الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [ وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً، فلما سلم قيل له: يا رسول الله! أحدث في الصلاة شيء؟ قال: وما ذاك؟) ] .
تقدمت بعض الأحاديث فيما يتعلق بسجود السهو من نقص أو زيادة، وهذا الحديث فيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الرباعية خمساً) قيل: هي العصر، ولما قام إلى الخامسة لم ينبهوه على شيء؛ لأنه يجب عليهم الاتباع، فلما سلم من الخامسة سألوه؛ لأن الذي حدث على غير العادة، فاستلزم الاستفسار والتأكد فقالوا: أحدث في الصلاة شيء؟ أي: هل زيد فيها ؟ وهذا أمر لا يستبعد؛ لأن الصلاة أول ما فرضت ركعتين، ثم أقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر، ومن هنا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم : (ما حدث شيء، وما ذاك؟ قالوا: صليت كذا وكذا -يعني: أربعاً وزدت الخامسة- ، فقال : لا. لم يحدث في الصلاة شيء، ولو حدث فيها شيء لأخبرتكم)، وهذه هي مهمة التبليغ؛ وهي أنه صلى الله عليه وسلم لا يؤخر البيان عن وقت الحاجة، فلو حدث في الصلاة شيء قبل أن يدخل فيها لأعلمهم بها، ليكونوا على علم بذلك، فلما لم يعلمهم بذلك، دل على أن هذا الذي وقع سهو، ثم بين الراوي تداركه لذلك: (وكان قد حنى رجليه -أي: كان قد جلس جلسة أخرى، ثم ثنى رجليه لجلسة التشهد- فسجد سجدتين -أي: سجدتي السهو- ثم سلم، ثم قال لهم: إنما أنا مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني).
ما يتعلق بليلة القدر؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال : (أُريت أعمار أمتي وأعمار الأمم) فاستقل صلى الله عليه وسلم أعمار الأمة؛ لأنها ما بين الستين والسبعين، والأمم الذين قبلها كانوا يعمرون طويلاً، فاستقل أعمار الأمة، وكيف تحصّل مع أولئك نصيباً في الجنة! فأنزل الله سبحانه : إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:1-3]، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال للناس : (كان فيمن قبلكم رجل حمل السلاح ألف شهر يقاتل في سبيل الله! فقالوا : وماذا نحصل مع هؤلاء من عمل الخير؟ فأنزل الله سبحانه سورة القدر، وفيها ليلة خير من عمل الذين قبلهم) فهذا أحد الأحاديث الأربعة .
والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم : (إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت، فتلك عين غديقة). يقول مالك : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا نشأت ..) أي: السحابة، وقوله : (بحرية ..) أي: من جهة البحر، والبحر في غرب المدينة، وقوله : (ثم تشاءمت ..) لأن السحابة التي تنشأ غرباً إما أن تستمر إلى الشرق وإما أن تنحرف إلى الجنوب، وإما أن تنحرف إلى الشمال، فهنا صلى الله عليه وسلم في هذا البلاغ يقول : (إذا نشأت بحرية ثم تشاءمت - أي: اتجهت إلى الشمال أو إلى الشام - فتلك عين غديقة) يعني: هذه السحابة عين غدق ماؤها، أي: ممطرة بإذن الله سبحانه .
والثالث: قوله صلى الله عليه وسلم : (إني لا أنسَى ولكن أنسّى لأسن).
والرابع: أظنه قوله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (حسن خلقك للناس ..) الحديث أو غيره.
فهذه أربعة بلاغات لم يوجد لها سند سوى إيراد مالك لها، وهذا كلام ابن عبد البر، وابن عبد البر قد أفرد البلاغات والأسانيد في التمهيد في الجزء الأخير؛ والكتاب مطبوع كله، فجاء -كما أشرنا- بعض العلماء وتتبع هذه الأربعة، فوجد لها أسانيد عند غير مالك ؛ منها ما هو ضعيف، ومنها ما هو غير ضعيف، والذي يهمنا هو هذا الأثر الثالث، والعلماء يبحثون هذه المسألة على الروايتين؛ الأولى: (إنما أنا مثلكم) قال تعالى : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف:110]، فبعامل البشرية قالوا: يجري عليه صلى الله عليه وسلم ما يجري على عامة البشر من الأمور الجبلية، والآخرون قالوا: كيف ينسى وهو صلى الله عليه وسلم يوحى إليه من عند الله؟ فإذا قلنا: إنه ينسى، فقد ينسى ما يوحى إليه، وهذا طعن في الرسالة، فقالوا: الجواب بتلك الرواية الثالثة؛ وهي قوله صلى الله عليه وسلم : (أنا لا أنسى ولكن أنُسى) يعني: رغماً عني، ولأي شيء ينسى مع أن النسيان نقص؟ قال: (لأسن) وأحسن من تكلم على هذه المسألة هو القاضي عياض في كتاب الشفاء، فمن أراد التوسع في هذا الموضوع فليرجع إليه.
والخلاصة: أن بعض العلماء قال: يكون منه صلى الله عليه وسلم النسيان في أمور الدنيا؛ أكل أو لم يأكل، أعطى فلاناً أو لم يعطه، ذهب إلى فلان أو لم يذهب، فهذه أمور عادية تجري على سنن البشر، وهو صلى الله عليه وسلم في ذلك تجري عليه قوانين البشر، قالوا: وأما لو أطلقنا ذلك في العبادات فلا؛ لأنه إذا نسي في العبادة فلا يقر على النسيان، بل ينبه، ولكن لماذا ينسى؟ قالوا: ليسن، وإذا تتبعنا قضايا وقعت بالفعل نجد أن النسيان الذي يقع على النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من أجل أن يبين السنة، فقد يكون واجباً عليه؛ لأنه إذا لم يقع هذا الفعل أو لم تحدث هذه الصورة منه صلى الله عليه وسلم لم يبين الحكم فيها، ثم إذا وقعت بعد موته فماذا نفعل فيها؟ فقالوا: من تمام التبليغ أن يقع عليه طوارئ الأحداث والمستجدات حتى يبين للناس ماذا يعملون؟ ولهذا نظائر كثيرة.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا [البقرة:106] يعني: ننسيك إياها، وفي الآية الأخرى قال : سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعلى:6-7] إذاً: قد يشاء الله أن ينسيه، سواء مما أوحى إليه أو ما كان من الأعمال ليترتب عليه بيان الحكم، وقد وقع له صلى الله عليه وسلم في هذا المجال وفي غيره ما لم يقع لغيره لبيان التشريع.
ومن هذه الحادثة نعلم ماذا نفعل إذا فاتنا وقت الصلاة، فلا نؤخرها إلى الغد بل نصليها في وقتها، وقد كان بعض الناس يقول ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم : (إن الله نهاكم عن الربا، وكيف يقبله منكم؟!) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها) .
إذاً: كان هذا تقدير من الله ليبين للأمة فعل رسول الله فيقتدوا به صلى الله عليه وسلم إذا وقع منهم مثل ذلك.
فلما وجد منه صلى الله عليه وسلم هذا الوفاء، أخذ بيده وطاف به حول الكعبة وقال: (يا معشر قريش!
وكان صلى الله عليه وسلم قد زوج زيداً بـزينب ، وكان يدعى ابن محمد حتى جاء القرآن ونسخ التبني، وكذلك نسخ تحريم زوجة الابن بالتبني، وبقي تحريم زوجة الابن من النسب، وهذه القضية لو أنها وقعت مع أبي بكر أو مع عثمان أو مع عمر أو مع أي أحد من الصحابة لم تهدم هذه العادة، ولم تقض على ما تعارفوا عليه طيلة دهرهم، ولكن لما كانت في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم هدمت تلك العادة وانتهت، وكان صلى الله عليه وسلم يحاول أن يدفع ذلك عن نفسه، قال تعالى: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ [الأحزاب:37]، وهذا عتاب كبير، لماذا زوجه الله تعالى؟ قال تعالى: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ [الأحزاب:37] يعني: أن هذا الزواج للتشريع، فرض عليه لكي يأتي التشريع الجديد في شخصيته صلى الله عليه وسلم.
المهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متطلعاً إليها ولم يكن راغباً في زواجها، ولكن هذا الزواج فرض عليه من أجل التشريع، ولذلك كانت تقول لنساء رسول الله: (زوجكن آباؤكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سموات)، وهذا والله هو العقل.
إذاً: هذا العمل أجري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلك الصلاة أجريت على رسول الله، فلا مانع أن ينسّى، لكن.. لأي شيء؟ ليبين للناس.
الحالة الأولى: في الميقات قبل الشروع في الإحرام.
الحالة الثانية: في أثناء الطريق وهم محرمون.
الحالة الثالثة: في يوم من أيام منى قبل العودة وقبل النفير.
أما الحالة الأولى: فهي حادثة أسماء زوجة الصديق ، والصديق والرسول صلى الله عليه وسلم في ركب واحد، وعلى مرأى ومسمع منه صلى الله عليه وسلم، نفست أسماء عندما باتوا في بئر علي، فسأل أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : (مرها فلتغتسل ولتنوي)، هي نفساء الآن، ولم تطهر من النفاس! ولكن هذا الغسل ليس لطهر النفاس ولكن للإحرام، فهذا يدل على أن النفاس لا يمنع المرأة أن تحرم.
الحالة الثانية: بعد أن وصلوا إلى سرف: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على
الحالة الثالثة: عندما نزل من عرفات إلى منى ورمى الجمار، وعندما رجع من مكة إلى منى (سأل عن
فتأتي هذه الأحداث الثلاثة فيما يتعلق بأمر النسوة في بيت رسول الله، ليبين صلى الله عليه وسلم للأمة في ذلك إذا وقع لهم مثله.
فقوله صلى الله عليه وسلم : (إني مثلكم أنسى كما تنسون)لا مانع من ذلك، ولكنه لم ينس شيئاً من التبليغ، وقد ينسى شيئاً من العبادة ولكنه لا يترك عليه، وهذا بإجماع المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم لا يقر على النسيان في العبادة، بل لا يقر صلى الله عليه وسلم على الخطأ في العبادة، ولو لم يكن نسياناً، كما في قصة خلعه صلى الله عليه وسلم لنعليه وهو ساجد في الصلاة، فخلع المسلمون نعالهم، فلما سلم قال : (أنا خلعت نعلي، فما بالكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا - وهذا هو الواجب، فربما جاء تحريمه في هذه اللحظة- قال: أما أنا فأتاني جبريل فأخبرني أن فيهما أذى، فخلعتهما) فلم يقر على الأذى في نعليه صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ما يتعلق بالبلاغ فهو معصوم صلى الله عليه وسلم من النسيان فيه، بل يقول القاضي عياض: أيهما أشد؛ النسيان الذي يتذكر به حالاً أو السحر الذي وقع عليه؟ فقد وقع عليه السحر بإجماع المسلمين، سحره لبيد بن الأعصم، وقضيته معروفة في تفسير سورة الفلق، فوقع عليه صلى الله عليه وسلم ما يقع على البشر بسنة البشر، ولكن في حالة السحر بينت عائشة فقالت: (كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله)، ولم تقل: تكلم بكذا, ولا ألغى كذا، ولا نسخ كذا، أبداً، وإنما هي أمور عملية فعلية في شخصه صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يضر الرسالة، ولا يتعارض مع العصمة، ولا يخدش في التبليغ عن الله سبحانه وتعالى.
ونأتي إلى بلاغ مالك : (أنسّى). أقول: والله! إن تلك الأحداث لتشهد لرواية مالك : (أنسّى..) ؛ لأن ذلك من تمام التبليغ عن الله سبحانه وتعالى وبيان التشريع، والله تعالى أعلم.
في بعض الأحاديث الأخرى: (أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة وترك آية، فلما سلم قالوا: تركت آية كذا! فقال: أليس فيكم
وهذا الذي نبهنا عليه، وقد طُلب من الإمام مالك أن ينصب نافعاً إمام القراء للصلاة بالناس، فقال: لا. لا تجوز صلاته بالناس، فقالوا: يا مالك ! هذا شيخ القراء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يؤم الناس أقرؤهم لكتاب الله)، فلماذا لا تنصبه؟ قال: لو أخطأ فلن يكون هناك أحد يرد عليه، فيظن الناس أنها قراءة فيسكتون، فيمضي الخطأ على أنه قراءة، فاقتنعوا بذلك، وكذلك أُبي لم يرد على رسول الله؛ لأن الآية قد تكون نسخت، وينبغي التنبه إلى هذه النقطة!
قال : (أنسى كما تنسون) يعني: أنا نسيت فذكرتموني، وأنتم كذلك تنسون، والنسيان يأتي بالشك؛ لأن الشك لا يكون إلا نتيجة النسيان.
قوله: (فليتحر الصواب وليتم عليه )، أي: يتم على ما توصل إليه في تحريه، ({ثم ليسجد سجدتين)، بعدما يتحرى يتم صلاته على هذا التحري، ثم يسجد سجدتين.
هل السجدتان قبل أو بعد؟ بينه في الرواية الآتية:
[وفي رواية للبخاري : (فليتم، ثم يسلم، ثم يسجد)].
يعني: يكون سجود السهو عند التحري بعد السلام.
المؤلف لم يسق هذا ليبين موضع سجدتي السهو هل هما قبل أم بعد؟ وإنما ساق هذا ليبين أن سجدتي السهو لا يمنعها الكلام، ما دام أنه في مصلحة الصلاة، فإذا سلم ثم تكلم ونُبه وتبين له أنه سها، فكلامه هذا لا يقطعه عن الصلاة، وإنما يجبر ما نقص منه أو زاد سهواً بسجدتين ولو تكلم قبلهما.
وساق المؤلف هذا هنا ليبين المسألة؛ لأننا نجد الفقهاء رحمهم الله قد اختلفوا، فبعضهم يقول: السجود بعد السلام، وبعضهم يقول: إن طال الفصل استأنف صلاته من جديد. ثم اختلفوا في حد هذا الطول؟ فبعضهم يقول: يحدد عرفاً؛ لأنه لم يأت فيه تحديد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: يحدد بقدر ركعة، وبعضهم يقول: يحدد بقدر الصلاة التي سها فيها، ثم الآخرون يقولون: إذا كان الكلام من مصلحة الصلاة فلا يضر، ولهذا جاء المؤلف رحمه الله بهذا الحديث، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقع سجدتي السهو بعد أن سلم وتكلم).
وهل المسألة قاصرة على الكلام فقط؟ وإذا تحرك وانتقل من مكانه فما هو الحكم؟
قالوا: إن كان قريباً سجد، وهذا القرب ما حده؟ قالوا: يحدد عرفاً، وبعضهم يقول: ما لم يخرج من المسجد، فإن خرج من المسجد ونبه استأنف من جديد.
إذاً: هذه المسائل كلها موضع بحث وتقدير واجتهاد عند العلماء رحمهم الله.
في الحديث الأول ذكر التحري، وهنا ذكر الشك، وهذا تنصيص في أن من شك في الصلاة فليتم- يعني: يبني على اليقين- وليسجد بعد السهو.
تقدم في قيامه صلى الله عليه وسلم من الركعتين أنه لم يجلس للتشهد الأوسط، وإنما قام، ثم بعد أن سبحوا كان قد انتصب قائما،ً فأشار إليهم: أن قوموا، ولم يرجع، فقاموا، ثم سجد سجدتي السهو؛ وفي حديث المغيرة هنا يبين النبي صلى الله عليه وسلم حكم هذه المسألة؛ أنه إذا سها الإمام أو المنفرد فلم يجلس في التشهد الأوسط وجاء ناهضاً للقيام، نظرنا ما هي المسافة بين جلوسه وانتصابه قائماً على سبيل التقريب، فإذا كان قد نهض فتذكر أو نبهوه، وكان في هذه الحالة أقرب إلى جلوسه، جلس وتشهد ولا سهو عليه.
وإذا كان قد نهض وبقي من انتصابه (30 سم)؛ بمعنى أنه انتصب (70 سم)، أصبح في هذه الحالة أقرب للانتصاب، فلا يرجع.
وإذا كان إماماً، ووصل إلى ما يقرب من انتصابه قائماً، فسبحوا له، فلا يرجع، بل يمضي في قيامه، ويمضي في الركعة الثالثة، وبعد أن يتم صلاته يسجد سجدتي السهو وقد تقدم أنها قبل السلام.
إذاً: في حالة ترك الجلوس للتشهد الأوسط، وسها المصلي منفرداً أو إماماً فننظر هل يمضي في قيامة أو يعود إلى مجلسه؟ ننظر أي المركزين أقرب إليه، فإن كان الجلوس أقرب إليه جلس ولا سهو عليه، وإن كان القيام والانتصاب أقرب إليه قام ولا رجوع عليه، ويجبره بسجدتي السهو.
يقول المؤلف: رواه الترمذي والبيهقي لكن بسند ضعيف، لكن عليه عمل الناس, والعامة يقولون: الإمام يحمل سهو المأموم؛ بمعنى: حينما تقع الصلاة جماعة فالمأموم مرتبط بالإمام، فإذا سها المأموم ولم يسه الإمام، فعلى المأموم أن يسلم مع الإمام؛ قال صلى الله عليه وسلم : (وإذا سلم فسلموا)، لكن هل يسجد المأموم سجود السهو عن السهو الذي وقع منه وهو خلف الإمام بعد السلام؟ وهل يتصور أن يسهو المأموم خلف الإمام؟ نعم، فمثلاً: الإمام جلس في التشهد الأوسط، والجلوس معه إنما هو للتشهد، لكن المأموم يوقن في نفسه بأنه لم يتشهد سهواً، فتكون صلاة الإمام صحيحة لا سهو فيها، والمأموم قد وقع عليه سهو في ترك التشهد الأوسط، فإذا سلم الإمام فهل يسجد هذا المأموم سجود السهو لما سها عنه من تشهده؟ قالوا: لا، لأن الإمام يحمله عنه، ولو قلنا: إن سجود السهو ليس للتشهد ولكن للقيام معه؟ فبعض الأئمة كـمالك يقول: إذا جلس يكفيه.
ومثل هذا أيضاً إذا كان الإمام جلس للتشهد الأوسط، بينما بعض المأمومين قال: الله أكبر، وقام ناهضاً، وصار أقرب إلى القيام، فهل يرجع أو يظل قائماً؟ يجب عليه أن يرجع ويتابع الإمام، فيكون قد وقع منه سهو في القيام والجلوس، فهل يسجد لهذا السهو؟ قالوا: لا؛ لحديث عمر رضي الله تعالى عنه الذي بين أيدينا.
إذاً: إذا سها الإمام ولم يسه المأموم؛ كأن يكون بعد الركعة الثانية كبر وقام ونهض ولم يجلس للتشهد، وسبحوا له فرجع، وكان من حقه أن يستمر، فيكون قد سها في القيام وأخطأ في العودة، فيلزمه سجود السهو، فإذا سجد للسهو الذي وقع منه فعلى المأمومين أن يسجدوا متابعة للإمام، والله تعالى أعلم.
يختم المؤلف رحمه الله مباحث سجود السهو بهذا الحديث، ويتناول هذا الحديث مسألتين:
المسألة الأولى: هل يتعدد سجود السهو بتعدد السهو؟ يعني: هل تعدد السبب يستوجب تعدد المسبب أو لا يستوجبه؟
المسألة الثانية: عند قوله صلى الله عليه وسلم في سجدتي السهو : (بعدما يسلم) من غير تفصيل فيما إذا كان السهو عن زيادة أو كان عن نقص.
أما المسألة الأولى: إذا سها أكثر من سهو مثل أن يقوم ولا يتشهد التشهد الأوسط، وأسر في الجهرية، فهنا تعدد منه السهو، فهل يسجد لكل سهو سجدتين أم سجدتا السهو تجزئ عن كل النسيان الذي وقع منه في صلاته؟
الجمهور على أنه لو تعدد من المصلي أسباب سجود السهو، فإنه يجزئ عن ذلك كله أن يسجد سجدتين فقط، وقالوا: لهذا نظائر، كنواقض الوضوء، فلو أن إنساناً توضأ ثم أحدث حدثاً واحداً من نواقض الوضوء، فإنه يتعين عليه أن يتوضأ، فإذا توضأ وأحدث عدة أحداث كل واحد منها يستوجب وضوءاً على حدة لو كان منفرداً. فبإجماع المسلمين إذا أراد أن يصلي لا يتوضأ بعدد الأحداث التي أحدثها، بل وضوء واحد يجزئه عن هذه الأحداث كلها، وله أن يصلي بهذا الوضوء، قالوا: كذلك أسباب سجود السهو إن تعددت، يكفي عنها سجدتان فقط.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (لكل سهو سجدتان) فقالوا: هذا للجنس أياً كان السهو، فإنه يجزئه سجدتان، وما هي أنواع السهو؟ هذا فيه خلاف بين العلماء طويل جداً، ويذكر بعض العلماء فيه آثاراً ضعيفة، منها: (لا سهو إلا على من زاد قياماً أو نقص جلوساً ففيه السهو) ، ويحسن سجود السهو في القيام وفي تركه، وزادوا في ذلك أشياء كثيرة، فمن شاء فليرجع إلى كتب الفقه، فإنه سيجد أقوال العلماء فيما يستوجب سهواً أو لا يستوجبه.
وإلى هنا انتهى المؤلف رحمه الله من نصوص السهو، ونعود إليها بالإجمال مرة أخرى فنقول:
تقدم التنبيه عن أحمد رحمه الله أنه قال: المنصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود في خمسة مواطن:
الأول: (إذا قام من ركعتين)، الثاني: (إذا سلم من ركعتين)، الثالث: (إذا زاد خامسة)، الرابع: (من شك فليتحر)، الخامس: (من شك فليبن على اليقين).
هذه هي النصوص التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، وجاء عنه السجود فيها تارة قبل السلام، وتارة بعد السلام.
ونأتي إلى الأئمة رحمهم الله:
فنجد أبا حنيفة رحمه الله أخذ بالحديث الأخير : (لكل سهو سجدتان بعدما يسلم) فأخذ الإمام أبو حنيفة رحمه الله بأن كل سهو أياً كان سببه فإنه يسجد له بعد السلام لعموم هذا الحديث. وقال: إن السهو جبران, والجبران يكون بعد انتهاء الصلاة.
وعند الشافعي رحمه الله: أن كل سهو يسجد له قبل السلام، وقال: جبران الشيء منه.
ومالك عنده قاعدة عامة، وهي : ما كان سببه نقصاناً في الصلاة فيسجد له قبل السلام، وما كان سببه زيادة في الصلاة فيسجد له بعد السلام.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: الحالات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم خمس حالات، فنسجد للسهو في تلك الحالات الخمس كما سجد فيها صلى الله عليه وسلم، وإذا حدث سهو بصورة مخالفة للصور التي جاءت عن رسول الله فنسجد لها قبل السلام.
إذاً: الأكثر يرجحون أن سجود السهو قبل السلام.
وقد تقدم أنه بإجماع المسلمين أن من سجد سجود السهو الوارد فيه بعد السلام فسجده قبل السلام، أو سجد سجود السهو الوارد فيه قبل السلام فسجده بعد السلام؛ فسجوده صحيح وصلاته تامة، يعني: أن ترتيب السجود قبل أو بعد إنما هو من باب التفضيل في الأعمال، وبالله تعالى التوفيق.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر