هذا الشهر -إن شاء الله-.
كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر مالا يجتهد في غيره من العبادة، ومن ذلك أنه كان يعتكف فيها -كما سبق- وكان عليه الصلاة والسلام يتحرى فيها ليلة القدر، ولذلك جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم {كان إذا دخل العشر شد المئزر، وأحيا ليله، وأيقظ أهله} وزاد مسلم: {كان إذا دخل العشر جدَّ وشدَّ المئزر}.
فقولها: "شد المئزر" قيل: هو كناية عن التشمير للعبادة، وقيل: كناية عن اعتزال النساء، وهذا هو الأقرب أن معنى قولها: شد المئزر، كنايةً عن أنه لا يجامع النساء في العشر الأواخر من رمضان، بل يعتزل أزواجه صلى الله عليه وسلم.
وهذه كناية معروفة عند العرب قال الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بأطهار |
فمعنى شد المئزر أنه لا يحل إزاره لجماع نسائه، وذلك لأنه كان يعتكف في العشر كما هو معروف.
وكان يجتهد في العبادة، ولذلك قالت عائشة: {شد المئزر وأحيا ليله} وهذا أيضاً كناية عن طول القيام والعبادة بالليل، وأنه كان يقوم الليل كله صلى الله عليه وسلم.
فإما أن يكون المعنى أنه كان يقوم الليل كله من أوله إلى آخره، وإما أن يكون المعنى أنه يقوم معظم الليل.
ولذلك جاء في حديثها الآخر في الصحيح: {ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام شهراً كاملاً غير رمضان، ولا قام ليلةً كاملة حتى الصباح} فيحمل قولها: {وأحيا ليله } على أنه يقوم أغلب الليل، ومن المعروف أنه يتخلل ذلك العشاء، والسحور، ويتخلل ذلك أشياء مما اعتيد أنه كان يفعلها صلى الله عليه وسلم، فيكون قولها أحيا ليله، أي أغلب ليله.
ولهذا جاء كما في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلةً، فصلى ثم قال: {من يوقظ صواحب الحجرات، يا رب كاسيةٍ في الدنيا عارية يوم القيامة}.
وكذلك {كان يوقظ
فسماها الله عز وجل الليلة المباركة: إِنَّا أَنـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3] وفيها أنـزل القرآن، وقد صح هذا المعنى عن جماعة من السلف، منهم ابن عباس، وقتادة، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم من علماء السلف ومفسريهم، قالوا إن الليلة المباركة هي ليلة القدر.
ففيها يفرق كل أمر حكيم، أي يكتب ويفصل، وقيل: إن المعنى أنه يبين في هذه الليلة للملائكة.
فسماها الله تبارك وتعالى ليلة القدر، وذلك لعظيم قدرها، وجلالة مكانتها عند الله عز وجل، وكثرة مغفرة الذنوب، وستر العيوب في هذه الليلة المباركة.
وقيل سميت ليلة القدر لأنه يقدر فيها وتكتب فيها المقادير.
وقال الخليل بن أحمد: إنما سميت ليلة القدر، لأن الأرض تضيق بكثرة الملائكة، من القدر وهو التضييق قال الله: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ [الفجر:16] أي: ضيق.
وقال الله عز وجل تنويهاً بشأنها وعظمتها: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر:2] ثم أخبر عنها بأنها خير من ألف شهر، أي: ثلاثة وثمانين سنة تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:4-5].
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه}.
ويستحب تحريها في رمضان وفي العشر الأواخر منه خاصة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {التمسوها في العشر الأواخر } متفق عليه.
وثبت هذا من حديث عبد الله بن عمر وأبي سعيد وبالذات في أوتار العشر الأواخر، وهي ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، كما ثبت في المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {التمسوها في العشر الأواخر في الوتر منها}.
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه -وهو في الصحيح أيضاً- قال: {في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى} فبين عليه الصلاة والسلام أنها أرجى ما تكون في الأوتار من العشر الأواخر.
وكذلك جاء في البخاري من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليخبر أصحابه بليلة القدر فقال لهم: {إني خرجت لأخبركم ليلة القدر فتلاحا رجلان فأنسيتها} -أي: تخاصم رجلان، وهذا يدل على شؤم الخصومة في غير حق، خاصة الخصومة في الدين، وعظيم ضررها، وأنها السبب في غياب الحق وخفائه علىالناس- فقال عليه الصلاة والسلام: وعسى أن يكون خيراً، ثم أمر أن يلتمسوها في ليلة تسع وعشرين، وسبع وعشرين، وخمس وعشرين}.
وأرجى ما تكون أيضاً في السبع البواقي، ولذلك جاء في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن جماعةً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في السبع الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر}.
ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: { أرى رؤياكم قد تواطأت } أي اتفقت، فكأنهم قد رأوها في المنام إما جاءهم أحد وقال لهم: إنها في السبع الأواخر، أو رأوا في المنام أن ليلة القدر تكون في السبع الأواخر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحريها في هذه السبع الأواخر، وبالذات في ليلة سبع وعشرين، فإنها أرجى ما تكون.
بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث ابن عمر عند أحمد، ومن حديث معاوية عند أبي داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليلة القدر ليلة سبع وعشرين }.
وليلة القدر أرجى ما تكون ليلة سبع وعشرين للحديثين السابقين؛ ولأن هذا مذهب أكثر الصحابة وجمهور العلماء، حتى إن أبي بن كعب رضي الله عنه، كان يحلف على ذلك كما في صحيح مسلم: [[يحلف أنها ليلة سبع وعشرين]]وكذلك ابن عباس رضي الله عنه قال: [[إنها ليلة سبع وعشرين]] واستنبط ذلك من استنباطات عجيبة، منها: أن كلمة (فيها) من السورة تَنـزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4] هي الكلمة السابعة والعشرين.
ومنها: ما ورد أن عمر رضي الله عنه، لما جمع الصحابة وجمع ابن عباس معهم، فقالوا: لـعمر رضي الله عنه هذا كأحد أبنائنا فلماذا تجعله معنا؟
فقال: إنه فتى له قلب عقول ولسان سؤول، وأثنى عليه ثم سأل الصحابة عن ليلة القدر، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر، فقال ابن عباس: [[إني لأعلم أين هي إنها ليلة سبع وعشرين. فقال قال: إن الله تعالى خلق السموات سبعاً، وخلق الأرضين سبعاً، وجعل الأيام سبعة، وخلق الإنسان من سبع، وجعل الطواف سبعاً والسعي سبعاً ورمي الجمار سبعاً
ولذلك رأى ابن عباس أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، وكأن هذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.
وبعض العلماء قالوا: ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، لأن كلمة ليلة القدر تسعة حروف، وقد ذكرت في السورة ثلاث مرات، والنتيجة ثلاثة في تسعة بسبعة وعشرين، ولم يرد دليل شرعي على أن مثل هذه الحسابات يمكن أن يعرف بها ليلة القدر.
وهذا يذكرني بما يتحدث به بعض المعاصرين، هما يسمونه بالإعجاز العددي. وخلاصة القول أن نقول: ليلة القدر هي في العشر الأواخر وفي أوتارها وفي السبع البواقي، وأرجى ما تكون في ليلة سبع وعشرين، دون حاجة إلى مثل هذه الحسابات التي ما أنـزل الله بها من سلطان.
ومما يرجح أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين: أنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أريها في تلك الليلة، وأري صبيحتها أنه يسجد على ماء وطين، وليلة القدر والله تعالى أعلم تتنقل من ليلة إلى أخرى، فغالباً ما تكون ليلة سبع وعشرين لكن قد تكون ليلة إحدى وعشرين -أحياناً- كما في حديث أبي سعيد السابق، وهو متفق عليه، أنه في صبيحة إحدى وعشرين سجد على ماء وطين.
ومما يتعلق بليلة القدر: أنه يستحب فيها الإكثار من الدعاء خاصةً الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة رضي الله عنها حين قالت: {إن أريت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال لها النبي صلى الله عليه وسلم قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني} والحديث رواه الترمذي وابن ماجة وسنده صحيح.
العلامة الأولى: ثبتت في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن من علامتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها، وهذا ثابت.
العلامة الثانية: ثبتت من حديث ابن عباس عند ابن خزيمة، ورواه الطيالسي -أيضاً- في مسنده، وهو حديث سنده صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليلة القدر ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة}.
فذكر علامات إضافية، منها: أنها ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، وأن الشمس فيها حمراء ضعيفة.
ومن علاماتها -أيضاً-: ما ثبت عند الطبراني بسند حسن، من حديث واثلة بن الأسقع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنها ليلة بلجة -أي: منيرة- مضيئة، لا حارة ولا باردة، لا يرمى فيها بنجم} أي: لا ترى فيها الشهب التي ترسل على الشياطين.
هذه ثلاثة أحاديث صحيحة، وهناك حديث رواه أحمد في مسنده، عن عبادة بن الصامت، وسنده صحيح إلا ما يخشى من انقطاعه، لكن يشهد له ما سبق، وهو حديث طويل وعجيب في ذكر بعض خصائص ليلة القدر. قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {إنها ليلة صافية بلجة، كأن فيها قمراً ساطعاً، وهي ليلة ساكنة صاحية، لا حر فيها ولا برد، ولا يحل لكوكب أن يرمى فيها، والشمس تطلع صبيحتها مستويةً لا شعاع لها مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ} لأن عادة الشيطان أن يخرج مع الشمس كما في الحديث الصحيح: {تطلع الشمس بين قرني الشيطان}.
أما في ليلة القدر فإنه لا يحل للشيطان أن يطلع مع الشمس، أو يجعل قرنيه باتجاه الشمس بحيث تطلع بين قرنيه، والحديث -كما ذكرت- لا بأس بإسناده في الشواهد؛ إلا أنه يخشى من انقطاعه، فإنه من رواية خالد بن معدان عن عبادة، ولم يثبت له منه سماع.
وذكر بعض أهل العلم علامات أخرى لا أصل لها وليست صحيحة، إنما أذكرها لبيان أنها لا تصح، كما ذكر الطبري عن قوم أنهم قالوا: من علامات ليلة القدر أن الأشجار تسقط حتى تصل إلى الأرض، ثم تعود إلى أوضاعها، وهذا لا يصح.
وكذلك ذكر بعضهم أن المياه المالحة تصبح حلوةً في ليلة القدر، وهذا أيضاً لا يصح.
وذكر بعضهم أن الكلاب لا تنبح فيها، وهذا لا يصح.
وذكر بعضهم أن الأنوار تكون في كل مكان حتى في الأماكن المظلمة، وهذا لا يصح.
وأن الناس يسمعون التسليم في كل مكان، وهذا لا يصح.
إلا أن يكون المقصود بذلك أنه لفئة خاصة ممن اختارهم الله تعالى وأكرمهم، فيرون الأنوار في كل مكان، ويسمعون تسليم الملائكة، فهذا لا يبعد أن يكون كرامةً لمن اختارهم الله تعالى واصطفاهم في هذه الليلة المباركة، التي هي خير من ألف شهر.
أما أن يكون هذا عاماً فهو باطل، وهو معارض لدلالة الحس المؤكدة الثابتة ومشاهدة العيان.
وينبغي أن يعلم أنه ليس من الضروري لمن أدرك ليلة القدر أن يعلم أنها ليلة القدر، بل قد يكون ممن لم يكن له منها إلا القيام والعبادة والخشوع والبكاء والدعاء، من هم أفضل عند الله تعالى وأعظم درجة ومنـزلة ممن عرفوا تلك الليلة.
فالعبرة هي بالاستقامة ولزوم الجادة، والتعبد لله عز وجل والإخلاص، كما ذكره طائفة من أهل العلم.
وعلى فرض صحة حديث مالك، فهو قابل للتأويل، وحديث أبي ذر صريح في أن ليلة القدر تكون مع الأنبياء، ومما يقوي ذلك قوله تعالى: إِنَّا أَنـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] في ليلة مباركة، الذي أنـزل فيه القرآن، ومن المعلوم أن القرآن يوم أنـزل أنزل بالنبوة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبله لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم نبياً حتى تكون ليلة القدر بالنسبة له.
والعيد اسم لكل ما يعتاد، وهي شعارات موجودة عند كل الأمم، فكل أمة على الأرض من الأمم الكتابية، كاليهود والنصارى، أو غيرها، من الأمم الوثنية لها أعياد؛ وذلك لأن العيد يعود إلى فطرة وطبيعة وجبلة ركبت الغرائز والفطر، عليها من أن الناس يحبون أشياءً يتذكرون فيها بعض ما مضى.
ولكن الأمم الكافرة أعيادهم ترتبط بأمور دنيوية، مثل قيام دولة، أو سقوط دولة، أو قيام حاكم أو سقوط حاكم أو زواجه أو تتويجه أو ما أشبه ذلك.
وقد يحتفلون بمناسبة أخرى كربيع أو غيره، ولليهود أعياد وللنصارى أعياد، كما هو معروف، فعندهم عيد في يو الخميس، يزعمون أنه أنـزلت فيه المائدة على عيسى عليه الصلاة والسلام.
وكذلك النصارى لهم أعياد أخرى، مثل عيد ميلاد عيسى عليه الصلاة والسلام، ومثل عيد رأس السنة الذي يسمونه الآن بعيد الكريسمس، ومثل عيد الشكر أو عيد العطاء، ويحتفلون به الآن في جميع البلاد الغربية كـأمريكا وبريطانيا، وغيرها من البلاد التي ورثت النصرانية وإن لم تكن نصرانية حقيقية.
وكذلك المجوس والفرس لهم أعياد، مثل عيد المهرجان، وعيد النيروز وغيرها.
والرافضة أيضاً لهم أعياد، كعيد الغدير الذي يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع فيه علياً على الخلافة، وبايع فيه الأئمة الإثني عشر من بعده، ولهم فيه مصنفات، حتى إن هناك كتاباً اسمه يوم الغدير يبلغ عشرات المجلدات.
ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجدهم يحتفلون بعيدين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله تعالى قد أبدلكم بهما خيراً منهما: عيد الفطر وعيد الأضحى} كما جاء في سنن أبي داود، وسنن النسائي عن أنس بسند صحيح.
ولذلك فليس للمسلمين إلا عيد الفطر وعيد الأضحى. قال الشاعر:
عيدان عند أولي النهى لا ثالثٌ لهما لمن يبغي السلامة في غدِ |
الفطر والأضحى وكل زيادة فيها خروجٌ عن سبيل محمدِ |
قال ذلك رداً على الشاعر الذي يقول:
المسلمون ثلاثة أعيادهم الفطر والأضحى وعيد المولد |
فإذا انتهت أعيادهم فسرورهم لا ينتهي أبداً بحب محمدِ |
فهذا أضاف عيداً ثالثاً، وهو عيد مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، فرد شاعرنا بقوله السابق:
ولذلك ينبغي إحياء هذه الأعياد واستشعارها وإدراك معناها؛ لأنها شعائر إسلامية ينبغي أن يعلم الجميع أن المسلمين في يوم عيد.
أولاً: يحرم صوم يومي العيدين، لحديث أبي سعيد الخدري السابق.
ثانياً: يستحب الخروج للصلاة للرجال والنساء، لقول أم عطية رضي الله عنها -كما في الصحيح-: {أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور -أي: البنات الغير متزوجات: الأبكار- وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى؛ ليشهدن الخير ودعوة المسلمين ويكبرن بتكبير الناس}.
فإذا أمرت الحيض، والعواتق، وذوات الخدور، فمن باب أولى أن يؤمر الرجال والشباب بالخروج إلى العيد.
وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب الخروج لصلاة العيد لهذا الحديث ولغيره من الأدلة، كما في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15].
قال بعضهم: المقصود صلاة العيد.
ثالثاً: من أحكام صلاة العيد: أن الصلاة فيه قبل الخطبة، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي سعيد وابن عباس {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل الخطبة}.
رابعاً: من أحكامه: أن الإمام يستحب له أن يكبر في الصلاة سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية، كما ثبت هذا عن جماعة من الصحابة والتابعين، كـعمر، وعثمان، وعلي، وأبي هريرة، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت وغيرهم، وقد ورد في ذلك أحاديث عدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن طريق كثير بن عبد الله المزني عن عمرو بن عوف، لكن -الأحاديث المرفوعة- كلها لا تصح لكن ثبت ذلك في أحاديث وآثار موقوفة.
وكذلك يجوز أن يكبر أربعاً في الأولى وأربعاً في الثانية، فقد ثبت هذا عن جماعة من السلف منهم ابن مسعود رضي الله عنه، كما رواه عنه الفريابي وغيره، وهو مذهب الأحناف.
خامساً: من أحكام العيد: أنه يستحب أن يقرأ في صلاة العيد بسورة (ق)، واقتربت الساعة، كما في صحيح مسلم، أن عمر رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي فقال له: ماذا كان يقرأ النبي عليه الصلاة والسلام في العيد؟
فذكر له ذلك. وأكثر ما ورد أنه كان يقرأ بسبح والغاشية، كما يقرؤهما في صلاة الجمعة.
سادساً: من أحكام العيد: أنه لا نافلة قبلها ولا بعدها، كما روى الستة عن ابن عباس رضي الله عنه، {أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى العيد فلم يصلِّ قبلها ولا بعدها} إلا إذا صلى الناس العيد في المسجد، فإنه يصلى ركعتين تحية المسجد.
أولاً: الاغتسال قبل الخروج إلى العيد، وقد صح هذا في موطأ مالك وغيره عن ابن عمر رضي الله عنه، [[أنه كان يغتسل قبل خروجه]] وكذا صح عن السائب بن يزيد وصح عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه قال: [[سنة العيد ثلاث: المشي -يعني يمشي للعيد ماشياً- والاغتسال، والأكل قبل الخروج]] ولعله أخذ ذلك عن بعض الصحابة.
وذكر النووي رحمه الله اتفاق العلماء على أنه يستحب الاغتسال لصلاة العيد، والمعنى موجود، فإن المعنى الذي يستحب له الغسل للجمعة وغيرها من الاجتماعات العامة، متحقق في العيد بل هو أكثر ذلك.
ثانياً: من آداب صلاة العيد: ألا يخرج في عيد الفطر حتى يأكل تمرات، لما رواه البخاري عن أنس {أن النبي صلى الله علية وسلم: كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات} بخلاف الأضحى، فإنه يستحب ألا يأكل إلا بعد العيد، من أضحيته.
وإنما استحب أكل التمرات في عيد الفطر؛ مبالغةً في النهي عن الصوم في ذلك اليوم، لأن الإنسان يفطر قبل أن يذهب إلى العيد.
ثالثاً: من آداب يوم العيد: التكبير، كما قال الله عز وجل: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185] فأشار إلى مشروعية التكبير في العيد.
والتكبير في العيد نقل عن ابن عمر رضي الله عنه، من طرق وبأسانيد صحيحة، عند البيهقي وابن أبي شيبة [[أنه كان يكبر إذا خرج من بيته إلى أن يأتي إلى المصلى]] وكان التكبير منذ الخروج من البيت إلى المصلى وإلى دخول الإمام، مشهوراً جداً عند السلف، وقد نقله جماعة من المصنفين كـابن أبي شيبة وعبد الرازق والفريابي في كتابه أحكام العيدين عن جماعة منهم، حتى إن نافع بن جبير رضي الله عنه، [[كبر ثم تعجب من عدم تكبير الناس، وقال لهم: ألا تكبرون ألا تكبرون؟!]]
وكذلك محمد بن شهاب الزهري يقول: [[كان الناس يكبرون من حين خروجهم من بيوتهم حتى يدخل الإمام]] فيشرع للإنسان أن يكبر من حين أن يخرج من منـزله إلى أن يدخل الإمام في يوم العيد للصلاة ثم الخطبة.
رابعاً: من آداب العيد: التهنئة التي يتبادلها الناس فيما بينهم أياً كان لفظها، كقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنكم، أو ما أشبه ذلك من عبارات التهنئة المشروعة المباحة التي يتبادلونها.
والتهنئة أمر كان معروفاً عند الصحابة، ورخص فيه أهل العلم كالإمام أحمد وغيره، وقد ورد ما يدل على مشروعيه التهنئة في المناسبات، وتهنئة الصحابة بعضهم بعضاً فيما إذا حصل لهم أمر يسر، كما هنوا من تاب الله عليهم، إلى غير ذلك، ولا حرج في هذه التهنئة.
بل ورد في ذلك أثار عديدة صحيحة عن الصحابة؛ يحتج بها على أنه لا بأس أن يهنئ الناس يعضهم بعضاً بالعيد، وهذا من مكارم الأخلاق التي لا بد أن يحافظ الناس عليها، ولا حرج فيها، وأقل ما يقال فيها: إن هنأك أحد فهنئه وإن سكت فاسكت.
قال الإمام أحمد رحمه الله: إن هنأني أحد أجبته وإلا لم أبتدئه.
خامساً: من آداب العيد: التجمل بأحسن الملابس؛ لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر [[أن
فدل على أن التجمل للعيد والوفود كان معروفاً، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر على التجمل؛ لكنه أنكر عليه شراء هذه الحلة التي هي من حرير، وقال: {إنما يلبس هذه من لا خلاق له}.
وعن جابر رضي الله عنه قال: {كانت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة يلبسها للعيد والجمعة} والحديث رواه ابن خزيمة، وعن ابن عمر -أيضاً- عند البيهقي بسند صحيح، [[أن
فينبغي أن يلبس الإنسان أحسن ما عنده من الثياب.
أما بالنسبة للنساء -إن خرجن- فينبغي أن يبتعدن عن الزينة؛ لأنهن منهيات عن إظهار زينتهن للرجال الأجانب.
أولاً: بعض الناس يعتقدون مشروعيه إحياء ليلة العيد، ويتناقلون حديثاً ورد من طريقين {أن من أحيا ليلة العيد لم يمت قلبه يوم تموت القلوب} وهذا الحديث لا يصح، بل جاء من طريقين أحدهما ضعيف والآخر ضعيف جداً، فلا يشرع تخصيص ليلة العيد بحكم عن غيرها من الليالي، بل من كان يقوم بقية الليالي قام في ليلة العيد كما يقوم في غيرها، أما تخصيصها فلا يشرع.
ثانياً: مما ينكر في العيد اختلاط الرجال بالنساء، في المصليات والشوارع والأماكن، ومع الأسف الشديد أن هذا الاختلاط يقع في أقدس البقاع وأفضلها، في المساجد بل وفى المسجد الحرام، ويقع فيه من مظاهر التبرج والسفور ما يحزن كل قلب غيور، وما يجعل الفتنة قاب قوسين أو أدنى، فإن كثيراً من النساء -هداهن الله- يخرجن بأبهى زينة، سافرات كاشفات متبرجات متزينات متعطرات، مع ما في المسجد من شدة الزحام، وفي ذلك من الفتنة والضرر العظيم ما فيه.
ولذلك أنصح الشباب إذا صلوا صلاة الفجر يوم العيد، أن لا يخرجوا من المسجد، بل يبقوا حتى يصلوا العيد، ثم يجلسوا حتى يتفرق الناس بعداً عن الفتن العظيمة التي قد تعرض لهم.
ثالثاً: مما يحدث في ليلة العيد، أن بعض الناس يجتمعون على الغناء واللهو والعبث، وهذا لا يجوز.
ومن المفاسد التي تقع: أن بعض الناس يفرحون لأنهم قد تركوا رمضان وانتهوا من الصيام وهذا خطأ؛ فإن العيد إنما يفرح به لأن الله تعالى قد وفقنا لإكمال عدة الشهر والصيام، وليس الفرح لأننا قد انتهينا من الصيام، وتركنا هذا الأمر الذي يعتقد البعض أنه كان ثقيلاً عليهم.
وصدقة الفطر فرض على الذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، كما جاء في حديث ابن عمر وابن عباس المتفق عليه.
وفى رواية أخرى عن ابن عباس عند ابن خزيمة، أنه قال: [[من أدى سلتاً قُبل منه، ومن أدى دقيقاً قُبل منه، ومن أدى سويقاً قُبل منه]] ولذلك بوب ابن خزيمة رحمه الله: باب إخراج صدقة الفطر من جميع الأطعمة. ولذلك فالصحيح أن صدقة الفطر تخرج صاعاً من طعام البلد أياً كان طعام البلد.
وتؤدى هذه الزكاة قبل الخروج إلى الصلاة، ومن أداها قبل العيد بيوم أو يومين فلا حرج، ولا يجوز تأخيرها عن الصلاة، فإن أخرها بعد فإنما هي صدقة من الصدقات.
وفى هذه الوقفة أشير إلى أنواع من الناس:
النوع الثاني: الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما، فإنهما تفطران، والراجح أنهما تفطران وتقضيان فحسب، لما جاء في قول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
- والحامل والمرضع تلحق بالمريض، لما في السنن من حديث أنس بن مالك الكعب، وسنده صحيح أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: {هلم إلى الطعام. فقال: إني صائم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هلم أخبرك إن الله تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم، ووضع عن المرضع والحبلى الصوم} فالحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما، فالراجح أن عليهما الفطر والقضاء.
وقال بعض أهل العلم: عليهما الفطر والقضاء والإطعام، وقال آخرون: عليهما الإطعام فقط. والخلاف فيما إذا خافت على ولدها.
النوع الثالث: المريض، والمريض قسمان:
الأول: المريض الذي يرجى برؤه، كمن يكون فيه حمى، فإن هذا المريض لا شيء عليه؛ لكن إذا شفي فعليه القضاء، فإن مات قبل أن يشفى فلا شيء على ورثته، أما إن تمكن من القضاء ثم فرط فعليهم أن يطعموا أو يصوموا عنه.
- أما المريض الذي لا يرجى برؤه، بأن يكون مصاباً بالأمراض التي لا ترجى، وهى كثيرة -شفانا الله وعافانا وإياكم منها- فإن هذا المريض يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً.
النوع الرابع: الكبير الهرم الذي أصابه الخرف وزال عقله وسقط تمييزه، فإن هذا لا صوم عليه ولا قضاء ولا إطعام.
الأولى: أن بعض الناس يؤخرون القضاء إلى ما بعد رمضان الآخر، وهذا لا يجوز، لقول عائشة كما في صحيح البخاري: [[كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان، للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم]] ولأنه يترتب على ذلك تراكم الصيام على الإنسان، ولأن الصيام عبادة موقوتة بالسنة، فلم يجز أن يؤخر إلى السنة التي بعدها.
والثانية: أنه لا يشترط التتابع في الصيام، فبعض الناس يعتقدون أن قضاء رمضان يشترط فيه التتابع، وهذا غير صحيح، بل له أن يصوم يوماً ويفطر ثم يصوم وهكذا.
والثالثة: أنه يستحب الإسراع في القضاء، لأنه أسرع في إبراء الذمة، وأبعد عن تعرض الإنسان للموت والفوت.
وإنما كان صيام الست مع رمضان صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها فرمضان عن عشرة أشهر، والست من شوال عن ستين يوماً فهي أي: شهرين، فصارت العشر أشهر مع شهرين الحول كله.
{كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم} ولم يعلم عنه أنه صام شهراً كاملاً غير رمضان، إلا شعبان فإنه كان يصوم أكثره.
وكان عليه الصلاة والسلام يتعاهد صيام يوم الإثنين والخميس، ويتعاهد صيام أيام البيض، بل جاء عنه في حديث -وإن كان فيه ضعف- {أنه كان لا يترك صيامها في حضر ولا سفر}.
وكان يأمر بصيام أيام البيض أيضاً، فقد أمر بذلك أبا هريرة، وأبا ذر، أمرهم بثلاث: منها: أن يصوموا ثلاثة أيام من كل شهر.
وكان عليه الصلاة والسلام قد أذن لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ونهى عن صيام الدهر فقال:{لا صام ولا أفطر -وقال:- لا صام من صام الأبد} وقال عليه الصلاة والسلام: {من صام الدهر كله ضيقت عليه جهنم}.
وكان يأمر بصيام يوم عرفة لغير الحاج، فأما الحاج فيكره له أن يصوم فيه، وقال عليه الصلاة والسلام: {احتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والسنة الباقية}.
وكذلك صام عليه الصلاة والسلام عاشوراء، وقال: {لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع} وصيامه عليه الصلاة والسلام النفل كثير.
الوقفة الأخيرة: هي الخاتمة -نسأل الله تعالى لنا ولكم حسن الخاتمة- نحن -الآن- مقبلون على النصف الثاني من رمضان، فقد مضى نصفه وبقي نصفه الآخر، وكأنكم به وقد آذن بالرحيل، فالعاقل كل العاقل، والحازم كل الحازم هو من اغتنم ساعاته وأيامه ولياليه، فمن يدري ربما تكونون ممن كتبوا في سجل الأموات في هذا العام، فالبدار البدار، والإسراع الإسراع، والحذر الحذر من التفويت والتفريط ما دمت في زمن الإمكان.
الجواب: لا حرج في هذا ما دام أنه أمر أباحه الله.
هل يلزمها قضاؤه متتابعاً أم لا؟
الجواب: لا يلزم القضاء متتابعاً، لأن قضاء رمضان يجوز فيه التتابع ويجوز فيه الإفراد، فلها أن تصوم يوماً وتفطر، ثم تصوم وتفطر كما تشاء، المهم أن لا يأتيها رمضان الآخر إلا وقد قضت ما عليها.
الجواب: لأن هؤلاء الذين تسأل عنهم هم نواب عن الشيطان، وهم يقومون بالمهمة عنه في حال غيابه.
الجواب: الصراع بين الحق والباطل لا ينتهي قال الله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام:312] فالصراع لا ينتهي، والحرب لا تنتهي؛ ولكن على أهل الخير أن يضاعفوا جهودهم، ويعملوا على الاستفادة من وجود الناس في رمضان، خاصةً وقت تجمعهم في المساجد رجالاً ونساءً في صلاة التراويح والقيام.
الجواب: الذي أرى أن يوتر مع الإمام في التراويح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه أهل السنن عن أبي ذر: {من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة }.
الجواب: هذا حسب الظرف الذي يعيشه الطالب، ولا شك أن الأفضل أن ينام الإنسان بعد صلاة التراويح، لكن إذا كان عنده ظرفٌ مثل أن يكون محتاجاً للتأخر في الليل، فهذا يقدر بقدره، وقد سبق الكلام عن السهر وحكمه في دروس بلوغ المرام، فالسهر في العلم والعبادة والذكر ومسامرة الضيف والأهل والمصلحة لا حرج فيه.
الجواب: حبوب منع الحمل فيها ضرر على المرأة في غالب الأحيان، ولذلك إن ثبت أن في استخدام الحبوب ضرر على المرأة، فلا يجوز أن تستخدمها لا في رمضان ولا في غيره.
لكن إذا ثبت أنه ليس هناك ضرر عليها بعد استشارة طبيب مثلاً، فهل يجوز لها أن تستخدمها في رمضان حتى تصوم وتصلي مع الناس؟
الذي يظهر لي أنه يجوز، لكن الأولى أن لا تفعله، فإن هذا أمرٌ كتبه الله على بنات آدم ولا حرج عليها، إذا جاءت العادة أن تفطر ثم تقضي فيما بعد.
ولكن إذا ثبت أنه ليس هناك ضرر عليها بعد استشارة طبيب مثلاً، فهل يجوز لها أن تستخدمها في رمضان مثلاً، حتى تصوم مع الناس وتصلي مع الناس؟
الجواب: الذي يظهر لي أنه يجوز، لكن الأولى أن لا تفعله، بل هذا أمرٌ كتبه الله على بنات آدم ولا حرج عليها، وإذا جاءت العادة أفطرت ثم تقضي فيما بعد.
وكذلك يسأل عن تقبيل المرأة؟
الجواب: بالنسبة لنـزول المذي عند الجمهور أنه لا يفطر وهو الراجح.
أما بالنسبة للتقبيل، فقد ورد في حديثٍ صحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، وكان أملككم لأربه، أي: لحاجته، فهو يملك نفسه، فإذا كان الإنسان يملك نفسه، كالشيخ الكبير أو الشاب الذي يملك نفسه؛ فلا حرج عليه في ذلك، أما إن كان لا يملك نفسه أو يعلم أن الأمر قد يتمادى به إلى ما هو أشد من ذلك، فإنه يمنع منه من باب سد الذريعة.
الجواب: الدعاء عند الإفطار.
أو ما أشبه ذلك؟
الجواب: لا شك أن الشيء الذي يفطر هو الذي يصل إلى الجوف، ولذلك المضمضة لا تفطر، فمعجون الأسنان إذا كان لمجرد غسل الأسنان به، ثم أخرجه ولم يصل إلى جوفه فلا شك أنه لا يفطر، أما إن وصل إلى جوفه شيءٌ منه أو من غيره فهذا هو الذي يفطر.
الجواب: هذا اليوم ليس محسوباً له ولا بد أن يقضيه، لكن لا يفطر علناً؛ لأن الناس قد يجهلون سبب فطره، وبعض العلماء يأمره بالإمساك لأن سبب الفطر قد زال.
الجواب: لو لم يعلم بدخول الشهر إلا قبل الغروب فيمسك.
الجواب: ينوي الإفطار لكن إذا كان لديه شيءٌ يفطر عليه أفطر، وإلا فخمس دقائق لا تضر ما دام أنه سوف يفطر قبل صلاة المغرب.
الجواب: لعل الأخ يقصدني، والواقع أن ما قاله صحيح لأن الله عز وجل قال في آخر سورة البقرة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] والكثير من المشايخ، خاصةً المشايخ الكبار المشهورين، عندهم أعمال أمثال الجبال، وربما الواحد منهم لا يجد وقتاً ليأكل أو يشرب أو يجلس مع أهله وأطفاله، فالواقع أنهم معذورون في ذلك، لكن الأمور تقدر بقدرها.
الجواب: بالنسبة لصوم المسافر وفطره، المسألة فيها كلام، ولكن الأقوى من الأقوال: أنه إن كان الصوم يضر المسافر فإنه يحرم عليه الصيام، وإن كان يشق عليه ولا يضره، فإن الأفضل في حقه أن يفطر ويجوز له الصوم، وإن لم يكن ليس عليه مشقة ولا ضرر، فالأفضل في حقه أن يصوم؛ إدراكاً لفضيلة الشهر وموافقةً للناس وتعجلاً في إبراء الذمة.
الجواب: صحيح أنه لا بد من النية لكل يوم، لكن قصدي أن مجرد كونك علمت أن الشهر دخل فنويت صيام هذا الشهر كله فهذا يكفي، فكل ليلةٍ أنت تنوي أن تصوم غداً، ولا يحتاج أن تجدد النية أو تستحضر شيئاً في قلبك، فالنية موجودة أصلاً، إلا إذا قطعها الإنسان لأي سبب، كأن قطع نية الصيام ونوى ألا يصوم, فنقول: لا بد له إن أمسك ذلك اليوم أن يجدد نية له ولما بعده.
الجواب: على الولد أن ينصح والده، ويبين الأضرار المترتبة على وجود هذه المرأة الأجنبية في بيته، وهي امرأةٌ تأتي بدون محرم من مسافاتٍ بعيدة، وربما تكون فتاةً في قلبها من الشهوة مثل ما في قلب غيرها، وخاصةً مع وجود شباب في البيت، ولا شك أن هذا خطرٌ عظيم، وهو كمن يوقد النار ويجعل البنـزين قريباً منها، وعلى الشاب:
أولاً: أن يناصح والديه.
وثانياً: أن يبتعد عن هذه المرأة ويحرص على أن لا يراها ولا يقترب منها، فضلاً عن أن يخلو بها فهذا لا يجوز.
وثالثاً: عليه إذا شعر بالخطر أن يسعى في إنقاذ نفسه ونجاتها، ولو ترتب على الأمر أن يبتعد عن البيت.
الجواب: الجمع أن هذا خيل إليه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فالواقع أن الشخص الذي رآه ليس هو النبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب: في الواقع هناك كتب عديدة منها: كتاب الشيخ محمد بن صالح العثيمين مجالس شهر رمضان، وهو كتابٌ مفيد في النواحي الفقهية، ومنها كتاب لـابن رجب الحنبلي، وعنوانه: لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف فيه حوالي ثلاثة فصول، أو أربعة عن رمضان، وهو مفيدٌ وإن كان فيه أشياء ينبغي حذفها، ومنها كتب للشيخ عبد العزيز السلمان مفيدة، ومنها كتاب للشيخ عائض القرني عنوانه: ثلاثون درساً للصائمين وهناك كتاب يسعى الإخوة القائمون على الإفتاء في هذا البلد إلى طباعته -إن شاء الله- وهو كتاب جيد، إذا خرج سوف يسد فراغاً، لكن -إن شاء الله- لعله لا يتأخر عن العام القادم، أما هذه السنة فلا أظن أنه يمكن الاستفادة منه.
الجواب: سبق أن ذكرت الحقن.
أما موضوع الدم، فإنه السائل يقصد إخراج الدم، فنقول: مسألة الحجامة فيها خلاف، فمنهم من يقول إنها تفطر، لحديث: {أفطر الحاجم والمحجوم} ومنهم من يقول: إنها لا تفطر لحديث {أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم} والذي يترجح عندي أن الحجامة لا تفطر، وأن القول بتفطيرها منسوخ.
الجواب: إن اعتقاد بعض الناس أن الختمة سنة لدرجة أن بعض الناس في المسجد يدعون في الليلة الواحدة مرتين، فيختم في الركعة الأخيرة من التراويح ويدعو، ثم يقوم ويشفع ويوتر ثم يدعو في الوتر، فلا شك أن هذا مخالف للسنة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف.
أما كون بعض الناس يدعو عند انتهائه من قراءة القرآن، ويطيل في الدعاء في الوتر كما يقع الآن في الحرم، سواءً قبل الركوع أو بعده، فهذا لا حرج فيه -إن شاء الله- لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: كما في الترمذي: {اقرءوا القرآن وادعوا الله به} وقد ورد عن أنس [[أنه كان يجمع أهله ويختم بهم]] ولكن لم يكن هذا في الصلاة، بل يجمعهم في المنـزل.
فنقول: الختمة فيها تفصيل؛ فإذا كان الإمام يختم في الوتر أي: يطيل الدعاء، فلا داعي -مثلاً- لأن يقرأ هذه الختمات الموجودة، التي تتحول إلى نصيحة وموعظة، والتي لا تجوز، بل قد تبطل الصلاة أحياناً، مثل بعض العبارات التي يكون فيها خطاب للمصلين، ويطول فيها بذكر الآخرة والجنة والنار والقبر ومنكر ونكير، فالختمة ليست موعظة، وإنما هي دعاء، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء.
الجواب: لا شك أن ما يقع فيه اليوم كثير من الناس ويتحول ليلهم في رمضان إلى نهار، ويتحول نهارهم إلى ليل، حتى إن منهم من ينام النهار كله وربما نام عن الصلوات، لا شك أن هذا فيه من فوات المصالح الشيء الكثير، أما من يفوت الصلاة فهذا أمره آخر، لكن حتى الذي يصلي مع الجماعة ثم ينام، فهذا ما تحقق في حقه المقصود من الصيام، من استشعار الجوع والعطش، بل الأولى إذا كانت ظروف الإنسان مواتية أن ينام من الليل ولو بعضه، وينام من النهار ولو بعضه، ويحرص على أن يكون معتدلاً في ذلك.
الجواب: لا يجوز وصل شعبان برمضان على سبيل الاحتياط والتقديم بين يدي الشهر، أما إذا كان كما جاء في الحديث الصحيح: {إلا رجل كان يصوم صومه فليصمه} وفي لفظ: {إلا أن يوافق يوماً كان يصومه أحدكم} فلا بأس.
الجواب: لا أرى حرجاً ولا بأساً بأن يبحث الإنسان عن إمام حس الصوت ويصلي خلفه، ما لم يكن في ذلك ضرر، مثل كونك تترك مسجدك وهو يحتاجك -مثلاً- لأن تصلي فيه، أو أن تفتح على الإمام إذا نسي أو تحدَّث، أو أن يكون الجماعة يستوحشون من ذهابك، كأن تكون طالب علم مرموقاً في مسجدك، فإذا ذهبت تساءلوا أين ذهب فلان، فهنا لا تذهب، أما فيما سوى ذلك فلا حرج أن يذهب الإنسان إلى إمام يرتاح إليه، ويجد لذة ويخشع من قراءته.
الجواب: ما دمت محتاج إلى ذلك فلا حرج عليك إن شاء الله.
الجواب: أنا ما قلت رواه البخاري، وإنما قلت: رواه البخاري تعليقاً، والمعلقات في صحيح البخاري ليست أحاديث على شرط البخاري، ولم يروها البخاري بالإسناد، أي قد يقول البخاري: يروى عن رسول الله، مشيراً بصيغة التمريض، فهذه تسمى معلقات، فإذا قيل: رواه البخاري تعليقاً، فهذا يحتمل أن يكون صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً، أما إذا قلت: رواه البخاري وسكت، فمعناه أنه في الصحيح والصحيح لا كلام فيه.
الجواب: نقول: إذا كان نومه عن الصلاة فهو إثم ومعصية وطاعة للشيطان، وليس نوم الصائم إذا نام عن الصلاة عبادة، أما إذا نام نوماً طبيعياً يستعين به على طاعة الله فهو عبادة، كما أن نوم من ينام في القيلولة ليستعين بها على قيام الليل عبادة أيضاً.
السؤال: من احتلم في نهار رمضان وأخر الغسل ساعتين أو ثلاثاً بحجة أنه نائم؟
الجواب: لا حرج عليه في ذلك، المهم أن لا يؤخر الغسل عن الصلاة.
الجواب: أرى أن مثل هذه الحالات ينبغي أن يسأل عنها بذاته، لأنه لابد أن نعرف ما الذي حدث وما هي الظروف، وبعض الناس يكون جاهلاً، فيقول:
أنا جامعت في رمضان وأنا جاهل
فنقول: هناك فرق بين من يقول: إنني جاهل في أن عليَّ أن عليه كفارة.
وإن كنت أعلم أنه لا يجوز.
فنقول لهذا: لا ينفعك أن كنت جاهلاً بالكفارة بل يجب عليك التزام الكفارة وإن لم تدر بها، المهم أنك تعلم أن الجماع يفطر، فتجب عليك الكفارة حينئذٍ.
ففرق بين هذا وبين إنسان يقول: إنه جاهل لا يعلم أن الجماع يفطر. ولكن هل يمكن أن يوجد إنسان لا يدري أن الجماع يفطر؟
يمكن أن يوجد إنسان مسلم حديث عهد بإسلام، أو إنسان في بادية بعيدة لم يعلم أن الجماع يفطر , فهذا له حكمة الخاص.
أما الناس في مثل البيئات والمدن، فلا أعتقد أن منهم من يجهل أن جماع الرجل زوجته في نهار رمضان من المفطرات، بنص القرآن الكريم وبإجماع أهل العلم -كما أسلفت- وعلى كل حال فالحالات الخاصة يسأل عنها بصفة خاصة، حتى يستوضح ما الذي جرى.
السؤال: مثل الذي يقول أنا جامعت في رمضان وأنا جاهل؟
الجواب: فنقول أنه يوجد فرق. بين أحد يقول: إنني جاهل أن عليه كفارة، فيقول أنا عارف أنه لا يجوز، لكن ما كنت أعرف أنه عليه كفارة، وهي إعتاق رقبه، أو صيام شهرين فهذا لا يضر، وإن كان جاهلاً نقول: يجب عليك، أي لا ينفعك جهلك، وإن كنت جاهلاً بالكفارة يجب عليك التزام الكفارة وإن لم تدر بها، المهم أنك عارف أن الجماع يفطر، فتجب عليك الكفارة حينئذٍ، وبين إنسان يقول أنه جاهل لا يعلم أن الجماع يفطر.
السؤال: هل ممكن أن يوجد إنسان لا يدري أن الجماع يفطر؟
الجواب: ما أعتقد ذلك، يمكن أن يوجد إنسان مسلم حديث عهد بإسلام، أو إنسان في بادية بعيدة ما علم أن الجماع يفطر , هذا له حكمة، الخاص، أما الناس في مثل البيئات والمدن، فلا أعتقد أن منهم من يجهل أن جماع الرجل زوجته في نهار رمضان من المفطرات بنص القرآن الكريم، وبإجماع أهل العلم -كما أسلفت- على كل حال الحالات الخاصة يسأل عنها بصفة خاصة، حتى يستوضح ما الذي جرى.
الجواب: الجمع بينهما جيد، فيحرص الإنسان على أن يزيد من حفظه في رمضان، وأن يكثر من قراءة القرآن.
الجواب: لست أنا الذي قلته، وإنما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأسباب، حيث علم الله أن فلاناً يصل رحمه فزاد في عمره، وقال بعضهم: إن الزيادة في العمر تعني البركة.
الجواب: إن كان يبالغ في رفع الصوت بحيث يؤذي الناس، فينكر عليه ذلك ويبين له أنه لا يرفع صوته، أما إن كان يقرأ والأصوات متقاربة فتحدث دوياً، وليس بعضها أرفع من بعض، ولا يؤذي بعضها بعضاً، فهذا لا حرج فيه؛ لأنه جاء في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنني أعرف أماكن الأشعريين إذا نـزلوا بالليل وإن لم أكن رأيت منازلهم بالنهار من أصواتهم بالقرآن} فدل على أنه إذا كان الجماعة كلهم يقرءون بصوت متقارب لا يؤذي بعضهم بعضاً، فلا حرج في ذلك؛ لكن إن كان واحد يرفع والبقية يخفضون أصواتهم، فهذا يبين له أن لا يرفع صوته.
الجواب: لا أعلم في ذلك حديثاً يصح إلا في الجمعة، وأنه لا توصل بصلاة حتى يتكلم أو ينتقل إلى مكان آخر، وبعض السلف كانوا يفعلون ذلك، واحتج بعضهم بقول الله تعالى: فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ [الدخان:29] قالوا: إن المؤمن يبكي عليه مصعد عمله من السماء، وموضع عمله في الأرض، وكموضع سجوده في الأرض، فالأمر في ذلك واسع.
الجواب: الأظهر -والله أعلم- أن شر صفوف النساء أولها إذا كان بقرب الرجال، أما مع وجود عازل وفاصل فلا يكون الأمر كذلك، والله تعالى أعلم.
الجواب: نعم، لا بأس أن يداوم الإنسان على الدعاء في الوتر، وإن تركه أحياناً ليبين أنه ليس بواجب فلا حرج في ذلك أيضاً.
الجواب: الأولى أن تقرأ لهم القرآن في صلاة التراويح ليسمعوا.
الجواب: إذا وافقت جماعة المسجد على ذلك، وكان هناك من ينوب عنك في الإمامة، فلا أعلم في ذلك حرجاً، وإن كنت أرى أن الأفضل أن يقوم الإنسان بعمله وبواجبه ويصلي بجماعته، ولا مانع أن يذهب يوماً أو يومين يؤدي العمرة ثم يعود.
الجواب: يجوز أن تصلي بهم وتوتر بهم، ثم تصلي آخر الليل ما قسم الله لك، وإن كان الأفضل مادمت صليت معهم وكانت هذه عادة مستمرة أن تكتفي بذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: { من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة } ثم تقرأ القرآن وتسبح الله عز وجل.
الجواب: أرى أن يصوم معهم- فيما يظهر لي- لموافقة الناس في ذلك، كما ورد في الحديث : { الفطر يوم يفطر الناس، والصوم يوم يصومون }.
علماً بأن هذه أول مرة يحصل لها مثل هذه الحالة.
الجواب: إذا كانت الصفرة متصلة بالدم فأرى أن حكمها حكمه، وأرى أن هذه المرأة تقضي ذلك اليوم.
الجواب: لا يجوز له أن يخرج كل يوم للتنظف والتطيب؛ لكن يغتسل للغسل الواجب ويخرج له إذا احتاج إلى الخروج، وأما غسل التطيب فلا أعلم أنه يجوز أن يخرج له.
الجواب: لا حرج في ذلك؛ لأنك إذا خرجت بعد ليلة السابع والعشرين فلا أظن أنك تعتمر وتعود بعد ذلك.
الجواب: بالنسبة لمن أراد أن يعتكف يوماً فلا حرج في ذلك، كما في الصحيح أن عمر نذر في الجاهلية أن يعتكف يوماً وليلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أوف بنذرك} وإذا أراد أن يعتكف يوماً وليلة فيدخل المعتكف من حين الوقت الذي نوى فيه، فإن نوى ليلة دخل قبل الغروب، وإن نوى يوماً دخل قبل الفجر، وإن نوى يوماً وليلة دخل قبل الغروب أيضاً.
الجواب: يعني هما أمران أحلاهما مر، لكن عليك أن تبين لأهلك أن اقتناءهم لهذه الخادمة وهي بدون محرم أمر خطير ينبغي أن يصحح.
الجواب: أصح الأذكار التي وردت بعد الوتر، ما ثبت في سنن أبي داود، وسنن النسائي، ومسند الإمام أحمد وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من الوتر قال: {سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس يمد بالثالثة صوته}.
الجواب: الحمد لله، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى، ثم يدعو بما أحب.
الجواب: موقفه أن يعمل على تغييرها ما استطاع: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.
الجواب: لشكر الله تعالى على إكمال عدة الشهر، كما قال الله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
الجواب: لم ينقل هذا عن السلف، وعلى القول بأنه لا بد من الصيام في الاعتكاف، فلا إشكال أن أقل الاعتكاف يوم، لكن عند الحنابلة وبعض الشافعية أنه يجوز أن يعتكف ولو ساعة، قال الشافعية ولو لحظة، لكن هذا لم ينقل عن السلف، ولذلك الظاهر -والله تعالى أعلم- أنه لا ينبغي أن ينوي الإنسان نية الاعتكاف إذا أراد أن يدخل للصلاة وما أشبه ذلك.
الجواب: السؤال هذا -سبحان الله!- انقدح في ذهني أنه سوف يأتي إلى وأنا أقرأ الحديث في مسند الإمام أحمد، لكن أقول: إن صح الحديث فيقال: إن صبيحة تلك الليلة لا يكون وقت طلوع الشمس فيها وقت نهي، لكن الحديث فيه ضعف، فهذا الأمر الذي انفرد به لا يبنى عليه حكم، وبناءً عليه أقول: صبيحة ليلة القدر كغيرها، وقت طلوع الشمس فيها وقت نهي.
الجواب: ليلة القدر علمها عند ربي، إنما على العبد أن يتحراها ويحرص على الإخلاص وكثرة العبادة فيها.
الجواب: نعم، لمن كان يريد أن يعتكف.
الجواب: لا بأس أن يخرج المعتكف، لأكل الطعام وقضاء الحاجة، ولا يلزمه أن يذهب إلى بيت صديقه القريب، لكن لا بأس أن يذهب إلى شقة -مثلاً- إن استأجرها أو ما أشبه ذلك.
الجواب: السبيل هو أن يقوم الشباب المهتدي بحملة في الدعوة إلى الله عز وجل، وصحبة هؤلاء، ونشر العلم النافع بينهم، بواسطة الشريط والكتاب والصحبة والكلمة الطيبة، وغير ذلك من الوسائل.
الجواب: إذا وصلت إلى المحرم فتحرم زوجتك كغيرها وإن كانت حائضاً، فتغتسل وتلبس ثياب الإحرام وتلبي بالعمرة، لكنها لا تقضي مناسك العمرة حتى تطهر، فتعتمر أنت وتطوف وتسعى وتقصر، ثم تنتظر زوجتك حتى تطهر فإذا طهرت اعتمرت.
الجواب: ما دام نوى الصيام في تلك الليلة فلا قضاء عليه.
الجواب: صومه صحيح.
الجواب: الصحيح الذي عليه جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم؛ أنه لا يجوز مس المصحف مباشرة إلا للمتوضئ.
الجواب: لا حرج عليك.
وما هو متوسط العمرة في السنة؟
الجواب: قال بعضهم: كل عشرة أيام، وقال بعضهم: أكثر من ذلك، وقال بعضهم: أقل من ذلك، والصحيح أنه لا يتحدد ذلك، بل لا مانع أن يعتمر الإنسان متى شاء، لكن المنهي عنه أن يكرر الإنسان العمرة من مكة أي أن الإنسان يكون في مكة، وكل يوم وهو في عمرة، هذا لم يعهد عن السلف، أما كونه اعتمر ثم رجع، ثم ذهب مرة أخرى لأنه وجد رفقة أو ما أشبه ذلك فلا حرج.
الجواب: لا تغتسل، ما دام لم يخرج منك مني فلا غسل عليك، فالمذي لا يوجب الغسل وإنما يوجب غسل الذكر والأنثيين.
الجواب: لا حرج في إعتكاف جماعة، وإن تخلل كلامهم كلاماً مباحاً، كما تكلمت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما تكلم الرسول عليه الصلاة والسلام مع بعض أزواجه.
الجواب: صلاة التهجد هي من ضمن صلاة القيام التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها، حيث قام ليلةً بأصحابه حتى خشوا أن يفوتهم السحور، وكما سمعتم أنه كان إذا دخل العشر جدَّ وشدَّ المئزر وأحيا ليله، فينبغي على العاقل الرشيد الناصح لنفسه، أن يحرص على تعهد صلاة التراويح والقيام مع المسلمين.
الجواب: الأفضل له أن يقضيها في مكة ويعتكف في الحرم -أيضاً- إذا لم يكن في ذلك مشقة عليه.
الجواب: هذا لا ينبغي، فجماهير أهل العلم على منع ذلك وتحريمه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {صلاة الليل مثنى مثنى} أي: تسلم من كل ركعتين.
الجواب: الذي يظهر لي -والله تبارك وتعالى أعلم- أنه من دخل مع الإمام بنية أنه سوف يستمر معه إلى نهاية الوتر أن هذا يكفي في النية، والله تبارك وتعالى أعلم.
الجواب: بالنسبة للقنوت لا بأس بالمحافظة عليه، إلا أن يخشى أن يعتقد الناس وجوبه.
وبالنسبة للصلاة إذا كان في التنويع مصلحة للبيان للناس فلا حرج، أما كثرة التنويع فليست حسنة، بل ينبغي أن لا يكثر الإنسان من التنويع، فيكون له عادة ولا مانع أن يترك هذه العادة أحياناً.
الجواب: لا تبالي بهذا الأمر الذي خطر لك من خشية الرياء، فلا يجوز ترك العمل خشية الرياء، بل ينبغي أن تعتكف وتتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أما الحالات التي تخرج فيها من المسجد فتخرج لحاجتك، كما قالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: {وكان لا يخرج إلى البيت إلا لحاجة الإنسان} حاجتك من قضاء الحاجة، أو من الأكل والشرب وما أشبه ذلك.
الجواب: اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا عمرته التي كانت مع حجته، منها: عمرة الجعرانة، وعمرة القضاء، وعمرة الحديبية، والعمرة الرابعة كانت مع حجته صلى الله عليه وسلم.
الجواب: إذا وجد من يقوم مقامك ووافقت الجهة المختصة فلا حرج في ذلك.
الجواب: لا حرج في ذلك، لا حرج في شد الرحال من أجل طلب العلم، أو من أجل الصلاة خلف إمام معين، أو من أجل السلام على رجل، أو من أجل زيارة مريض، أو من أجل زيارة أخ في الله، أو من أجل تجارة، لأن شد الرحل حينئذ ليس من أجل البقعة وإنما من أجل أمر آخر، والمنهي عنه هو شد الرحال من أجل البقعة باعتقاد فضلها عن غيرها.
الجواب: نعم عليك القضاء.
الجواب: نعم يكتب لك ذلك، إذا صمت أيام البيض من شوال وصمت منها ثلاثة أيام أخرى، يكتب لك أجر صيام الست من شوال.
الجواب: أولاً: بالنسبة للمصافحة يوم العيد، يقول الفقهاء: لا حرج في المصافحة إذا اتحد الجنس، بأن كان المتصافحان ذكراً مع ذكر، أما مصافحة الأنثى فلا يجوز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له}.
أما التقبيل، فإن كان له مناسبة مثل أنك لم تره منذ زمن فلا حرج فيه.
الجواب: لا يعتبر مسجداً إنما هو مصلى.
الجواب: في الواقع أنني سألت بعض المسئولين في الديوان وأكثر من مسئول، وقالوا إنها تؤخذ في حالة الضرورة، مثل حالة وفاة وما أشبه ذلك، وهذا هو الظاهر.
ولا شك أن القول بتحريمها مبني على معرفة الحالات التي يجوز فيها أخذ الإجازة الاضطرارية، لكن إن كانت على ظاهره أنها لا تؤخذ إلا للضرورة، فلا يجوز أخذها من أجل أداء العمرة.
هذا والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر